يمزج القاص المغربي المبدع أنيس الرافعي – في خطابه السردي التجريبي – بين الصور الحلمية، والفانتازيا، وبناء العوالم الممكنة المتداخلة في مستويات نسبية عديدة من الرؤية؛ والتي تتصل بتأملات الوعي المبدع للسارد، أو بالصوت التمثيلي الآخر الطيفي للحيوان؛ ومن ثم فبعض البيانات أو المعلومات التي تخضع للمعالجة الإدراكية الواعية – في نصوص أنيس الرافعي – قد تكون بيانات سمعية أو بصرية، أو لسانية باطنية أو داخلية؛ أي تتصل بحالات التأملات، أو الحلم، أو التخييل، أو استشراف الحياة الطيفية الأخرى الشخصية، أو المكانية فيما وراء العالم المرئي.
وتبدو مثل هذه الجماليات التجريبية – في خطاب سارد أنيس الرافعي – في كتابه السردي التأويلي أو التمثيلي سيرك الحيوانات المتوهمة (حقيبة رسومات، ومونولوجات)؛ وقد صدر عن دار خطوط وظلال بعمان بالأردن سنة 2021؛ ويحيلنا السارد – في خطابه – إلى المرجع المكاني التجريبي / سيرك الحيوانات المتوهمة؛ وهو فضاء تمتزج فيه الرؤية البصرية بالظلال، والأطياف، والتحولات المحتملة لصور الحيوانات، وأصواتها التمثيلية التجريبية، وحيواتها الأخرى المحتملة في أحلام السارد، وبعض الشخصيات الأخرى، أو في عوالم مكانية أخرى ممكنة، ومتقاطعة مع فضاء السيرك؛ ويرتكز السارد – في خطابه أيضا – على دائرية الحضور الذهني للحيوان؛ فهو يحيلنا – في بدايات الخطاب وفي المراجع اللسانية المتضمنة في العنوان – إلى الفضاء التجريبي أو السيرك الذي يتصل بتأملات الوعي، والحلم، وفعل المراقبة الميتا – إدراكي للصور وتحولات الأقنعة والأطياف، والأصوات؛ ومن ثم فنحن أمام سيرك طيفي أو ذهني؛ أو هو يمثل فضاء ذهنيا لمكان افتراضي أو حلمي ممكن ضمن صور تيار الوعي؛ ومن ثم يحفز هذا المكان تشكل صور الحيوانات ضمن تمثيلات، وأقنعة تقع بين الرعب المؤجل، والظهور الجسدي المؤجل أيضا، كما تقع ضمن حكايات خيالية تفسيرية لصورها وانعكاساتها الأخرى المتضمنة في لوحات الفنان محمد العامري، والمرفقة بمونولوجات سارد أنيس الرافعي في الكتاب؛ ومن ثم يعزز العمل من وجود شبكة اتصالية افتراضية بين وعي الفنان محمد العامري، وتأملات سارد أنيس الرافعي والتي تنبع من الوعي المبدع الذي يعزز من نية دخول السيرك كفضاء شبه صوفي ومتجاوز للآلية الحتمية، وكذلك الوعي الافتراضي للمروي عليه، والوعي الافتراضي لصوت الحيوان ومونولوجه التجريبي الخاص، والذي يستلزم الحضور الأدبي الخفي لصوت السارد الذي يقوم باستبطان صوت الحيوان، ومراقبة تحولاته، ومراقبة معتقداته ومعارفه الخاصة ضمن العمليات الميتا- إدراكية المفترضة فيما وراء بنية المونولوج.
يحيلنا السارد – في بدايات الخطاب – إلى اتصال فضاء السيرك بالتطهير عند أرسطو وبتأملات بوذا وأن عروضه لا فرجوية؛ إذ تتصل بالحضور الشبحي والتحولات، ويحيلنا إلى تأويل رسوم محمد العامري للحيوانات بوصفها جزءا من أبجدية مجهولة وروحية، ويفترض وجود حيوان يقف داخل الحلبة بينما جسده الذي يقع في ثلاث اتجاهات يعكس ثلاثة ظلال لحيوانات مجهولة أخرى تقيم بداخله مثل مستأجر، ودون علمه (1).
يؤسس خطاب السارد – إذا – في البدايات إلى نشوء صور الحيوانات في الوعي واللاوعي، وفي الفضاءات التجريبية الممكنة؛ فهي تبحث عن كينونتها الطيفية الأخرى، بينما تتصل بظلال لحيوانات افتراضية أخري في المشهد؛ ومن ثم لا يمكن فهم مصير السارد، أو السيرك، أو تجسد الحيوان في الفضاء الممكن فيما بعد إلا من خلال الإحالة إلى نشوء صور الحيوانات في الوعي، وفي بعد مكاني تجريبي ممكن، وتعددي، ويحتمل دائما امتزاج الذات بالآخر، أو تجلي الذات الاستعاري مثل فضاء تجريبي لاستقبال الأطياف، والأصوات الأخرى التي تستأجر التجسد الأول المؤجل، والمحتمل للحيوان؛ ومن ثم تؤكد الأنافورا – بصورتها المفاهيمية أو التأشير العائدي القائم على قراءة اللواحق من خلال السوابق في الخطاب – تأجيل البدايات، أو النهايات الحاسمة للحيوان، أو السيرك، أو السارد؛ فالسارد قد يستشرف نغمة الرعب المصاحبة لصرخة الحيوانات الجماعية؛ ولكنه رعب مؤجل دائما في حالة الالتئام أو التناغم التي يستلزمها فعل التأمل، أو فعل المراقبة الفوقية لتيار صور الوعي؛ ويبدو الحوت مثلا مراقبا لما وراء مصيره الصاخب وتفكك جسده أو موته مع رفاقه بصورة جماعية على الشاطئ ؛ ففعل المراقبة نفسه يقع خارج مركزية مصائر الموت، أو الصيد؛ لأنه تمثيلي – مركب، ويتصل بأحلام السارد؛ أما السيرك فهو يتصل بالعوالم الأدبية والعوالم المكانية الشعرية الممكنة؛ أي أن وجوده الواقعي مؤجل منذ البدايات، وربما نجد الإحالة إليه ضمن دلالات المضمر أو الضمني في الخطاب دون التصريح بوجوده المرئي؛ وهو ما يعزز وقوع الأحداث والتحولات ضمن لحظات آنية تعكس قوة بنية الحضور وتغيرات الحالات الذهنية لكل من السارد، وتجسدات الحيوان، وأطيافه، والأنا المراقب لتحولات تلك الأطياف المحتملة التي تقاوم مركزية الرعب، والنشوء الجسدي، والمصائر المعلومة؛ فالصوت التمثيلي يعاين حياة أخرى أو يتجلى كفضاء مكاني محتمل لطيف أو صوت تمثيلي آخر.
ويصل السارد – في تضمينات الخطاب – بين صوت الذات، أو تجسدها، وتجسد الحيوان الحلمي، أو بين نغمتي الرعب، والالتئام أو التناغم التكويني فيما وراء حالات الانقسام أو التشوهات؛ ومن ثم يعيدنا إلى النشوء الأول لصورة الحيوان في تقارير الوعي واللاوعي الاستبطانية – الداخلية أو الذاتية، ويتجاوز مركزية التجسد التصويري، أو الطبيعي باتجاه تكوين تجريبي يجمع بين الالتئام والتشوه وذكرى الرعب المؤجل.
ويروي السارد أنه – في أحد الأحلام – قد صار سلحفاة خزفية خالصة، وتحطم بفعل فاعل، ثم قام بعض الطيبين بترميمه، ولم يخجل من التشوهات أو عدم الاكتمال (2).
ويبدو النشوء التصويري في الحلم السابق مثل حالة التجدد التمثيلي، وتوحي العودة إلى حالة الالتئام بالإحالة إلى الوعي الذي يراقب تحولات الجسد، والصوت التمثيلي المشترك بين السارد، والسلحفاة الحلمية التي تتجلى كتشبيه أو كعمل فني متعدد الظلال والأطياف في الفضاءات الممكنة في المشهد. وترى جوليا كريستيفا في كتابها – قوى الرعب، مقال عن التدني والتشوه – ضمن تعليقها على جهود الأنثروبولوجيين مثل ماري دوغلاس؛ وتصل بين الذات والموضوع والموضوع الممكن الذي يصير نوعا من التشوه والتدني في سياق اجتماعي تطهيري للذات أحيانا. (3)
تناقش كريستيفا – إذا – خرق التجسد، أو التشوه ضمن حالات الرعب المولدة عن البغض أو العقاب التطهيري أحيانا في السياق الاجتماعي أو الأدبي، ونلاحظ أن سارد أنيس الرافعي قد أشار إلى حالة بغض باطني وحلمي حين أشار إلى فاعل غير محدد قد قام بتفتيت بنية السلحفاة الخزفية / الذات التمثيلية. أين كان الوعي المراقب للتفكك فينا يسبق عمليات الترميم؟ لقد عاين الوعي إذا حالات الرعب، ولذة التحول أو التناغم في آن، وبدا منفصلا عن السلحفاة بوصفها تشبيها يقع ضمن تيار لصور أخرى من الحيوانات الافتراضية وظلالاها التي تقبع في زوايا الفضاءات الأخرى الكامنة في الأبعاد المكانية الأخرى أو الاستعارية – الطيفية داخل السيرك.
ويمكننا قراءة كتاب أنيس الرافعي السردي، أو متواليته القصصية من خلال المقاربة التداولية الإدراكية؛ للكشف عن دلالات السياق، ونماذج التواصل؛ مثل التواصل بين السارد، والمروي عليه، والتواصل بين السارد وتمثيلات الحيوان الاستعارية، أو التواصل بين الشخصيات الفنية داخل المونولوجات، ونفيد أيضا من نتائج نظرية مساحة العمل العصبية العالمية لدى كل منستانيسلاس ديهايني، وجان بيير شانج، وليونال ناكاش في تحليل طبيعة المعلومات والمدخلات التي تخضع للمعالجة الواعية، وكذلك الجهود الميتا إدراكية المعاصرة لدى كل من أليكسي سامسونوفيتش، وكينيث دي جونج في الكشف عن المراقبة الفوقية للمعلومات والعمليات الإدراكية والمعتقدات التي تقبل التعديل، والإضافة، وبناء حالات ذهنية متطورة عن الذات والعالم.
السارد – في نموذج التواصل الأول مع المروي عليه – شخصية تميل إلى استبطان الذات، وتأويل رسوم الحيوانات في أعمال الفنان محمد العامري، والكشف عن أبجديتها غير التقليدية؛ ومن ثم فالسارد يؤكد تشابك وتداخل وعي الذات، ووعي الآخر في إنشاء السيرك الافتراضي غير الوظيفي، ومراقبة تحولات صور اللاوعي، والتأملات الباطنية، وتحولات الظلال والأقنعة في المشهد المكاني التعددي، وسوف يقدم السارد الحجاج والأفعال الكلامية الضمنية المتعلقة بوجود حيوانات السيرك المتوهمة، ومصائرها المتوقعة، وتحولاتها المعرفية والدرامية من خلال المونولوج.
والمونولوج – في هذا السياق السردي – هو التقنية التي تعزز من الاستبطان والاستبطان المضاعف الذي يقوم على تعددية الأصوات التمثيلية التي تؤكد ثراء ضمير المتكلم، أو ضمير الشخص الأول فالصوت التمثيلي الأول يميل إلى استدعاء معلومات الذاكرة طويلة المدى، والمعلومات المتعلقة بالتجسد، وتحولات جسد الحيوان في العالم، والصوت التمثيلي الثاني يعبر عن الحالة الذهنية التي تقوم على المشترك الحلمي بين السارد، والحيوان؛ أي مستوى الوعي واللاوعي؛ وهو مستوى يشبه الفن التمثيلي وولوج لاوعي الشخصية الفنية، أو التعبير عن مساحات باطنية متعددة من الشخصية أو شخصيات أخرى؛ وهو ما يذكرنا بالجهود التجريبية في المسرح لدى كل من ستانسلافسكي، وجروتوفسكي؛ فالسارد يتحدث بواسطة ضمير الشخص الأول حول خبرات بينية تقع بين الحيوان المتوهم، وتيار وعيه الشخصي الخفي في المشهد؛ أما الصوت التمثيلي الثالث؛ فهو صوت ذهني محض، أو حر؛ إنه يراقب من أعلى؛ وهو ميتا – إدراكي؛ يراقب الأخيلة والتجسدات دون أن يكون متورطا في الألعاب الدرامية الصاخبة؛ فالحوت التمثيلي الافتراضي مثلا يراقب موته على الشاطئ، أو مطاردات الصيادين من أجل الحصول على العنبر بينما يظل هذا الوعي المراقب في حالة انتظار لما سوف يحدث فيما وراء كل من الواقع، والحلم؛ ويؤكد وجود الصوت التمثيلي الثالث / الذهني مقاومة السيرك للنهايات الحاسمة، ومقاومة صورة الحيوان للتحولات الدرامية الحتمية.
ويفترض نموذج التواصل الأول بين السارد والمروي عليه أن يشارك المروي عليه في تخييل صور الحيوانات المتوهمة أيضا وفق تقاريره الاستبطانية الخاصة، وتيار وعيه الخاص؛ فهو يتلقى الأفعال الكلامية والحجاج، وتيار الصور الحلمية؛ كي يقوم باستجابة معرفية نشطة، أو استجابة سلوكية – إنتاجية لمصائر أخرى، أو أقنعة وظلال أخرى محتملة فيما يلي الصور والظلال المتضمنة في خطاب السارد.
ويوحي الخطاب بفعل كلامي تمثيلي ضمني يقوم على تراكب الفضاءات وتضاعفها، وتداخلها، واتصالها العضوي بالأصوات والمونولوجات، والأطياف؛ ومن ثم إمكانية تخييل فضاءات توليدية جديدة لانهائية تقوم على الاستعارات الإدراكية، والمزج الإدراكي الممكن بين أي فضاءين مكانيين محتملين في المشهد الواسع الذي يتطور في الشبكة الإنتاجية لوعي الذات، ووعي الآخر؛ وستتمثل قوة فعل الكلام التمثيلي الضمني – في وعي المروي عليه – في التعديل المعرفي المستمر للخبرات التمثيلية التي كان قد كونها عن صورة الحيوان، أو صورة السيرك ضمن فضاءات مزج إدراكي لانهائية ومحتملة في المشهد؛ أما لازم فعل الكلام التمثيلي فيتمثل في إنتاج أقنعة وصور حلمية جديدة مولدة عن التمثيلات السابقة، وأخيلتها الحلمية المنعكسة في تأملات المروي عليه نفسه، وذاكرته الخاصة، ومخططاته الذهنية الاستدلالية الدينامية والتفسيرية عن الأحداث، والخطابات الواردة في المونولوج.
ويتضمن الخطاب فعلا كلاميا تعبيريا يعزز من ميل السارد إلى بقاء صوته السردي في المكان / السيرك وامتداد أطياف الحيوانات المتوهمة فيما وراء ذاكرة الرعب، والتجسدات الحتمية الأسبق من حضورها الإبداعي التعددي في المشهد، وتتجلى قوة فعل الكلام التعبيري – لدى المروي عليه – في الانحياز لموقف السارد، وتتبع امتداد الأقنعة الحلمية الممكنة للحيوانات المتوهمة في عوالم الوعي الدائرية في بنية الحضور؛ كما ينشئ الخطاب فعلا كلاميا وعديا ببناء فضاءات تجريبية أخرى فيما وراء السيرك، وتحولاته السيميائية الممكنة فيما وراء الخبرات التمثيلية الواقعية، أو المرسومة، أو المكتوبة، أو التي تم حفظها من قبل في الذاكرة بعيدة المدى؛ ومن ثم ينتظر المروي عليه أيضا أن يقوم ببناء تأويلات، وأخيلة، وفضاءات مزج إدراكي أخرى مولدة عن المكان الآخر أو السيرك الحلمي الآخر الممكن في المستقبل؛ ويوحي الخطاب بفعل كلامي توجيهي فلسفي يقوم على التساؤل حول صيرورة الصوت التمثيلي الثالث / الذهني / المراقب لما وراء مصائر الأقنعة والتحولات؛ وقد تتمثل إجابة المروي عليه – انطلاقا من مؤشرات السياق المعرفية المتاحة – في توليد فضاء السيرك المتوهم أو الخيالي نفسه ضمن الفضاء الحلمي الكامن في الذاكرة طويلة المدى للصوت التمثيلي الثاني المتداخل بين حلم السارد وحلم الحيوان وذاكرته.
وأرى أن الحجة الرئيسية المتضمنة في خطاب سارد أنيس الرافعي هي الحجة الاستقرائية التي تبدأ من التقارير الذاتية الباطنية وتتوسع عبر التداخل الممكن بين وعي الذات ووعي الآخر، وتتصل بالتجارب الأدبية الأخرى التي قدمت رؤى ذاتية عن الحيوان مثل الضفادع لأرستوفان، وتحول كافكا، والغراب المتخيل في كافكا على الشاطئ لهاروكي موراكامي؛ ومن ثم فصور الحيوانات قابلة للتخييل الأدبي الحلمي أو الأسطوري وفق تقارير ذاتية قابلة لإنشاء مشترك معرفي ممتد في تطور الصيرورة الأدبية والفنية.
ويتضمن الخطاب أيضا حجة احتمالية تفسيرية تقوم على ملاحظة الجانب الجمالي، أو التأملي، أو الذاتي ضمن بنية السيرك التقليدي نفسه، أو ضمن التفاعل بين أصوات الغابة، وتجليها أحيانا مثل أطياف لامرئية مجازية في الوعي؛ ومن ثم فالتوسع الحلمي / السيميائي في بنى السيرك وأقنعة الحيوانات الأخرى، وأصواتها التمثيلية الذاتية ممكن، وقابل للتحقق في خبرات الوعي واللاوعي.
ورغم أن الحجة الاستدلالية ليست هي الحجة الرئيسية التي يقدمها سارد أنيس الرافعي للمروي عليه، فإننا يمكن أن نفترض وجودها مع الحجتين الاستقرائية والتفسيرية؛ ويمكننا قراءة الحجة الاستدلالية هنا وفق سلم ديكرو الحجاجي الذي يبدأ من وجود فرضية، ثم يتدرج صعودا إلى الفرضية الأقوى وصولا إلى النتيجة؛ ومن ثم يبدأ الخطاب بالتاكيد الضمني للتوسع الإدراكي المكاني المعاصر في الحلم والفانتازيا، ثم يصل إلى الوعي بوجود فضاءات افتراضية لامرئية، ثم يصل إلى النتيجة؛ وهي قابلية الفضاءات الافتراضية وتكوينات الحلم للتخييل المقصود، والمزج الإدراكي في الحضور، والمستقبل.
ويتضمن الخطاب استعارة إدراكية – مكانية نقوم على التشابه بين الفضاء الذهني للمكان الواقعي، وفضاء ذهني لمرآة حلمية تتحدث وتنادي السارد بألقاب للحيوانات، ثم تقهقه بلا انقطاع، وحين أراد أن يحطمها وجدها جدارا أسمنتيا (4)
ويمكننا قراءة الاستعارة هنا وفق جهود فوكونير ولاكوف وجونسون ومارك تيرنر حول الصلة بين الفضاءات الذهنية وتوليد فضاء المزج الإدراكي؛ ومن ثم فالمجال العام للاستعارة هو الفضاء التجريبي الممكن؛ أما فضاء الإدخال الاول؛ فهو الفضاء الذهني الواقعي / الحائط الأسمنتي؛ أما فضاء الإدخال الثاني فهو المرآة المتكلمة التي تنادي السارد بأسماء الحيوانات وتقهقه؛ وستتولد الروابط الدلالية بينهما في التوسع المكاني الممكن، وتأثير البيانات البصرية الداخلية في الوعي واللاوعي، وتفكيك الفضاء المرئي باتجاه أبعاده الأخرى اللامرئية وفق نتاج الوعي والتقارير الذاتية الاستبطانية، وتواتر الخيال والمحو، والوجود ضمن المشهد الواقعي او الكوني؛ أما فضاء المزج الإدراكي فسيكون الحائط الواقعي الذي ينطوي على ذاكرة سريالية ونافذة لا مرئية تؤدي إلى الاتصال مرة أخرى بالمرآة الأنثوية الإبداعية في المشهد.
ولا يمكن فصل نموذج التواصل الأول بين السارد، والمروي عليه – في سيرك الحيوانات المتوهمة لأنيس الرافعي – عن السياق الثقافي والاجتماعي الواسع؛ والذ يعزز من تعددية الفضاءات الحقيقية والفانتازية والافتراضية والحلمية والفنية وتجاورها أو تداخلها الممكن، وكذلك يحفز من استبدالات الصور والأقنعة بين اليومي، والفني، والافتراضي. وإذا أعدنا قراءة السياق إدراكيا في موقف التواصل طبقا لنظرية الصلة لدى كل من سبيربر وويلسون، سنلاحظ أن السارد ينتخب علامات مثل الأقنعة، والفضاء الافتراضي الكامن فيما وراء الحقيقي، والكينونة الظلية أو الشبحية المحتملة والتي تتصل بذاكرة الحيوان وقد تقاوم الجوانب الحتمية في تلك الذاكرة في آن؛ ونجده يتوسع في الاستدلالات المولدة عن تلك العلامات، ويراقب لعب الظلال، وتداخل الفضاءات الاستعارية، والحبكات المتصارعة، أو المتداخلة والاستبدالات الممكنة.
تبدو صورة البومة مثل مهرج في جو تأملي، وقد ارتدت غطاء رأس بين الأبيض والأسود في رسوم الفنان محمد العامري؛ أما صوتها التمثيلي – في المونولوج – فيوحي بأنها كانت شاهدة على محو الحفيد لآثار الجدة المتوفاة، وهي تقترن ليلا بالأطياف، وتعاني من العزلة والجوع، وتقبع خلف صورة حديثة لشخصية سبايدرمان. (5)
البومة تراقب النهايات والأطياف، والتشبيهات والشخصيات الفنية مثل مهرج زائد عن حاجة المكان في بنية الحياة اليومية؛ ولكن مراقبتها للتشبيه / الشخصية الفنية ينعكس على رؤية الصوت التمثيلي المراقب لطبيعته الافتراضية أو الذهنية في المشهد؛ ومن ثم فهو يستطيع مراقبة عزلة البومة من موقع فوقي مثل تشبيه فني قيد التشكل في سيرك افتراضي يتداخل مع المكان الواقعي، أو يستبدله؛ إنها تصرح بأنها في حالة جوع وعزلة خلف اللوحة الهامشية بينما تضمر الطيران خارج الألية اليومية نفسها في العالم المنتج بواسطة وعيها المبدع وأحلامها الممكنة، وتشير في تضمينات خطابها – إلى التعارض بين الصوت والفراغ، أو المحو؛ فتجسدها القابل للمحو في المشهد ينقل حضوره الطيفي في الصوت، وفي السيرك الآخر الكامن في المؤشر السياقي للتشبيه؛ فسبايدرمان يبدو كصورة مرآوية استعارية لتشبيهات البومة الممكنة فيما وراء المشهد، ونستطيع قراءة حجة وجودها الآخر الممكن في صحة فرضية حضورها الطيفي المراقب، والذي يستلزم نتيجة استمرار مراقبة وجودها وصيرورتها في السيرك الافتراضي.
ويتضمن مونولوج البومة استعارة إدراكية بين الفضاء الذهني الأول / تجسدها المكاني المنعزل، والفضاء الذهني الثاني / حضورها كتشبيه مثل شخصية فنية في سيرك افتراضي، ويتشابه الفضاءان دلاليا في الاتصال بعوالم الفن، والأطياف، وثنائية المحو والتجدد التصويري الممكن، والاتصال بالوعي المراقب؛ أما فضاء المزج الإدراكي فيتمثل في أخيلة وعي ولا وعي البومة ضمن شبكة قنوات الأحلام الممكنة في عالم الصوت التمثيلي الثاني الأكثر ارتباطا بالسارد وسيرك الحيوانات المتوهمة.
البومة ترى مجموعة من البيانات البصرية ذات الانعكاس الباطني بدرجة أكبر من البيانات الصلبة في الواقع؛ ومن ثم فالعلامات التي تنتخبها في مجال الانتباه هي التشبيهات، والأطياف، وحضورها التصويري الآخر في الحلم طبقا لنظرية مساحة العمل العصبية العالمية لشخصيتها التمثيلية ووعيها الافتراضي في النص القصصي؛ ويبدو العمل الفني الخارجي في المكان مثل محفز خارجي يعزز من أهمية الحضور الاستعاري في وعي البومة في مساحة التقييم، بينما نجد أن ذاكرتها العاملة أكثر حضورا من الذاكرة بعيدة المدى فهي تحاول التعديل من وضع العزلة والجوع ومركزية المساحة المكانية الآنية بواسطة الوعي؛ وهي - تعاين في مساحة الحضور – العزلة والاختفاء الممكن وإدراك حضورها الآخر الممكن كوعي مراقب؛ ومن ثم تعزز المعالجات الواعية – في مساحة العمل العصبية العالمية – من التناظر المكاني الإدراكي أو الميتا إدراكي وتكتسب حضورا استعاريا في لوحة أو مسرحية ضمن سيرك افتراضي، وتنتج استجابة التخييل العميق لبداياتها الأقرب إلى الأصالة وتجاوز الحدود المكانية المحلية.
ونعاين صورة النمر في تداخلها مع لاعب سيرك يشبه المهرج، ويبدو النمر أكثر حضورا بينما اللاعب يتمثل في لوحة الفنان محمد العامري كظل؛ أما مونولوج النمر الذي يرويه سارد أنيس الرافعي فيعزز من وجود نمر طيفي داخل تجسد لاعب السيرك، وكأن تجسد اللاعب يتمثل كفضاء استعاري مستأجر، ويحيلنا صوت النمر التمثيلي – الحلمي إلى حضور ظلاله حول اللاعب في المشهد، ويومئ إلى أن من يستطيعون رؤيتها فقط مجموعة من المتابعين، ويعد بأنه قد يهدد حضور الجمهور حين تعرض أوبرا الدكتور كوبيليوس ودميته. (6).
يحيلنا النمر – في خطابه – إلى الصلة بين الحضور الطيفي، والاستبدال، والرعب المؤجل، والتشبيهات داخل السيرك الافتراضي؛ إنه يتجلى كطاقة إبداعية داخل اللاعب، وكمجموعة من الظلال، حتى يصل إلى إمكانية الاستبدال المكاني الاستعاري الكامل في النهاية حين يتوقع أن يكتسب فاعلية مضاعفة في عرض الدكتور كوبيليوس والدمية؛ وأرى ان هذه الفاعلية المضاعفة تتصل بالمؤشر السياقي الخاص بالدمية كتشبيه لامرأة جميلة مؤثرة في بنية الأوبرا السردية؛ كذلك النمر سيكتسب تأثيرا مضاعفا داخل العرض فينتقل من احتلال لاعب السيرك إلى الحضور الكامل أو التجسد الاستعاري المتجاوز للتداخل ما بعد الحداثي الممكن بين الحلم والواقع، والذي يتجه إلى واقع الوعي، واقع التأملات الحلمية في المستقبل.
ويصرح النمر بأنه يتجلى كطيف أو كظل ضمن واقع يشبه عروض ما بعد الحداثية طبقا للمؤشر السياقي التفكيكي؛ فهو يفكك هوية اللاعب الجسدية، بينما يضمر حضوره الحلمي الفائق فيما وراء هذه الجماليات؛ إنه يعود إلى اجواء الحلم ولكن في سياق تأملي خالص، يوحي بالصخب واللعب الجمالي في آن، ويوحي في تضمينات الخطاب بإغواء الدمية والتأثير الجمالي للفضاء اللامرئي المضاعف أو المتراكب والذي يتضمن طبقة السيرك الوهمي وطبقة واقع أوبرا الدكتور كوبيليوس والفضاء الاستعاري المكاني لجسد المؤدي أو الممثل، والطبقة المكانية للجمهور الافتراضي وإمكانية تحوله إلى ظلال محتملة.
والاستعارة الإدراكية الرئيسية – في خطاب النمر – ترتكز على التشابه بين الفضاء الذهني الأول؛ وهو لاعب السيرك، والفضاء الذهني الثاني / ظل النمر؛ ويشتركان دلاليا ومفاهيميا في دينامية الحركة، والحضور الطيفي، والاتصال الاستعاري بطبيعة الظل، والاتساع المكاني المحتمل في المشهد؛ ويتولد عنهما فضاء المزج الإدراكي؛ وهو فضاء تجريبي يتداخل فيها صوت النمر مع الحضور الطيفي الادائي وما وراء الحضور الأدائي للاعب؛ وكأننا أمام مجال مكاني طيفي نرى فيه طيف اللاعب ثم نعاين فيه الحضور الفائق للنمر وكأنهما في حالة مراوحة تصويرية أو استبدال دائري.
وينتخب وعي النمر البيان البصري الداخلي طيفه الآخر الكامن في اللاعب، وظلاله المرئية جزئيا لبعض الجمهور؛ وسوف ترتكز مساحة العمل العصبية العالمية لديه على المعلومات البصرية الداخلية في إنتاج استجابته الجمالية ذات الطبيعة التأملية؛ أما مساحة التقييم فتستدعي الاتصال بين لحظة الحضور الدينامي الإبداعي الفيزيقي للنمر، واتصالها بوجوده الطيفي الآخر داخل اللاعب؛ ومن ثم يعمل حضور النمر الفيزيقي وما يتضمنه من تمثيلات استعارية كمحفز خارجي لحضوره كصورة بصرية طيفية داخلية ويمنح الأولوية لهذه الصورة، ومن ثم الفاعلية المضاعفة فيما وراء اوبرا الدكتور كوبيليوس في النهاية، ويرتكز وعي النمر على الذاكرة بعيدة المدى في استعادة التشابه بين اللاعب وعروض النمر الدينامية والتباسها بالاختفاء الاستعاري والتشبيهات في أكثر من عصر وفي أماكن عديدة؛ وينتخب وعي النمر المؤشر السياقي الخاص بالاستعداد لعرض دمية الدكتور كوبيليوس وكانه يستشرف الهارموني والاختلاف بين الدمية وظلاله الخاصة ومن ثم يستعد لإنتاج استجابة جمالية تأملية مضاعفة يصير فيها الجمهور المحتمل مثل مجموعة من الظلال؛ ومن ثم فالمعالجات الواعية – في مساحة العمل العصبية العالمية – لحضوره التمثيلي الحلمي الملتبس بالسارد فد تقاربت نحو تأويل المشهد انطلاقا من تجاوز التداخل بين الفن والواقع باتجاه اكتشاف حالة باطنية تأملية جديدة يتخذ فيها موقع الفاعل التفكيكي الذي ينتمي للعرض بينما يمزجه بنغمة المحو.
أما مونولوج التنين فيتصل بحضوره التجريبي الأول كتشبيه أو كوشم على جلد فنان أدائي صاحب عروض مخبولة، وكان الفنان يضع جسده على المعادن الحادة والمسامير؛ فيشعر التنين / الصورة بالألم حتى يخاف ذات مرة على لؤلؤته فيقوم بإحراق جسد الممثل. (7)
ونلاحظ ثراء الصوت التمثيلي للتنين الذي يحتفظ بالمعلومات الواردة عنه في الحكايات الخيالية والأساطير، ثم يتجلى كصوت تمثيلي حلمي يعايش عروض الممثل، ثم يتجلى كوعي مراقب أو طيفي لمشهد خروجه وانفصاله الضمني في الخطاب عن جسد الممثل؛ لقد بدأ التنين في التشكل كصورة ما بعد حداثية تقع بين واقع العرض والحضور كصورة ساكنة أو وشم، ثم استعاد وهج الحكايات القديم وانفصل عن مشهد التداخل ما بعد الحداثي باتجاه ثراء عوالم الوعي واللاوعي ومنظور الشخص الأول؛ ولا يمكن فهم الوعي المراقب للمشهد – في النهاية – إلا من خلال التضاعف المكاني الممكن؛ فنحن نعاين أولا السيرك الوهمي الذي يقوم فيه المؤدي بالعروض، ثم الطبقة المكانية الجزئية – الجسدية للتنيد كوشم، ثم حضور فضاء الحكايات القديمة كمجال استعاري تأملي يستبدل المجال الاستعاري للسيرك الواقعي – الوهمي؛ ومن ثم فموقع صوت التنين هو موقع مراقبة طيفية تقع أعلى الوشم، وأعلى الحضور الطيفي الأول المستعاد من الذاكرة الجمعية بعيدة المدى.
ويصرح خطاب التنين – طبقا لمؤشر التفكك الكامن في خطورة ألعاب الممثل بحضوره التشبيهي ومخاوفه، بينما يضمر استعادة القوة الأسطورية الكامنة في تأملات الوعي واللاوعي الممكنة، وفي اتساع الطبقات المكانية فيما وراء المشهد ما بعد الحداثي الآني، ويشير الخطاب – في تضميناته أيضا – إلى اتصال صوت التنين بالوعي واللاوعي وبحضوره الذي يلازم مرجعه الشخصي التجريبي كتشبيه أو كوشم، وتقوم حجة تضاعف حضوره الأسطوري في المشهد على الصحة النسبية لفرضية امتلاء الفراغ بالحكايات والأساطير المستعادة من اللاوعي الجمعي والتي قد تتجسد بصورة طيفية في التشبيهات والوشم؛ ومن ثم تصير النتيجة وجود خبرة واعية فائقة تتضمن عودة مشهد التنين من الذاكرة الجمعية في سياق بنية الحضور التي تقوم على اللعب والتداخل.
وينطوي خطاب التنين على استعارة إدراكية بين الفضاء الذهني الأول؛ وهو صورته كوشم، والفضاء الذهني الثاني / تجليه المستعاد من الحكاية أو الأسطورة؛ ويتداخل كل من الفضاءين في التخييل، واستدعاء أطياف التنين، وصوته في المشهد، وتداخل الحبكات الخيالية والواقعية والمتوهمة في المشهد؛ أما فضاء المزج الإدراكي فيتمثل في تكوين خيالي مضاعف للتنين ضمن طبقات مكانية متداخلة ومتصارعة أحيانا؛ فهو يعاين حالة من الرعب والتفكك في طبقة مكانية، بينما يبدو في حالة حضور ما بعد حداثي مضاعف في طبقة الحكاية المستعادة ضمن فضاء السيرك التجريبي.
ينتخب التنين البيان البصري التمثيلي؛ ليستعيد حكايته ضمن عرض معاصر ومتجاوز لوجوده التصويري، أو الحكائي؛ وتعمل صورته الافتراضية كمحفز خارجي لحضوره الآخر المقاوم لتجليه الهامشي في المشهد؛ ومن ثم تعلو قيمة حضوره الحكائي كنموذج قابل للاستعادة ضمن المرجع المكاني الآني لفعل الحكي؛ ولذلك فالتنين أقرب إلى محتويات الذاكرة بعيدة المدى، والنماذج القديمة القابلة للاستعادة غير المباشرة والتي تحدث عنها كارل يونغ و نورثروب فراي في تصورهما النقدي؛ أما منطقة الحضور فترتكز على المعايشة الصاخبة للعبة، والتأملات الواعية التي حفزت إنشاء خبرة حلمية – تأملية جديدة ضمن مشهد السيرك، ينتصر فيها التنين ويستعيد حكاياته القديمة ضمن السياق الآني التجريبي نفسه؛ ومن ثم تتقارب المعالجات الواعية في مساحة العمل العصبية العالمية للتنين حول تجاوز التداخل بين الفن والواقع باتجاه الإعلاء من خبرة الوعي الخيالية الحلمية في حالة تقاطع الأماكن والحبكات السردية المحتملة في المشهد؛ وستصير الاستجابة المستقبلية هي البقاء الممكن في السيرك الافتراضي.
أما مونولوج الحوت فيستدعي مجموعة من الخبرات المختزنة في الذاكرة طويلة المدى، والتي تتعلق بصخب مطاردة الصيادين؛ للحضول على العنبر، أو الموت الجماعي على الشاطئ (8)، بينما يستمر وعي الحوت في الحكي.
إن الحوت يصرح بتفاصيل المطاردات الصاخبة ومشاهد الموت المتضمنة في السياق، ولكنه يضمر مراقبته للمشهد من أعلى؛ وكأنه يشير إلى ديستوبيا مؤجلة دائما فيما وراء تلك المطاردات، كما توحي تضمينات خطابه بالاتصال الممكن بفضاء السيرك المتوهم؛ فالحوت قد صار وعيا حالما محضا ضمن مجموعة متداخلة ومتنازعة من الطبقات المكانية في بنية الحكاية؛ وهو يقدم حجة استقرائية تتعلق باتساع الخبرات الاستعارية والحلمية المكانية في مستوى الوعي وفي التقارير الاستبطانية الذاتية المحتملة التي قد تؤدي إلى بقاء الصوت المراقب للأحداث الصاخبة في فضاء السيرك المتوهم.
ونعاين – في خطاب الحوت – استعارة إدراكية تقوم على التشابه بين الفضاء الذهني الأول / صورة الحوت في الذاكرة، والفضاء الذهني الثاني / حضور الحوت الطيفي في السيرك؛ ويتداخل الفضاءان في دلالات الاتصال بالوعي المراقب للصيرورة السردية للتجسد أو التجسد الطيفي، والحضور الأدبي المحتمل؛ إذ يتصل الحوت بالعوالم السردية العميقة وسرديات المطاردة في المياه في أعمال مثل العجوز والبحر لهيمنغواي، وموبي ديك لميلفل، وإغواء الحضور الطيفي أو التمثيلي؛ ويتشكل فضاء المزج الإدراكي من اتصال صورة الحوت في الذاكرة بمجاله الطيفي الجمالي المتجاوز للفضاء الواحد في المشهد التعددي، أو المتداخل.
وينتخب صوت الحوت البيانات البصرية المتعلقة بالمطاردة، أو الغياب المؤجل، وما وراء الغياب في آن؛ وهو يحفز – في مساحة التقييم – الغياب المؤجل كميا، بينما يستشرف القيمة فيما وراء ذلك الغياب، أو في بقاء الصوت ضمن مجال السيرك الاستعاري؛ وتزدوج الذاكرة طويلة المدى هنا بنشاط الذاكرة العاملة؛ لأننا نفترض أن وعي الحوت ينطوي على نشاط ميتا إدراكي – تعديلي لخبرات مثل الغياب والديستوبيا، والمطاردة؛ ومن ثم فمساحة الحضور تتضمن السكون على الشاطئ، وغياب الشاطئ في مساحة السيرك الافتراضية أو الاستعارية في المشهد؛ ومن ثم تتقارب المعالجات الواعية – في مساحة العمل العصبية العالمية في وعي الحوت – باتجاه حياة الوعي المراقب الأخرى التي تتأمل الحكايات بصورة دائرية دون أن تكون جزءا من الصخب، أو الدماء، أو الديستوبيا في البنية السردية للحكاية.
وأرى أنه يمكننا الإفادة – في هذا السياق – من الدراسات الميتا إدراكية الخاصة بتقييم الخبرات الإدراكية وخبرات التعلم وتعديلها الزمني الممكن ضمن نشاط الوكلاء الافتراضيين للذات في الذاكرة العاملة وذلك طبقا لجهود كل من أليكسي سامسونوفيتش، وكينيث دي جونج في دراستهما المعنونة ب المعمار الميتا إدراكي والوكلاء الافتراضيون؛ والتي تعزز من العلاقة الدينامية بين عمليات الإدخال المعلوماتي، والتحكم، ونشاط كل من الأنا الميتا إدراكي، والأنا المنشئ، أوالمراقب للأهداف، وأنا الآن، وأنا من قبل، وأنا – بعد، وأنا – أتخيل؛ ويتم التنسيق بين هذه الحالات العقلية لبناء مخططات استدلالية يتم حفظها في الذاكرة الدلالية والذاكرة طويلة المدى (9).
ولأن الصوت الثاني للحوت هو صوت حالم ومتصل – بصورة تمثيلية – بصوت السارد؛ فهو قابل لأن يقوم الصوت التمثيلي الثالث / الميتا إدراكي بتعديل خبراته المعرفية؛ فالمدخلات هنا يضاف إليها حالة أنا – الآن؛ وهي حالة المراقبة التأملية من قبل تكوين السارد وصوت الحوت التمثيلي معا، ومن ثم يتم بناء خبرات خيالية عن طريق أنا – أتخيل؛ فيتم بناء سيناريوهات لحياة افتراضية في السيرك المتوهم؛ وهو سيرك وجد بالفعل في أحلام الصوت الثاني الذي يتضمن السارد / البطل؛ ومن ثم يعود البطل إلى تأملاته الأولى عن السيرك المتوهم؛ وما ينطوي عليه من رعب مؤجل، ومقاومة للنهايات؛ فالبطل يراقب صيرورة الحيوانات الأخرى في أقنعة تمثيلية محتملة ومولدة عن اتساع خبرات الوعي واللاوعي؛ ومن ثم فهو ينفصل عن العالم الحقيقي للسيرك أو المحيط، أو الغابة باتجاه عالم الانعكاسات والاستعارات وفضاءات المزج المولدة عن الحكايات الأولى.
*هوامش الدراسة:
(1) راجع، أنيس الرافعي، سيرك الحيوانات المتوهمة، حقيبة رسومات ومونولوجات، دار خطوط وظلال، عمان، الأردن، 2021، ص 19، 27.
(2) راجع، أنيس الرافعي، السابق، ص-ص 24، 25.
(3) Read, Julia Kristeva, Powers of Horror: An Essay on Abjection, Columbia University Press 1984, p. 65.
(4) راجع، أنيس الرافعي، السابق، ص 37.
(5) راجع، السابق، ص-ص 84، 88.
(6) راجع، السابق من 54: 56.
(7) راجع، السابق، من 139: 144
(8) راجع، السابق، من 80 : 83
(9) Read, Alexei V. Samsonovich and Kenneth A. De Jong, Meta-Cognitive Architecture for Team Agents, Proceedings of the Annual Meeting of the Cognitive Science Society,2003 1029 – 1034
At: https://escholarship.org/content/qt7m62f1vf/qt7m62f1vf.pdf?t=os5l0x