تنبني رواية «النهايات السعيدة»، فوق الفراغ والانهيارات والالتباس الهوياتيّ، لتتجاوز عالم الواقع إلى البديل الذي خلقته التكنولوجيا، واقع الوفرة، (وفرة في الصور، وفرة في الأجساد، وفرة في الطعام)، إلى فقر الحياة وحيث وصلت حالة السيولة والتشوش بينهما حدّ فقدان كل منهما خصائصه ومبادلتها مع الآخر.

«النهايات السعيدة» الهوية المُلتبسة في عالـمٍ ينهار

فـدوى العـبود

 

لأنه لا يمكن قياس المسافة بين متناقضين إلاّ عبر السير في العراء، ولأنّ بإمكان خيمة اللاجئ كشف عورة العالم، فلا يعرف غدر الأخوة سوى من أُلقي في غيابةِ الجب؛ لهذا ولغيره يختار الكاتب المصري أحمد ناجي لروايته «النهايات السعيدة» (دار المحروسة، 2022)، مهاجرًا مصريًا من الذين مسّهم سحر الثورة وجحيمها؛ سبقه إلى الحلم الأميركي خاله الذي عانق نظره تمثال الحرية لحظة أحداث 11 سبتمبر.

هربًا من الجور والظلم يهاجر الخال وابن الأخت، الأول هربًا من الذل الذي تعرض له، والآخر إثر سجنه في تهمة تحرش وانتماء للمخربين وغيرها من الادعاءات،  وإذا كان أخوة يوسف اكتفوا بإلقائه في الجب ليلتقطه بعض السيارة؛ فمن ذا الذي يغيث المهاجر والغريب! والنهاية السعيدة التي حظي بها نبي الله، مبدؤها ومنتهاها المهمة التي يعدّ لها، فأي عالم ينتظر المهاجر وأي مستقبل! والمفارقة في "النهايات السعيدة" هي هذا بالضبط: "إذا كان القميص الذي قدّ من دبرٍ برّأ يوسف من إغواء امرأة العزيز فمن يبرّيء ضحايـــــا اليوم!".

فالعالم، هذا العالم وقد رفع الله يده عنه "نشيّده فينهار ثم نشيّده فننهار نحن"! فهل كان ريلكه عارفًا بحالنا في هذا الشرق الذي عاش محنة انهيارتٍ متتالية. فقدان تلو آخر (العمل، البيت، الوظيفة، العائلة والأهم الوطن) ليجد نفسه في البحر اللجيّ يذرعه "فموجة تأخذه وموجة تخلعه"، أليست حدود الخير والشر واضحة، ألم يجلس الخطّاب في باحة بنيلوب وهي تنسج الصوف ثم تنقصه أملًا بوصول أوديسيوس. فمن ينتظر المهاجر!

لا نار في البيت الذي تهدم ولا أم على المصطبة! فمن نجا من الموت ومن تجار البشر انتهى أمام انهيارات الهويــــــــّة في بلاد الثلج. والجدير ذكره، أن الكتابة عن شخصية من هذا النوع بمثابة تحدٍّ للكاتب والقارئ معًا، فرغم تسطّحها الظاهري بكونها بلا اسم أو أبعاد؛ لكنها شخصية مركّبة، وليس من السهل الإمساك بها، إنّها التي ينطبق عليها وصف زيجمونت باومان "الهويـــــّة السائلة". وعلى مدار الفصول الثلاثة نرصد تفككها، فالهوية وهي انتماؤنا الجوهري، فنكون بها ومن خلالها نُعرف أنفسنا ويتم التعرف علينا؛ تتقوض وتتعرض لتحديات تجعل منها هوية مشروخة حائرة ملتبسة أميَلُ للخفّة والسيولـــــة.

إنّ البطل وقد فقد وطنه وتقطعت به السبل، يعاني من فقدان الارتباط أو الولاء فهو بلا يقين يعيش إيقاع الحياة السريع (الرغبة بالعمل، الدراسة، المال) والذات تعتقد أنها تبني -عبر نفي كل ارتباط- وجودها، لذا تحرص على التخلص من كل ولاء لتتسق وإيقاع الحياة التي تبدأ من فجوة بين حياته الرثة وضياعه؛ فيحاول ردمها عبر واقع افتراضي. ومن هذا التفاوت بين صورته المتخيّلة وبين حياته التي يعيشها يبدأ عالمه، "يشملني عالم انستجرام بطمأنينة النسيان وفيض من ضوء الصور يغسل عيني، لا توجد طاقة سلبية في انستجرام، الجميع نظيف، الجميع مرتب، الجميع مهذب"، بين هوية مشوشة وأخرى تتغير كل ثانية يتحول العالم الواقعي إلى "المصطنع" simulacra بتعبير جان بودريار "فوق الواقع" hyper-real.

هذه الهوية المتشظية، تتمثل في الشعور بضبابية في الأفكار وتشوّش في الرؤية، ثم يتعقّد الالتباس الهوياتي في الطريق الذي تسلكه الشخصية إلى نيويورك بحثًا عن الوظيفة؛ فيصعب عليه التمييز بين مراهق /مراهقة رآها في الحمامات. لقد فقد العالم حدوده الهوياتيّة، وفقدت الشخصية معه حدود الوضوح: يبدو ذلك في ضمير الوصف كان/ أو أنه/ أو أنها.

وحين يقف لمراقبة شابين في وضع حميمي، يسألانه بعدائية عما إذا كان هناك شيء ما؛ لكن المنفي لا يملك رفاهية الرفض، "تعلمت أن أكون أكثر أدبًا ممن أقابلهم، هذا الأدب الذليل حيث البسمة لا تغادر وجهك، وليس من حقك أن تظهر غضبك"؛ إنه يرى ما حوله بالعين التي وصفهاهومي بابا "عين المهاجر الذي يرى رؤية مزدوجة".

إن لحظة المغادرة من الوطن، تبدو كعجلة أفلتت من عربة في منحدر؛ لتتلوها سلسلة المغادرات والتي تعني عدم التوقف،. كما أن الشخصية مولعة بتفاصيل صغيرة تعبر عن أسئلة كبرى، من فتاة الحمامات والسؤال عن عالم جديد تتماهى فيه الحدود وتصبح أسئلة الوجود بلا معنى ولا طعم. يتوقف هنا وهناك ويرصد بعين مجهدة ما يمر به حتى لتبدو الشخصية الدينية التي التقاها شخصية شبحية فيتكلم عنها بسخرية مريرة من مثالية أميركا الحلم/ الجب الذي ألقي فيه هذا الشاب وغيره.

إن الشخصية لا تملك صورة واضحة عن العالم الذي ألقيت فيه، بحيث تضيع الروابط مع محدداتها وثقافتها المتشكلة؛ ومع كل موقف تحاول أن تعيد تعريف ذاتها لكن هذه المحاولة تنتهي بتفتيت وحدة الذات. إلى جانب ذلك، ثمة شخصيات أخرى في الرواية أحدها مهاجر فلسطيني وصديقته المغربية، وهم أيضًا يعيشون كأشباح، هاربين من مطاردة شرطة الهجرة من مكان لآخر؛ فرياض الفلسطيني يعمل في منظمة تديرها مجموعة من الأكاديميين والميلونيرات والمشاهير العرب "الذين يتحدثون ليل نهار عن دعم فلسطين وناس فلسطين وضد العنصرية والاستيطان الإسرائيلي، لكنهم بصدد طرد الفلسطيني الوحيد الذي يعمل في المنظمة، ويفضلون إنفاق عشرات الآلاف من الدولارات على حفل عشاء ومؤتمر صحافي لدعم غزة، بدلًا من مرتبات العاملين".

تنبني رواية "النهايات السعيدة"، فوق الفراغ والانهيارات والالتباس الهوياتيّ، لتتجاوز عالم الواقع إلى البديل الذي خلقته التكنولوجيا، واقع الوفرة، (وفرة في الصور، وفرة في الأجساد، وفرة في الطعام)، إلى فقر الحياة وحيث وصلت حالة السيولة والتشوش بينهما حدّ فقدان كل منهما خصائصه ومبادلتها مع الآخر. يبني أحمد ناجي شخصية مركبة، ميالة لمنطق الهدم، تنبض في العنف والتحرش والسخرية مدفوعة بجاذبية الشر كطريقة لتحقيق الخير؛ ما يذكرنا بسؤال راسكولينكوف بطل دوستويفسكي عن الحدود بين الخير والشر!

هذه الهوية التي وجدت أفضل حيلة دفاعية لها في الرفض، فما يجعل الدم في عروقه يتدفق هو الشر؛ وحين يعاود التحرش بالشابة المغربية ينبثق لدى القارئ سؤال الإدراك والإرادة معًا وهما أوسع من أن تحيط بهما قراءتنا؛ يضاف لهما سؤال الحرية فحين يجتمع بإرادته مع امرأة ينفر منها. وكأنه يجد حريته في الاغتصاب. إن الفجوة الثقافية بين الخال وابن الأخت في النظر للثورة ستسهم في التباعد بينهما؛ وهي وقد رسمت وفق منطقها الزمني والنفسي بين جيلين قد تركت لدى الخال حلًا متخيلًا جعله يقضي وقته متحدثًا عن كائنات متطورة وصحون فضائية. أما الشخصية الرئيسة هنا فهي تذهب بالتقويض لآخره عبر السخرية من العلامات السياسية والشعاراتية، وكل الروث الذي تطلقه الإنسانية من حناجرها الكاذبة (بيانات حول فلسطين، حول غزة) من أشخاص انتهازيين في عالم يتاجر بالهاشتاغ. فالبطل في عالم فقد يقينه وغيّر معنى ببناء بديل وفي اللقاء العاطفي الذي يجمعه بالمرأة المتزوجة، يجلس الزوج بجانب الفراش ليراقب العلاقة الحميمة بهدوء وهذه اللحظة الوحيدة التي تثير ذعر البطل؛ ربما لأنها تكشف عن اللقاء بالحرية المطلقة، وتطرح السؤال المتجدد عن هشاشة ومدى متانة الروابط الإنسانية والكائن الذي تفرزه هذه الأوطان.

وتنتهي الرواية باختياره المضي والفرار، فجوهر الإرادة هو الاختيار الحر وليس هوية مختارة ومحددة لأن الهوية في معناها الأدق هي هذا التغير الدائم. كما أن الرفض والرغبة يتقاطعان لدى الشخصية التي تتوهم أنها انتصرت لحريتها في نهاية المطاف.

لكن ما يبدو انتصارًا هو بالضبط غياب هذه الحرية. فالإرادة – إرادة البطل- ذاتها لا تتحقق إلا عبر العنف والاغتصاب للجسد المقابل أو انتهاكه عبر اللغة؛ لتعكس التبعية التي نتحرك عبرها، وكيف يمكن أن نغرق بسهولة في ظلام الداخل، حيث تنحل القيود ويستولي الإنسان على حريته لا ليستردها بل ليمزقها.

تنتمي هذه الرواية وفي كل الأحوال لأسلوب جديد في رؤية العالم الذي يقارب ما وصفه إيجلتون: "الفصل الأخير من المسرحية، تمامًا كما يمكننا أن نفهم الفصل الأخير من مسرحية الملك لير من خلال الفصول الأربعة السابقة"، يمكن فهم الهوية الحالية في علاقتها بالهويات الأوليّة –هويات الانتماء- التي تآكلت.

كتب ديكارت مرة أن "العالم كتاب مفتوح، قصة يقرؤها الإنسان، وقراءة الإنسان لهذه القصة قصة أخرى"، فالرغبة بالتهديم والتقويض في عالم منخور هي فقط ما يراود شخصيات "النهايات السعيدة" العالقة في عالم هلامي تماهت حدوده. وهي صورة عصر متعثر والشخصية هنا تقرأ العالم بطريقتها، ويمكننا نحن أيضًا أن نقرأ القصة بطريقتنا لنروي منها وعنها حكاية أخرى!  

 

ضفة ثالثة