يتوقف الكاتب عند المسرح الغنائي الرحباني وملامح تطوره وأبعاده السياسية والاجتماعية. يذكر أنه رغم أن عالمهما المسرحي الغنائي دارت أحداثه في القرية والمدينة والإمارة والمملكة، إلا أنّه اتسع لمعالجة قضايا المجتمع والوطن والإنسان من منطلقات بدت أحياناً مثالية، وأحياناً أخرى واقعية.

الظاهرة الرحبانية.. مسيرة نهضة ووطن

سعد ميخائيل عون

 

كتب الكثير عن الثلاثي: عاصي ومنصور وفيروز، منهم من كتب عن حياتهم وسيرتهم، ومنهم من كتب عن التجربة الرحبانية على صعيد النص المسرحي أو الشعري أو الموسيقي أو كلها مجتمعةً. أبرز من كتب في هذا المجال، كان المخرج نبيل أبو مراد (الأخوان رحباني الحياة والمسرح)، والباحث فواز طرابلسي (فيروز والرحابنة)، ونزار مروة (في الموسيقى العربية والمسرح الغنائي الرحباني)، والشاعر هنري زغيب (في رحاب الرحابنة)، آخرهم الصحافي والكاتب هاشم قاسم في «الظاهرة الرحبانية مسيرة ونهضة» الصادر أخيراً عن «مكتبة بيسان». وتعتبر هذه الكتب مرجعاً أساسياً لكل من أراد التعمق في الفكر الرحباني، وفهم أبعاده الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، والدور الذي قام به في نهضة الأغنية والموسيقى اللبنانية في زمن العمل على تشكيل هوية محلية بملامح مختلفة عن الأسلوب المصري.

في «الظاهرة الرحبانية»، أراد قاسم سبر غور حقائق جديدة، وتحليل ما لم يحلل من أعمالهما المسرحية والشعرية والموسيقية... هكذا، قسّم العمل الى تسعة أجزاء تندرج فصول عدة تحت كل واحد منها.

في البدء (الأخوان رحباني)، تناول الباحث سيرة عاصي ومنصور منذ ولادتهما في أنطلياس، مروراً بطفولتهما حيث عاشا في «منازل البؤس» كما ذكر منصور، ومن ثم انتقالهما الى بلدة ضهور الشوير التي تركت «تأثيراً عميقاً عليهما من حيث طرائق العيش والقيم المحلية والعادات والتقاليد». انعكس ذلك في كتاباتهما وأعمالهما المسرحية اللاحقة وملامح الشخصيات التي قدّماها. في هذا الفصل، نتعرف إلى الأثر الذي تركه فيهما والدهما حنا الذي كان عازفاً على آلة البزق، وجدّتهما غيتا بعقليني التي شجعتهما على تعلم الزجل ونظم الشعر. أما الأثر الأكبر، فكان للأب بولس الأشقر الذي قال عنه عاصي مرةً: «ندهنا من طفولتنا التائهة وعلمنا الموسيقى». يتوقف الكاتب عند عمل عاصي ومنصور، وتعرفهما إلى فيروز حيث استكملا مسيرتهما معها في التلفزيون والسينما والمسرح، مخصّصاً جزءاً كبيراً من هذا الفصل للتحدث عن أعمالهم في تلفزيون لبنان والسينما ودمشق ومهرجانات بعلبك الدولية...

في الجزء الثاني، وهو الأكبر في هذا الكتاب، فنّد قاسم «الأغنية الرحبانية» وبوّبها حسب الموضوع الذي تطرّقت إليه. شرح كيف أن الرحبانيين «اشتغلا على خلق أغنية بنص شعري أو نثري، يحمل روح التطلعات الجديدة من خلال موسيقى متحررة من الإيقاع الظاهر، وبحيث تكون الأغنية قصيرة في مدة لا تتجاوز أربع دقائق».

كان الوطن الهمّ الأساسي في الأغنية الرحبانية، ثم الحب والرومانسية، وكانت هناك الأغنية الشعبية والبدوية، وأغنية العواصم العربية والموشحات، وأغاني فلسطين والأغنية الإيمانية والتراتيل الدينية، وأخيراً وليس آخراً الأغنية الزجلية... في هذا الجزء أيضاً، تحدث الكاتب عن أدب الأغنية الرحبانية ككل، وعلاقة الرحبانيين وتعاونهما مع الموسيقار محمد عبد الوهاب. كما ذكر أنهما وفيروز كانوا يرفضون الغناء للزعماء والحكام العرب، ما حدا بالرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الى منع بث أغنيات فيروز في تونس في معرض رفضها الغناء له في فندق «فينيسيا» لدى زيارة رسمية له للبنان...

يتوقف قاسم عند المسرح الغنائي الرحباني وملامح تطوره وأبعاده السياسية والاجتماعية. يذكر أنه رغم أن عالمهما المسرحي الغنائي دارت أحداثه في القرية والمدينة والإمارة والمملكة، إلا أنّه اتسع لمعالجة قضايا المجتمع والوطن والإنسان من منطلقات بدت أحياناً مثالية، وأحياناً أخرى واقعية. صار المسرح الرحباني كما وصفه الفنان والمؤلف المسرحي غازي قهوجي «مسرح الانتظار... مسرح أحب أن يبقي كل الناس أطفالاً، مسرح نظيف غير تصادمي يطلب الدعة والأمان»، مع أنّ الكثير من الأعمال الرحبانية حملت تحريضاً مباشراً وغير مباشر على الثورة والوقوف في وجه الظلم، ومع الحق والدفاع عن الأرض حتى الشهادة.

واللافت أنّ قاسم يتوقف عند تطوير الرحابنة للدبكة اللبنانية، فـ«في الوقت الذي كانت فيه الدبكة تتلاشى من حياة القرية والريف في لبنان، إذا بها تبدأ الدخول في الأعمال الفولكلورية كعنصر فني وجمالي وكجزء من المشهدية الغنائية الراقصة في أعمال الأخوين رحباني وغيرها. فهما صقلا الدبكة ونقلاها من حالة المادة الخام الى حالة المادة الفنية». ولفيروز خصص الباحث جزءاً في كتابه، فأعطى لمحة عن ولادتها ونشأتها في منزل صغير من منازل بيروت العتيقة في زقاق البلاط، حيث عاشت طفولة صعبة... مع ذلك، فقد وصفت طفولتها بأنها كانت سعيدة، رغم عدم وجود ما يدعو الى السعادة... تكلم قاسم عن لقاء فيروز بالموسيقار محمد فليفل لدى زيارته لمدرستها. يومها، قال لها إنّه يرى في صوتها جمالاً مميزاً، فاتصل بإذاعة الشرق الأدنى طالباً قبولها مطربة، لكن تم تعيينها منشدة في كورس الإذاعة اللبنانية. أحاطوها بالاهتمام والتقدير، واختار حليم الرومي لها اسماً فنياً هو فيروز. كما خصص قاسم حيزاً للتحدث عن فيروز الصوت والأداء والأغنية.

«كبار في الظاهرة الرحبانية» هو عنوان الجزء السابع الذي قدم فيه هاشم قاسم لمحة موجزة عن شخصيات تركت بصمتها في أعمال الرحبانية وهم: الشاعر سعيد عقل، وديع الصافي، نصري شمس الدين، الياس الرحباني، زياد الرحباني، فيلمون وهبي والمخرج صبري الشريف...

في الختام، ذكر الكاتب صعوبة الإحاطة بكل جوانب الظاهرة الرحبانية لأن جذورها ومراحل نموها والإبداعات التي أنجزتها شكلت حلقة استثنائية في الواجهة الإبداعية اللبنانية والعربية. وقد قامت هذه التجربة الفنية برفع القيمة الإبداعية للعامية كدلالة على خصوصية لبنانية ومشرقية عربية تراثية. وضمّن الباحث كتابه «ملاحق» حيث يستطيع القارئ أن يتعرف إلى مجمل الأعمال المسرحية، بدءاً من ١٩٥٧ وصولاً الى عام ١٩٨٢، وصولاً إلى «مختارات» الذي تضمّن بعض النصوص المغناة «كنماذج تلقي الضوء على ما كتبه الرحبانيان من أغانٍ تمثل مراحل متتالية من سيرتهما الأدبية والتلحينية، وخصوصاً من زاوية إبراز خصوصيات أنواعها الأدبية والمواضيع والقضايا التي كانت محورها». وطبعاً، لم ينس قاسم ذكر المراجع والمصادر الكثيرة، التي استعملها لإنجاز هذا الكتاب الذي يشكّل إضافة إلى المكتبة الموسيقية اللبنانية.

 

ملحق كلمات