ظاهرتان في حياة فرح أنطون (1874ـ 1922) تدلان على عبقريته؛ الأولى تتمثل في فكره التنويري وما تمخض عنه من مشروع نهضوي وتحرري كرّس له حياته، والثانية ريادته السردية على المستويين الفني والموضوعي فكان من أوائل المفكرين العرب الذين امتلكوا وعيا نظريا بكتابة الرواية ووجهها لخدمة أفكاره. هذا ما ستوضحه هذه الدراسة.

فرح انطون وتماهي السرد بالفلسفة روائيًا

نادية هناوي

 

الثقافة بوصفها فلسفة

يرى الفيلسوف غادامير أن ليس من قبيل المصادفة أن تشبه كلمة ثقافة الطبيعة لدى الإغريق؛ فالثقافة كالطبيعة ليس لها غايات خارج ذاتها، ومن هنا لا تنال ثمرة الثقافة بالبناء التقني وإنما تنشأ من عملية تكوين وتثقيف داخلية. وعندما لا تكون للثقافة غايات خارج ذاتها فإنها تتجاوز المفهوم المبتسر لها بوصفها تطويراً لشيء معطى. فلا تكون الممارسة والتثقيف مجرد وسائل لغاية ما[1]. ولقد كان فرح انطون في حالة مستمرة من التطوير الثقافي، والثقافة بالنسبة إليه فكر تنويري وصراع تاريخي مع الواقع الذي فيه الإنسان كائن كلي وبوعي موضوعي وإدراك جمالي بعيد عن الأنانية والأحادية.

ولم تقتصر ثقافة فرح انطون الفلسفية على اتجاه بعينه أو مدرسة من المدارس الفلسفية المعروفة آنذاك، بل كانت من السعة المعرفية ما يجعلها ثقافة موسوعية تنم عن توق كبير إلى الحقيقة. وهذا التوق يتجلى من خلال حبه للفلسفة ورغبته في أن يكون مثقفاً يفكر في الطبيعة البشرية ويُعمل الذهن من أجل تهذيبها وترقيتها.

وما إحساسه بأهمية الفلسفة سوى تعبير عن غنى ثقافي وإبداع أدبي، كانا قد تمظهرا في الرواية بوصفها الجنس الأدبي الأكثر قدرة آنذاك على محاكاة ذاك الغنى واقعياً وتجريب مختلف صنوفه إبداعياً، بحثاً عن خيارات ممكنة أو قناعات محتملة تأخذ من الفلسفة جدليتها الموضوعية ومن الفن جمالياته التخييلية، كنتاج من نتاجات انكباب انطون المتواصل على قراءة ما توفر له من كتب الفلاسفة، ناهلاً من موضوعاتها باللغتين العربية والفرنسية، مطوراً إمكانياته في الجدل الفكري من جهة ومعمقاً وعيه بالأدب من جهة أخرى.

وكان من نتائج تضافر قراءاته الفلسفية والعلمية مع ما لديه من موهبة أدبية أن نشر انطون مقالات ثقافية كما أسسّ مجلة تنويرية وهو ما يزال شاباً جاء إلى مصر مهاجراً من الشام. ونشر أولى مقالاته في صحيفة (البلاغ) المصرية وكانت تصدر بالفرنسية ثم صحيفة (الأهرام).

وحين أسس مجلته (الجامعة) صار ينشر فيها مقالاته وترجماته التي أثرت في الحياة الثقافية في مصر. وأولى ترجماته كانت سيرة حياة تولستوي ورواية( الكسندر توماس)[2] ثم ترجم كتاب (المرأة في القرن العشرين) لجول سيمون وكتاب ( حياة يسوع) لارنست رينان وكتاب (هكذا تكلم زرادشت) لنيتشه كما نشر تحليلات سياسية واجتماعية ودينية.

والغالب على مقالاته النزعة الفكرية تأثراً بالفلاسفة الغربيين: كانت ونيتشه ورينان، لكن أهم فيلسوف ترك في انطون أثراً واضحاً كان جول سيمون فاتخذه قدوة وتمثل أفكاره ومبادئه وترجم بعضها ونشرها متتالية وملخصة في(الجامعة) كما وظف في رواياته (جملة من أفكار سيمون وضعها في أسلوب أدبي مرن قريب المأخذ كيما تكون منطلقاً لحياة اجتماعية متطورة وسعيدة .. تحقق السعادة على صعيد الأسرة والمجتمع.)[3]

وعلى الرغم من أن هدف فرح انطون من وراء تأثره بالفلسفة الغربية وأعلامها كان تحديث الفكر العربي وإصلاح الواقع المجتمعي، فإن انتقادات كثيرة وجهت إليه، منها أن خلفيته الدينية تتدخل في تأثره بالفلاسفة، وأنه استند إلى المسألة الشرقية في تبنيه لفكرة القومية والوطنية رافضا فكرة الجامعة الإسلامية التي طرحها في أواخر القرن التاسع عشر تيار نهضوي ارتكز على الإسلام وأهم ممثليه محمد عبده ومحمد رشيد رضا[4] كما أُخذ على انطون قسره الفكري لمفاهيم تطبيقها على المجتمع العربي، لا تناسب شخصية هذا المجتمع وموروثاته الدينية.

ولم تقتصر هذه الانتقادات على البعد الفكري بل شملت أيضا البعد الأدبي، ومنها نزوعه الفكري الذي جعل رواياته ذات( نبرة عالية جدا بحيث أدى ذلك إلى طمس البعد الفني في هذه الروايات)[5]

واتهمه البعض الآخر باللامنهجية في كتابة المقالة العلمية والاجتماعية والتشتت بين الفلسفة والرواية والمسرحية والترجمة والسياسة والفكر. وأهمل بعض الدارسين ذكره في كتبهم ومنهم أنور الجندي فلم يذكره بينما ذكر مجايليه ومن جاء بعدهم[6].

ومهما قيل من انتقادات تشكك في مرامي فرح انطون، فلن تتغير حقيقة أنه مثقف مفكر اهتم بالفلسفة الغربية مثلما اهتم بالفلسفة الإسلامية، وهو الذي ألف كتاب( ابن رشد وفلسفته) وفيه توضح انفتاحه الفكري بعيداً عن الانغلاق أو التعصب، ومن ذلك قوله: ( لا نظن أحداً يلوم الجامعة على وضعها المتكلمين من المسلمين أو المسيحيين في الحزب الأول ..وفلسفة المتكلمين مبنية على قاعدتين: الأولى تنزيه الخالق عن كل قيد والثانية حفظ الدين من حدوث خرق فيه بواسطة التأويل وتطبيقه على العلم لاسيما وأن ذلك العلم لم يثبت ثبوتا لا يقبل الجدال)[7].

والكتاب حافل بمناقشة أفكار ابن رشد. وإذا كان هناك جدل حول فكرة ما فإنه يتخذ موقفا فكريا محددا منها وبروح علمية؛ فله مثلا في فكرة خلق الكون رأيان متناقضان الأول أن الكون نشأ بالنمو الطبيعي والرأي الثاني أنه خلق خلقا أي اوجد من العدم وهو ما انحاز إليه انطون( نعتقد بأن الإعدام عمل كالإيجاد أي أنه يتبع نظاماً مثله ذلك أن كل شيء وُجد إنما هو مستعد بطبيعته للفناء فالفاعل سواء كان ذلك في حالة الإيجاد أو حالة الفناء لا وظيفة له غير تسهيل خروج ذلك الاستعداد من حيز القوة إلى حيز الفعل)[8] كما كان كثير التمثيل بالآيات القرآنية مستشهدا بأقوال المفكرين القدماء كابن عربي والرازي والمفكرين المحدثين من العرب والأجانب كعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وارنست رينان.

وما تمازج الفكر والثقافة والترجمة سوى تعبير عما لانطون من موهبة أدبية ونزعة موسوعية، فالثقافة( طريقة إنسانية لتطوير مواهب المرء الطبيعية ومداركه.. والتثقيف هو بحد ذاته فعل من أفعال الحرية يقوم به شخص فاعل.. أن لا تترك مواهب المرء عرضة للصدأ)[9] من هنا اهتم انطون بالفلسفة فبهره ما فيها من منازع علمية، مقتنعاً أن بالفلسفة والعلم سيتقدم المجتمع العربي الإسلامي ومن دونهما سيستمر هذا المجتمع في تراجعه الحضاري.

وإذا كان هدف انطون النهوض والتنوير فإن السرد هو الوسيلة التي بها يمكن التعبير فنياً عن التصورات والرؤى وتحويل ما فيها من مفاهيم وثنائيات جدلية ـ كالذات والموضوع والأصالة والمعاصرة والكلية والجزئية والظاهر والباطن ـ إلى واقع حي وملموس.

الرواية بوصفها أطروحة:

عد ميشيل بوتور الرواية بحثاً، والسبب أن( العالم الذي نعيش فيه يتغير بسرعة كبيرة والتقنيات التقليدية للقصة لم تعد صالحة لاستيعاب جميع العلاقات الجديدة التي تنشأ عن هذا الوضع الجديد)[10] ولقد مرّ بوتور بتجربة جعلته يجد في الرواية مساحات شعرية تسمح باستثمار ممكنات السرد، ويقول عن هذه التجربة:( أصبحت روائيا بالضرورة..عندما تركت فرنسا وجدتني أمام هذه الصعوبة تتفاعل في نفسي فكيف السبيل إلى التوفيق بين الفلسفة والشعر، فظهرت لي الرواية كحل وحيد لهذه المشكلة الشخصية منذ ان أظهرت لي دراسة كبار الكتّاب في القرنين التاسع عشر والعشرين أن في أعمال هؤلاء الأدبية تطبيق موافق لعبارة مالارميه هذه : في كل مرة يبذل جهد لتحسين الأسلوب يكون هنالك نظم شعر.)[11]

وحتما مر فرح انطون بشيء مماثل مما مر به بوتور مكتشفاً في الرواية إمكانيات لا تقف عند حدود العناصر الداخلية، بل تفيد أيضا من مصادر أخرى خارجية بقصد إظهار الحقيقة أو في الأقل التدليل عليها. ولقد تمكن انطون من توظيف السرد في التعبير عن أفكاره وتنفيذ مشروعه الإصلاحي على أرض الواقع الموضوعي لا لمصلحة ذاتية دعائية، بل لغايات مجتمعية عامة. ولا سبيل لتحقيق هذه الغايات إلا بالمجازفة والمغامرة أيا كانت التضحيات والخسائر، فالروائي كما قال هنري جيمس (هو الشخص الذي لا يخسر شيئاً.)[12]

والروائي قد لا يكفيه في كتابة الرواية الواقعية ما فيها من مضامين إيديولوجية ورسائل رمزية تصل إلى القراء عبر جملة من العناصر الشكلية التي تشترك في أدائها الشخصية والمكان والزمان واللغة والحوار، بل يريد من الرواية وظائف أخرى لها صلة بما يحققه تعاضد قالبها الشكلي مع محتواها الموضوعي من غايات جمالية تتعدى حدود الفن والموضوع إلى البحث عن الحقيقة. وبسبب هذا البحث تغدو الرواية شبيهة بأطروحة فكرية أو مشروع علمي يتبنى رؤية فلسفية حتى كأنها( أسمى حقل للحوادث الحسية وأسمى بيئة تبحث فيها الطريقة التي تظهر لنا فيها الحقيقة.)[13]

ولا تحضر أمثلة هذا النوع من الروايات في المراحل الحداثية وما بعد الحداثية حسب، وإنما قد تحضر في مرحلة البواكير أيضا من خلال التفات كتّابها ـ على قلتهم ـ إلى الفلسفة هاضمين مدارسها ومتعرفين إلى أعلامها ومتبنين أفكاراً بعينها في رواياتهم.

ويعد فرح انطون من أوائل الروائيين العرب الذين استهوتهم الفلسفة وسخّر الرواية من أجلها، معبراً عما لديه من نزوع فكري في زمن كانت فيه الرواية فناً مستحدثاً غير واضح الأبعاد ولا مستقر الشكل. وبعض ما كُتب منها بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر إلى ما بعده، إنما هو متأثر بما تُرجم من الرواية الغربية أو ما تم تعريبه بالتصرف من موضوعاتها وصياغاتها. ولم يكن للفلسفة فيها حضور سوى في روايات فرح انطون كجزء من مشروع نهضوي يعكس اهتمامه كمصلح معلم قبل أن يكون مفكراً وروائياً.

فألف ثلاث روايات هي (الدين العلم المال أو المدن الثلاث) و(الوحش الوحش الوحش أو سياحة في أرز لبنان) و (أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس) وكل واحدة منها هي بمثابة أطروحة بحثية، وفيها تتجلى رغبة الكاتب في تحويل المفاهيم والمبادئ إلى واقع عملي معيش، فصنع اليوتوبيا وتسامى بالرومانسية وطبّق الاشتراكية وبنزعة أخلاقية على وفق قوالب بلاغية تلقفها من السرد العربي القديم. مما تعكسه أيضا مسرحياته مثل (مصر الجديدة) و(أبو الهول يتحرك) و(السلطان صلاح الدين) و(بنات الشوارع وبنات الخدور) ومن هذا الباب تأتي أيضا ترجمته لمسرحية (اوديب الملك) لسوفوكليس.

ومن اجل التدليل على الكيفية التي بها قدّم فرح انطون رواياته كأطاريح متبينين أبعادها سردياً، فإننا سنقف عند بعض التعالقات الفنية والموضوعية، وكالاتي:

أولا ـ تعالق العلم بالتاريخ في (أورشليم الجديدة):

للتاريخ دور مهم في التعبير عن الرؤى السياسية والفكرية والاجتماعية، وهو ما جسدته بشكل جلي رواية (أورشليم الجديدة) وابتدأها فرح انطون بمقدمة صب فيها منطلقاته النظرية حول السرد والفكر. فبدأ بتحديد أنواع الروايات وهي: أولا الروايات الاجتماعية أو الأخلاقية وعدها هي الأفضل، وثانيا الروايات التاريخية وغرضها تبسيط تاريخ الأمم أي ذكر أسبابه ومسبباته لاستخلاص النتائج حول تقدم الأمم وتأخرها بحرية تامة بلا تزلف ولا تحامل. وثالثا الروايات السيكولوجية وتدخل فيها الروايات (الحبيّة) الرومانسية التي تصور العواطف وتنازع القلوب والأهواء. والنوع الرابع هو أفضل من الأنواع الثلاثة، بحسب انطون، كونه يجمع بينها في سياق واحد فيكون تاريخيا لمحبي التاريخ، وفلسفيا اجتماعيا لمحبي الفلسفة والاجتماع، وأدبيا حبيا لمحبي الأدب والعواطف الطاهرة المنزهة عن الخلاعة والغرام البارد[14].

ولقد تجسّدت هذه الرؤية الجامعة في رواية (أورشليم الجديدة) كرواية تاريخية اجتمع فيها الفكر بالاجتماع والسياسة بالميثولوجيا. ولم يكن مهماً عند انطون في سرد الوقائع التاريخية ذكر السنوات فذلك ما يستطيع أن يجده قارئ في أي كتاب من كتب التاريخ، وإنما المهم اشتباك الوقائع التاريخية بالخيال الروائي اشتباكاً (لا يصبر طالب التاريخ البحت على مطالعته). وبهذا يتفوق السردي على ما هو وقائعي ولا تعود للأرقام التاريخية أهمية في إظهار العواطف وتصوير الأفكار.

ومما طرحه فرح انطون في مقدمته هذه فكرة (تكميل التاريخ) وتعني أن يضع المؤلف نفسه موضع الأشخاص التاريخيين الذين يتكلم عنهم ويعبر عن أفكارهم وآرائهم وبحسب المواقف التي يصورها وربما لا وجود للأحداث أو الأشخاص في التاريخ، بل هو يختلقها استنادا الى الخيال السردي وحده. ومثاله على ذلك ديماس الذي كان في رواياته يحيي الأبطال ويجعلهم يتكلمون ويشعرون بالأمور التي كانت تنطبق على تاريخهم ومقاصدهم كاشفا عن خبايا كانت مدفونة في صدورهم.

ولقد سلك انطون هذا المسلك، مطبقا ذلك على روايته (أورشليم الجديدة) لكنه كان حذرا من (أن يختلط التاريخ بما ليس هو في شيء منه فيضل القارئ سيما قليل الاطلاع فوضعنا علامات للتفريق بين التاريخ وبين التصنيف والاستدلال)[15] إدراكا منه أن الكتابة التاريخية بهذه الطريقة السردية ليست يسيرة وأن من الضروري الاحتياط خشية الوقوع في الحرج والمحظور.

وتعود الأحداث التاريخية في هذه الرواية إلى العام 626 للميلاد، أما زمانها القصصي فيتمثل في أيام الاحتفال بعيد الميلاد، ومكانها مدينتي بيت لحم والقدس. وتتجلى في مفتتح الفصل الأول وعنوان( على الأرض السلام) الرؤية العلمية من ناحية الفصل بين ما هو أرضي وما هو سماوي وبزمكانية روحية تهيئ الأجواء الخيالية لظهور( طيف) يحلّق بهالة من الأنوار القدسية( على جبل الزيتون فوق بيت المقدس كان في سنة 626 قبل عيد الميلاد بثلاثة أيام طيف يتمشى متأملا في المدينة تحته وهو يقول كأنه يخطب في الدنيا كلها منذ نحو ألفي سنة أن في فضاء هذه الأرض التعيسة صوت خارج من جهات مجهولة يقول المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.)[16]

وفي أثناء هذا العرض التمهيدي لأجواء الرواية يعمد فرح انطون إلى بث أفكاره العلمية في تضاعيفها، تارة بالبحث في أسباب الحرب الأبدية بين الحق والباطل الدائرة منذ ألفي سنة، وتارة ثانية بالبحث في ميثولوجية تقسيم الكون إلى أرض وسماء، وأن السماء أفلتت منها فعاد إلى الأرض ما هو من الأرض والى السماء ما هو من السماء واختفى عنا ذلك النور الذي أضاء تاركا البشر في ظلمة ليلا[17]، وتارة ثالثة بالبحث في تاريخ الفلسفة عما هو يقيني وحكيم( هات روحك يا بوذه لنعلمها الصبر والقناعة، هات فكرك يا كونفشيوس لنعلمه الحكمة، هات بلاغتك الإلهية يا أفلاطون لندخل إلى عروقها دم الفلسفة ممزوجة بالأنوار السماوية، هات عقلك يا أرسطو لتقوية عقلها، هاتوا يا حكماء منفيس والإسكندرية اواثينا وبيناريس ورومة كل حكمتكم وفلسفتكم لعلها تشفى بها)[18]

وغاية السارد اختبار الأفكار الدينية ومعرفة الأسباب التي جعلت ذاك العصر عصرا دينيا محضا عند كل من المسيحيين والمسلمين. والمدينة التي يخاطبها السارد بابنة صهيون مدينة أورشليم وفيها يطغى الدين على العلم. وأي كلام عنها من دون الدين كلام ناقص.

هذا من جانب ومن جانب آخر تأسف انطون أن الكتّاب الشرقيين ما زالوا يولون جمال التأليف اهتماما من ناحية الصيغ البلاغية والطرق الإنشائية ومن دون أي عناية بالفكر( نأسف لأننا في الشرق لم ندرك بعد ماهية الارتقاء الحقيقي لكوننا لا نزال نذم الورد على أسلوب ذلك الشاعر العربي الذي شبهه ذلك التشبيه المشهور)[19]

وكان من نتائج طغيان التدين أن تراجع النظر العلمي وغابت النزعة الموضوعية في التفكير بالحياة وما فيها من صور بائسة حتى لا أمل في أن تُبنى فيها مدينة فاضلة (فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى. لك أن تقولي المجد لله في العلى لان الله خالقنا عظيم ولكن لا تقولي في الأرض السلام وفي المسرة الناس، فإن الأرض ليس فيها اليوم شيء غير السيف والنار، وليس بين البشر شيء يسربل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار)[20]

ويزداد الجمع ما بين الحدث التاريخي والنزوع العلمي في الفصول اللاحقة على وفق بناء سردي تتابعي يسترجع زمانيا بعض الوقائع التاريخية عن الإمبراطور هرقل والسلطة البيزنطية ومعارك اليرموك والقادسية وفتح القسطنطينية..الخ.

ويتولى السارد العليم تقديم الأحداث من وجهة نظر خلفية فيها الوفود تأتي إلى القدس من بيت لحم كي تحضر ليلة عيد الميلاد، ويستعمل في أثناء ذلك بعض الأوصاف المكانية والحوارات الخارجية التي تساهم في تصعيد الحبكة الروائية باستثناء ما يتخللها أحيانا من اقتحام السارد الأحداث بالتساؤل والتعليق مما يقطع السرد ويوقف تصاعد الحبكة، كأن يصف السارد ليلة العيد ثم يقطع وصفه فجأة مخاطبا القراء( كانت الكنيستان منارتين في تلك الليلة بالمصابيح والشموع المتعددة وروائح البخور تنبعث عن المباخر والناس داخلون إلى الكنيسة الكبرى وخارجون منها ولوائح السرور على وجوههم فلنترك الناس خارجين وداخلين ولنذهب بالقارئ إلى منزل كبير قائم تجاه الكنيسة..)[21] أو قوله ( وقد يستغرب القارئ أن يحب هذا الشاب الفتاة من أول نظرة ونحن نشاركه هذا الاستغراب لو لم يكن هناك سر صغير.. وإليك هذا السر الصغير الحقيقي الذي لم يطلع عليه أحد قبل الآن.)[22]

ولا مراء في أن ممارسة السارد دور الحكاء تؤكد التركة الشفاهية للقص القديم لكنها أيضا تدلل على نزعة فرح انطون الفكرية في جعل الرواية كالبحث ولا بد لها من قراء نابهين. من هنا تحوّل السارد إلى حكاء يفكر بصوت عال، متخيلا متلقيه جالسين يستمعون إليه.

وكلما تقدمنا في السرد يتعمق الخطاب العلمي لدى إيليا كمثقف متأثر بالفلسفة ولاسيما الأرسطية، حاملا بيده كتاب أرسطو (في النفس) ودفترا يسجل فيه ملاحظاته، ولأن لا شأن له بما يجري في الشوارع من احتفال وأضواء يمتعض من الضوضاء ويكتب (الطبقات العليا لا همَّ لها إلا ملاذها .. فكأن الدنيا كلها أكل وشرب ولذة.. والطبقات الواطئة ترضى بأقل شيء ولذلك يلهونها بأصغر الأمور ويحملون على ظهرها كل الأعمال.)[23]

وتؤدي السيدات ومن بينهم تيوفانا دور الشخصية المساندة للبطل بينما يؤدي ظهور شخصية اليهودي وابنته إلى تغيير مسار السرد باتجاه التأزم، ويغدو محتما على البطل أن يختبر مدى قدرته الفكرية والعلمية على غلبة التعصب الديني وتحدي الشر والانتصار للخير، مدللا في الوقت نفسه على إيمانه اليقيني بحرية الآخر المختلف. وهو القارئ المفكر والعالم ما لا يعلمه العوام( اقرأ بإمعان التوراة وتاريخ يوسيفوس في حروب اليهود وأخبارهم)[24].

ولهذا وقف إلى جانب اليهودي وابنته وهما يدخلان بيت لحم وساعدهما على إتمام ما أرادا القيام به وهو زيارة قبر أيوب، محاولا دفع الشبهة التي روجها عوام الناس حولهما وهي أنهما دخلا ليلة العيد بقصد التآمر. وحين تصاعدت الأصوات بصلبهما (قال إيليا وقد ارتعدت فرائصه من ذكر الصلب: ومن أين علمتم ذلك إذا كنتم لم تمسكوه بعد؟ فأجاب الرجل: علمنا ذلك بأعجوبة سماوية فإن المصباح في مغارة المهد أنطفأ من تلقاء نفسه. وكلما راموا إشعاله لا يشتعل. وهذه علامة قطعية على وجود يهودي في المدينة يغضب وجوده أهل المقام.)[25]

فشرح إيليا لهم أن انطفاء الشعلة سببه علمي وهو نفاذ الزيت، لكن ذلك لم ينفع في تفنيد الخرافات وتوكيد الحقائق؛ فالناس تصدق ما الفته واعتادته ومن ثم يصعب إقناعهم ببراءة اليهودي مما يتهمونه به وتتصاعد وتيرة الأحداث وتبلغ الحبكة الروائية الذروة وتغدو مهمة إيليا غير سهلة( فاجمعوا حول وأخذوا يدفعونه ويلطمونه ويصفعونه ويصيحون مسكناه مسكناه يهودي يهودي، وأخذوه إلى باب الكنيسة ولما رأته السيدات شهقن شهقة واحدة من الاستغراب والدهشة)[26].

ولأن إيليا يعرف أن التهم الباطلة تضر المجتمع وتشيع فيه الفتن والاضطرابات قرر أن يحميهما ويحرسهما عامدا إلى حيلة لإنقاذهما. وهنا يظهر السارد مقاطعاً مجرى الأحداث بالشرح والتفسير قائلاً: (هكذا شبهات العامة وتصوراتهم أحيانا تكون مصيبة وأحيانا مخطئة، فإذا أصابت اكتشفت ما لا يستطيع أحد غيرها اكتشافه لأن اكتشافه إنما يكون بالشبهة والتهمة أي بالصدفة وإذا أخطأت فالويل للبريء الذي ينشب فيه سهم خطئها)[27] أو قوله معلقا على تصايح الجمهور الغاضب (فمن هذا المزاج يظهر أن العامة كانت بذلك تقصد الهزل على الأكثر، إذ لم يكن لديها شيء يلهيها وهذا ما يحدث في أكثر الفتن والاضطهادات، فان المضطَهد والمضطِهد كثيرا ما يكونان كالهر والفأر؛ الأول يلعب والثاني يتعذب)[28] وتخلى في ختام الرواية عن دوره كسارد موضوعي متعاطفاً مع البطل( هكذا كانت نهاية هذه القصة المؤلمة التي مزج فيها المؤلف دموعه بدموع إيليا وربما بدموع القارئ أيضا)[29]

وصحيح أن هذا التدخل يخلخل تلقائية انفراج الحبكة بيد أن لا ينفي ما في الرواية من تقانات فنية استعملها السارد في مواضعها المناسبة فعزز بها الحبكة فمثلا أكثر من توظيف الاستبطان في التعبير عن دواخل البطل بجملة (وقال في نفسه) أو جملة (صرت أقول في نفسي) مقتربا بذلك من المونولوج (صرت أقول في نفسي.. هذه هي فطرة الإنسانية هذه هي المعيشة الهادئة التي تنطبق على الحياة الروحية ثم تساءلت أيها أفضل أن تبقى الإنسانية هكذا طفلة صغيرة تعيش في وسط الطبيعة والنباتات والأزهار والأطيار وهي محافظة على شرائعها الساذجة الأولى أن تصير أمة عظمى فتُبنى المدن وتجمع الخيرات والثروات ويحيى الفنون والعلوم وتشيد الدول والممالك)[30]

ويستعمل أحيانا المفارقة الساخرة والتناصات الشعرية والحوارات المباشرة التي تعتمد على الشرح والتحليل مما يساهم في تمتين الحبكة كقول إيليا مفسراً موقفه وهو يخاطب البطريرك: ( إن الخصم لا يستمال بالعنف والشدة والبغض فإذا وقع بين أيدينا كان حكمه علينا تابعا لمعاملتنا فإذا أحسنا معاملته وأغضينا عن إساءته قال إننا قوم كرام مستحدثون وربما عاد وانقلب فصار ميالا إلينا وإن عاملناه بالعكس وازداد بغضاً لنا فيجب علينا في رأيي أن نُحسن معاملة غيرنا لنثبت له فضل مبدئنا وإلا كان محقاً في كرهه لنا ولمبادئنا)[31]

وعلى الرغم مما في الرواية من نزعة فكرية فإنها لا تخلو من بعض الوقفات الرومانسية التي فيها اتضح ميل البطل للفتاة متألما لحالها رغم أنها من غير ملة وتتمسك بمبادئ لا تتوافق مع مبادئه( إن خوف الفتاة كان يطبع على وجهها جمالا سماويا ساحرا وكانت الزفرات تتصاعد من صدرها وهي سائرة فتخنقها ولكنها تتمالك تنفسها رغما عنها لئلا يسمع صوتها في هدوء ذلك الليل.)[32]

وعمد الكاتب إلى عنونة كل فصل من فصول روايته بعبارات تختصر ما فيها من تطورات بسطر او أكثر كما وظف كثيراً من معلوماته التاريخية التي وضعها على لسان البطل من قبيل ما قاله عن الغساسنة والبدوي العربي الذي يتكلم باللغة اليونانية واسمه يوحنا وعرب الشام النصارى وكيف كانوا يعاونون الروم على المسلمين والفرس في معاركهم معهم.. الخ.

لا يتوانى السارد من استحضار أفكار بعض المقولات الفلسفية حول الطبيعة والشريعة وعلاقتهما بالحياة الروحية، متسائلا ومشخصا ومتأملا بناء مدينة يعود فيها الإنسان إلى فطرته الأولى، متأسفا أن ذلك مجرد وهم؛ فلقد طغت الشرور على بني البشر ولا صلاح بالدين ما لم تستعيد البشرية إنسانيتها وتبنيها من جديد فقال:( إن الدين لم يقدر على إصلاح الفساد الاجتماعي..ولا يزال يباركه منذ مئات سنين بركة لا أحب لك ان تشترك فيها. نعم انه يشجب الرذائل والشهوات ويحتقر المال ويسميه إلها مبالغة في إذلاله وتنفير الناس منه لئلا يشركوا بالله ويوجب المساواة بين جميع طبقات البشر ويدعو إلى الفضيلة والصدق والرفق والمحبة والتواضع والإخاء ولكن يا صديقي أي تأثير بهذه الألفاظ في النفوس إذا لم تعمل بها؟ إنها تبقى ألفاظا فارغة من المعنى كالبندق الفارغ)[33]

وبهذا تكون الرواية كما وصفها ميشيل بوتور بحثاً يحتاج من الكاتب استعداداً ذهنياً ومرجعيات فكرية وقدرة على الرصد والتحليل، بها يشخِّص أمراض المجتمع وسلبيات الناس كي يضع الحلول والمعالجات المناسبة. وإذا كنا مجبرين (على التفكير في ما نعمل فيجب أن نعمل بوحي الضمير وأن نجعل من روايتنا أداة للتجديد وبالتالي للتحرر وإلا تكون قد رضينا بالبلاهة والهوان..وإذا حدث ان نشر الروائي كتابا فهذا التمرين الأساسي لوجوده لأنه بحاجة ماسة إلى القارئ ليقوده بنجاح كشريك له في التأليف، كغذاء له في نموه وثباته كشخص وفكر ونظرة)[34] وفيما يأتي بعض المجادلات التي فيها نجد أطروحة انطون الفلسفية:

ـ أن الخير المجرد هو الذي يأتي خاليا من كل مصلحة ومصحوبا بنقاء العواطف وصدق الضمير وسذاجة القلب والتي منها كلها تتأكد مثالية المبادئ التي بها يكون لأورشليم الجديدة مستقبل زاهر وجديد ومن دون ذلك لن تكون هناك أورشليم[35].

ـ أن عصر الأنبياء عصر ذهبي (لأن الشرائع التي يضعونها تكون عذراء طاهرة لم توضع عليها يد غير اليد الكريمة التي وضعتها ولكن لابد بعد واضعيها أن يأتي المفسرون والمؤولون والرواة والناقلون. وليس ذلك فقط بل إن الطبيعة نفسها تبدأ بفعلها الأبدي فان الليل والنهار يتعاقبان والقرون والأجيال تمر فالأمم والمذاهب التي تكون أطفالا في البداءة تشب وتنمو وتتغير أحوالها فلا تعود تكفيها شرائعها الفطرية الأولى)[36]

ـ النظر المادي إلى المستقبل والتطلع إلى مباهج الحياة من مال وجاه يوصل الإنسانية إلى التعاسة بينما يوصلها العلم إلى السعادة.

ـ أن العالم على سعته صغير (أرى الإنسان يسير في البر والبحر والهواء بسرعة الطير.. أرى البشر يتخاطبون من قارة إلى قارة كأنهم في غرفة وحدة)[37] والخير كله كامن في نقاء السريرة والضمير الحي. وهذه هي( العبادة الحقيقية وبدونها لا تجدي العبادة شيئا ولا يغني الاعتقاد باللاهوت فتيلا)[38]

ـ بالفكر الحر تنتفي التفرقة ويكون الانقياد إلى العلم ممكنا والتحلي بالفضيلة والأخلاق طبيعيا وعندها تعم المحبة وإلا (ماذا تنفع حياتنا إذا كانت عاجزة عن إبطال كل ذلك ما قيمة المعيشة التي تنعم فيها عشرة ويبقى ألوف. حقا أن الحياة لا تسوى ما فيها من الهم والعناء والتعب. والسعداء أنفسهم لا يجدون فيها ما يروي غليلهم ويشفي نفوسهم فالموت خير منها لأنه راحة الراحات)[39]

ـ التفكير المتبصر في الحال والمآل يجعل الإنسان قويا وشجاعا يقول الحق ولو على نفسه( نريد رؤساء يواجهون الشر والفساد وجها لوجه بلا خوف ولا رياء ..أننا نريد رؤساء يربون الشعب تربية جديدة أساسها العدل والحق والصدق)[40]

ـ أن يوظف المرء عقله ومن المشين ألا يفعل ذلك معتمدا في تدبر المسائل على عقول غيره ويستثني انطون من ذلك الراهبات ورجال الدين( إن العامة أناس لا رأي لهم غير ما تلقفوه وهم لا يفتكرون بعقولهم بل بعقول غيرهم والراهبات وغيرهن من المنقطعين إلى الله في الأديرة وغيرها لا يلامون إذا تمسكوا بمعتقدهم تمسكهم بالحقيقة المطلقة..اما نحن باقي البشر الذين لنا عقول نغفل بها وعلينا ان نعيش مع عناصر مختلفة في الأرض)[41]

ـ أن من نقاط ضعف البشر أنهم ما أن تتعرض مصالحهم للضرر أو يصيب كبريائهم الألم حتى يتستروا بالدين، مترددين في الاعتراف بالخطيئة واحترام مذاهب الغير( لا تظني أنني قدمت لك كل تلك المقدمة الطويلة لأحولك عن مذهبك كلا يا أختي إنني احترم مذهبك وكل مذهب يجد فيه صاحبه راحة وسلاما وحقا وفضيلة وإنما قصدت أن أعلمك احترام مذاهب غيرك.)[42].

ـ أن الخصال الحميدة هي التي تحل النزاعات بين الناس فيعيش( الجميع في هذه الأرض التي أصبحت مشتركة بينهم والتي سقوها بالدماء والدموع معيشة هادئة لا يسبون معها الأرض ولا يشكون من السماء)[43].

ثانيا ـ تعالق الخيال باليوتوبيا في (الدين والعلم والمال أو المدن الثلاث):

للخيال دور مهم في التعبير عن الأفكار الطوباوية وتقديم نماذج مثالية في التعايش المشترك بين بني البشر داخل يوتوبيا أرضية فيها تتحقق السعادة الأبدية. والروائي البارع هو الذي يجمع التخييل السردي بالتفكير التجريدي كي يصنع مدينة أفلاطونية وعندها توصف الرواية بأنها فكرية اتخذت من الجدل الفكري والمناقشة العقلانية طريقا لرسم الصور الواقعية الايجابية فتكون أطروحة فيها الكاتب متحير ومشكك (لا يجد كفايته ويرغب كثيرا في العثور على قارئ آخر يكمله ولو كان قارئا مجهولا. ولكي يتمكن صوتي من البكاء فلا مفر له من ان يسنده صداه الخاص.. بشتى الوسائل بمقالات نقدية ومحادثات ووسائل إذن بواسطة أشخاص معينين ينبرون للنطق باسمه والتبشير به.)[44]

ولقد تجسدت هذه الحيرة بشكل جلي في رواية (الدين والعلم والمال أو المدن الثلاث) وهي الرواية الأولى والمنشورة لانطون عام 1903وفيها يتفكر السارد في الطريقة التي بها يصل إلى السعادة. فافتتح سرده بمقدمة فكرية عاب فيها على أهل الشرق عدم اهتمامهم بالتفكير الفلسفي (من الروايات ما ينشأ للتفكهة والتسلية ومنها ما ينشأ للإفادة ونشر المبادئ والأفكار.. ونحن في الشرق محرومون من هذه الطريقة لعدم رواجها لأسباب لا محل لذكرها هنا ولذلك كانت الروايات التي تنشر عندنا لا غرض منها غير التفكهة إلا بعضها..)[45].

والسرد صالح للتطويع الفكري من دون أن يؤثر ذلك في فنيته، والرواية بالفكر (اجمع وأوعى ..وأشد تأثيرا وأحسن وقعا.. سيكون اهتمامنا فيها بالمبادئ والأفكار مقدما على الاهتمام بالحوادث والأخبار ولكن هذا لا يمنع من التزام ما تقتضيه الروايات من الوصف وتصوير العواطف والحوادث تصويرا طبيعيا)[46] وإذا قلنا إن انطون روائي لا يفرِّط بالشكل في سبيل الموضوع ولا يقدِّم المضمون على حساب الشكل، فلأنه كان قاصدا وبوعي إلى كتابة عمل روائي لا كجنس له قالب خاص حسب بل كبحث وأطروحة أيضا، يقول انطون:( سميناه رواية على سبيل التساهل لأنه عبارة عن بحث فلسفي اجتماعي في علائق المال والعلم والدين وهو ما يسمونه في أوربا بالمسالة الاجتماعية. وهي عندهم في المنزلة الأولى من الأهمية لان مدينتهم متوقفة عليها)[47].

وبهذا التوضيح تتفند الريادة التي ألصقها مؤرخو الرواية العربية (زينب) أول رواية مع أن كاتبها محمد حسين هيكل لم يسمها رواية ولم يضع اسمه عليها في طبعتها الأولى عام 1914 ولكن هذا التفنيد لا يعني أن فرح انطون هو صاحب الريادة لسبب مهم هو انه لم يول بناء الشخصيات اهتماما كذاك الذي أولته إياها روائية مجايلة له هي (لبيبة هاشم) فكانت هي صاحبة الريادة بروايتها (قلب الرجل) الصادرة عام 1904.

ويظل اهتمام انطون بتعالق الخيال بالفكر هو السمة المميزة لرواياته، وهو نفسه يعترف أن رواياته عبارة عن مباحث( اجتماعية وفلسفية مرتبطة في الحقيقة بعضها ببعض فلا يمكن تحقيق احدها دون الغوص إلى أعماقها لمعرفة أساسها وقد أظهرنا الأساس في هذا الكتاب)[48]

وبنى روايته (الدين والعلم والمال) في شكل ثلاث مدن أسسها الشيخ ذو الثمانين سلمان الذي أصابه ثراء فقام بمشروعه هذا وفتح فرص العمل للشباب والشابات فأصابوا نصيبا من الثروة والسعة وصار لهم أولاد. قسم منهم يعكف على التجارب والعلم، وقسم ثان يبحث عن المال وقسم ثالث يهتم بالعبادة. وصار لأهل كل مدينة حججهم فيما هم فيه من النعيم. وبسبب اختلاف هذه الحجج حصل نزاع وخصام فتصادم العلم مع العاطفة وتعارض المال مع الفكر فاضطربت المدن الثلاث.

ويظهر البطل حليم المثقف الذي صرف عمره في مطالعة الكتب وانتقاد أحوال المجتمع وهو يسعى إلى الكشف عن سبب هذا الاضطراب. وبدأ بمدينة المال وهي أوسع المدن وفيها قصور ودور شاهقة وباذخة لكن ناسها غير سعداء لأنهم نسوا العقل فغدت حياتهم( عبارة عن عراك ونضال بين الأرض والسماء والمعلوم والمجهول والمادة والروح ..ان الإنسان..الضعيف ..يروم الاستيلاء على العقل الذي لا حد له)[49].

وخرج منها حليم ليدخل مدينة العلم ثم مدينة الدين واستغرب ما وجده فيهما من تناقض بين ما ينبغي أن تكون عليه صورة هاتين المدينتين وبين ما هو واقع.

وهنا تدخل السارد ممتعضا من إهمال الناس للعقل متسائلا: ( فهل الذنب ذنبه في هذا الأمر أم ذنب الناس وكيف تريدون من النار ان تشتعل إذا لم يكن هنالك حرارة للاشتعال أو من الحديد ان يجذب إذا لم يكن هناك مغناطيس للجذب )[50]

وهذا التدخل بالتساؤلات من لدن السارد يخلخل سير الأحداث ولا يدفع بالحبكة إلى الأمام، بل تبقي الأحداث في مكانها كهذا الاستطراد الطويل (فهل يا ترى كان ذلك التغيير من تأثير السفر على الأخلاق لأنه بهيئتها لقبول أي تأثير يعرض لها لأنها تكون في حاجة إليه في غربتها؟ أم ذلك لميل النفوس دائما إلى البعيد ونبذها القريب المألوف طبقا لقول العامة "الدير القريب لا يشفي" ؟ أم ذلك لأن عواطفه المضغوطة في قلبه قد وجدت هذه المرة منفذا ففاضت رغما عنها إذ طال بها عهد انتظار الحب وهو لا يأتي ؟ أم ذلك لأن علم حليم ان تلك الفتاة من إحدى المدن الثلاث قد جعل لها في نفسه مكانا سنيا في الحال نظر إليها بعين الكمال بعد ان كان ينظر إلى بنات جنسها بعين النقص؟ أم ذلك لأن كهربائية حليم وكهربائية الفتاة قد اتحدتا لأول نظرة ؟)[51]

ويحتدم السرد حين يقرر أهل المدن الثلاث عقد اجتماعات لثلاث ليال متتالية يتناقشون في سبب خراب مدنهم وكيف يمكن عمرانها. فكانت الليلة الأولى للمال والثانية للعلم والثالثة للدين وترأسها الشيخ سليمان وخطب فيهم خطبة انتهت بجدال بين الفرق الثلاث وكل مدينة تقدم حججها وتدلي بشكواها التي تسفه حجج المدينة الأخرى، فالعمال اشتكوا من أرباب الأموال واشتكى أهل مدينة الدين من أهل مدينة العلم بسبب إنكارهم الوحي وضلالهم وجحودهم الخالق ومبادئهم الطبيعية الممقوتة. واحتج أهل العلم وأهل المال من أهل الدين بسبب كبحهم الهوى وسيطرتهم على عقول الناس.

وحين احتج أهل الدين بالسؤال ماذا نضع موضع الدين؟ رد أهل العلم( هذه المسالة يجيبكم عنها علماء الفلسفة الوضعية أو الحسية فإنهم يقولون: إن للبشر ثلاثة أطوار طور الطفولية وهو الاعتقاد بان العالم محكوم بأرواح الآلهة وطور الشباب وهو البحث في ما وراء الطبيعة وطور الرجولية وهو طلب الهيئة الاجتماعية نفع الناس بناء على الواجب ومحبة الناس والعقل والمصلحة المتبادلة)[52] ويستمر الاحتجاج قويا ويحتدم الجدل وتتضارب الآراء وينتهي الاجتماع بالفوضى و( انجلت الفتنة عن جريحين حملا إلى المستشفى بحالة النزع وأخرجت الجنود الناس من الحديقة وفرقتهم في المدن الثلاث لان التحمس كان شديدا)[53]

وبسبب انحياز الروائي إلى العلم وضع على لسان شيخ العلماء خطبة عصماء طويلة مقدما عبرها مقترحا يتضمن موادا تسعاً فيها الضمان لحياة هانئة بشروط وأحكام وتحديدات ليوتوبيا أرضية لكن أهل المال تغامزوا. وأهل العلم تناجوا سرا. وحل الجنون موضع العقل وتخالفت الآراء واندلعت السنة النار في المدن الثلاث واقتحم السارد العليم المشهد معلقا( يظهر ان السماء كرهت أن تبقى واقفة لدى هذه الفظائع الأرضية وقفة المتفرج المشاهد زمنا طويلا نعم ان صبرها طويل ولكن لكل شيء حدا) [54]؛ فكيف تنفرج الأحداث ومن أي المدن صنع انطون يوتوبيته ؟

إن الذي انتهت إليه الرواية هو أن بالحب تكون فكرة اليوتوبيا ممكنة تسكن القلوب الكريمة المحبة للآخرين المؤمنة بالرفق والإخاء المكفرة عن سيئاتها القديمة ويستدرك انطون بعد ذلك بان ذلك مجرد احتمال يترك أمر تحققه للمستقبل( ولا نعلم هل نتمكن يوما من الأيام من وصف هذه المعيشة الفردوسية التي لم تر الأرض مثلها قبلها كما وصفنا معيشة المدن الثلاث القديمة؟)[55]

ويتجسد تعالق الخيال باليوتوبيا أيضا في رواية (الوحش الوحش الوحش) وبطلاها كليم وسليم اللذان يدخلان في محاورات فلسفية حول الروح والمادة ودورهما في صنع الحياة السعيدة ويحتكمان إلى جرجيس المعلم الذي يرافقهما.

ويرفض سليم المقولات المادية ويتهكم على من لا يرى في الحشرات روحا وفكرا (ليس بالخبز وحده تحيا الكائنات الحية الحقيقية هي الحياة الروحية وحياة الروح عند هذه الحشرات نشيدها المستمر الدال على أنها في حالة الانبساط والراحة.. هكذا صنعت وهكذا فطرت ومع ذلك فان لافونتين لم يقدر على قهرها بتهكمه في ذلك المثل)[56] بينما ينظر كليم إلى العلم كحركة وصناعة منتقدا عدم الاهتمام بالحركة العلمية( انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا تجد أنها مطلوبة للمال لا لذاتها وبما ان طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم فالعلم يبقى بيننا قاصرا ذلك لان العلم لا يتقدم ولا يترقى إلا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعا لا دخل الشهوة المال فيه وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم فالراهبات إذن عليهم سد هذا الفراغ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أتم الانقطاع.)[57]

والرواية لا تختلف عن الروايتين السابقتين سوى أنها أكثر نزوعاً نحو الواقع سواء في الأوصاف المكانية للقرى والمدن اللبنانية كجبل لبنان وبيروت والقلمون وعين السنديانة أو في تمثيل طبائع الناس ومعايشهم أبان القرن التاسع عشر لاسيما معيشة الرهبان في الأديرة. وتتألف الرواية من سبعة عشر فصلا، ويقوم بناؤها على طريقة التتابع وتتخلل السرد كثيرا من الحوارات الفلسفية لاسيما في فصل (الوحش ..) الذي فيه تتأزم الحبكة ثم تنفرج ليتبين أن الوحش هو الشيخ المجنون الذي تصور أن بإمكانه أن يقتل الشر (الشر أصله الوحش الذي في الإنسان فإنكم تعلمون أن في الإنسان شيئين : الوحش والإنسان فالوحش يطلب كل شيء لنفسه ولو مات غيره والإنسان يشفق على نفسه وعلى غيره أيضا فقلت: إن رأس واجباتي كملك لهذه الديار قتل الوحوش لاستئصال الشر فاقتنيت هذه البندقية.. وكلما رأيت أحدا يعتدي على غيره.. قتلته برصاصة واحدة)[58] كما أن هناك وقفات يتدخل فيها السارد في الأحداث وقد يستطرد كقوله: (وللأسف أن الحكومة لا تزرع في هذا الحرش الكبير أرزا جديدا ليقوم مقام الأرز القديم متى شاخ وانقرض في القرون القادمة )[59].

وفي الرواية تناصات شعرية وتاريخية وحكائية، فمثلا ضرب السارد المثل على التنازع بين العلم والمال من جهة والنفس المظلومة من جهة أخرى بقصة مجنون ليلى، مؤكدا أن الحكمة والفلسفة لا توضعان إلا في أفواه المجانين.

وتختتم الرواية وقد عرف البطلان سليم وكليم أن الذي يوصل إلى السعادة ويجعل الحياة يوتوبيا هو العدل والاستقامة والتمسك بالخير( النفوس القوية العادلة المستقيمة تقدر أن تكون مستريحة سعيدة حتى في وسط تقلبات الحياة)[60].

ختاما .. تغدو الفلسفة في روايات فرح انطون الثلاث قسيما مشتركاً للسرد، وقد غلبت في كل رواية الصفة الفكرية أكثر من الصفتين الرومانسية والواقعية. ولم يألُ انطون جهداً وهو يكتب رواياته في أن يوظف عناصر السرد (السارد والمسرود والمسرود له) مستعملا مختلف الصيغ والأساليب الفنية التي تدعم عمله وتجعله مشوقاً وسلساً.

وبالتشويق الفني أوصل انطون رسائله الفكرية إلى قراء رواياته، متخذاً من الرواية أطروحة أودع فيها ثقافته الفلسفية والعلمية كمفكر تنويري وكاتب روائي يؤرقه ما في مجتمعه من تراجع بالخرافات والسحر بينما العالم يتقدم بالعلم والفكر. فكان بصنيعه هذا واحداً من أهم ممثلي الفكر العربي، وأحد أهم الكتّاب الرياديين في العصر الحديث. 

  •  
  • الدكتورة نادية هناوي: أستاذة النقد الحديث في قسم اللغة العربية، كلية التربية، الجامعة المستنصرية، العراق. لها أكثر من مئة بحث علمي منشور في مجلات عربية وأجنبية محكمة فصلية ونصف سنوية فضلا عن عشرات الدراسات في مجلات أدبية وثقافية عراقية وعربية. لها تسعة وعشرون كتابا منشورا، منها:

ـ الجسدنة بين المحو والخط الذكورية والأنثوية مقاربات في النقد الثقافي، دار الرافدين للتوزيع والنشر، بيروت، 2016.

ـ موسوعة السرد العربي معاينات نقدية ومراجعات تاريخية، دار غيداء للتوزيع والنشر، عمان الاردن، 2019.

ـ قصة القصة دراسة ميثودولوجية في جريان القصة العراقية من المنابع الى المصبات، دار غيداء للتوزيع والنشر، عمان، الاردن، 2021.

ـ علم السرد ما بعد الكلاسيكي، ثلاثة أجزاء، مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، العراق، 2022.

ـ النسوية العمومية، مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، 2023.

 

 

[1] ينظر: الحقيقة والمنهج، هانز جورج غادامير، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم( ليبيا: دار اويا للطباعة، ط1، 2007) ص59ـ60

[2] توزعت هذه الرواية بين ثلاثة اقسام فكان القسم الأول بعنوان (نهضة الاسد) والقسم الثاني (وثبة الاسد) والقسم الثالث ( افتراس الثورة الملك لويس السادس عشر والملكة ماري انطوانيت).

[3] فرح انطون وصعود الخطاب العلماني، سمير أبو حمدان (بيروت: الشركة العالمية للكتاب، 1992 ) ص16ـ17

[4] ينظر: المصدر السابق، ص101 وص128

[5] المصدر السابق، ص44

[6] ينظر: من أعلام الفكر والأدب، أنور الجندي، (مصر: الدار القومية للطباعة والنشر، د. ت).

[7] فلسفة ابن رشد، فرح انطون، (مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص14

[8] المصدر السابق، ص18.

[9] الحقيقة والمنهج، ص58.

[10] بحوث في الرواية الجديدة، ميشال بوتور، ترجمة فريد انطونيوس (بيروت: منشورات عويدات، ط3 ، 1986)، ص7

[11] المصدر السابق، ص11

[12] المصدر السابق، ص12

[13] المصدر السابق، ص7

[14] ينظر: أورشليم الجديدة رواية، فرح أنطون ( مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013)، ص7

[15] الرواية، ص10 وقصد بالعلامات الإشارات فواحدة تدل على أن الحدث التاريخي وارد في التاريخ وأخرى تعني أنه متصرف فيه أو ليس هو من التاريخ في شيء.

[16] الرواية، ص11

[17] ينظر: الرواية، ص11

[18] الرواية، ص12

[19] الرواية، ص9

[20] الرواية، ص13

[21] الرواية، ص16

[22] الرواية، ص39

[23] الرواية، ص16ـ17

[24] الرواية، ص39ـ40

[25] الرواية، ص21ـ22

[26] الرواية، ص22

[27]  الرواية، ص26.

[28] الرواية، ص23.

[29] الرواية، ص213

[30] الرواية، ص65

[31] الرواية، ص33ـ34

[32] الرواية، ص24

[33] الرواية، ص66

[34] بحوث في الرواية الجديدة، ص13

[35] ينظر: الرواية، ص57

[36] الرواية، ص64ـ65

[37] الرواية، ص67

[38] الرواية، ص79

[39] الرواية، ص87

[40] الرواية، ص91

[41] الرواية، ص105

[42] الرواية، ص117

[43] الرواية، ص218

[44] بحوث في الرواية الجديدة، ص13

[45] الدين والعلم والمال رواية، فرح انطون( مصر: مؤسسة هنداوي، ط1، 2012 )، ص7 .

[46] الرواية، ص7

[47] الرواية، ص8

[48] الرواية، ص8

[49] الرواية، ص19

[50] الرواية، ص15

[51] الرواية، ص16

[52] الرواية، ص48

[53] الرواية، ص51

[54] الرواية، ص67

[55] الرواية، ص71

[56] الوحش الوحش الوحش رواية، فرح انطون، ( مصر: هنداوي للتعليم والثقافة، 2014)، ص8

[57] الرواية، ص20

[58] الرواية، ص67.

[59] الرواية، ص58 .

[60] الرواية، ص91.