عندما تتكسر ألواح سفينة التائه، بين الحرب وسطوتها، وقسوة الشرطة وغلظتها، وتجاهل الأهل وغربته بينهم، وانسداد آذان المسؤلين، يصيح الإنسان التائه {اسمي (حمّو).. مشرد.. مضيع.. أوصدت الرحمة أبوابها في وجهي. كتبت.. ولم يردوا.. طرقت.. ولم يفتحوا. قلت .. ولم يستجيبوا.. وبكيت ولم يتعاطفوا} فلا يجد الكاتب الجزائري إلا الله يتوجه إليه السارد بشكواه.

حديـــث.إلي الله!

مسعود ناهــيـلة

 

             الإهداء: إلى كلّ من لم يكسرِ الحُزن كبرياءَهم.

 

تنتقل بتعب. يطاردك صخبُ المدينة وشبحُك المنكسرُ على المرايا والواجهاتِ.. تخنقك الروائحُ.. تصك أسماعَك أصواتُ الباعةِ والموسيقى العابثةُ، وصريرُ الآلاتِ ونداءاتُ الحياة.. تتعثر. تركلك الأرجلُ...الغروبُ هنا غولٌ وغربة. تتنفس الشوارعُ الأمواجَ البشريةَ. تلفظها شيئا فشيئا. تجلس إلى طاولة حزينة تنادم وحدتك الثكلى. تقوم. تغيبك الأمكنةُ المتكلسةُ، والخطواتُ العجلى. ثم تهيم.. تبحث عن أمل يلملم جراحَك المتراكمةَ، ثم تتوزع في المدينة. تسأل شوارعَها عن مأوى، وعن رغيف..

 تهاجمك الذكرياتُ النديةُ.. شجرةُ الصنوبر الشامخة، أمام بيتكم في اخضرار مهيب. الواقفة في صبر عنيد، وكأنها في صلاة أبدية..

 تتذكر أباك يوم قلت له باستطلاع طفولي:

  • ماذا تفعل بهذه البندقيةِ يا أبتِ؟

 فيرد عليك ملاطفا:

  • نصطاد بها الفرنسيس.

ثم رحت تسال نفسك:

هل الفرانسيس ذئب؟.. خنزير؟.. ثعلب؟ غراب؟

لم تكن تعي ما قال لك غير شوق تدفق في أعماقك، وفرحةٍ طفوليةٍ ارتسمت على محياك بلا حدود.

تغوص عيناك في ظلام الشوارع. تسرق منعطفاتُها، خطواتِك. تدور.. ثم تدور.. نامتِ المطاعم، وتعبت رجلاك. مسح الليل الناسَ من على أرصفة المدينة ألاّك، وقططا هائمة تبحث عن غنيمة في بداية هذا الليل البهيم.. تزينت الشرفات بأهلها، وتدلت أعناقُهم وأبصارُهم نحو الأزقةِ الناعمةِ ليلا، الزاهيةِ بمصابيحها المتراقصةِ، ورحت أنت تذرُع الأرصفةَ نحو اللامكان.. ضحكاتُ الأنس الناعمةُ والموسيقى العابثةُ تغازلك من الدور الساهرةِ. تنعش صمتَ الليل وتعطرُه.. وتعصُرُك أنت !!..

تسافر في زمنك الأليم... تتذكر قول ذاك العسكري اللعين لأمك ذات يوم:

-أعطينا هذا "الفلاقَ" الصغيرَ..

تفتكّ أمُّك منه صبيَّها بقوةٍ هاصرةٍ، وتزوَرُّ بك بعيدا.. سدّد العسكري بندقيتَه مخوّفا.. ثم تلاشى ضحكا.

 تذكر حفاءَها وعراءَها. تذكر عشراتِ قرصِ الخبز، والقدورَ التي كانت تنصَبُها بمعية نساءِ القرية من قُبيل الغروبِ إلى الهزيع الأخيرِ من الليل.. تذكر أرتالا من المجاهدين، وهم يتلاحقون أفرادا وجماعات إلى القرية عبر المسالك الترابية الوعرة، وهم يجرون أغصانا من أشجار الضرو والصنوبر لمحو آثار أقدامهم حتى لا تتتبعهم خطوات العدو.. تذكر رُزمَ الثيابِ العسكرية التي تغسلها وتجففها النسوةُ على نار حطب الضرو والصنوبر النيء في ليالي الشتاء الطويلة الحالكة ليلبسها المجاهدون في رحلة الفجر قبل أن تتسلل الدوريةُ الملعونةُ إلى "المشاتي".

عندما تسمع أمُّك أزيزَ الطائراتِ.. تلفُّ دقيقا أو عجينةً، لتطعمكم حين تصل بكم الطريقُ إلى المداشر البعيدة.. تحمل أحزانَها وغربتَها، وتغوص بكم في وحشة الطبيعة، ليستقبلكم صمتُ الديار ووحشة الإنسان أحيانا.

ها هو الليل.. يحاصرك بجيش من ظلام، وأنت تتأبط يتمك الأبدي.. ها أنت الآن بين الدور والقصور، تبحث عن مكان يمنحك دفأ وأمنا.. تبحث عن مأوى يلم شتاتَك وسنينَك العجاف. وحدك تقف أمام "كشك السعادة".. لم يبق إلا أنت وصاحبُ الكشك وأمُّ كلثوم.. تهاجمك مسحة من حزن...لا.. ليست الدنيا هكذا يا أم كلثوم. لماذا لا يكون لي بيت ومفتاح، ومصباح؟

أريد أن يكون لي مصباح ولو بشدة (ست فولت). المهم، أن يكون لي وجود في هذا الوجود. سلخت الأحزان خمسا وثلاثين ربيعا حزينا من عمري، رفضتني كلُّ الموانئ، وكلُّ أنواع المنفى...

الظلام شرطي، يسلّط عصاه الغليظةَ على رأسك.. يا أنت.. سرّع خطاك.. ارحم نفسك من أسئلة أخر الليل.. لم تعدْ تقنع سنفونيتك الحزينةُ المتكررةُ أحدا. اغتال حاضرهم ماضيك. وحلمَك الوردي. يا ملاحا، كسّر الحزن ألواحَ سفينته التائهة.

يعترض نعيمُ بن عمك طريقك.. تلتقي عيناك بعينيه في خجل. يحاول جرك إلى البيت.. ترفض.. يُلحُّ.. تحاصرُك توسلاته.. ثم تقبلُ. رحت تقدم رجلا وتأخر أخرى. تدخلان.. يقوم الجالسون من حول مائدة الطعام في دهشة، وحالهم تستفسرُ عن هذا الزائر الغريب !!؟. تسمروا في أماكنهم. راحوا يبحلقون في شعثك، وصورتك الغريبةِ.. (؟؟ !!). قال نعيم مبددا وجومَهم المستطلعَ، ومبررا استقدامك  في هذا الوقت المتأخر:

هذا ابن عمنا (حمّو)، حمّو الذي حدثتكم عنه.. رأيته منذ قليل وهو يمر بقرب بيتنا، فاستضفته.

يقف عمّك وهو يتفحصك، ثم يعانقك في دهشة. في حين تنزوي مريم ابنة العشرين ربيعا، وهي تستطلع ملامح الشاب الغريب، وتمسح جغرافيا جسمه في حذر مشوب. أما حليمة زوجة عمك عمّار التي رافقت أمَّك طيلة سنوات الحرب وما قبلها.. اقتربت منك، وراحت تسألك عن والدتك التي لم تلتق بها منذ أن نزح سي عمّار إلى العاصمة في الأيام الأولى للاستفلال:

  • أهلا أهلا.. تفضل..تفضّل.

 تجلس بجنب عمك..تلتفت حليمة إلى ابنتها مريم، وهي تقول لها مرغّبة:

  • هذا ابن عمك مخلوف..ابن "الداقوم".

فردت مريم في زهو خجول:

  • أهلا..
  • Nous sommes honorés monsieur. soyez les bienvenues

 سألتك زوجة عمك عن أمك التي مازالت ترابط في معسكرها القديم، وتتدثر بحزنها السديم:

  • كيف هي حال الداقوم؟

تزلزل عمقك، وأنت تسمع كلمة "الداقوم".  وهي في الحقيقة،كنية قديمة لجدة أبيك، ألحقت بأمك لطول صبرها وتراثيتها.. كنت تنتظر أن تقول: ابنة الحاج الفضيل، أو لالة سُعدى.

بعد غيض صامت متألم، أجبتها:

  • هي بخير.. والحمد لله. 

في عجلة محمومة، وفروا لك مكانا مع الآكلين. جلست. خافض البصر. خجلا مما لذ وطاب المبثوث على المائدة المتبرجة التي أبدت زينتها الباذخة للآكلين.. تتسرب إليك صورةُ مائدتِكم الخشبيةِ العابسةِ العاريةِ على الدوام. رحت تشجّع ملعقتك في حياء لتنال مما لا عينك رأت، ولا بطنك ّأكلت.. بعد حين.. توقفت الملاعق.. انتقل الجالسون إلى رتل من الأرائك البهيجة، في ركن قصي من الصالون لتناول المكملات من مشروبات ومرطبات. دارت الكؤوس في زهو وأنس.. ربت عمّك على كتفك، وهو يسترجع ملامح أخيه الشهيد، وقد اعتقلته ذكرياتٌ قديمةٌ، فراح يستحضر نتوءاتِها وملامحَها المتلاشيةََ بصعوبة.. ثم قال:

  • رحم الله الشهداء.. ما أكرم الاستقلال.. وما أطيب رحيق الحياة.. أين نحن من ذلك الزمن.. كان حلما أن نرى أنفسنا مالكين للنصر والقصر والعصر !! .

 كنت صامتا. ضائعا في هذا القصر وما حواه من عز ودلال. كنت شاردا. متمردا بنظراتك. خطف جمال الدار بصرك الذي أنهكته أدخنةُ الحطب  والشموع الناعسة.

  زوجة عمك البدوية.. غسلت النعمةُ فقرَها وحزنَها واكتسبت بريقا، يَشعّ من ثوبها وعينيها. جمّلتِ الثيابُ الفاخرةُ، والألوانُ الزاهيةُ جسدَها، وملّستِ الأصباغُ الأثلامَ والأخاديدَ التي بوجهها، وهجرتها الأوشامُ إلى الأبد.

بقيت للحظات في وجوم.. ثم تحرّكت مودّعا.. استوقفك عمُّك المكتنزُ البطن والأوداج بابتسامةٍ خجولة:

- إلى أين تذهب يا ابن أخي؟

نكّست  رأسَك. صمتَ. ثم قلتَ متظاهرا:

  • أنا معروض عند واحد صاحبي..
  • لا. لا. ستقضي ليلتك عندنا.. البيت بيتك. .

 فاضت أعماقه..أغمض عينيه.. وقال:

  • صحيح.. بعُدنا عنكم.. لم نسأل عنكم.. نسيناكم.. ضيعناكم.. لعنة الله على الدنيا .. لعنة الله عليها.

ثم راح يشهق. مسكتَ يدَه مخفّفا. نظرت في عينيه المنكسرتين، وقلت مودّعا:

  • يجب أن أغادر.. صاحبي في انتظاري.

  يمدّ عمُّك يدَه، وقد أطلتْ منها ورقةٌ من فئة مائة دينار كعصفورة أفرج عنها في غسق الليل. ويتسلل بها إلى جيبك..  تمسك يدَه، وهي متلبسة بكرم مشبوه. تردّها في كبرياء إلى صدره... فظلّتُ مشلولةً، مغلولة، ممدودةً إلى عنقه.

كان نعيم مُطرقَ النظرات. تائها. في حين راحت أمُّه تتأسف عن مغادرتك البيت في هذا الليلِ الغشيم. اعتذرتْ لك.. وقد شقت دمعة كاذبة طريقها وسط زخم من الألوان بخدها. بينما راح عمُّك يضمُّك إلى صدره الذي حال بينك وبينه بطنُه المنتفخُ.

تغوص من جديد في رحلتك الليلية.  تحثُّ خطاك.. تزيد من سرعتك. "ما أقساك أيها اليتم.. وما أطولك أيها الطريق !!..".

 تقف. تواصل سيرَك التائهَ. تسأل الليل عن مأوى..  تجد نفسك أمام فندق كبير، تعلوه لافتة كتبت بحروف ضوئية متراقصة.. تتناهى إليك من داخله ضحكاتٌ وموسيقى وصيحاتُ غرام.. يحاصرُك الليلُ. يحكم الجوعُ قبضته، ويزرع البردُ أوجاعه فيك.. تطرق بابَ الفندق. يردُّ عليك الحارسُ من الداخل بصوت غليظ:

  • من الطارق؟.
  •  جئتُ لأنام...
  • ليس لدينا مكان. انصرف.
  • أنقذني يا عم من وحشة البرد، ومخاوف الليل. أرجوك.. أنا غريب.
  •  قلت لك ابتعد. وإلاّ....
  • اعتقني من أسئلة الشرطة التي تنهشني كل ليلة.

ثم تسمع تراجع أقدام ثقيلة، وتمتمات متأففة.. يستسمحك آخر مقهى أن تخلى له المكان.. يغلق وراءك الباب. يستقبلك البردُ واليتمُ والألمُ من جديد. تعانق وحشةَ الظلام، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. ومن أعماقك تسمع إجابتك المعتادة في مراكز الشرطة:

 اسمي (حمّو).. مشرد.. مضيع.. أوصدت الرحمة أبوابها في وجهي. كتبت.. ولم يردوا.. طرقت.. ولم يفتحوا. قلت .. ولم يستجيبوا.. وبكيت ولم يتعاطفوا.

أخيرا.. تخامرك فكرة غريبة !!؟.. لماذا لا احتلّ مئذنة وأصرخ في القوم ؟!!..أو أهتف لأكبر مسؤول في المدينة؟ رسائلي الكثيرة، ماتت على مكاتب المسؤولين، وأخرى توفيت في مكاتب البريد، أو ظلت طريقها كبريد الحرب العالمية الثانية؟ !.

تقترب من غرفة الهاتف.. تتحسس جيبك.. تخرج قطعة يتيمة من جيبك البارد. تشكل أرقاما عشوائية، وأنت تقول: "لعلي أتسلل إلى مسؤول كبير في هذا الليل، بعيدا عن الموانع وجبروت البوابين"..

 ولمرات عديدة، تصرخ في وجهك أصوات أزعجت أصحابها، وهم يسبَحون في أحلامهم اللذيذة...وأخرى تعتذر لك بنبرة خاصة بأنها ليست المسؤول الكبير.

وفي جوف الليل.. ودون أن تدير قرص الأرقام.. تجد نفسك تقبض على السماعة.. وتتحدث.. إلى الله.