يمكن أن تعد هذه القصة من قصص الحرب، لكنها لا تنتقل معنا حيث أصوات الرصاص، أو الحركات العسكرية، بل هي تستعيد مناجاة أحد المقاتلين، وهو يتحدث الى أمه في لحظات الحمى!! فنرى فيها بغداد القديمة ومحلاتها، والشناشيل الخشبية، ويعمد القاص هنا إلى استثمار اللهجة البغدادية، فيستعمل كلمة الدارج بدل الدرج، لتنبهنا إلى زمان ومكان القصة!!

جواربُ الأفاعي

طه الزرباطي

 

ما هذه ؟

 بنظرة كُلها عَجَبٌ.

قال له: جوارب ثخينة تصل الى فوق ركبتيك، تمنعُ اللسع وانت تتنقل ليلا بين الاحراش. رد مستغرقا في ابتسامة مخنوقةٍ: تعني جوارب الافاعي؟

 سأتعرفُ على جواربي ، سأجلسُ تحت الشجرة الحزينة تلك ، مثلما تعرفتُ على اسمي الجديد سيامند ، بذلتُ جهدا استثنائيا لأكون سيامند، وان اتعود على التفكير ، والتنقل ، والقرار، وان أضحك ضحكته ، وأحزن مثله ، وان لا أُستفزّ لِمَنْ يُنادي محمد ، لم أعد محمدا إلّا في ذكرياتي ، إلّا صوت أمي الشجي وهي تهز المهدَ حزينة جدا ، لم أكن افهم سببا لكل هذا الحزن ، لكني أدركت الآن وانا أتحسس دمعها الساقط على خدي حين يأخذها الحزن فتشدو، علمت أن سعادة العراقيَّة بأولادها الذكور ماهي إلا نوعا من التباهي الذي يخفي الحزن على بلد يقدم اولاده قرابين للحروب ، وللسجون ، وللغربة ، وللمحطات، للاختبارات ، وفي كل مرَّةٍ تُقدم مجموعة، أو مكوناً في فم التنين ، في مطحنة الوجود ، ربما لهذا أشعر أن دمعة أمي أكثر حرقةً الآن حين أتذكرُها، عيناها الواسعتان، اللازورديتان كسماء يمكنك الطيران فيها، كلما نظرت الى المرآة تمنيت لو منحتني أمي لون عينيها ،مثلما منحتني كل هذا الحزن، أمي أنا (سيامند) الابن الجديد الذي سيضاف الى قائمة حزنك ، أبنك المقاتل الجبلي ، أمي كان صعبا خيار ترك الوطن ، لعدة شهور همت في الجبال ، تلك الاحلام الجميلة ، بشوارع أوربا ، بنسائها ، بالحرية ، باللغات الجديدة ، بالبرد ، بالخوف من الخنجر المخفي الذي يطاردُك اينما كنت ، الخوف هو القرين الآخر ، الخوف عراقي كالحزن ، لا تستغربي يا أمي (سيامند) سيختلف عن محمد ، اليوم منحوني جورب الافعى ، ضحكت مع نفسي كثيرا ، والآن اضم جوربي الى صدري ،كأنني أحتمي خلف متراس ، وأطبق الفرضة والشُعَيْرَة على حلم الخلاص، لأبدأ طريقا آخر للحلم ، في عائلة جديدة نذرت نفسها للشمس ، لو كنت معي وتلمست نكران الذات ، والتنازل عن كل الإغراءات ، لو رأيت الحلم هنا ، أطمئنك ، سيامند أختار طريقا ، واسما مؤقتا ،ومشاعر أخرى أكثر حرارة ، ليتني استطيع أن اقول هذا الكلام وانا ابكي على صدرك، ليتني أستطيع أن اضع حدا لقلقكم برسالة ، اي تصرف أخرق يعرضكم الى التهلكة ، سيامند يختلف عن محمد، هو أكثر شكيمة ، أكثر حرصا ، أكثر تحديا ، أكثر صمتا ، أكثر عاطفية ؛ أضم بندقيتي الى صدري كل ليلة وأنام في حلم مفتوح  لا ينتهي ...

 لا أخفيك سرا ، كنا نتبادل النظرات من خلال الشناشيل ، ربما بسببها انتظرت عشرين عاما لأكتشف جمال الشناشيل ، أحيانا أختصر بغداد بشناشيلها وبابتسامة عفراء خلفها  ،برائحة الخشب ، برطوبة شوارعنا الفقيرة لبغداد الاصيلة ، بكل هذا الحلم الذي يقف خلف الشباك ، وانا كفارس ارفع رأسي الى سمائها لأشرب نظرة ، لم ألمسها ، كنت أخاف ان لا يتقبلها  سيامند ، أو أن يبحث عن أخرى بين القرى العصيَّة على السلطة ، القرى المنهزمة من الظلم، والحرق ، والقتل، والاغتصاب ، غابات من الاسئلة ، في عيونهن هنا ، طيبة لا حدود لها ، وصمت ، كم سمعت الصمت يا أمي ، يقول الصمت ما لا يجرأ الصراخ على قوله ، مع سيامند تعلمت قراءة واستيعاب لغة الصمت ...وفي كل مرة اترجم الصمت ، صمتهم ، صمت الجبال ، موسيقى الكون الصامت ،والغاضب ...

 مرة كِدتُ أن اسرق قبلة، كنت أنزل من الدراج الضيق، وكانت تزور اقرباءها في الطابق الثاني، في منعطف الدراج انصعقتُ، لجأتُ الى الآجر المصفط بعناية للحائط، شممت عطرها، وانصعقت، كتمثال أحمق بقيت واقفا، أخذت وقتا طويلا لأعود الى محمد أكبر ...

تتذكرين عبد الودود الوسيم، الطيب؟ هو الآخر أختار اسما حركيَّا (ابو رستم) وهو الذي قال لي حكمتين الأولى، كلما أسرعت في التفاعل مع اسمك الجديد، أسرعت في الانسجام مع هذا العالم الخشن، مع الجوع، مع الموت، موتك، موت الأصدقاء، والحب العظيم الي ان اكتشفته ،ستعرف ان الحياة الحقيقية، هي الحياة التي تصنعها؛ لا التي تصنعك .. قال لي مرة هذه حكمتي الثانية أخرج من جيب سرواله الكردي رصاصة كلاشنكوف نظيفة تلمع ، قال هذه هي اللحظة الاعظم، لحظة تقرر مصيرك أنت ...

 قلت له: كل هذا الرصاص الذي معك؟ ما حكمة هذه الرصاصة في الجيب؟

قال وكأنه يتحدث عن لقاء عاطفي قرب النبع مبتسما، منتصرا: بعد أن أحصد العدو حتى آخر اطلاقة، وانا أؤَمِنُ رفاقي للخلاص ، ولأني لا أقبل إهانة من الأوباش ، سأقرر مصيري بهذه .  وقبلها مُبتسما، ثم أعادها برفق ، وعناية ، وأغرقني في صمتٍ جبار كل شيء فيه يتحدث ، ألم أقل لك إن الصمت يتكلم ...

  لم تستطع الجواربُ أن تحميني من  الأفعى في تلك الليلة ، حاول الرفاق المستحيل ، تناوبوا في مص السم وبصقه ، شعرت قلقهم الجمعي ، الوصول الى الطبيب أمر مستحيل ، حملوني يا امي بالتناوب ، وسط الخوف ، والجبال والوديان ، كان وجهك الملائكي معي ، في اقصى لحظات حماي ، في لحظات فقداني للوعي ، يأتيني وجهك ، عيناك اللتان منحتاني السماء ، الملجأ الأخير ، أخبرهم الطبيب في اتصال بتر الساق ربما يبقيه حيّا ، سمعتهم ،فكرت بساقي، فكرت بكم بأخوتي ، كيف تستوعبون محمد بساق واحدة ، ولم يستطع أحد أن يتجرأ بفكرة قطع الساق ، تناقشوا ، بعصبية ،كنت اسمعهم وانا في حماي ...لليال ثلاثة تنعمت بسماء وجهك ، سافرت مجددا في سما عينيك ... وأنا اجد وطنا آخر في عينيك ...امي الحبيبة .

****

كان عدد من رفاقه يتبادلون الحديث عن سيامند ــ كنا في مقهى على خاصرة دجلة قرب سدة الكوت ــ لم يكونوا يعرفون اسمه الحقيقي ، أخبرتهم لم اسمع اسم سيامند في مدينتي وهذا كلام قطعي بعد اكثر من خمسة وثلاثين عاما من رحيله ،وايداع جثته في مقبرة قرية البركة في تلك القمة العصيَّةِ ، قيلَ أن سكان القرية اعتبروه ابنهم ، كل العوائل تزوره ، جيل جديد تعلَّم  حب هذا الغريب ، والمواظبة على ترك الورود البرية على قبره...

*******

في منتصف الليل، وبعد انقطاع طويل، اتصل بي علي ستار خضير، الذي ترك مدينتي مبكرا، سكن بغداد لعقود ،ولمطاردات السلطات آنذاك، اختار اربيل مكانا للسكن الدائم، حين يتحدث علي استجمع في حديثه القوة، كل التحديات، كل الانكسارات، كل التفاصيل، كل الومضات الشعرية التي تبكيه ، علي يسميني أخي لأن أمه أرضعتني مع شقيقه ، كما أن شقيقته الراحلة سليمة ارضعتني مع ابنها البكر محمد فهو أخي بالرضاعة وكان صديقي ، تلمست نيرانه مبكرا وهو يشكو هذا القفص، هذا السجن، ويشتعل حالما بالرحيل، كنا نجلس في سينما الفردوس ننشد البرد في آب بغداد، أو في مقهى الخرسان في ساحة الفردوس قرب سوق الصدريَّة، نتجول بين شناشيل الدهانة، أبو سيفين، المربعة، وطويلا نجلس في شارع ابي النواس ، نترقبُ كأسا ما سقاها أحد من فم قنينة النبيذ، وكان محمد يحترق ، ويتأمل سماء للطيران هناك ...

قال علي من بين ارهاصاته: لو زرتنا يوما سنذهب الى قبر سيامند، أخيك سيامند، وصديقك ...!

قلت أقاطعه: للمرة الثانية اسمع هذا الاسم العصر في المقهى ، والآن منك ، عجيب هذا الامر!

قال: سيامند الاسم الحركي لأخيك بالرضاعة ابن أختي المرحومة سليمة محمد أكبر الذي استشهد في الثمانينيات ، وغابت أخباره ، مدفون مع رفاق آخرين في قرية البركة في كردستان ، سكان القرية منعونا من نقل رفاته الى مقبرة الشهداء الكبيرة التي عُدت اخيرا ، قالوا لا يسمحون بنقل ابنهم ،ويزورونه تباعا ...

                                        ***********

  تذكرت ربما في لقاءٍ أخيرٍ عام 1983كنت طالبا جامعيا، وكان محمد شقيقي الروحي للسنة الرابعة يواصل نضاله للخروج من (المستنقع) لأول مرة يتحدث محمد عن شيء اسمه الحب، يتحدث كيف نقتل جزءا منا، نخنقه، ولم أفلح في فكِ طلاسم قصتِهِ .

 قال: اياك أن تنسى أمك، أنها تحبك مثلي، وأحيانا أكثر مني حتى أنني اغار وأفرح حين تضمك اليها، تقول هذا الوحيد المدلل، خانته الدنيا، يقع، يبرك، يحزن، لكن يقف شامخا، الآن فهمت مغزى كلامها، ومن أين جلبت هذا الفهم العميق لوضعك ، لوحدتك ، ليلتي الأخيرة في بغدادي الحبيبة ، وحيدٌ الآن وربما الآن فقط أفهم عمق وحدتك يا اخي في الرضاعة (مبتسما ) لا أحد يعلم برحيلي فجرا ، بعد ستة أيام أخبرها أنني رحلت لأجد فسحة أمل ، وربما مكانا يسعنا ، لطفا لا تبكي ، لا تُحبط عزيمتي ، انني اشتعل .

 مسح دموعي ، ترك قبلة فوق رأسي ، حاول إخفاء عينيه الحمراوين ، المغرورقتين بالدمع، قام بشكل حازم ،تركني لأسئلة لم أجد اجوبتها إلا بمحض الصدفة في 24/3/2023،بعد كل علامات الاستفهام ، بعد كل الانتظار ، والتوقعات ، والتخمينات ، والعتب ، كم مرت لذتُ الى صدري امي الثانية كانت تسميني باسمي ، وغالبا باسم محمد ، ليتني اخبرتها باسمك الجديد سيامند اسمك الذي متَّ به، ليتني كنت أعلم أن الحياة لُعبة يا سيامند ، على قبرك أقرا نصَّا شعريَّا كنت تعشقه ، النص الايروسي المغرق بالحزن ،والرحيل ،الذي كان يطيب لك ، وانت تَكْبِتُ كُلَّ هذا الحبَّ مَخنوقا ، لكنكَ ابتدعتَ جناحيكَ أخيرا ...

 

    11/5/2023