«وجدتني متلبّسة بمقاربة جنونية في وقت حرج. فالحبّ طرفها الأول. ولغةَ الفدائي في الحرب، طرفها الثاني، وسرعان ما استنتجت أن اللغة هي نفسها في الحبّ والحرب، فما الفرقُ بين ثورة الجسدِ، وثورة المشاعر، كلاهما يقوداننا إلى التضحية». بتلك الكلمات صنعت الكاتبة اللبنانية بؤرة الفعل بالقصة، التى استحضرتها الكاتبة من قمة الرأس، بيعدا عن العاطفة، التى هى لغة الإبداع. حيث سعت لدمج الحب الإنسانى، بالقضية الوطنية، فجاءت القصة أقرب إلى موضوع الإنشاء، منها إلى القصة (القصيرة).

الأيقونةُ والبحرُ

رائـدة محمد

 

لو إنّ سيارةَ كانتْ تقلّنا بحرًا، من شاطئِ البيّاضة إلى يافا، لكانتْ أطفأتْ نارَ استعجالي المستعِرَة، في داخلي، غيرَ أنّ الشاطئَ السحريَّ، كان يشدُّني إلى رمالِه الذهبيةِ. ومياهُ المتوسّط، تغسلُ وجهي بملوحةٍ محبّبةٍ، لعلّني ألتقي وجهَ أمّي، هناك، حيث الطّهرُ، والصّلاةُ، والعدالة.

كأنَّ المركَبَ كانَ يُدرِك ذلك السرَّ الإلهيّ، الذي كنتُ أنتظرُه بفارغِ الحلم، وراحَ  يتواطَأُ مع زبدِ الموجِ الأبيض، وذهبِ الشّمسِ الأصفرِ المائلِ إلى الحُمرةِ الفاتحة. ساقنا الزّبدُ إلى حيثُ تعوّدَ على رؤيتِنا في بحرِ يافا. على تلك الصخرةِ الدهريّةِ حيث كانت تجلسُ والدتي، قرّرتُ أن أجلسَ. وانطلقَ قلبي مع المركبِ، ليحطَّ على تلك الصخرة.

 حبيبي استغنى عن حياةِ الذلّ، وكانتْ إرادتُه تدفعُه مع مياهِ البحرِ الذي كان يتصارعُ والمركبَ على أحقيّةِ الوقوف، غير أنّ المجاذيفَ تحالفتْ والمركبَ ضدَّ المياهِ، إنّها مثلنا مُقاوِمَةٌ، فدائيّةٌ، تستعجلُ الخطواتِ، وقلوبُنا تستجيبُ بحماسٍ لا يُقهر.

انشغلتُ عن سالمٍ به، وبسحرِ مياهِ الناقورة، وبالأسلحةِ التي عددْناها لهذه الغاية. استمتعُ بتلك المياهِ المنسابةِ حريرًا ناعمًا، وهي تنسيني الرجلَ الجالسَ جانبي، تنفّستُ بعمقٍ، وأيقظَ نسيمُ فلسطين ما بداخلي، من نارٍ حاميةٍ، فيها من الشوقِ، والحنين، والإصرارِ على النّصرِ، الكثيرُ، وفي داخِلي حالاتٌ من الغضبِ، الذي بدأَ فتيلُه يعسعسُ رويدًا رويدًا.

كانَ الفتيلُ يشتعلُ، كلّما اقتربنا من شاطئِ نهاريا، يلتهبُ، يتأجّج، يستعرُ، فُيُسعِرُ الشوقَ في صدورِنا، وينفضُ الرّمادَ عن جمرِ القلوب، وكأنّ الوقتَ بات شيئاً بعيداً.. والرجالُ الذين كانوا معي قد خرجوا عن دائرةِ اهتماماتي الآن. 

خُيّلَ إليّ، أنّني أرى في عمقِ البحر حضورًا قويًا، لمن عبروا الحياةَ، تاركين على صفحتِه بطولاتِهم، وأمجادَهم، وأعمالَهم، وحكمتَهم.

رأيتُ ملكَ صور، وهو يتربّعُ على عرشِ سفينتِه، وقد أخفى سرَّ أليسار في دفتيها.. وتركَ سلطةَ اللغةِ على صاريتها، يفرضُها على مشارقِ الكرةِ الأرضية، ومغاربِها، وسرعان ما غطّتِ السّفنُ صفحةَ مياهِ الناقورة، وهي تجوبُ العالمَ ذهابًا وإيابًا، وتوصِلُ الشرقَ بالغرب.. 

رأيتُ عظَمَةَ الخالقِ، في أعماقِ البحر، ويدُه تُمسكُ بالسَكّانِ الذي يقتلعُ من قعرِه الدرَّ الثمين، ويعيدُ التوازنَ إلى السفينةِ، التي أبحرتْ، لأوّلِ مرّةٍ، إلى المقلبِ الثاني، من الكرةِ الأرضيّة، وما تلبثُ أن تنشرَ الألوانَ بتناسقٍ رائعٍ على نزلائِها.

رحتُ أتأمّلُ هذا السرَّ العظيمَ، الذي يخفيه اللهُ في قعرِ البحر، وفي أمواجِه الحريريةِ، وفي العلاقةِ بينه وبين السحابِ، واليابسة، والإنسان، وبينه وبين فلسطين التاريخ، والحضارة العتيقة. 

رأيتُ الغزواتِ، والمعاركَ، وجثثَ القتلى المهترئة، سمعتُ أصواتَ السيوف، والمدافع، وهتافاتِ النّصر. شممتُ رائحةَ الخيانةِ من أنابيب النفط، ومن السّواد الأعظم.

وبينما كنتُ ريشةً في مهبّ الذكرياتِ التاريخية، لا أعرِفُ كيف وجدتُني أنتزِعُ البندقيةَ عن أرضِ المركب، وأحضنُها، أشمُّ رائحةَ النّصرِ من فوّهتِها، ألامسُ أيادي من سبقني إلى هذا الشرفِ العظيم، وجدتُني أعيدُ دماءَهم التي دفعتْني لأنْ أواصلَ الطّريق التي فتحوها إلى الأرضِ، والوطنِ، والشجرِ، والنجوم.

وما لبثتُ أنْ شعرتُ أنّني أتأبّطٌ سلاحَ كلِّ من عبرَ من هنا، من معبرِ النّصر، معبرِ الانتفاضةِ، والعبادة، والحج. أتأهّبُ، أضمُّ سلاحَ الأبطالِ الشرفاءِ إلى صدري، وسبابتي على الزّنادِ، وفوّهةُ البندقيةِ تشمخُ بين يديّ عاليًا. أحضنُ سلاحَ مَنِ امتزجتْ دماؤهم بهذه المياهِ الصافيةِ الأديم، وكما الفراشةِ التواقةِ إلى بتلاتِ الزّهر، في يومٍ ربيعيّ جميلٍ، كنتُ أتوقُ إلى تمزيقِ الأعداءِ إربًا، كي أرتدي الوطنَ جلبابا، يقيني من الفضيحةِ، والعار. أرتدي أثوابَ الطبيعةِ وألوانَها، والحقولَ والترابَ، أرتدي المدارسَ، والجامعاتِ، أثوابَ الجيشِ الفلسطينيّ، وعلمَ البلاد، أرتدي المطارَ والسّككَ الحديد، والشوارعَ، والمدنَ، والمباني الشاهقة. أرتدي النشيدَ الوطني، والكوفية..

كان صديقي حسام يقودُ المركبَ الشرفَ إلى نهاريا، وفي جُعبتي نامتْ أساطيرُ تاريخِ بلادي المكتوبةِ بخطوط نساءِ مناضلات، اللواتي كنّ يعبرْن البحرَ، يعبرْن التاريخَ، يعبرْن الحروبَ والحدودَ، تُبشِّرْن بمناضلاتٍ جديدات، وتَعِدْن النساءَ المعتقلاتِ في سجونِ الاحتلال بالنّصر القريب.

مركبٌ صغيرٌ يطيرُ في عرضِ البّحر، فوقَ المياه، والمياهُ خائفةٌ، تُفرفِرُ تحت ضرباتِه، إنّه يتوقُ للوصولِ، قلبُه يغلي غضبًا، كما قلوبِنا، يتنافسُ والزمنَ، زمن الهزيمةِ، يحاولُ القبضَ عليه، ليرميه في عبابِ البحر، لعلّ شمسَ الحقِّ تسطعُ على أهازيج زمنِ الانتصارات، شعرْتُ، أنّ الزمنَ زمنُ النساءِ الرائداتِ اللواتي عبرْنَ إلى ضفافِ النّصر، وقد اختصرْتُهُن بشخصي، لأفتحَ لهنّ شهيَة الشّهادة.

رجالُ المركبِ التي تقودُه المرأةُ، ودّعوا أمهاتِهم، وركبوا البحرَ، كما ركبْتُ، وفي حوزتِنا العدّةُ والعتادُ. قطعَ سالم حديثي التاريخي الصامت، بنظرتِه إليّ، وسألني سببَ انشِغَالي عنه:

 فكرت، ثم قلت: 

أراكَ خائفًا مُتردِّدا شاردَ الذّهن.

ضحِكَ ضحكاتِ فرحٍ، وأومَأ برأسِه نفيًا، وأجاب:

لا لا، إنّي أفكّرُ بدمائِنا، لعلّها ترسمُ خارطةَ فلسطين، ولبنان.

ثم اقتربْتُ منه، وحملْتُ يمنايَ، ثم وضعْتُها على كتفِه، لتنام بحنان، وقلتُ ممازحةً،بصوتٍ أنثويٍّ ممزوجٍ ببعضِ غنج ناعم:

لعلّك تخافُ عليّ، كَونِي المرأةَ الوحيدةَ، التي ركبَتِ البحرَ، لتنصرَ الرجال.

لا يا دلال، الوطنُ عليلٌ، ويداك بلسمُه كما أيدينا، لا ذكر أو أنثى على هذا المركب، إننّا فدائيون، كلّنا معًا فدائيون، تقودين شراعَنا بحكمةٍ، وثقةٍ، وخطةٍ مدروسةٍ محكمةٍ، وسوف ننتصرُ، بحسّك، وحدسِك، وشجاعتِك، وإيمانِك بالقضية، وحبِّك للوطنِ، والوفاءِ لدم الشهداء.

فالنّصْرُ لا يتحقّقُ إلا بدمائِنا، وقد امتزجت، لتشكّلَ حالة واحدة، وهي القتال حتى الشّهادة.

أحنيْتُ جسدي قليلًا، ثم دنوتُ فمي لألثمَ جبينَه الذي يتصبّبُ عرقَ الاحتشامِ، وطبعْتُ قبلةَ بطعم النيّة الحسنة، وجلسْتُ أسرّحُ أفكاري مع سحبِ الموج.

لم يعدِ البحرُ، في نظرِي، مكانَ استجمامٍ، وشرودِ الذّهن، وموطنِ العشّاق.. لم أرَه ملاذًا للمراهقين والمُتعبين من صخبِ الحياة، وضيقها.. لقد أصبحَ كتابًا تاريخيًا خطَّهُ الأبطالُ بتضحياتِهم، ودمائِهم، تاركين صفحاتِه السوداء سجنًا أبديًا للجبناء، والخونة الذين أصبحوا عبرة للأجيال المتعاقبة..

وكأنّ جليسي قرَأَ ما في أفكاري من صورٍ، وجمالاتٍ، وحالاتٍ، وتركني أستمتعُ بها، وأشمّ رائحتَها إلى آخرِ رمقٍ، وأذوقُ طعمَها الممزوجِ بملوحةِ الرّذاذِ العليل..

وإذا بسالم يدنو مني، وقد حمَلَ كيسا من المأكولات، ثم نظرَ إليّ بنجمتين لؤلؤتين وقال:

ها قد اقتَرَبْنا، يا دلال. عليكِ أن تأكلي شيئا، قبلَ الوصول.

أخذْتُ نَفَساً عميقًا، وأنهيْتُه بزفراتٍ تعبى، وتنهداتٍ بَليلةٍ، ورسمْتُ على شفتيّ بسمةً عميقةَ المعنى، حينَها رفعْتُ صوتي بالغناء: يا فلسطين جيناك، جينا وجينا وجيناك.

نظرَ إلينا حسامُ، واستوى في جلوسِه، وصارَ يردِّدُ معنا، فرفَعَ فريدُ كوفيّته عن كتفِه، وبدَأَ يلوّحُ بها، يتمايلُ معها بغزلٍ ودلال، ويردّدُ: علّي الكوفية علّي ولُولِح فيها، غنّي عتابا وميجانا وسامر فيها، خلّي البارود يزغرد ويحلّيها.

فوقفَ سالِمُ، وبدَأَ بالرَقصِ مع التصفيق الناعم، ثمّ دعاني لأشاركَه، هذا الابتهال، وأُريحَه من لهاث اللحاق بغيمةِ العشقِ، لعلّها تهطلُ نصرا .

 وعندما انتهتْ حفلةُ الكوفية، جلسْنَا كلٌّ في مكانِه، ثم سادَ الصمتُ، فغرقَ كلٌّ منّا في أفكارِه. وشيئا فشيئا بدأتِ العتمةُ تسودُ، وما كادَ حبيبي يقتربُ منّي، حتّى انتشرَ عطرُه في تلافيفِ الروح..

لا أدري إلى أيّ مدَى كانَ أنفي جائعًا إلى رائحةِ رجولتِه، وهي تقتحِمُني في تلك العتمة.. لم أقاومْ أنفاسَه، وهي تباغِتُني، كأنّها شعلةٌ عبرتني نيرانُها ببطءٍ، وداهمتْ عتمةُ نفسِي المظلمة، فأضاءتْها لتشاهدَ شهيقَ الشّوق، وهو يخرجُ من بين شفتيّ.. التي راحتْ أصابعُه ترسمُ عليهما إثارةً مدروسةً، ثم تمحوها، فيزيدُ اللهيبُ المتصاعدُ من دهاليزِ أنفاسي، حينها وقعَ الالتباسُ، أَكانَ هو فعلا من نبّه فيّ شهوةَ الالتصاقِ به، أم أنّ يديه التي ارتدَتْ فلسطين، دعتنِي لممارسةِ الانتماء، فلسطينُ التي أصبحَتْ على مقربةٍ منّا، وقد فاحَ عطرُها من قميصِه.

ولم أعرفُ ذلك اليوم، كيفَ خرجتْ كلماتي من عبابِ نفسي قائلةً:

كم كان يلزمُني من القوّةِ لأوقفَ بركانَ تشايتن الغاضب الذي تفجّرَ في داخلي، وأنا في مخيمِ صبرا، كم كانَ يلزمني من الجرأةِ، لأزيلَ هذا التردّدَ الذي عبرَني، حين كنْتُ أخطّطُ لذلك العملَ الفدائيّ. بينما رفيقاتي كنّ يخطِّطن ليوم زفافهنّ، ثم همسْتُ في سرّي:

كم كان يلزمني من الصّبر لتتوقّفَ خيولُ أوردتي، في هذه اللحظة عن الصهيل.

كان سالم رجلَ الصمت، يعرِّي صوتَه من اللغة، لأنّ لا حاجةَ لها في مثل هذه المواقف، يعرفُ كيف يستخدِمُ لغةً أخرى لمواصلةِ حديثِه مع الأنثى، كما كان يُتقِن الحديث مع السلاح، وهو يزغرد في قبضته.

ضحكْتُ يومها، لأنّني وجدتني متلبّسة بمقاربة جنونية في وقت حرج. فالحبّ طرفها الأول. ولغةَ الفدائي في الحرب، طرفها الثاني، وسرعان ما استنتجت أن اللغة هي نفسها في الحبّ والحرب، فما الفرقُ بين ثورة الجسدِ، وثورة المشاعر، كلاهما يقوداننا إلى التضحية.

وكسرت جدار شرودي بسؤاله:

سالم، لو قُدّرَ لك أن خُيّرتَ بيني وبين الوطن، فمن تختار؟

وقبل الإجابة فكّرت؛ هل كنتُ أبحث عن انتماء ما في سؤالي هذا أم أنّ الفقد قدح زند الشوق في قلبي ؟  غير أنَّنِي وقعْتُ في فخٍّ لعينٍ، وحاولْتُ أن أنزعَ السؤال من فكره بسؤال آخر، ولكن من دون جدوى، كنْتَ قد تكلّمْتُ، وهلّ تُردُّ الكلماتُ التي نتفوّه بها؟.

ضحِك ضحكةً أثارت فضولي، ثم بادرني بالقول:

وماذا كنتِ فاعلة لو أنّك سالم؟ 

فكّرْتُ قليلًا، عليّ أن أبعده عن دائرة ظنوني، في هذا الوقت العصيب، فتورطي بحب الوطن الآن يشغلني عن حبّ آخر.

غير أنّ يديه النارية زنّرت خصري، ثم أشعلت جسدي، حين جذبتني إلى صدره، فهمستُ  قلبه، كما كنتَ ستفعل تماما. 

وقال بحنان جامح، وصوت مهموس، كيف ؟:

 قد يستطيعُ الإنسانُ أن يستبدلَ الحبيبَ بآخر، ولكن، هل يمكننا أن نستبدل وطنًا بآخر، وهو يلتصقُ في شغافِ القلبِ، ويسكنُ الروح.

أومأ برأسِه موافقًا، ثمّ ضحكَ باحتشامٍ، وحاول أن يجنّبني الإرباك الذي أوقعتُ نفسي به، فحملَ كيسَه وقال بصوت وقور جهوري:

ساعةً، وأنا أسألُك أن تأكلي شيئا، كلي يا صغيرتي البطلة، لعلّها تكونُ اللقمةَ الأخيرةَ بيننا. فضحكْتُ بغصّةٍ. وغبْنا في شرودِ  تبصّرِنا

أعتقد أنّ موجةً مالحةً أُفلِتتْ من أخواتِها الهاربات من ضجيجهِنّ، أعادَتنا من ذلك العالم الروحيّ المبتهل إلى عالم المادة..  فتطايرَتْ، وفرشَتْ ريشَها المبلّلَ على صفحةِ المركَبِ، حيث نجلِسُ، مصطحبةً رائحةِ ذكرياتِ البحر.. فاغتسلَتْ ذكرياتُنا بها، وعادَتْ جديدةً في أفكارِنا. وكأنَّ الرّفاق شعروا أنّ بي حزنًا دفينا، فاقتربوا، منّي، تحلّقنا وقوفا، وأخذْنَا حُضنا كبيرًا، وتعاهدنا على تضامُنِنا واتّحادِنا، ثمّ همسَ سالمُ لقد اقتربنا من نهاريا، جهّزوا العتادَ، وانتبهوا جيدا.

ففعلنا. نحن نجتازُ نهاريا، ونقتربُ من حيفا، الصمتُ سيّدُ الموقفِ، والترقّبُ يرتسمُ في دهشةِ العيون، والسّباباتُ على الزّناد، والأجسادُ مثقلةٌ بالسلاح، والقنابل، والعبوات. لم يبقَ أمامنا إلا تلك الغدّةُ السرطانيةُ لنقتلعَها من الجذور.

وصلنَا الشاطئَ، نزلنا، مشيْنا بحذرِ الثّعالب الماكرة، دخلْنا العتمةَ متفرّقين، حسام على محاذاة الشاطئ قُبالتي، يراقبُ البحرَ، سالمُ في المقدّمةِ ينظرُ إلى الأمام بحذرٍ شديدٍ، ويُصغي إلى همسِ الليل إذا عسعس، وصادق خلْفنا، يحمي ظهورنا.

وصلنا محطتَنا الأخيرةَ، حيث كان بانتظارِنا رفاقٌ، قد واعدوا ديرَ ياسين أن تسكنَهم متحرّرةً من تلك المجزرةِ الجريمة التي ارتكبَها العدوّ الغاشِمُ، كانوا قد أعدّوا العدّةَ، وحملوا خارطةَ العملِ الفدائي، وانتظروا السلاحَ والرّجالَ لنتقدم.

وفي اليوم الثاني، استطعْنا السيطرةَ على حافلةٍ عسكريةٍ للعدوّ، صعدْتُ إليها بثوبي العسكريّ، وقد أُثقِلَ بشاراتٍ عائدةٍ إلى جيش العدوّ الصهيوني للتمويه، وإبعاد الشّبهة، فهم لا يعرفون أنّ في بطنِ الأرضِ التي اغتصبوها بركانا سيمزِّقُ لحمهَم، ويفتحُ جوفَه، ثم يحرقُ أيديهم التي سطت على البلاد، ويشلُّ أقدامَهم التي دنّستْ طُهرَ وطنِنا الحبيب، وتقتلعُ عيونَهم التي قادتْ فتياتنا الجميلات السمراوات إلى السجون من دون ذنب. سوف يحرّرُ خصري المزروع بالقنابل الأسرى، والأسيرات، وسوف يكونُ هذا العملُ الفدائيُّ في الصّفحةِ الأولى من كتابِ المقاومةِ، وصفحات سوف تطولُ، إلى تحريرِ فلسطين الأبية.

وقفْتُ في منتصف الحافلةِ التي غصّت بهم، وضغطْتُ على كبسةِ زرّ الحياةِ من خاصرتي، فتتطايرَ حقدهُم، وطمعُهم وطغيانُهم، في أرجاءِ المكان، ثم ارتسمت أمامي الحياة. بلى صرخْتُ صرخةَ لبؤةٍ مسلوبةٍ أشبالُها، وهجمْتُ بلحمي الحيّ، وحدِي من سمِعَ عويلَهم وصراخَهم مع الانفجار، وحدِي من رأى صورةَ فلسطين أمامي، وهي ترتدي ثوبَ عرسِها وتحنّي يديها من دمي،  فأدنيتُها من قلبي، ضممْتُها إلى صدري ونمت، وتركت الرفاق خلفي  مُستيقظين.