كُنت كالتّائه في المدى، كالكفيف أو كالمحموم، حين ارتطم جسدي تلك الليلة بالجدار . لم أكن قد أخلدتُ للنوم بعدُ، استلقيتُ هناكَ، على السّرير، أحاولُ أنْ أجدَ لي مهربًا من ضجيجٍ أقلق راحتي في بعض أسطرٍ من كتابٍ قديمٍ لم أعدْ أذكر تحديدا متى اقتنيتُه.

المبتور

خـالـد عـلى

 

كُنت كالتّائه في المدى، كالكفيف أو كالمحموم، حين ارتطم جسدي تلك الليلة بالجدار . لم أكن قد أخلدتُ للنوم بعدُ، استلقيتُ هناكَ، على السّرير، أحاولُ أنْ أجدَ لي مهربًا من ضجيجٍ أقلق راحتي في بعض أسطرٍ من كتابٍ قديمٍ لم أعدْ أذكر تحديدا متى اقتنيتُه، كتابٌ قديمٌ جدّا لعلّه يعودُ إلى سنواتٍ مضت كان النّاس فيها مُولعين بالكُتب ولعهم اليومَ بمواقع التواصل الإجتماعي. كُنتُ قد أهملتُه دهرًا وانشغلتُ عنه بالدنيا وانخرطتُ في الزّحام مع المنخرطين أَطوِي المسافةَ ويلفُّني الدَّهرُ. لم يكنْ روايةً كسائر الروايات . كان أشبه بالرسائل واليوميات. صفحات مشوّشةٌ في غير ترتيبٍ يخاطبُك فيها الرّاوي، كمن يكلّمُ نفسه. يستفزّك وهو يحدّثُك عن لوحاتٍ ومشاهدَ كثيرةٍ. ويسافرُ بك بين اللوحة واللوحةِ بعيدًا في كيانك ، في أعمقِ أعماقِك . يقول الرّاوي إنّه لا يعلمُ عن كاتبه الحقيقيِّ شيئًا. كلُّ ما يعلمُه أنَّه عثر عليهِ في حقيبةِ جنديٍّ مجهولٍ في صندوقٍ قديمٍ من مخلّفاتِ الحرب العالميّةِ الثانيةِ . لا أحد يعلمُ جنسيتَه الحقيقيةَ . لكنّه كُتب بعربيّةٍ سامقةٍ مثقلةٍ بالإستعارةِ والكنايةِ والمجاز. بدت لي صفحاتُه وكأنّ صاحبها من أولئك المجنّدين قسرًا من شباب المستعمراتِ في الحرب العالمية ."حربٌ لا ناقة لي فيها ولا جمل" كما يقولُ في إحدى يومياتِه " أحاربُ جنبًا إلى جنب مع عدوّي...وأقاتلُ جيوشًا ليس بينِي وبينَها عداوةٌ في حقيقةِ الأمرِ...كنّا كمنْ يصنعُ أمجادَ غيرِه ". ويحدثُك عن الحقول والبساتين والزياتين الفيحاء فكأنّما هو بعضُ طفولتك بين السّهول و السّباسِب ومروجِ القمحِ .ثمّ يعرّجُ بكَ إلى الصّحاري والواحاتِ فكأنّما هو منها يسعى كالماءِ بين الجداولِ والنخيلِ . ويُبهرُك شوقُه إلى غاباتِ الصفصافِ والفلّينِ فكأنّما رَبَى فيها ويُعيدُ عليك أغاني الرّعاةِ و تهليمِ الإبلِ فكأنّما لهُ بأهل الجنوب نسبٌ وصهرٌ .وهو إلى ذلك يُسْكرُك بحنينٍ جارفٍ ولوعةِ المغتربِ المشتاقِ إلى الأهلِ والديارِ كالفطيمِ فيترنّمُ بنُتَفٍ من أشعارِ أبي تمّامٍ وأبي فراسٍ ومالكِ بن ربيبٍ وابن الروميّ وغيرهم كثير. ثم فجأةً، يسافر به الحنينُ إلى "فاطمة" ، فتاتِه التي هام بها وانتزعتْه منها الحربُ . فإذا هي حلمٌ لذيذٌ يُراوده بالعودةِ إليها واحتضانِها . ويجزمُ دائمًا أنّها على العهْد في انتظاره هناك ، على شفير الوادي حيث تعوّد أن يلقاها . أسماءٌ غريبة تطالعك بين الصفحةِ والأُخرى، أسماءُ جنودٍ من دولٍ مختلفةٍ و شذراتٍ من حياةٍ لهم هناكَ في أوطانِهم. تنتظرهم قصصٌ لم تنته . مساراتٌ بين العدمِ والوجودِ، ٱمالٌ وآلامٌ وكوابيسُ وأحلامٌ. يشدُّك إليه وهو يصف بؤسَ الفلاحين الذين مرّ بهم في القُرى و يصوّرُ لك لهفةَ الأطفالِ والنساءِ والشيوخِ على اختطاف عُلبِ السّردينِ وقطعِ الجُبنِ المجفّفِ وأكياسِ الأرُزّ والدقيقِ التي تمدُّهم بها منظماتُ الإغاثةِ الدوليّةِ أو تجودُ بها عليهمْ فيالقُ الجنودِ بغرضِ استعمالهم دُروعًا بشريةً لاتقاءِ غارةٍ مفاجئةً من عدوٍّ لا يرحمُ .وكمْ كان المشهدُ مفزعًا وهو يصوّرُ مشهدًا لغارةٍ مفاجئةٍ ؛أشلاءٌ ودماء، رؤوسٌ تطيرُ في الفضاءِ وأطرافٌ وجثثٌ بشريةٌ متفحّمةٌ ودمـــوعُ النساء و فزعُ الأطفالِ و حرقةُ السُّؤال يتردّدُ في الأرجاءِ ، خرابٌ و دمارٌ ودوارٌ. ويعودُ بك إلى "فاطمة" وعيونها العسليّة وأمّه وحُضنها الدافئ وأبيهِ و إخوتِه وهم يتوزّعون تحت أشجارِ الزيتونِ يجمعونَ الحبّات وقد تشقّقتْ أناملُهم وأرجُلهم من صقيعِ ديسمبر، وحين تستوي الحبّاتُ زيتًا في الجِرار ، تأتي محلّة الباي وجندُ فرنسا ومن والاهم فيغنمــــون نصفَها أو يزيدُ أمام أعينٍ دامعةٍ ونفوسٍ منكسرةٍ وأرجلٍ حافيةٍ وأكفٍ داميةٍ . يقولُ الرّاوي إنّ تلك السريّة التي انتمى إليها ذلك الجنديُّ المجهولُ قد أُبيدتْ ذات ليلةٍ على بكرةِ أبيها إثر غارةٍ جويةٍ مباغتةٍ . لم ينجُ منها إلاّ أفرادٌ قلائلُ كلّهم من دولِ المستعمراتِ. جُمِّعُوا، ولمّا تضَعِ الحربُ أوزارَها ، في مركزٍ لرعاية كبارِ المحاربين في مصحّةٍ على هضبةٍ في ضواحِي باريس. ثم قضَى بعضُهم نحبَهُ. ولا زالت تنتابُ البعضَ الٱخَرَ حالاتٌ من الهستيريا والكوابيس . ويذكُر أنّ جميعَهم لازال يَهذي في فزعٍ من ويلاتِ الحربِ و فظاعةِ ما شاهدت عيناهُ، إلاّ واحدًا فقط . كان صامتًا طوال اليومِ فإذا هبّتْ ريحٌ جنوبيةٌ انبرى يردّدُ أغنيتَه الوحيدةَ " جبل فاطمة " بصوتٍ جبليٍّ فيه شجنٌ عظيمٌ تنفطرُ له القلوبُ "ما ابعدْ جبلْ فاطمهْ عن جَبلْنا

* رانا ذبلْنا .. قُولوا لجَبَلْ فاطمَهْ * يقابلْ جبلْنا*** ".  ثم إذا ما امتلأ منْها انخرط في نوبة نحيبٍ فَتُلقِمُه الممرضةُ جرعةَ المخدّر فيصعدُ إلى السّماء . كان نصفَ مجنونٍ حين وضعتِ الحربُ أوزارها هكذا قال الرّاوي . اقترحُوا عليه أن يعودَ إلى وطنِه لكنّه رفض. رفض أن يعودَ إلى أرضِه و قريتِه البائسةِ بقدميْن مبتورتيْن عوّضُوهما لهُ في المستشفى بأخريَيْن من البلاستيك لا دماءَ فيهما وذراعٍ اصطناعيةٍ بديلةٍ جامدةٍ. تمسّك بالرّفضِ أكثر، حين عَلم من رفيقِ سلاحٍ لم تنلْ منه الحربُ أنّ فاطمةَ قد زُفَّت لغيره. فطلبَ منهُ أنْ يُشيعَ في القريةِ أنْ قدْ ماتَ في المصحّة بعد الحربِ . في الضفة الأخرى من المتوسّط، ظلّ والدُه يستقبلُ كلّ شهرٍ جرايةً من صندوقِ قدماءِ المحاربين هي في واقع الأمرِ رُبُعُ ما خصّصته له وزارةُ الدفاع الفرنسية. أمّا نصفُها الآخرُ فظلّ يُدفعُ للمصحّة لقاء العناية به، وأمّا رُبُعُها الأخيرُ فقدْ جعله حوالةً شهريةً لحبيبة قلبه لا يُذكرُ فيها اسمُ المرسلِ. ولم يعلمْ المسكينُ أنّ زوجَ فاطمة ظلّ يتقاضاه مناصفةً مع ساعي البريد دون أن تعلم، بعد َأن اتّفق معه على تدليس إمضائها. كذلك كان أمر الجراية إلى أن انقطع صوتُه عن ترديد إسمها في تلك المصحة الباريسية البعيدةِ . أتيتُ على الكتابِ في ليلةٍ واحدةٍ .التهمته التهامًا . كمْ كانت معبّرةً تلك الصّورةُ التي رسمها الجنديّ نصفُ المجنونِ في ٱخر صفحة.

 

تونس