فيلم أوبنهايمر أصبح ظاهرة كبيرة في السينما العالميّة وهو حتماً سينال الكثير من جوائز الأوسكار والـ«موريكس دور» ربما. فجأة، ازدهرت دور السينما بعد هجرة الناس عنها منذ ما قبل الكورونا، وحضوري للفيلم كان في أوّل زيارة لي لدار سينما منذ أكثر من خمس سنوات أو ست. وفي ما يلي بعض الملاحظات على الفيلم وعلى كتاب «بروميثوس الأميركي: انتصار وتراجيديا روبرت أوبنهايمر» لكاي برد ومارتن شيرون، الذي بُنِي الفيلم عليه:
أولاً، الفيلم مشغول بعناية ويعتمد على الإبهار الصوتي والسمعي. وهذا ساهم في تجميل الصناعة الرديئة عن تفجير قنابل ذريّة. هناك استعمال التقنيّات بهدف تعظيم أوبنهايمر وتعظيم آلة الحرب الأميركيّة وإضفاء جمالية على السلاح النووي.
ثانياً، الأصوات المتكرّرة لوقع الأقدام وهي تضرب في الأرض كانت بمثابة تذكير مستمرّ من المخرج لخبطات أقدام جنود النازيّة. أراد المخرج أن نرى عمليّة صنع ورمي القنابل الذريّة الأميركيّة من منظور الخطر النازي الداهم. في كل مفصل، نسمع وقع تلك الأقدام بقوّة كي لا ننزع نحو إطلاق الحكم على القرار الأميركي المتفلّت من أي عقال أخلاقي أو قانون دولي.
ثالثاً، المخرج تجاهل في سيرة أوبنهايمر الكثير من الحقائق. أوبنهايمر لم يكُن شجاعاً في مواجهته للحملة المجنونة ضد الشيوعيّة. هو لم يكن شيوعياً يوماً بالمعنى التنظيمي. كان لديه حشرية لمعرفة الفكر الماركسي، وقرأ «رأس المال» لكارل ماركس بالنسخة الألمانيّة وأعمالاً لفلاديمير لينين، لكنّه لم ينضم يوماً إلى الحزب الشيوعي الأميركي. لكن انجذاب المثقّفين والمتعلّمين في ذلك الحين (قبل الحرب العالميّة الثانية، بعد الانهيار الاقتصادي العظيم في عام 1929)، وخصوصاً في جامعة كاليفورنيا في بيركلي حيث علّمَ، لم يكن نادراً أبداً. كان هناك تحسّس لمظالم ووحشيّة النظام الرأسمالي. فرانكلن روزفلت، من خلال ما سُمّي «الصفقة الجديدة» (أي البرامج الاجتماعيّة التي حاولت أن تعيد توزيع الثروة لخلق طبقة متوسّطة تحمي النظام وتدافع عنه بوجه الفقراء المعدمين) أنقذ النظام الرأسمالي من الانهيار ومن الثورة الاشتراكيّة.
مرّة أخبرنا المؤرّخ، ألبرت حوراني، باستحالة أن تدرس في «أوكسفورد» أو «كمبردج» في الثلاثينيات ولا تصيبك «رشّة من الماركسيّة». الشيوعية لم تكُن بعد قد تعرّضت للتشويه والإفساد من قبل حكم جوزيف ستالين من ناحية، ومن قبل أكاذيب البروباغندا الأميركيّة الهائلة. أوبنهايمر، عندما تعرّض للمساءلة السريّة في لجنة الطاقة الذريّة، فضح كلّ شيوعي مرَّ في حياته بما فيه صديقته التي انتحرت. وكان أوبنهايمر قد قدّم شهادة أمام «لجنة مجلس النواب الخاصّة بالنشاطات المعادية لأميركا» (تلك التي اختُصر نشاطُها في ما بعد بِما أصبح معروفاً بـ«المكارثية»). تعاون أوبنهايمر مع اللجنة ووشى بتلاميذ له في جامعة كاليفورنيا في بيركلي (زوجته هي التي تحدّت اللجنة في شهادتها). هذا إخلال بأبسط علاقات التلميذ مع أستاذه.
خان تلاميذه من دون أن يندم على ذلك يوماً، لا بل إنه فضح علاقة صديقه الحميم وزميله، موريس شوفاليه الذي فقد عمله كأستاذ الأدب الفرنسي في جامعة كاليفورنيا في بيركلي بسبب أوبنهايمر، واضطرّ لمغادرة بلاده وهجَر إلى الأبد العمل الأكاديمي إثر وشاية أوبنهايمر. شقيق أوبنهايمر، فرانك، فقدَ عمله الأكاديمي هو الآخر لأن اسمه جُرَّ بسبب وشايات روبرت، إلى أن اضطرّ في ما بعد أن يعلّم في مدرسة ثانويّة. الليبراليّون الأميركيّون تناسوا وشايات أوبنهايمر، لأنه عوقب في لجنة استماع لجنة الطاقة الذرية التي نظرت في قضيّته، وحكمت بحرمانه من تصريح السريّة في العمل الحكومي: وهذه عقوبة خفيفة أمام عقوبة هؤلاء الذين حُرموا من العمل أو انتحروا. اللجنة ناقشت مسألة معارضته للقنبلة الهيدروجينيّة، وقال أوبنهايمر إن معارضته كانت تقنيّة محض. وهذا صحيح، لم يكُن هذا معارضاً سلمياً.
رابعاً، الفيلم يتضمّن أكاذيب هائلة عن قرار تفجير القنابل الذريّة، إذ إن اليابان كانت مستعدّة للاستسلام، وهو ما كان معلوماً عند الحكومة الأميركيّة على أعلى المستويات. الجنرال دوايت أيزنهاور اعترف بذلك في مذكّراته، قائلاً إن وزير الحربيّة زاره في مقرّه في ألمانيا في عام 1945 وأعلمه بنيّة الحكومة رمي قنابل ذريّة على اليابان. قال أيزنهاور عن ذلك: «صارحته بتحفّظاتي الكبيرة، أولاً على أسس اعتقادي أن اليابان كانت مهزومة في ذلك الحين ولأن رمي القنبلة الذريّة غير ضروري أبداً. وثانياً رأيتُ أن بلدنا يجب أن يتجنّب صدم الرأي العام العالمي»، وخصوصاً لأنه رأى أن القنبلة لم تكُن ضرورية لإنقاذ حياة الأميركيّين. كان يرى أن كل ما كانت تحتاجه اليابان هو استسلام مشرّف. غضب وزير الحربيّة من رأي أيزنهاور (راجع: دوايت أيزنهاور، «سنوات البيت الأبيض: برنامج للتغيير، 1953-1956، رواية شخصيّة»، ص. 312 -313)
هاري ترومان كذبَ على الشعب الأميركي، وعلى العالم أجمع. هذا ليس في الفيلم. كان ترومان يقول إن رمي القنبلة الذريّة سيوفّر حياة 20 ألف أميركي، وأن الرقم هو كلفة اجتياح أميركي ضروري لليابان من أجل هزيمتها، (وهو كان جاهلاً بشؤون العالم كلّه. ومن خلال مراجعة رسائله عندما حارب في أوروبا في الحرب العالميّة الأولى، تجد أنه كان ذا عقليّة محدودة ومعرفته لا تتعدّى نطاق الضيعة التي جاء منها). لكن اليابان كانت مهزومة، والرقم الذي أورده ترومان تغيّر. فعندما اتضح أن أميركا قتلت أكثر من مئة ألف ياباني مدني في أول قنبلة، بدأت تقديرات اجتياح اليابان من قبل القوات الأميركيّة ترتفع بالتدريج. أصبح 40 ألفاً ثم 50 ألفاً ثم أكثر من مئة ألفٍ.
كانت الحكومة الأميركية تريد أن توازي بين ضحايا متخيّلين وبين ضحايا يابانيّين مدنيّين حقيقيّين. والحكومة الأميركيّة كانت تتحضّر لرمي القنابل الذريّة ولهذا في قصفها «الاستراتيجي»، فإنها تركت هيروشيما وناكازاكي وغيرهما من دون حرق، كحقول اختبار مستقبليّة للقنابل الذريّة (القصف الاستراتيجي على اليابان هو مصطلح «جراحي» أطلقته الحكومة الأميركيّة على عمليّات الحرق اليوميّة لمدن مثل طوكيو. أحرقت أميركا نصف مساحة الكثير من المدن الرئيسة بما فيها طوكيو). الحكم النازي كان قد انهار وترومان أراد أن يرسل رسالة تخويف قويّة لحليفه المؤقت في موسكو. وطبعاً، كان من الصعب على أميركا رمي القنابل على الشعب الأوروبي الأبيض ولهذا فإن الهدف الياباني كان مؤاتياً عرقياً. والقنابل الذرية أتت على إثر عمليات القصف «الاستراتيجي» التي قتلت، في ليلة واحدة، أكثر من مئة ألف ضحيّة مدنية في طوكيو. أوبنهايمر أعطى تعليمات تفصيليّة للطيّارين الأميركيّين كي يكون التدمير في هيروشيما وناكازاكي أكثر تأثيراً، أو أكثر تدميراً.
خامساً، لم يكن هناك سبب عسكري لرمي القنبلة الذريّة الثانية بعد هيروشيما. سبب الثانية كان تجريبيّاً محض. كانت أميركا تريد أن تقارن بين القنبلة المصنّعة عبر نظائر اليورانيوم والأخرى عبر نظائر البلوتونيوم. هي دراسة عن وقع التدمير.
سادساً، لم يُظهر الفيلم مشهداً واحداً للضحايا في اليابان. ولا أيّ مشهد في فيلم طويل للغاية. أحد التعليقات المغرورة في «لوس أنجليس تايمز» خمّنت أن تجاهل ضحايا اليابان كان احتراماً لهم. تحترم الضحايا عبر نسيانهم؟ الفيلم تخصّص في إبراز مشاهد التفجير في «ترينتي» أي التفجير التجريبي. وحتى التفجير التجريبي كان له ضحايا من السكّان الأصليّين في الولاية. وإقامة المنشأة في «لوس اولموس» تطلّب «إزاحة» الآلاف من السكّان الأصليّين. هؤلاء الضحايا تمّ تجاهلهم أيضاً احتراماً لهم؟ والإشعاعات أضرّت بالسكان بعد التفجير. الفيلم صوّر الانفجار بصورة مُبهرة. ألوان وغيْمة من النيران.
توماس هيل، العالم الذي ترك أميركا وغادر إلى بريطانيا بعد الحرب، وحده رفض المشاركة في حفلة الرقص المجنونة التي تلت التفجير. هو الذي قرَّر تسريب معلومات إلى الاتحاد السوفياتي لأنه خاف من وحدانية السيطرة الأميركيّة. (هناك فيلم وثائقي جديد عنه وعن زوجته الشيوعية. وهما لم يندما على فعلته). لم يشعر أوبنهايمر البطل بأي ندم ولم يختلف مع قرار تفجير القنبلة النووية فوق رؤوس المدنيّين في اليابان. كلّ ما فعله أنه استعار نصاً هندوسياً أمام الكاميرات في ما بعد، كي يبدو رومانسياً.
سابعاً، الفيلم لم يقبل بنأي أوبنهايمر بنفسه عن اليهوديّة. لماذا لا يكون من حقّ المرء مغادرة دينه لو أراد. في أميركا، هناك معياران متناقضان. المسلم الذي يغادر دينه هو بطل واليهودي الذي يغادر دينه خائن وخسيس. لكن الثقافة الهوليووديّة والصهيونيّة تضايقت من ابتعاد أوبنهايمر عن اليهودية. لم يعنِ له الدين اليهودي شيئاً وهو، مثل الكثير من العلماء، ملحد. وكان اقترب من التصوّف الهندي لكن لم ينضوِ في دين معيّن. الكتاب، والفيلم الذي بُنيَ عليه الفيلم، أكثرَ من إقحام أوبنهايمر في اليهوديّة. لكن أوبنهايمر زار دولة إسرائيل بدعوة من مؤسّسة «وايزمان» والتقى بديفيد بن غوريون. وتفيد وثائق تلك الفترة بأنه حذّر زعماء إسرائيل من الدول العربيّة المعادية لها. هل قدّم أوبنهايمر مساعدة لدولة العدوّ في برنامجها النووي؟ ليس من دليل على ذلك. كما أن الدولة لم تكن تحتاج بسبب المساعدة من فرنسا ثم من أميركا.
ثامناً، الفيلم يظهر أوبنهايمر كنموذج للإنساني الأميركي. هو يلقي وبحماس قنابل ذريّة على الآمنين في اليابان لكنه إنساني فقط لأنه كان يبدو حزيناً. يكفي ذلك كي تُبرّأ ساحته وضميره.
تاسعاً، يُجمع الفيلم على أن حيازة أميركا للسلاح النووي يشكِّل أمناً للبشريّة جمعاء، مع أن أميركا هي الدولة الأكثر تساهلاً في استعمال وتخزين السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل. لم تكن أميركا تكتفي بكنز السلاح النووي، بل هي أصرّت على مراكمة القدرات التدميرية وكانت تنوي استعمال القنبلة الهيدروجينيّة لو لم تنتهِ الحرب (هي فكّرت برمي السلاح النووي في الحرب الكوريّة، وقال ترومان ذلك صراحة في مؤتمر صحافي في نوفمبر 1950.
صُعقَ العالم يومها وأرسلت بريطانيا رئيس وزرائها من أجل ثني الحكومة عن عزمها. وكان العالم يحبس أنفاسه في أيام أزمة الصواريخ الكوبيّة، لأنه كان يعلم أن أميركا كانت على وشك تدمير كوبا بالنووي. كان الجنرال كورتيس لوماي يحثّ جون كينيدي على قصف الجزيرة بالنووي طوال الأزمة، والجنرال هذا هو نفسه الذي أشرف على حرق اليابان بالأسلحة التقليدية قبل حرق هيروشيما ونكازاكي بالنووي.
عاشراً، العلماء في لاس أولموس انخرطوا في حمّى الحرب الوحشية من دون وازع وكان أوبنهايمر منهم. لم يكُن هناك أي سبب عسكري للمضي بعد هزيمة ألمانيا. كانت الحرب هي حرب الإصرار على التفوّق الأميركي، وافتتنان الفيلم بجمالية التفجير التجريبي التي نبعت من انجرار مجموع العلماء في مشروع الحرب من أجل الحرب. أصبح إنتاج أسلحة الدمار الشامل من أصول العلم. ونزوع عدد من العلماء إلى مدّ الاتحاد السوفياتي بالمعلومات كان نتيجة الخوف من افتتان الحكومة الأميركيّة بهذه الأسلحة. لم يكُن هناك على وجه البسيطة من كان أقلّ كفاءة من ترومان في اتخاذ قرارات تؤثّر على السلم الأهلي. والاجتماع بين أوبنهايمر وترومان لم يكُن إلا من باب رفع العتب. أوبنهايمر كان يريد إشرافاً دوليّاً على السلاح النووي لكن هذا تلى مشاركته في إطلاق القنابل الذريّة. لن تكترث هوليوود بتكريس فيلم لضحايا هيروشيما وناكازاكي. هذا يخدش صورة الإمبراطوريّة.
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@
عن (الأخبار اللبنانية)