وهذه قصة داخل قصة، كتبها القاص العراقي ببصمته الخاصة، مع كثرة استعمال هذه التقنية السردية، وقد ترك للقارئ حرية اختيار أو توقع النهاية الملائمة للقصة، ليجعله مشاركا وساردا لأحداثها، بل إننا لا نعلم، من هم شخصيات القصة؟ أهي الدمى التي كانت الزوجة تشتريها؟ أم الراوي الأول؟ أم نحن!

مطبّات ليليّة

نبـيـل جميـل

(وفي هذا الظلام، تبدأ الذاكرة بعرض الصور.. صورة فصورة.. وتبدأ الكلمات بالظهور والتكوّن، ألمس الكلمات أينما أمد يدي)

                 "في درجة 45 مئوي. القاص محمد خضير"

 

الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، كل شيء يبدو رتيباً في بيت لم تتسع مساحته سوى غرفتين مع بقية المشتملات، الزوج والزوجة في سبات عميق، هي في غرفة النوم يتصاعد شخيرها كالعادة ما ان تريح جسمها، هو في غرفة المكتبة أجهز عليه النعاس بعد رحلة دامت ساعات بتأمل بطلات قصصه.

هكذا بدا المشهد، ولأنني السارد العليم فقد سمحت لنفسي بأن أتوغل في أعماق ذهن الزوج، وهذا ما سيتضح من خلال السرد.

كان مسجّى على الأريكة الوحيدة، يداه على صدره، أنفاسه هادئة، قسمات وجهه تنمّ عن يوم مرهق زاد من تجاعيد حياته. وبتزامن مراقبتي له تناهى إليَّ حفيف حركة من جهة غرفة النوم، بدّد رتابة الصمت باقترابه، وعلى نحو يتعذّر فيه الوصف بدقة، شاهدت مجموعة من الدمى تسير باتجاهي، كان منظراً مرعباً جعلني أتوقع حدوث أشياء أكثر غرابة. ولأنني غير مرئي فقد اخترقتني، وما إن دخلت الغرفة حتى أحدثت فوضى بالكتب والأوراق. كان هو يكابد في نومه، للحاق بآخر الصور في ذهنه؛ تغضنّت جبهته وبدأ يصدر أنيناً، ثم اهتزّت يده اليمنى، حاولت التوغل أكثر في أعماق مجسّاته، لمعرفة ما يدور بذهنه، وبالكاد ميّزت ما تناثر من مفردات: (لا.. لا تعبثي بكتبي وأوراقي، اخرجي، اخرجي، اتركيني).

عالم من الخيال، كان ينعش ذاكرته منذ أن أسدل آخر صفحات مخطوطته. هكذا تنعّم بما كتب، شعر براحة تامة حين أقفل خاتمة آخر قصة. غالباً عند انتهائه من انجاز قصة، كان يصيبه شيء من الكدر، تلفّه حالة من أسى ويشعر بالفقدان، (أنا حزين لأنهم غادروا وتركوني)، هكذا كان يردد على مسامع زوجته، وكانت تجيبه باستخفاف: (كما في كل مرة، تظل تكابد ويتعكّر مزاجك، وأنا أتحمّل).

مسكوناً بأحداث قصصه الى درجة التقمص أحياناً، أو التحاور بصوت مسموع. في بداية الزواج ظنت زوجته بأنه يخاطب أشباحاً، كانت خائفة وأخبرت ذويها، الى أن تعوّدت على تصرفاته، حيث عزلته في أثناء الكتابة (حبيبتي حتى لو وصل اليك صوتي أرجوك لا تقتحمي عزلتي، لأن حضورك سيشتت ذهني) كان يوصيها دائماً، فتردّ عليه: (يا لها من حياة مزعجة، هل معظم الأدباء مثلك؟ إنك ترعبني، سأدعك مع كائناتك الافتراضية، عش معهم كالمجنون..).

أخذت الدمى تهمس ثم ارتفع صوتها معاً:

  • خذ رتّقنا بجسدك، لا تتركنا يا أبتاه، امحُ خطايانا، سر بنا نحو عالم الجمال، نحن صنيعتك، أبناؤك، سنتناسل وتمتد عروقنا، فقط لو حسبت المعادلة جيداً، وجعلتنا ننجو من التباس المسافات بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، لكنك تركتنا للمجهول، ظناً منك بأن هذا ما يطلبه القارئ، واويلاه، واويلاه..، أيّ مصيبة أوقعتنا فيها، غداً سيتعرف الناس علينا من خلال اسمك، لذا فأنت المدان بوجودنا، وستبقى الحامي لمصائرنا، فخذ الحذر مما ستؤول اليه الحكايات، عن كاتب ترك شخصياته في العراء وانهزم.

في ظلمة موحشة كان يتخبط في رؤياه، يتشبث بآخر ظلال وجوده، علّه يجد خيطاً يسحبه الى برّ الأمان، أخذ يضغط بأسنانه ويئنّ، فيما تفصدت على جبهته حبات عرق، كان يرى صوراً تخيلها في أثناء الكتابة، تطوف في منامه كأنها أشباح، أو أرواح أعزّاء على قلبه (آهٍ من الفقد، آهٍ من الفقد) شفتاه تبرم مفردات الخوف والضياع، ولا حراك لبدنه، الذي بدا أشبه بدمية ركنت دون اهتمام.

لم تمضِ على رحلة نوم زوجته سوى ثلاث ساعات تقريباً، ولأنها اعتادت عليه، تركته في عزلته. أغلقت التلفاز، ملأت السرير الصغير الملاصق لسرير الزوجية، بمختلف الدمى، أبدلت ثوبها بمنامة شفيفة، احتضنت دمية على شكل قطة بفراء ناعم ونامت. 

كلما عدتُ بذاكرتي وجدتني أتوه ويشرد فكري بتصديق ما رأيت، كان الحدث أشبه بدوّامة، تتسع، تتمدد، تزحف ببطء في منزل لا يقطنه سوى قاص وزوجته، انها لحظات سطو الأرواح على دمى زوجة، كانت تتمنى أن تنجب طفلاً واحداً، يشغل أماسيها الباهتة، ونهاراتها الموحشة حين يغيب الزوج في العمل، ومن غير قصد تعلّقت ذات جولة في أحد الأسواق بشراء دمية، ثم تلتها أخرى وأخرى، الى أن امتلأ البيت، وكانت فرصة لكل من يزورهم ومعه طفل، أن يلتقط احداها ويأخذها معه.

ربما تعدها صدمة عزيزي القارئ وتحسبها ظاهرة غريبة، أو من الفانتازيا، لكن هذا الذي حصل، دمى تتحرك، تنتفض وتهتف: (لا فكاك، ثمة لا فكاك، الّا بعد ردّ الاعتبار وأخذ الثأر..).

    ضربات على الخدّين، ثم ينفرد صوت ذكّره بتلك الطالبة التي حاك خياله قصتها.

- حرام عليك، جئت بي من أقصى الجنوب الى مدينة "الموصل"، لأكمل دراستي في الطب، كنت فرحة وأنا أتخيل مستقبلي، في البدء قدّمت لك الشكر على هذا الدور، لكنني لم أفطن الى لعبتك القذرة حين رميتني لأحد الذئاب البشرية، والنتيجة ضياعي بين ملاهي الليل في "اربيل"، ألم تفكر بدموع أمي، بأخوتي الصغار، ستبقى ذكرى فقداني لأعز ما أملك، محفورة في ذهني، وما مهنتي الآن سوى عقاب من الله لكوني لم أستمع لنصيحة أمي، وستبقى فكرة الانتحار تلازمني دائماً بفضل ما رسمته لي من دور.

-  لحظة، يجب أن تعرفي إنه واقعنا، أنا لم أتخيل، أنا نقلت الواقع للقارئ، ثم من سمح لكِ بمحاكمتي؟ وكيف اقتحمتِ غرفتي، هيا ابتعدي، اخرجي..

     تسارعت أنفاسه، وارتفع أنينه، أخذ رأسه يتحرّك الى الجانبين، بينما شفتاه لم تنفرج سوى عن شقّ صغير سال منه خيط لعاب، وتاهت منه مفردات مختنقة، لم يصل مدى سماعها الى أبعد من أرنبة أنفه.

  • بإمكاني الآن أن أغرز سكينة في صدرك، لكنني أرحم منك، أفكر بزوجتك المسكينة، ومن سيؤويها بعد موتك.

     أكملت الدمية ثورتها بالكلام، بعدها كفكفت دموعها وانسحبت ببطء، أسندت ظهرها الى باب الغرفة، نظرت الى رفيقاتها، تعثرت وسقطت على وجهها.

     اندفعت دمية أخرى، كانت على شكل عروسة، بملابس بيض وإكليل مزركش، صُنعت من مادة لدنة أقرب الى جلد انسان حشي بالقطن، قفزت على بطنه، وزحفت الى صدره حتى وصلت الى رقبته وأطبقت عليها. كان يتخيلها في رؤياه كطائر ينقض عليه بمخالب معقوفة. بصعوبة حاول أن يحرك إحدى يديه، لكن شللاً تاماً أتلف أعصابه، وكذا صوته بدا مكتوماً، متقطعاً، كأنه يخرج من ماكنة ثرم لحوم وليس من حنجرة انسان، بمفردات لا معنى لها.

  • يا لك من كاذب، مخادع، حقير، اخترت عنواناً جميلاً لقصتي (ما زلت بيضاء) لكنك خنت الحكاية، وبذرت في بطني حبة شيطان من شاعر واهم، صنعه خيالك المسموم، هنا، هنا (أخذت تضرب رأسه) هنا مصنع الحكايات، والدافع الرئيس لإتمام عملية انتحاري، ترى ماذا قلت لنفسك حين حطّمت مستقبلي؟ وقدتني الى هاوية الضياع، لم تهتم بسوى بإنجاز قصة، أما بكارتي لم تكن ضمن حساباتك، لأنك بلا شرف، نعم، فلو كان لديك مثلها لما قمت بتمزيقها من شخص مجهول صَنعتْهُ أوهامك البالية، جعلته وسيماً ويكتب الشعر، لهذا أغريتني به، تافه، حقير، مثلك تماماً، يا لوقاحته ووقاحتك، لكن الحمد لله ففي آخر لحظة أنقذني صوت المؤذّن القادم من بعيد، وجعلني أواصل الحياة.  

بقي ممدداً على ظهره، وفي ذهنه تطوف كوابيس، لم يميّز بعض أشكال وأحجام من زاره في منامه، كبّلته هواجس خوف، كان يسمع صيحات وصراخ، سباب وشتم، بالكاد استطاع أن يلمح وجه زوجته من بين كل هذه الجموع، حاول أن ينادي بها، أن يلفت نظرها، الّا انها لم تهتم به، بقدر اهتمامها برتيب الدمى، فقد أخذت برفعها عن الأرض ووضعها في الأماكن التي خصصتها لكل دمية، فوق الرفوف، زوايا غرفة النوم، على منضدة الزينة، وهكذا دون أن تراعي بكاءه وفزعه.

*    *    *

* تنبيه: 1

  ربما عند الاستيقاظ سيشعر بندم. أهو ندم فعلاً؟ أم عدم جدوى في الاستمرار بكتابة القصص! والّا ماذا سيفسر ما حصل له؟ وهل يحتاج الى برهان لتبرئة ذمته؟ الشك ربما سيلازمه بعد ليلة صاخبة، ويعيد ترتيب حساباته علّه يجد مخرجاً، ومن المؤكد سيسأل زوجته: (هل ما حدث كان حقيقة؟ أريد تفسيراً منطقياً لوصول الدمى الى غرفتي؟) وربما ستجيبه: (انها عزلتك التي فضلتها عليَّ، والآن حان جني المحصول).

* تنبيه: 2

    الى هنا يتكتم السارد عن بقية التفاصيل، ولا يريد الخوض أكثر. لأنه يعد ذلك سر من اسرار الكتابة.

* تنبيه: 3

    ربما سيتحدث القاص وهو يرتشف الشاي في مقهى الأدباء (بالعشّار) عمّا مرّ به من كابوس، وربما سيعقّب أحد اصدقائه: (هل هي قصة جديدة؟) ومن المحتمل جداً سيواجه تفنيداً صارماً لعدم اقناع الأصدقاء.

* تنبيه: 4

    وأنت عزيزي القارئ هل ساورك شك بعدم تصديق أحداث القصة؟ إذا كان كذلك فسأقترح ومن وجهة نظر كاتب: (إن حكاية أخرى ستفي بالغرض، الاسترسال بالافتراضات، لكن بشرط عدم الرهان على قبول أي افتراض).     

* تنبيه: 5

    أعتقد أن المسألة بدأت تتعقد أكثر، الأفضل هو الانسحاب وترك القاص يأخذ قسطاً من الراحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نبيل جميل، قاص وروائيّ وشاعرٌ عراقي، البصرة، 1967. من أعماله:

حارس المزرعة، قصص، البصرة، 2005 / طباعة أولى على الحساب الخاص. ثم اعيد طباعتها في دار الروسم، بغداد، 2018.

الصعود الى الأسفل، قصص، سوريا، 2010.

فتى الحروب، قصص، البصرة، 2016. ثم اعيد طباعتها في دار روافد، مصر، 2022.

رسائل رطبة، رواية / دار أمل الجديدة – سوريا – 2018. ثم اعيد طباعتها في دار روافد، مصر، 2022.

عين القارئ، نقد، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2021.

نجلاء وقصص أخرى – مجموعة قصصية، دار روافد، مصر، 2022

في اتجاه الجنوب البعيد، مجموعة قصصية، دار روافد، مصر، 2022

فازت قصة (لحظة غير منتهية) بالجائزة الاولى في مسابقة مجلة العربي بالتعاون مع اذاعة بي بي سي عام 2007.