تعتصر القصة حياة البؤس، عندما يتحول الرجل الأسود إلى حيوان، يلهو به الرجل الأبيض، صانع. القسوة وممارسها. لم تذكر القصة رجل أسمر، أو أبيض، فكان تحول الإنسان من الحالة البشرية، إلى الحالة الحيوانية، تحولا إبداعيا، أحال القصة بكاملها إلا العالم الخفى الذى تستبطنه القصة، والتى صنعت الكاتبة الأريترية منها، صرخة لوأد الطفولة وأحلامها.

مخترع القسوة

فاطمة حسـيـن

 

"كانوا يُعلموننا كيف نتوحش حتى نقاتلهم بنفس القوة، وإن تمردنا وتجاوزناهم أردونا قتلى".

هذا ما قاله بنيامين لجدي بصوت بالكاد يُسمع، حين أحضروه ممدّدًا على ملاءة أصبحت حمراء لفرط ما امتصت من دماء. بدا أقرب للجثة وهو يصارع من أجل البقاء، بعد أن شُوِّهت ملامحه، وفقد جزءًا من أسنانه الأمامية.

لم أكد أقترب مذهولًا مما رأيت، حتى سارع جدّي لإبعادي وهو ينهرني بشدّة. غادرتُ دون أن ألتقط حقيقة ما جرى، وباءت كل محاولاتي للتلصّص عليهما بالفشل.

ظلّ بنيامين راقدًا على حاله تلك أيامًا عدة. تصل إليَّ أنَّاته وصرخاته الأليمة في الليل والنهار، دون أن أكون قادرًا على فعل شيء له، فكلما حاولتُ الاقتراب منه، أجد نظرات جدي القاسية ترصدني، وإن تغافلت عنها علا صوته بعبارات الزجر والوعيد، أركض مبتعدًا، غير قادر على إخفاء شعوري بالأسى، ذلك لأنني أحب بنيامين كثيرًا، وأظن أن شعوري بالشفقة عليه قد عمَّق عاطفتي تجاهه، غير أني -للأسف- أخاف من جدي أكثر.

أعرف بنيامين جيدًا. أعرف كم يكره أن يكون محل شفقة، ما يدعوه دائمًا لأن يحتفظ بآلامه لنفسه. ولكن يبدو أن الوجع هذه المرة كان أكبر من قدرته على التكتُّم والاحتمال، ومن جدّي الذي وبقدر إحسانه الذي نعرف، رأيتُ في عينيه قسوة لم أفهمها، كلما عاد من عند بنيامين.

حين تجاسرتُ مرة وسألته بنبرة ملحّة -رغم كل تحذيراته لي- اكتفى بنصف جواب لم يزدني إلا حيرة:

"لم يكن قويًا بما يكفي".

حين حاولت أن أعرف أكثر، وجّه نفس النظرة الحمراء المخيفة وكأنه أراد أن يستدرك تساهله معي في البداية، ثم أمرني بصوت جاف بالانشغال بحراثة الأرض وعدم السؤال ثانية عن هذا الأمر.

كانت مزرعتنا الصغيرة، ذات شجيرات قليلة بأوراق صفراء محتضرة خفتت خضرتها منذ سنين طويلة، يُطوّقها سور حديدي صدئ. أبي وجدي وكبارنا ظلوا يحرثون في أرضٍ عقيمة لم ولن تلد أبداً، ورغم ذلك لم ينفكوا عن حرثها. ربما لأنّ ذلك هو كل ما يجيدون فعله في الحياة، أو لعلهم يسيرون على ما نشأوا عليه دون أن يكونوا معنيين تمامًا بنتيجته.

مالك المزرعة السيد ريو، لم يكن مختلفًا عن عائلتي. في كل عام يجلب المزيد من العاملين في حراثة الأرض، لكنهم لا يلبثوا أن يختفوا في ظروف غير مفهومة بالنسبة لي. ومن كان يعود، كان يبدو، كبنيامين، وكأنه عائد من حرب مدمّرة. لطالما شغلني الأمر لكن ليس إلى الحد الذي حدث مع بنيامين.

 اعتدنا أن نقضي يومنا في اللعب أنا وأليكس وجاك. جاك لم يكن مثلنا، كان قاسيا وذا مزاج سيئ، يثور من أبسط الأشياء، ويشعر بغيرة شديدة من أليكس الذي يفوقه وسامة. مع هذا كان جدّي يحبّه لنفس العيب الذي يُنفّر منه البقية: قوته وعجرفته.

في أحد صباحات ديسمبر، جاء وفد مع السيد ريو لمعاينة المزرعة والعاملين فيها. اعتادوا المجيء كل عام في مثل هذا الوقت لاختيار مجموعة منا للمشاركة في المسابقة السنوية لأفضل حارث. يذهب العاملون معهم طواعية فالكل ينتظر هذا اليوم ليتم اختياره. كانت تعابير الحزن تغطي وجه جدي الذي بدا وكأنّ شيئًا عظيمًا يشغل باله.

عادوا حينها بأربعة عمال، وكما العادة، لم أكن من بينهم.

عدتُ لجدّي متبرمًا: متى سيحين دوري يا جدي؟ لمَ يتم تجاهلي في كل مرة؟

تنهّد جدي وأشاح ببصره بعيدًا وهو يُجيبني:

 لا تستعجل.. حين تكبر سوف يختارونك بالتأكيد.

بصوت واحد صرخ جاك وأليكس: ونحن أيضا؟

رسم الجد ابتسامة فاترة على وجهه وهو يؤكد: طبعًا يا أولاد.

 ركل جاك أليكس من الخلف وركض بعيدًا. كعادته يستمتع بإيذائه، وهو يعلم أنّ ساعات اللهو ستطول وسيظل يطارده حتى المساء.

كانت الحياة في مزرعتنا سعيدة جدًا، أو كنت أراها كذلك على الأقل، لكن ذلك لم يطل كثيرًا. 

مرت سنين استعاد خلالها بنيامين القليل من صحته بعد أن فقد سلاحه الأوحد كما كان يقول، كل ما تبقى من تلك الحادثة آثار إعاقة في رجله اليمنى، لن تزول، فقد أدت إلى إصابته بالعرج، فأكمل باقي حياته سائرًا بخطوات مرتعشة.

 رغم ذلك أستطيع القول أن علاقته بجدي، أخذت تسير مع الأيام في التحسن والعودة لسابق عهدها، إذ إني كثيرًا ما رأيتهما يتسامران في الليل، عندما ننام جميعا، وتهدأ الأصوات، كنت أرى جدي وبنيامين جالسين في مكان قصي، يتجاذبان أطراف الحديث بهدوء، في إحدى هذه الليالي عجزت عن النوم، بقيت أرقا لوقت طويل وكل شيء من حولي ساكن، لا صوت يصلني عدا أصوات الكلاب وعواء بعض الذئاب، كان الهواء أحيانا يحرك الباب الحديدي الذي تآكل من الصدئ، فيصدر صوتا كأزيز العربات، الصنبور الذي لا يُغلق تماما تندّ عنه أصوات منتظمة لقطرات الماء وهي تتساقط، شخير أليكس المزعج، دفعني كل هذا للخروج إلى المزرعة لأستنشق هواءً نقيا.

 لمحتُ جدي وبنيامين يجلسان معًا كالعادة، بالقرب من البركة في أقصى المزرعة خلف أشجار الأرز الطويلة، وبلا تفكير اتجهت نحوهم من الخلف، وكان في نيتي أن أجلس بقربهم بعض الوقت، لكن وحال اقترابي منهما سمعت بكاء جدي للمرة الأولى في حياتي، كان يقول "حان الوقت أن يعي الأولاد حقيقة حالنا، سبب موت والد جيمس حفيدي، حقيقة تلك الحرب التي لن تنتهي وتلك المسابقة التي يحلمون بخوضها، حان الوقت كي أجيب على تساؤلاتهم حول الذين ذهبوا ولم يعودوا، عن حقيقة ما جرى معك وعن سبب حالك هذه".

بكاء جدي أفزعني، وصمت بنيامين جعل عظامي ترتعد، وتلك الكلمات التي سمعتها والتي بدت لي مثل الطلاسم تخيلت أنها ستتحول إلى وحش سيغرس أنيابه في لحمي، بصعوبة شديدة خطوت إلى الوراء، وعندما ابتعدت ركضت كالمجنون، عاودت أدراجي إلى البيت الخشبي.

ارتميت في أحد الأركان، والضيق يطوقني، أحسست بحرارة تسري في جسدي، وعرفت أني سأبقى مستيقظا حتى الصباح، مشهد الحوار يدور في رأسي، بكاء جدي ووجهه الجاحظ وهو يقول "كبر الأولاد وغدا سيأتي السيد ريو ويأخذهم، يجب أن يفهموا إلى أين سيقتادهم".

هكذا حتى طلع النهار.

كنا نستيقظ على أصوات الفوانيس المعلقة في مداخل المزرعة عندما تداعبها نسائم الصباح فتتراقص كالحسناوات معلنة حضور يوم جديد.

لكن يومها، عندما أشرقت الشمس لم تضئ كعادتها، ولم تخترق الأشعة ثقوب البيت الخشبي ظلت مترددة واقتصرت فقط على بعض أشعة ناقصة تضيء ما يجب أن نراه وتخفي الكثير عما سيحدث. جاءنا جدي وبدأ ينادي فوق رؤوسنا استيقظوا سنجتمع بعد قليل لأخبركم ببعض الأشياء.

جلس جدي وجلسنا حوله أنا وأليكس وجاك وما أن استهل حديثه معنا حتى جاء السيد ريو ومعه ثلاثة أشخاص، قدموا بخطوات سريعة نحونا وبدأوا يتفقدونني وكأنني صيد ثمين، تارة يمسح أحدهم على رأسي وتارة يتمتمون بعبارات إعجاب وذهول.

هكذا حتى ارتفع صوت أحدهم: سنأخذه!

 بدأوا برفع أكمامهم وتجهيز الحبال، دقائق حتى أحكموا ربطي، أخذتُ أصرخ بعلو صوتي، فاليوم الذي انتظرته طويلاً لا يبدو سوى كارثة محتمة، جدي أيضًا أخذ يهيج ويصرخ معي، أما جاك وأليكس فقد وقفوا مذهولين من ردة فعلي وردة فعل جدي، فبدل من أن أفرح لبلوغي هذه المرحلة وأن أحتفي بحظي واختيارهم لي، بدا ردي معاكسًا، وأُصبت بحالة هلع.

كنت أقاوم السيد ريو ورجاله الأقوياء بكل ما أوتيت من قوة، يدفعني خوف شديد من مصير مجهول، كل ما فهمته عنه من كلام جدي أنه خطير، حتى ارتطم رأسي بالأرض، فقدت الوعي، واستفقت في مكان آخر.

وجدتني مكتّفًا بالحبال، في مكان حالك الظلمة، اكتشفت فيما بعد أنه صندوق خشبي، وفي الخارج هتافات وأصوات احتفالات، اقترب مني رجل أسمر ضخم يستر فقط جزأه السفلي بقطعة قماش بيضاء، ويكتسح الشعر صدره، اقترب مني بحذر ودهن عيني بشيء ثقيل، جعلني لا أرى شيئًا، ثم بدأ بغرس دبابيس صغيرة في جميع مناطق جسدي وأنا أصرخ ومع كل إبرة تغرس تزداد الهتافات في الخارج وتعلو.

فُتح الباب وقفز الرجل إلى الخارج، كان المكان عبارة عن أرض رملية يطوقها حشد من الناس من جميع الجهات، حاملين الأعلام والألوان، ويقفزون مبتهجين، لم تكن رؤيتي واضحة على الإطلاق، ظللت ساكنًا في مكاني، حتى بدأتُ بعد دقائق أتقدم بخطوات متثاقلة، خرجت من تلك العربة، أتقدم وحيدًا وسط الحلبة، في تلك اللحظة صرخ أحدهم:

"أهلا بكم في المسابقة السنوية بين الماتادور وهذا الثور".

خرج أمامي رجل بثياب فاخرة، أنيقة من الطراز الكلاسيكي، يرتدي حذاء طويلا يصل إلى ركبتيه مع بنطال أبيض ضيق يبرز تفاصيل جسده، يطوق خاصرته بقماش أحمر، ويحمل في يده قطعة أخرى، بدأ بتحريك يديه بحركات كثيرة وسريعة، بينما الإبر تطعنني بشدة، تقدمت نحوه علَّه ينقذني، لكنه كلما تقدمت منه جرى مبتعدا أكثر، أواصل ركضي نحوه بشدة فيركض هو الآخر أسرع، أصابتني نوبة غضب فعيني لا ترى وفي أسفل قدمي وضعت لي مادة حارقة، أخذتُ أجري في تلك الحلبة كالمجنون أبحث عن مخرج، لكن كلما زاد جنوني زادت الهتافات من حولي، حتى أصبحت أضرب برأسي الأسوار أمامي وكلما لمسته أو حاولت أن أقف واستجمع قواي وجه لي رمحا في ظهري، استمر هذا لوقت طويل، ثم بعد صراع وتعنيف سقطت أرضًا، توجه نحوي وأحنى رأسه قائلاً "ما زال يتنفس"، ربطوني مجددًا على أحصنة تدور بي في أرض الحلبة وقد علا قرع الطبول وارتفعت أصوات الجماهير الذي كان مختنقًا بحماسته، هاتفًا بسعادة ونشوة، تذكرت رد جدي عندما سألته عن حال بنيامين وفقدانه لقوته وأحد قرونه:

"نحن الثيران قد نولد أقوياء ولكن الإنسان اخترع القسوة، التي تحوّل القوة إلى توحُّش، فجعلته أشدّ قوة منا".

 رفعوني كما تُرفع جثة هامدة، على ناقلة إلى نفس الشاحنة وعادوا بي إلى المزرعة، حيث استقبلني بنيامين بقدمه العرجاء واحتضنته أنا بيد نازفة، لينتهي اليوم بين قاسٍ ينتصر وبريء يفنى في المزارع والملاحم الزائفة.

وتظل الحرب المفروضة على بلداننا، تفرض وجودها على إنسانية الإنسان، ليتضافر معها السرقة والتدليس الداخلى، لامتصاص المتبقى من دمه، لتحوله إلى كومة من بقايا، وبقية أحلام يعيش بها، وعليها.