تطوّرت سرديات الذات المُعاصرة بعد تصدّع جنس السّيرة الذاتية الأدبية الكلاسيكية إلى أجناس القول الذاتيّ الفرعيـّة les-sous genres، وانتقل السّرد الذاتي من المدوّن الورقيّ إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتأسّست صفحات خاصة بمُؤلّفين معروفين خارج العالم الافتراضي، أو بشخوص افتراضيين اختاروا الحديث عن الذات وعلاقتها باليوميّ وبالآخر، وبكلّ المواضيع المتنوّعة السياسية والاجتماعية والثقافية. وخرجت هذه الكتابة الجديدة من حدود الخاصّ والحميم والذاتي إلى إشراك المُتلقّي في سردية الذوات المُشتركة، في الحوار المُباشر العلني عبر التعليقات الفورية، أو المواقع الجماعيّة التفاعليّة.
لكننا أردنا إثارة موضوع آخر يتنزّل في هذه التحولات السّردية الذاتية يتعلـّق بصورة الذات في تلفزيون الواقع: كيف تروي الذات قصتها فتكون راوية ومرويّة في الآن ذاته؟ وهل لها من الجرأة والشجاعة أن تقول كلّ شيء عن قصّة حياة مُختلفة، وأن تكشف أسرارا خطيرة تتعلـّق بزنا المحارم، أو السّرقة، أو ظلم النـّاس وخيانة الأمانات؟ ومن يساعدها في بناء هويـّتها السردية وهي تروي وتعترف أمام الجمهور المُشاهد، والسـّامع داخل الاستوديو وخارجه؟
ما الاعتراف؟ ولمن يعترف المُتكلـّم بضمير المُفرد “أنا” في برنامج تلفزيون الواقع؟ ولماذا يكسر حدود السّرية ويكون أكثر جرأة من مُؤلـّفي السّير الذاتية الأدبية؟ لماذا يتجنّب مُؤلـّفو سيرهم الذاتية قول الحقيقة في فضاء الأدب الذي يلتبس فيه المرجعيّ بالتخييلي، فلا يحاسبه المُتلقّي مُحاسبته للمُعترف في تلفزيون الواقع؟
يرجعنا مفهوم الاعتراف إلى اعترافات القديس سانت أوغسطين الرّوحية، وإلى اعترافات صاحب العقد الاجتماعيّ، جان جاك روسو، وقد توجّه بها إلى البشر، فكانت بداية التحرّر الفعليّ من هيمنة الكنيسة على «الأنا» و«الفرد1»، وأصبح الفرد من ثمّ مركز الكون، ومركز السّرد في كتابات الأنا بكلّ أنواعها وأجناسها الفرعية والمُتخيلة: السيرة الذاتية، واليوميات الخاصّة، والمُذكرات، ورواية اليوميات، والتخييل الذاتي. ولئن كان المُعترف في كتابات الأنا الأدبية الوقائعية أو المُتخيلة، على المحمول الورقيّ، هو الراوي والشخصية التي عاشت المُغامرة، وهما بدورهما يحيلان على المُؤلـّف الحقيقيّ من لحم ودم خارج النصّ، فإنّ المُعترف في تلفزيون الواقع لن يكون وحده الرّاوي لقصّة حياة خاصّة وفردية.
إنّ مُشاهد بعض البرامج الاجتماعية في التـّلفزيون التونسي مثلا “صفي قلبك”، و”عندي ما نقولك”، و”المُسامح كريم”، و”حكايات تونسية”، يلحظ أسلوبا جديدا في سردية الذات لم نعتده في كتابات الأنا الأدبيـّة الورقيـّة. فالمُعترف لا يلتزم وحده بسرد قصّته الخاصّة في مواضيع يُعدّ الحديث فيها من المُحرّمات مثل الاغتصاب، وزنا المحارم، بل يسهم المُنشّط ومُعدّ البرنامج في مُساعدته على الاعتراف بالأسئلة المُتقطـّعة، يوجّهها تباعا وفق وضعيّة المُعترف النـّفسية، إذ نراه مُترددا، أو باكيا، ممّا يشّجع المُعترف والمسرّد قصته الذاتية على تذكـّر الحادث، وظروف الاعتداء الجنسي، وزمانه ومكانه.
وقد يلجأ المُعترف، وفق الميثاق الثـّنائي بينه وبين مُعدّ البرنامج، إلى التنكّر وتغيير اسمه، وشكله، وصوته؛ خوفا من الفضيحة والمُحاسبة العائلية، والاجتماعية، والدينية، والقانونية في صورة الإجهاض، أو التّعود على الاعتداء الجنسي، أو السّرقة والهجرة غير الشرعية والتحايّل القانوني، أو يعمد إلى كشف هويته كاملة وبشجاعة، فيقدّم شهادته على حادث مأسوي ترك آثارا نفسية عميقة، وكوابيس ليلية مُخيفة، وجراحا غائرة- مثل قصّة امرأة عنّفها زوجها وفقأ عينيها، أو قصّة زوج تخاصم وزوجته فرمى بأبنائه في البئر، أو قصّة اعتداء أب على ابنته جنسيا.. إلخ. ولا يكتفي المُنشط بالأسئلة المُحفـّزة على التذكّر، والبوح، وتقديم شهادة، وإنّما يعمد إلى التعليق والتأويل، ويؤثـّر في المُعترف فينخرط في البكاء، أو تظهر على وجهه علامات الحزن، ويتعاطف الجمهور السّامع في فضاء البرنامج أو خارجه مع قصّة المُعترف. وقد نجد من تفضحه مشاعره فيبكي بدوره، أو يتألـّم بآهات الوجع والحزن فتتحقـّق وظيفة التـّطهير المُشتركة رواية وتلقـّيا جماهريا.
إنّ هذه الطّريقة في سرديّة الذات، في تلفزيون الواقع، مُختلفة عن أسلوب اعتراف الذات في السّيرة الذاتية الورقية، إن في مستوى استرجاع قصّة حياة طويلة من لحظة الولادة إلى حاضر السّرد والكتابة، أو في مستوى تلقّي قصّة الذات المُعترفة. فليس بإمكان المُؤلـّف السّيرذاتي في المحمول الورقيّ أن يعرف ما مدى تأثير قصّته الحزينة أو السّعيدة في مشاعر المُتلقّي، بل يمكن تخمينها أو قراءتها في مقال أو كتاب نقديّ إذا ما كان المُتلقي ناقدا مُختصّا، أو يمكنه التّعرف إلى أثر سيرته الذاتية في المُتلقّي شفويا في الحوارات الإذاعية أو التلفزية، أي في وسائل الإعلام السّمعية والبصريّة.
بينما تكون المشاعر مُتدفـّقة تفاعليا بين المُعترف في تليفزيون الواقع والجمهور السّامع في فضاء البرنامج. تتضافر أدوات أخرى فضلا عن السّرد الشفويّ بضمير المُتكلـّم المُفرد في صناعة الفرجة، ونقصد الإضاءة وهندسة فضاء الاعتراف والتنشيط والتـّلقي بإتقان: فيجلس المُعترف في المكان المُخصّص له، ويلزم المُتفرّجون أماكنهم، ويظلّ المُنشـّط طيلة الحلقة واقفا محاورا المُعترف تارة، باحثا عن الحقيقة من المدعوّ الأوّل، ثم الضّيف الثاني، إن كان موضوع الحديث يقلّ خطورة عن زنا المحارم، تارة أخرى.
هكذا يتناوب المُعترف والمُنشّط، والشّخص الثالث على الحوار التفاعليّ، ويبدو لنا المُنّشط أحيانا عليما بقصّة حياة لم ترو من قبل أمام الجمهور، لأنّه اعتاد سماع قصص مُتشابهة مُتكررة من قصص الحياة. ولا تتوقـّف سرديـّة الذات على ما يقدّم داخل البرنامج من انتقاء بعض المُقتطفات أو المُقتطعات من سيرة حياة، أو بعض المآسي الحزينة في حياة الشّخص المُعترف، ولكن يواصل جمهور الصّفحة الفايسبوكية الخاصّة بالبرنامج تفاعلهم مع قصص الحياة المرويّة، ويعلـّقون تعاطفا أو تشكيكا في صدق الرّواية، أو سخطا على مُغتصب المُعترفة، أو إضافة بتقديم حلول تذكّرنا بخواتيم الرّوايات المنقوصة. وبذلك تتعددّ الأصوات والألسنة من مُختلف شرائح المُجتمع- علما وأنّ مُصطلحي التعدد الصوتي واللساني من وضع ميخائيل باختين في كتابه شعريّة دوستويفسكي- ويتحوّل بعض النـّاس في صفحة البرنامج إلى قضاة يحاكمون علنا هذا السّلوك، ويدعون إلى العقاب. هكذا نشهد تحوّلات في سرديـّة الذات المُعاصرة في وسائل الإعلام بكلّ أنواعها.
مسرحة قصّة الغير، أو من دراميّة الوضع إلى الإضحاك والمرح:
لا يخيّم الحزن طويلا في الاستوديو، خاصّة في برنامج “صفّي قلبك” الذي ينشّطه المُمثل المسرحي جعفر القاسمي. فرغم درامية القصّة المروية، ورغم تعاطف المُنشّط، والحاضرين السّامعين، والمُشاهدين في فضاء البرنامج أو خارجه، في البيوت والمقاهي، أو على وسائل التواصل الاجتماعيّ والهواتف الجوّالة، فإنّ المُنشّط، وهو المُتمرّس بميكانيزمات صناعة الفرجة على المسرح، وإتقان الأدوار المُختلفة في “مان شو”، يعمد إلى مسرحة القصّة بعد أن يتمثّلها في ذهنه، ويفهم عالم المسرّد حياته، أو يكون عليما ببعض الأحداث المُهمّة والصادمة، فيخترق الحزن بتوجيه أسئلة مُضحكة تفارق مقام الصّمت الحزين، فيقول مثلا للزّوجة الشكّاءة البكّاءة من عنف زوجها، أو من فقرها وبؤسها الاجتماعيّ: “كيف تعرّفت إليه؟ وهل كنت تحبّينه؟! اعترفي”. ويرفق الضّحكة بالغمز والالتفات إلى الحاضرين السّامعين، ويمسح بيديه على صلعته بفخر، لا بل يقول لها، وهي في أشدّ الأوضاع حزنا والدّموع رقراقة على خدّيها: “هل له شعر مثلي؟” فتلمع الابتسامة في عينيها، وتتنهـّد ثم تقهقه.
أو يتوجّه بسؤاله إلى المدعوّ الصّادق في روايته، أو الكاذب ما دام الجمهور يجهل حياة المُعترف الحقيقية، ويطلب منه أن يغنّي. ويتناسى المُنشّط بعض الوقت أسباب مجيء المسرّد قصّته إلى البرنامج، ويتجاوز قتامة المشهد ودرامية القصة إلى مشهديّة طربيّة ضاحكة، فيشترك الجميع في هذه الاحتفالية التي تخرق الصّمت والكآبة. ويجمع البرنامج بين جماليّتين: جمالية القصّة المرويّة بحزن فكأنّنا نقرأ أدبيّا سيرا ذاتية، أو قصص الحياة الدرامية مدوّنة، وجمّالية العرض المسرحيّ، وغناء اللحظة “الآن وهنا”، ولا يبقى الجمهور مُتفرّجا جامدا، بل يتأثّر بهذه المشهديـّة الاحتفاليّة فيغنّي، ويصفـّق، أو يرقص كما يرقص المسرحيّ المُنشّط جعفر القاسمي الذي لا يكتفي بالمسرحة القولية والحركية فقط، بل يشيع البهجة والضّحك في الاستوديو، ويحاول إيجاد الحلول للمُعترفة أو المُعترف.
وبذلك يبني المُتلقّي المُختصّ الباحث في تطوّر سرديات الذات المُعاصرة في وسائل الإعلام، وفي برامج تلفزيون الواقع صور المُعترف والمُنشّط والجمهور السامع، ويتوقّع ردود فعل المُشاهدين خارج الاستوديو، بل يحاول المُقارنة بين الاعتراف الأدبيّ في النصوص المدوّنة، والاعتراف في تلفزيون الواقع، والبرنامج الذي تسهم في صناعته أطراف عديدة. فليس المحمول السّردي هو الذي يتغيّر، فننتقل من سردية الذات الورقيّة إلى الاعتراف الشفويّ في وسائل الإعلام، بل إنّنا نشهد تحوّلا في الوعي الثقافي والاجتماعيّ، وجرأة في كشف المستور من حيوات الناس العاديين، مهما تكن درجة الصدق في الاعتراف.
إنّنا نشهد اليوم ثورة في سرديات الذات المُعاصرة التي كانت حكرا على الأدباء، والمُفكرين، والسياسيين المشهورين يسردون قصص حياتهم في كتب منشورة، أو تبقى سرية لا تنشر مثل اليوميات الخاصة، والمُذكرات، والخواطر الذاتية، لكن اليوم لم تعد اليوميات سرية، ولم يعد الخاصّ خاصّا، ويبدو أنّ الثورة الاجتماعية والسّياسية حرّرت الألسن من عقدة الخوف من جميع السُلطات العقابيّة، من سُلطة الأنا الأعلى، وسُلطة الدّين، والأخلاق، والقانون.
عن (سينما) العدد الخامس عشر
[1] انظر جورج ماي الذي أكّد في كتابه السّيرة الذاتية، على أنّ هذا الجنس الأدبي السّيرذاتي سليل الثقافة الغربية إثر ظهور مفهومي الفرد والفردانيّة، وأصبح الإنسان مركز العالم بعدما كان يخضع للهيمنة الكنيسيّة.
-Georges May : L’autobiographie, Paris, 1979.
للكاتبة التونسية سلوى سعداوي