عالم من الخيال، اختلط فيه الواقعى، بالعبثى، ونطقت فيه الجمادات. تحدث البحر، وعادت الأموات، ومات الأحياء، فى عالم مُتخيل، لرحلة، هرب فيها الكاتب من حياة الأرض الضاجة بالقتال، والاقتتال، ليعيش فى السماء مع الموسيقى والألوان، والحب. فى رواية تبدو للقارئ أنها تعيش فى الخيال، وبالخيال، غير أنها تحمل كل هموم الأرض.

ألف جناح للعالم (رواية العدد)

محـمد الفـخـرانى

 

الإجابات أسئلة متنكرة

لا تفقد شَغَفَ

مَنْ أَحَبَّ نَجا

 

(1)

انتهَتْ لتوّها من الطيران مع التنّين.

"الوقت؟"، سألَتْ "سيمويا" بمجرد أن فتحَتْ عينيها.

 "السابعة صباحًا"، ردّ حاسوبها الطافى على مكتبها.

 رَفَعَتْ عنها غطاء النوم، تسرّبَتْ رائحتها ممزوجة برائحة تنّين رأته فى أحلامها.

 "ضوء"، قالت "سيمويا"

 غمَرَ الحجرة ضوء هادئ.

غادرَتْ سريرها، خلعَتْ تى_ شيرت شفافًا ينتهى أسفل مؤخرتها، ألقَتْه على حافة السرير، سحبَتْ الكيلوت بحركة رشيقة من إبهامها، طيّرتْه فى الهواء، صارت عارية إلا من حرشفة صغيرة خضراء بنهاية ظهرها، سقط الكيلوت فوق التى- شيرت، دخلَتْ الحمّام المُلحق بحجرتها، توقفَتْ بمواجهة شاشة طيفيّة مُقسّمة إلى مربعات صغيرة بها صور لمناظر طبيعية، لَمَسَتْ صورة سحابة مُمطرة، تسرّبَ من إحدى زوايا السقف بُخار أبيض تحوّل بسرعة إلى رمادى داكن، تشكّلَ على هيئة سحابة فيها رعد وبرق، هطلَ منها مطر غزير، انتقلَتْ "سيمويا" تحتها، تمطّرَتْ بها، نزَعَتْ الحرشفة الخضراء من ظهرها، تحركَتْ خطوتين، توقفَتْ بمواجهة مساحة صغيرة فى الجدار مُغطّاة بألمونيوم ملىء بالثقوب، لمسَتْ زرًا أحمر، اندفع من الثقوب تيار هواء دافئ جفّف الماءَ عن الخطوط العامة من جسمها، استعمَلَتْ منشفة صغيرة للتفاصيل، غادرَتْ الحمّام إلى ثلاجة صغيرة بزاوية الحجرة، أخذَتْ منها قطعة شيكولاتة، فتحَتْ غلافها بعناية، قضمَتْ ذرة من زاويتها بأطراف أسنانها كأنها تستأذنها لتأكلها، توقفَتْ أمام المكتب، لمسَتْ أحد المربعات فى شاشة الحاسوب، انفتحَ ملفّ الموسيقا، شغّلَتْ صوت مطر طبيعى، لَمَسَتْ مُربعًا آخر، انفتحَ ملفّ ملابسها، قسم الملابس الداخلية، توقفَتْ عند كيلوت أبيض فيه شمس حمراء، لَمَسَتْ الشاشة، اندفعَتْ منها حزمة ضوء تحوّلتْ على جسم "سيمويا" إلى الكيلوت المُختار، قضمَتْ قطعة صغيرة من الشيكولاتة، اختارت مُرَبعًا آخر، اندفعَتْ حزمة نور جديدة وتشكّلتْ سوتيانًا أزرق سماويًا احتوى ثدييها الرشيقين، تجوّلَتْ فى حجرتها حتى انتهتْ الشيكولاتة، سَوّتْ غلافها، وضَعَته فى درج بالمكتب يحوى أغلفة أخرى، وقفَتْ بمواجهة الحاسوب، اختارت من ملابس الخروج قميصًا أزرق بَحَريًا، بنطلونًا قطنيًا أبيض، وحذاءً من قماش أصفر موزى، مشّطَتْ أطراف شعرها بمشط خشبى، لا ماكياج، وعطرها رائحتها الخالصة.

التقطَتْ هاتفها من سطح المكتب، غادرَتْ حجرتها إلى المطبخ، توقفَتْ فى فتحة الباب، نور الشمس يدخل من النافذة المواجهة ويتكَسّر فى جميع الزوايا، راقبَتْ جدّتها وهى تُطيّر قرص البيض فى الهواء، وتدور معه حول نفسها قبل أن تتلقّاه فى مقلاتها، صفّقَتْ لها ودخلَتْ.

"صباح الخير جدّتى"

"صباح الخير سيمويا"

قبّلَت الحفيدة خدّ جدّتها، تمهّلَتْ لحظة وسحبَتْ نفَسًا خفيفًا كأنما تشمّها.

قالت "لا شىء فى الصباح أجمل من رائحتك جدّتى، الشيكولاتة الخفيفة"

"أنتِ الجميلة، سيمويا"

وضعَت الجدَّة طبق البيض فوق طاولة دائرية بمنتصف المطبخ، حوله جُبن، عسل، قهوة، وخبز، تناولَتْ "سيمويا" لُقمة من كل نوع، قطعَتْ بالسكين شريحة من قرص البيض، أكلَتْها، مسحَتْ يديها فى منديل ورقى، التقطَتْ فنجان القهوة، تأمّلَتها جدّتها لحظة.

 قالت "تُسَمّين هذا إفطارًا؟"

"أنا لم أُسَمّ شيئًا، وجدْتُ الجميع يُسمّونه إفطارًا، لم أعترض"

"أنت تأكلين مثل عصفورة"

رفعَتْ "سيمويا" سبّابتها.

"لا أحد يعرف بالفعل ما تأكله عصفورة، لا تنخدعى بحجمها"، أعادت فنجان القهوة إلى الطاولة، نظرَتْ إلى جدّتها.

قالت بشىء من الحماس "اتصلوا بى أمس من مركز الأبحاث"

"مهمة جديدة؟"

"أتوقّع ذلك، موعدى معهم فى الثامنة والنصف"، نظرَتْ إلى ساعتها.

"من الأفضل أن أغادر الآن، لديك عمل اليوم؟"

"ليس خارج البيت، أنتظر مجموعة أفلام توثيقية عن بعض الجبال، اليوم ربما أختار جَبَلى"

"أنتِ الأفضل جدّتى"

 أمالت "سيمويا" رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

قالت "الآن، تَمَنّى لى"

"يومك حلو"، قالت الجدّة، وربّتَتْ خدّ حفيدتها.

تذهب "سيمويا" إلى عملها مشيًا، مركز للأبحاث الچيولوچية، يُكلّفها بمَهام قد تستغرق الواحدة منها عدة شهور، أكثر ما تحبه فى عملها، السفر، التعرّف إلى العالم، واكتشافه.

 تقرأ فى طريقها بعض الأخبار من الشاشات الطيفيّة السابحة فى الهواء، تتابع لقطات دعائية للأفلام السينمائية الجديدة، وتفكر فيما يمكن أن تكون عليه مُهمّتها.

 توقفَتْ بعد أن كادت تصطدم بفتاة، وبدلاً من أن تقول لها كلمة مناسبة وتُكمل طريقها، ظلّتْ فى مكانها تنظر إليها كأنما تنتظر منها شيئًا، شعرَتْ تجاهها بغموض، وأُلْفة شفافة، كأنما قابلَتْها فى مكان تعرف أنها لن تتذكّره أبدًا، كانت الفتاة فى العشرين من عمرها، تنظر فى عينى "سيمويا" مثلما ينظر شخص إلى شىء يحبه، ويريد أن يتأكد أنه على حاله مثلما رآه آخر مرة منذ مدة طويلة.

قالت سيمويا "هل أعرفكِ؟"

ابتسمَتْ الفتاة، دفعَتْ بحزمة أوراق إلى صدر "سيمويا"، وضعَتْ يدها عليها بتلقائية كأنما حصلَتْ على ما تنتظره.

"اقرأيها ليلاً"، قالت الفتاة.

 رأت "سيمويا" نفسها داخل الليل للحظة، وعندما عادت إلى النهار لم تجد الفتاة أمامها، لمَحَتْها على مسافة ليست بعيدة، جرَتْ إليها.

 "أنتِ، أنتِ"

 لم تلتفت الفتاة، اختفَتْ بعد لحظات، توقفَتْ "سيمويا"، تلفّتَتْ حولها، نظرَتْ إلى الأوراق فى حضنها، أسندَتْها إلى راحة يدها، حزمة كبيرة من أوراق مُفرَدَة لا يتعدّى وزنها حفنة هواء، وفى منتصف الصفحة الأولى كلمة واحدة بخط اليد وحِبْر أزرق، "الليل"، قرأتها بصوت عادى، لكنها سمِعَتْ صداه يتردّد حولها كأنها هتفَتْ بها فى ليل ومكان مفتوح، تلفّتتْ حولها، انقطع الصدى ورأت نهارًا وبنايات، تصفّحَتْ بعض الأوراق، وجدَتْها ملأى بكلام أزرق مكتوب بخط اليد، كان مُدهشًا لها أن ترى كل هذه السطور اليدويّة دفعة واحدة، منذ متى لم ترَ صفحة كاملة بخط اليد، ربما أبدًا، ظلّتْ مأخوذة بالخط الرائق، لم تقرأ الكلمات بالفعل، انتبهَتْ، فكّرَتْ أن تقرأ شيئًا، تذكّرتْ ما قالته الشابة "اقرأيها ليلاً"، لم يكن هذا ليمنعها، تناقش الأمر فيما بعد، الآن عليها أن تلحق بموعدها.

اشتَرَتْ من مكتبة فى طريقها حافظة أوراق بلونها المُفَضّل، الأزرق، تجاوزَتْ تقاطعين، انعطفَتْ إلى اليسار، وبعد خمسين مترًا تقريبًا كانت بمواجهة مبنى زجاجى من خمسة طوابق، تجاهَلَتْ المصعد كعادتها، صعدَتْ السلّم إلى الطابق الثالث، تحيّات صباحيّة لبشر وروبوتات، توقفَتْ عند باب زجاجى كأنه ماء، طرقَتْه مرتين، دخَلَتْ، يجلس خلف مكتب بمواجهة الباب رجل يبدو فى منتصف الأربعين من عمره، ربما تجاوز الستين فى حقيقته، لا أحد يمكنه أن يعرف العمر الحقيقى لشخص آخر، ليس بهذه السهولة، أمام المكتب يجلس شاب يبدو فى نهاية العشرين.

 قالت "صباح الخير"

"أهلاً سيمويا"، قال الشاب.

 "صباح الخير، تأخرْتِ ثلاث دقائق"، قال الرجل.

 "اعتراض بسيط فى الشارع، آسفة"

أشار لها، جلسَتْ بمواجهة الشاب، حافظة الأوراق على ركبتها.

قالت "ماذا فاتنى؟"

قال الرجل "فقط عرِفَ دوفو الخبر قبلك، لديكما مهمة جديدة"

لمعَتْ عينا "سيمويا"، خطفَتْ نظرة إلى "دوفو"، ابتسمَ لها، نقَلَ الرجل عينيه بينهما.

قال "نقاط موزّعة فى أماكن كثيرة من العالم، كأنها خريطة ممزقة وغير مفهومة، نريد أن نجمعها ونفهمها"

"أُفكّر، هذا تقريبًا ما نفعله دائمًا"، قالت "سيمويا".

"هناك تفاصيل صغيرة تجمع بين هذه النقاط، لكن الغموض هو أكثر شىء واضح لنا"

"هذا أيضًا موجود فى كل مهمة، الغموض"

"هل تعطينى الفرصة لأقول شيئًا لا نفعله دائمًا، وغير موجود فى كل مهمة؟"

"سأحاول، تفضّل"، قالت "سيمويا" وابتسمَتْ.

"تطوّرَ الأمر فجأة، لم يكن فى خطّتنا الاستعانة بباحثين إضافيين، قررنا ذلك بالأمس فقط، تم اختياركما بالإجماع"

قالت سيمويا "أخشى أن هذا أيضًا حدث من قبل"

ابتسمَ الثلاثة.

"السفر غدًا عند التاسعة صباحًا، تحصلان على المعلومات المتوفرة لدينا عن المواقع المطلوب دراستها، تبدآن من موقع أسميناه النقطة الزرقاء، بعدها لكما حرية اختيار الموقع الذى تنتقلان إليه"، صَمَتَ لحظة، نقَلَ عينيه بينهما.

"أية أسئلة؟"

"الأسئلة تنتظرنا هناك"، قال "دوفو".

نظرَ الرجل إلى "سيمويا".

قال كأنه يحرّضها "أىّ تعليق؟"

"عندى شغف"، قالت "سيمويا" وابتسمَتْ.

"أحبَبْتُ أن أسمعها"، قال الرجل.

نهَضَ، وصافحهما.

"أيًا كانت الطريقة التى تفعلان بها ذلك، تعرفان أنى أُحب عملكما معًا، استعِدّا"

 خرجَ "دوفو" و"سيمويا"، توقفَا على بُعْد خطوات من المكتب.

قالت سيمويا "أشعر بالحماس"

 قال "دوفو" وهو يقلّدها فى ردّها مع المدير "هذا ما تشعرين به فى كل مهمة"

ابتسمَتْ.

"لا شىء يثيرنى أكثر، أنت تعرف"

"يمكننا أن نشرب قهوة فى المكتب، ونشاهد بعض الڤيديوهات والصور الخاصة بالمهمة"

 مَشيَا باتجاه ردهة قريبة، توقفَتْ "سيمويا" بعد خطوتين كأنما تذكّرَتْ شيئًا.

"آسفة دوفو، غيّرْتُ رأيى، سأنصرف"، وأمالت رأسها على كتفها، لاحَظَ "دوفو" أصابعها وهى تضغط حافظة الأوراق.

"سَهْل، كما تحبين، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

الشارع، فكّرَتْ "سيمويا" فى الشابة التى أعطتها الأوراق، ولماذا طلبَتْ أن تقرأها ليلاً؟ قصَدَتْ ألا أقرأها أبدًا إلا خلال الليل، أم اليوم فقط؟ ماذا يوجد فيها، وما علاقتى بها؟

تعرف "سيمويا" أن ما حدث مُتعَمّد، هذا واضح، كما أنها لا تؤمن بالمصادفات، لم تكن لتلتزم بالقراءة الليليّة وحدها، كل ما يمكنها فِعلُه أن تؤجل المرة الأولى إلى الليل، بعدها تقرأ وقتما تحب، برأيها، هذا مريح للجميع.

 فكّرَتْ أن تَشْغل نفسها طوال النهار خارج البيت، حتى لا تكون فى مواجهة هناك مع الأوراق.

دخلَتْ مقهى، اختارت طاولة بعيدة عن الشارع، أخرجَتْ الأوراق من الحافظة، وضَعَتْها أمامها، تأمّلَتْ كلمة "الليل" دون أن تفكر فى شىء محدد، جاء النادل، طلبَتْ قهوة بدون سكر وقطعة شيكولاتة من نوع وحجم مُحدَدَيْن، نظرَتْ بجانب عينيها إلى الأوراق، لماذا لا تقرأ ولو قليلاً، سحبَتْ ورقة "الليل"، ظهرَتْ الورقة التالية ملأى بكلام أزرق، فوجئتْ كأنها لم ترها من قبل، فكّرَتْ أنه من الأفضل لو التزَمَتْ باتفاقها الشخصى وأجّلَتْ القراءة الأولى إلى الليل، أعادت الورقة، جاء النادل بما طلبَتْه، التقطَتْ قطعة الشيكولاتة، فكّتْ غلافها برفق، استأذنتها لتأكلها.

أنهَتْ الشيكولاتة مع آخر رشفة قهوة، طَوَتْ غلافها بعناية، وضَعَتْه فى جيبها، دفعَتْ الحساب وغادرت.

 ما زال النهار فى أوله.

دخلَتْ مكتبة، لم تقضِ فيها غير دقائق، الكتب تستدعى القراءة، ولا شىء ترغب فى قراءته إلا أوراق "الليل".

شاهدَتْ فيلمًا رومانسيًا بالسنيما.

حسنًا، يمكنها أن تُضيّع الكثير من الوقت فى "شارع الحلوى"، هكذا تسميه، أحد أماكنها المُفضّلة فى العالم، يبعُد خمس دقائق مشيًا، واسع إلى حد ما، طوله لا يتعدّى المائة متر، أرضه قِطَع صغيرة مستطيلة من بازلت أسود ناعم، كأنها خرجَتْ من عمق الأرض خصيصًا له، وتراصّت بطريقة ليست نظامًا ولا فوضى، تتوزّع فيه مقاعد خشبية بعضها طويل، وعلى جانبيه محلات الحلوى.

 تأتى "سيمويا" من وقت لآخر، تتنقل بين فاترينات المحلات، تتفرّج على حلواها الحبيبة، ألوانها وأشكالها المختلفة، تستمتع بالنظر إليها مثلما يستمتع شخص بأىّ منظر جميل، لا يوجد هواء فى الشارع، إنما رائحة سُكريّة خفيفة، تشعر "سيمويا" أنها فى جنّة صغيرة من سُكر طيّار، فاكهة، فراشات، زهور، مياه، عشب، وألوان، تُشعرُها الرائحة بخفّة، فرح لطيف، وتحملها إلى هامش الطفولة.

 "سيمويا" لا تأكل الحلوى، لا تُهديها أو تقبلها من أحد، حتى فى أعياد ميلادها، لا يمكنها أن تتحمّل السكين وهى تُقطّعها، الأسنان وهى تنغرس فيها، لكنها تأكل الشيكولاتة، شغفها، لا تعتبرها نوعًا من الحلوى، أو صنفًا من المأكولات، الشيكولاتة لا تنتمى إلا لنفسها.

  تتفرّع من "شارع الحلوى" عدّة شوارع، بها مقاهٍ، وعلى أرصفتها كتب، صحف، مجلات، أشخاص مُتوَحّدون يبيعون عملات نقدية قديمة، وأشياءَ من الماضى أو المستقبل، لها أشكال عجيبة، وكلها لا تعمل، لكن لا يوجد بها محلات للحلوى، وأرضها ليست من البازلت.

مساحة المنطقة كلها لا تتعدّى نصف كيلو متر، تبدو كأنها نشَأتْ دفعة واحدة بكل ما فيها، لم يَبْنِها أحد، ربما هبطَتْ من سماء، صعدَتْ من أرض أو بحر، لم تكن "سيمويا" تعرف اسم أىّ شارع منها، هكذا تصاحبها أكثر.

اقتربَتْ من "شارع الحلوى"، تعرف أنه فى الانعطافة التالية، لا يمكنها أن تخطئ فى هذا، وجدَتْ نفسها فى شارع لم تره من قبل، وفى الوقت نفسه لا يبدو غريبًا، به شىء من روح المكان الذى تعرفه، ليس لديها مانع من ظهور شارع جديد، فكّرَتْ أنه يصل بها فى النهاية إلى "شارع الحلوى"، مشَتْ فيه، وشوارع تتفرّع منه، أرضها من البازلت، ليس بها مقاهٍ، كتب، صحف، متوحّدون يبيعون أشياء من الماضى أو المستقبل، ولا محلات للحلوى، كلها مُخصصة للألعاب، وإضاءتها الداخلية الخافتة تُشكّل تجانسًا ضوئيًا يدعو إلى حالة من نعاس، ويطفو بها على جانبى الشارع، ظلّتْ "سيمويا" تشمّ رائحة حلوة خفيفة طوال الوقت، وأحيانًا تهُب عليها نسمة سُكريّة من داخل أحد المحلات، تندفعُ إليه، لا تجد فيه غير ألعاب، تعتقد أن الرائحة تأتى من محل مجاور، تنتقل إليه، تحصل على ألعاب جديدة، شعرَتْ عند لحظة أنّ المحلات كلها ليست إلا محلاً واحدًا يتمدّد فى المكان، وهذا الواحد ليس إلا لعبة من عدة فقرات، كان أصحاب المحلات يتحركون ببطء كأنهم تحت الماء، يدعونها للدخول بابتسامة وإشارة باليد تجاه الباب المفتوح، ترى ابتسامتهم وهى تتشكّل فى وجوههم، الحركة المائية لأذرعهم، والتواءات شفاههم أثناء الكلام، تشعر برهبة ورغبة فى الضحك، تندهش من امتزاج الشعورَين وتبتهج بهما.

 ظلّتْ تطارد رائحة الحلوى وهى تحضن أوراقها حتى تلوّنَتْ السماء بالبنفسجى الفاتح، يمكنها الآن العودة إلى البيت لتقرأ أوراق "الليل"، تلفّتتْ حولها لتختار طريقًا للخروج، رأت طفلة تمسك بخيط فى نهايته بالونة حمراء تعبر إلى شارع جانبى، تبِعَتْها، وجدَتْ نفسها بمواجهة فاترينة ملأى بالحلوى، كان المحل المُفضّل لها، وصاحبته الأربعينية، بشعرها الذهبى وساقيها الحلوتين تقف فى فتحة الباب وتبتسم لها، ابتسمَتْ لها "سيمويا"، ومرّرت عينيها على ساقيها.

كلما تأتى "سيمويا" إلى "شارع الحلوى"، تتوقفُ طويلاً أمام هذه الفاترينة، تراها المرأة من داخل المحل، تخرج إليها، تقف فى فتحة الباب، لا تتبادلان أىّ كلام، فقط ابتسامة لا يكاد العالم يلحظها، لكنهما تريانها بوضوح، تتفرّج "سيمويا" على الحلوى لوقت طويل، وفى النهاية، تُمرّر عينيها على ساقى المرأة، تنظر إليهما بالطريقة نفسها التى تنظر بها إلى حلواها، تشعر أنهما مصنوعتان من المادة ذاتها، تراهما جديدتين فى كل مرة، وتتمنى لو تُمرّر إصبعها عليهما يومًا، فى الوقت نفسه كانت المرأة تحب نظرة "سيمويا"، وتشعر بها مثل خيط ماء بارد يمرّ على قلبها، ولأجلها، جَلَبَتْ من كل مكان فى العالم عددًا كبيرًا من الچيب القصير، كانت ترتديه فى البداية كلما جاءت إلى المحل، صارت ترتديه كل وقت، كان الچيب فى عينى "سيمويا" مصنوعًا من حلوى عالم القماش.

 تشعر "سيمويا" أن صناعة الحلوى فى العالم ستنهار لو انهارت هاتين الساقين، لا تعرف أن المرأة تُسمّيها "لَوزيّة العينين"، ولا تعرف المرأة أن "سيمويا" تُسمّيها "حُلوة الساقين".

عادت إلى البيت، نادَتْ جدّتها، جاءها الردّ من المطبخ.

"أنا هنا"

ذهبَتْ إليها، وجدَتْها تصنع بعض معجّنات الجبن.

"رائحة جميلة"، قالت "سيمويا".

"أنتِ الجميلة"، قالت الجدّة.

قبّلَتْها "سيمويا" على خدّها، وغادرَتْ إلى حجرتها.

 وضعَتْ حافظة الأوراق على المكتب، شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا بيانو، تحمّمَتْ تحت شلال، ارتدَتْ تى- شيرت أحمر، بنطلونًا فضّيًا بخط جانبى أزرق، فتحَتْ الإيميل، وجدَتْ رسالة من مركز الأبحاث بها معلومات، ڤيديوهات، وصور عن المهمة الجديدة، نقَلَتْ نسخة منها إلى ملف أسمته "النقطة الزرقاء".

المطبخ، تحدّثَتْ "سيمويا" إلى جدّتها أثناء العشاء عن المهمة الجديدة، والسفر صباح الغد.

 "كم تبقين هناك؟"

 "لا أعرف تحديدًا، سأتصل بك"

مسَحَتْ شعر جدّتها الأبيض الطويل.

"أُحبك جدّتى"

عادت إلى حجرتها مع فنجان قهوة، وضَعَتْه فوق الكوميدينو، غيّرَتْ موسيقا البيانو إلى صوت طبيعى لماء يترقرق داخل غابة، التقطَتْ حافظة الأوراق من سطح المكتب، جلسَتْ متربّعة بمنتصف السرير، أخرجَتْ أوراقها، وضَعَتْها تحت عينيها، تأمّلَتْ كلمة "الليل"، زرقاء، وجميلة، سحبَتْ الورقة ببطء كأنما تفتح إحدى بوّابات العالم، تركَتْها جانبًا، وبدأتْ تقرأ.

 

الليل

لم أعرف ماذا حدث.

رأيت الظلام لأول مرة فى حياتى، كان الوقت منتصف ليلة ثلاثاء، الموعد الإسبوعى الذى أُضيف فيه مواد جديدة إلى موقع إلكترونى أنشأتُه بنفسى، وقَسّمْتُه إلى أبواب متنوعة، تأتينى مواد من كل مكان فى العالم، قصص، أخبار، صور، ڤيديوهات، أشعار، مقاطع من روايات، مقالات، أغان، أفلام، كُتب، وموسيقا، جَعلَ منى الموقعُ اسمًا معروفًا بشكل جيّد، رغم أنى أنشأته قبل عام واحد من الحادثة، حادثة الليل والنهار، وكنت ما أزال فى السنة الأولى من عملى بالصحافة بعد تخرّجى من الجامعة.

لكنى لم أُضِف إليه شيئًا فى تلك الليلة، لأن كل شىء انطفأ.

وحلّ الظلام.

تحوّل حاسوبى إلى قطعة معدن بحجم الكفّ، سمعْتُ رنين موتها على سطح المكتب، فى حالته العادية، وعندما أُطفئه، كان يتحوّل إلى شريحة بحجم الإصبع من معدن شفاف بلا وزن، تتحرك بداخلها ذرات ملونة تنبض بالحياة.

فى تلك الليلة، كان ميتًا، وثقيلاً، حتى إنى بالكاد استطعْتُ أن أرفعه عن سطح المكتب للحظة واحدة.

بحثْتُ بجواره عن الهاتف، كنت قد أجريتُ مكالمة منذ دقائق، ارتطَمَتْ يدى بقطعة معدن أخرى أقل حجمًا، لها ملمس مختلف، لكنها بالموت نفسه، والبرودة نفسها، أدركْتُ أنه هاتفى، حاولْتُ أن أرفعه، بذَلْتُ مجهودًا كبيرًا ولم أُحرّكه إلا ملليمترات.

شعرْتُ أنى مع جُثّتين.

تركْتُ مكتبى، تَحَسّسْتُ طريقى إلى النافذة، نظَرْتُ عَبْرَ زجاجها، رأيت العالمَ مُطفأ، كيف يمكننى أن أراه إذا كان مُطفئًا، فهمْتُ ذلك بعد قليل، لم يكن هناك أىّ ضوء فى الميدان الصغير الذى تطلّ عليه بنايتى، ولا الشوارع المتفرعة منه، أقصد الأضواء الملوّنة التى اعتدتها على واجهات المحلات، الكافيهات، المطاعم، شاشات طيفيّة تعرض لقطات دعائية للأفلام، علامات تدور حول نفسها فى الهواء لتعلن الوقت، درجات الحرارة، كلها مطفأة، فتحْتُ زجاج النافذة بيدى بعد أن تحوّل كل شىء إلى العمل بالطريقة اليدوية، شكرًا لأن النافذة ما زالت تعمل، رأيت السيارات متوقفة وأصحابها يحاولون تشغيلها دون فائدة، البعض يدورون حول سياراتهم، يبحثون فيها عن مصدر الخلل ولا يعرفونه، بينما وقفَ أصحاب المحلات على رصيف الشارع، يتطلّعون إلى العالم المُطفأ، والظلام الذى حلّ عليهم.

كنت أسكنُ فى الطابق الرابع، ويمكننى أن أسمع تعليقاتهم.

 يتساءلون "ماذا حدث؟ كل هذا الظلام؟"

 انتبهْتُ إلى نور هادئ يسيل فى الميدان والشوارع، إذن لم يكن العالم مُطفأ، شعرْتُ أن هذا النور يستعيد مملكته الضائعة، وضِمْن هذه المملكة كان بيتى، نافذتى، وحجرتى، بَدَا لى متواضعًا بطريقة ما، تتبّعتُه، لم يكن مصدره أىّ شىء على الأرض، إنه القمر، مكتمل، وجديد، كأنه أول قمر يظهر فى العالم، شعرْتُ به يداعب وجهى، لا بد أنى ابتسمْتُ له، اعتادت عيناى نورَه بعد لحظات، رأيت الميدان والمبانى بوضوح كاف، قِطَعٌ إنسانية تجلس فى الكافيهات، وأخرى فى الميدان، السيارات هامدة كأنها لم تتحرك يومًا، العلامات الضوئية التى تعلن الوقت ودرجات الحرارة، الشاشات الطيفية التى تعرض مقاطع الأفلام، ودعايات الأعمال الفنية، كلها مُلقاة فى الهواء، ليست طافية ولا مُعلّقة، إنما جثث مُعتمة من أثير، مثلما تُلقَى جثة على الأرض.

 الوقت ما زال كما هو، منتصف الليل.

فكّرْتُ.

 لمَعَ فى رأسى شىء قرأتُ عنه كان يحدث فى أزمنة سابقة، يُسمّى "انقطاع التيار الكهربائى"، قلت لنفسى بصوت مسموع "ما هذه الأفكار، بينورا؟"، لم أصادف هذا الشىء الغريب فى حياتى، حَسْب ما أذكر على الأقل، شَمَمْتُ رائحة شيكولاتة خفيفة تأتى من خلفى، عرِفْتُ أنها جدّتى، استدرْتُ إليها، كانت تنظر إلىّ بعينين مضيئتين، هناك شىء أكثر صفاء من الضوء فى عينيها، شعرْتُ أنها ترانى بوضوح رغم الظلام، أو بسببه، ابتسمَتْ عيناها لى، نادرة هى العيون التى يمكنها أن تبتسم، أُفكّرْ أن ابتسامة العيون أجمل كثيرًا من ابتسامة الشفتين، يمكن للشفتين أن تبتسما فى أىّ وقت تقريبًا، وتكون ابتسامتهما زائفة أحيانًا، لكن العيون لا تبتسم إلا إذا أرادت ذلك، لا بد أن تكون سعيدة وراضية كى تفعل، لذا، ابتسامتها دائمًا حقيقية.

 سألْتُ جدّتى "ماذا حدث؟"

قالت "لا شىء يدعو للخوف، بينورا، انقطعَتْ الكهرباء"

 أفلَتَتْ منى ضحكة، حدَثَ بالفعل الشىء الذى قرأتُ عنه، إذن ليس علىّ أن أقلق، فقط أنتظر قليلاً، ربما عدّة دقائق، وتعود "الكهرباء المنقطعة"، هاهاها، لا أحد يستطيع أن يلومنى على ضحكة أخرى.

 لكن، لماذا تحوّلَ حاسوبى وهاتفى إلى معدن ميّت؟ ما قرأته أن انقطاع الكهرباء، هاهاها، لا يُحوّل الأشياء.

 "أُشعل شمعة"، قلتُ وأنا أمرّ بجوار جدّتى، رأيت عينيها فى الظلام، ارتبكْتُ كأنى أراهما للمرة الأولى، هذا صحيــح بطريقة ما، كنت لأول مرة أراهما فى مثل هذه الظروف، أدركْتُ أنهما ليستا مُضيئتَين، إنما منوّرتَين، مثل أن توقد شمعة فى الظلام، نور الشمعة الهادئ، لا أحد يصف لَهَب الشمعة بأنه نار، إنما نقول "نور الشمعة"، وفى أعنف توصيف يمكن أن نقول "لهب الشمعة".

عينا جدّتى لَوزِيّتَى الشكل، لهب الشمعة أيضًا أقرب إلى شكل اللوزة، ابتسمْتُ للعلاقة التى توصّلْتُ إليها بين عينى جدّتى ولهب الشمعة، اللوز والنور.

 أخرجْتُ من درج مكتبى شمعة عطريّة ملونة، أكشف الآن بعض أسرارى الصغيرة، كانت لى عادات كلاسيكية أمارسها من وقت لآخر، يمكن اعتبارها نوعًا من الرومانسية، مثل أن أحتفظ بشموع فى أدراجى، مشابك شَعْر صغيرة، حتى لو لم أكن أستعملها إلا نادرًا، أقلام بأشكال وأحجام وألوان مختلفة، أضعها على سطح المكتب، وبالطبع أوراق، أحيانًا أستعمل القلم والورق بدلاً من الكتابة على الحاسوب، قليل جدًا مَنْ يفعل ذلك، ومِن وقت لآخر أُطفئ نور حجرتى، أُشعل شموعى، أُشغّل موسيقا هادئة، وأقضى ليلتى كأنى حلم، أو روح طافية.

أمارس هذه العادات الرومانـسية، البطيئة، كى أُبطئ سرعة العالم قليلاً، فأشعر بإيقاع الوقت وعمقه، كيف أُفسّر ما قلته للتوّ؟ ربما يعنى هذا أن يكون للأشياء حضور أقوى فى حياتى، أو من أجل أن يكون لدىّ حكايات أحكيها، يعجبنى التفسير الأخير.

كانت شمعة بلون كلاسيكى، الأحمر، ورائحة كلاسيكية، الياسمين، أشعلتُها، وضعْتُها على سطح المكتب، وزّعَتْ لمسات من الضوء على مفردات الحجـرة، نظرْتُ إلى مُنبّه بجوار فراشى، 12:00:00:00، وساعة على شكل نصف تفاحة عند مدخل الحمّام، عقاربها الأربعة متوقفة عند الثانية عـشرة.

 تعطّلَتْ الساعات؟ ما علاقة هذا بما يُسمّى "انقطاع الكهرباء؟!" هاهاها، لا بد أنى سأستطيع يومًا أن أمنع نفسى عن الضحك كلما قلت هذه الجملة، أفضّلُ ألا أضطر لقولها ثانية.

وقفْتُ بجوار جدّتى عند النافذة، أتأمّلُ معها العالم، كانت هادئة، كأنها تعرف شيئًا، أو تشعر بشىء تجاه ما حدث، ولا تريد أن تحدثنى عنه.

 قلت "توقفَتْ الساعات عن العمل"

 قالت "القمر جميل"

 ابتسمْتُ له، يوشك أن يتحدث إلينا، إلينا جميعًا.

"بلوبا"، الروبوت، كيف نسيته، ربما لأنى لم أحصل عليه إلا منذ أيام قليلة، أهدته لى صديقة فى عيد ميلادى، كدْتُ أصطدم به وأنا فى طريقى إلى حجرته، كان واقفًا بمنتصف الردهة، تطلّعْتُ إليه لحظات حتى اعتادت عيناى العتمة ورأيته بشكل كاف، عيناه مطفأتان، إحدى قدميه ممدودة إلى الأمام فى وضع المشى، يمسك بقطعة شيكولاتة من نوعى المُفضّل، كان فى طريقه إلىّ، همَسْتُ باسمه، لم يُبْدِ أىّ ردّة فِعْل، لديه نسخة من ملفاتى الموجودة فى حاسوبى، فكّرْتُ أنه ربما ينقذها لى، لم يفعل، حاولْتُ أن أسحب قطعة الشيكولاتة من يده، متشبّث بها، يُصرّ أن يعطيها لى بنفسه، ربما تستطيع بعد قليل.

 "شكرًا بلوبا"، وعُدْتُ إلى حجرتى.

أوشكَتْ الشمعة على الانتهاء، روحها الياسمينة تُرفرف فى الحجرة، جدّتى عند النافذة، أخرجْتُ من درج مكتبى شمعة لها رائحة بنفسجيّة، باغتنى شعور أنى لن أستعيد حاسوبى ثانية، كان من المبكر أن يراودنى هذا الشعور، الأمر حتى الآن ليس أكثر من انقطاع الكهرباء، هاهاها، حتى إنى لا زلت أضحك، لكن يحدث أحيانًا أن ينبض شىء بداخلك، وترى نقطة فى المستقبل، تراها كاملة، واضحة، غير قابلة للشك، فتشعر بمزيج من شجن وسرور غامض، سرور لأنك عرفت شيئًا من المستقبل، وشجن لأن هذا الشىء ليس فى صالحك.

الغريب أنى لم أشعر بالغضب أو الحزن لفقدانى حاسوبى، فكرْتُ، كنت أحزن لأقل من هذا، فهمْتُ الأمر سريعًا، ما فقدْتُه يتجاوز الغضب وأىّ شعور آخر، ليس لدى ردّة فعل أعرفها تجاه فقدانى حاسوبى، لم أتخيّل حدوث هذا، بإمكانى أن أتخلّى عن أىّ شىء عداه، عالمى كله معه، رأيتُنى دون أىّ شعور بالندم أو الخسارة أقف عارية، وحيدة، فى صحراء بلا نهاية، تأمّلْتُنى من بعيد، بذلك العرى، تلك الوحدة، وفى النهاية كان علىّ أن أُنقذنى، أشفقْتُ على نفسى، مشيتُ إلىّ كل تلك المسافة، قبَضْتُ على يدى، لكنى أنا العارية لم أشعر بالقبضة، حاولتُ أن أعيدنى إلى عالمى، لكنى أنا الوحيدة كنت صخرة نبتَتْ فى المكان، حاولْتُ أكثر، وأخيرًا استطعْتُ أن أنتزعنى من هناك وأعود بى، كنت أعرف أنى سأفكر فى حجم خسارتى فيما بعد، لكن ليس الآن، علىّ أن أنقذ هذه الشابة العارية، الوحيدة، خاصة أنها لم تُخطئ، لم تلمس زرًا أو مربعًا خاطئًا مثلاً، ليس هناك ما ألومها عليه.

شعرْتُ بجوع شديد، ربما بسبب الصحراء التى مشيتُها كى أُعيدنى، فكّرْتُ أنْ أُعدّ بعض فطائر البيتزا، يمكننى أن أتظاهر بأنى مشغولة بها عن التفكير فى حاسوبى، ولو قليلاً، وافَقَتْ جدّتى، أشعلْتُ شمعتين، أمسَكَتْ كلٌ منا بواحدة ومشينا إلى المطبخ، خشيتُ أن يكون الماء والغاز أيضًا قد انقطعا، فتحْتُ الماء، أشعلْتُ الغاز، "شكرًا، لدينا ماء ونار".

أنا ماهرة فى صناعة البيتزا، لأنها تعتمد بالأساس على الدقيق الذى أحبه بشكل خاص، ملمسه، رائحته، ودرجة دفئه التى تمنحنى حالة من الطمأنينة، أفكر لو أنه بشرىّ لكان شابًا فى منتصف الثلاثين، حنونًا، هادئًا، مَرِحًا، به لمسة من خجل لا تعيبه، ولا يُتوقّع منه خيانة.

 نثرْتُه على الطاولة الرخامية، وقفَتْ جدّتى عند النافذة، تأمّلَتنى وهى تميل برأسها على كتفها قليلاً، أُحبها عندما تفعل ذلك، أعرف أنى سأقع فى غرام شاب يُصوّب لى تلك الضربة القاضية، أنْ يميل برأسه قليلاً على كتفه مثلما تفعل جدّتى، كان نور القمر يلامس ظهرها ويتبعثر حولها، شعرْتُ أنها فى حاجة لرسّام يرسمها، الحقيقة أنّ أىّ رسام فى حاجة لمنظر كهذا ليرسمه.

أصنع البيتزا فى حالات خاصة، مثلاً، عندما أريد أن أخلق أجواء احتفالية خفيفة، أو أثناء سهراتى مع جدّتى، أُعدّها أيضًا لأصدقائى المُقرّبين، ربما يأتينى أحدهم حزينًا، متخاصمًا مع العالم، أدخل به المطبخ، نتحدث بينما أُجهّز عجينة البيتزا، أبدأ معه بكلام بعيد عن مُشكلته، حتى ندخلها بطريقة سلسة، كأنها شىء عارض فى العالم، أُدخلُ البيتزا الفرن، نُكمل حديثنا حول طاولة صغيرة بوسط المطبخ، وقد تعمّدْتُ أن أنثر على سطحها طبقة رقيقة من الدقيق، وما زالت آثار العجين بيدى، ما يُشعرنى أن بى شيئًا أموميًا، طفوليًا، الأم الطفلة، يساعدنى هذا الشعور فى تفكيك ما يحكيه صديقى أو صديقتى، ورؤية التفاصيل بشكل صاف، نرسم بأصابعنا خرائط فى طبقة الدقيق، نكتب كلمات، كأننا نبحث عن طريق للخروج من متاهة، تتصاعد رائحة البيتزا، تصير الدنيا طيّبة، أحرص أن يكون رفيقى مستعدًا للبيتزا قبل أن أُخرجها من الفرن، على الأقل نكون فى طريقنا للخروج من المتاهة، لا أحد يقابل بيتزاتى الجميلات بوجه حزين.

 نخرج من المتاهة أثناء تناولنا المثلثات البرتقالية الدافئة، ويصير العالم فى النهاية سهلاً.

 لا أصنع البيتزا لو كنت حزينة أو غاضبة، لا أُفرغ هَمّى فى معجناتى، أُفضّل أن أضع فيها جزءًا من فرحى، ومزاجى الحلو، لكن، ما الذى يجعلنى الآن فى مزاج حلو، بِمَ أحتفل، لا أعرف، أشعر بحماس، ربما بسبب تلك الحادثة الغريبة، التى من المُفترض أن تُشعرنى بالقلق، خاصة وقد أفقدتنى حاسوبى، ولا أعرف ما تفعله بى فيما بعد، لكنى لا أستطيع منع نفسى أن أتحمّس لكل جديد، وأتفاءل به، حتى لو كانت بداياته مُربكة، وليست فى صالحى، الأحداث والأفكار الجديدة تُبقينى على قيد الحياة.

سألْتُ جدّتى أثناء تجهيزى عجينة البيتزا إن كانت صادفَتْ من قبل ما يُسمّى انقطاع الكهرباء.

قالت "مرّتين، ولم يستمرّ غير ثوان"

"هل تحوّل أىّ شىء إلى شىء آخر؟"

 "لا أعتقد"

 "إذن ما حدث ليس انقطاعًا للكهرباء"

 جلَسَتْ جدّتى إلى الطاولة.

"ماذا تعتقدين أن يكون؟"

 تأمّلْتُها لحظة.

 "لماذا أشعر أنكِ بطريقة ما تعرفين حقيقة ما حدث؟"

 أمالت رأسها على كتفها قليلاً وهى تنظر فى عينىّ دون كلام.

 كانت هذه علامة على أشياء كثيرة، أفهم منها الآن أنها لا تريد أن تكمل الحوار.

 أَدخلْتُ بيتزاتى الفرن.

بالمناسبة، أنا كَذِبْتُ، ليس حقيقيًا أن كل أصدقائى يخرجون من المتاهة عندما أصنع لهم البيتزا، يبقى بعضهم بداخلها، لكن من الجيّد لك وله، أنْ تمشى مع أحدهم فى متاهته ولو قليلاً.

 بعض أصدقائى أيضًا يقابلون بيتزاتى الجميلات بوجه حزين، وهذا لم يقتلنى.

بمناسبة الكذب، يمكننى أن أتفهّم عندما يكذب علىّ أحدهم، وأتسامح معه، ليس لأنى أكذب أحيانًا، وهذا يحدث، لكن لأن الإنسان فى رأيى هو البيئة الطبيعية للكذب والصدق، إن لم يكن باستطاعة كائن ما أن يختار بين ضدّين، فلا يمكن القول أنه فَعَلَ أحدهما، والإنسان لديه القدرة، على الأقل فى معظم الأحوال، أن يختار بين الصدق والكذب.

 أفكّر أن الكذب مثل التشرّد، يظل موجودًا طالما الإنسان موجود، فقط يكون من الجيّد لو أن كذْبنا غير مؤذ للآخرين، عندها يكون الجميع سعداء.

عُدنا إلى حجرتى بعد أن أكلنا البيتزا، تمدّدْتُ فى سريرى، قالت جدّتى وهى تنظر من النافذة إن بإمكانى النوم، وستبقى هى مستيقظة، لكنى لم أكن لأنام فى كل الأحوال، لدىّ إحساس أن الكهرباء لن تعود، أريد أن أتابع ما يحدث، وإذا عادت، لا بد أن أكون فى انتظارها، وأرى كيف يعود حاسوبى إلى طبيعته، وتدور السيارات فى الشوارع، رغم معرفتى بأن ليس لها علاقة بأىّ من هذا.

سمِعْتُ تعليقات بعضهم فى الميدان، حتى بدأتْ أصواتهم تخفْتُ وهدأ كل شىء.

 "سأنزل جدّتى"

"ليس الآن، من فضلِك"

 شعرْتُ لوهلة أنها تعرف الوقت المناسب للنزول، جاءت بمقعد قُرْب سريرى، جلسَتْ، نظرَتْ إلى القمر.

 قالت "تسمعين ما أسمع؟"

 أَنْصَّتُ لحظات.

 "لا أسمع شيئًا"

 استرخَتْ فى جِلْسَتها، أغمضَتْ عينيها، رأيت ابتسامة فى ملامحها.

"ما الذى تسمعينه جدّتى؟"

"لا تقلقى، تسمعينه قريبًا"

 "ما هو؟"

لم ترد.

شعرْتُ بعد قليل بأُلفة مع الظلام، وأنّ حضورى فى العالم يزداد لحظة بعد أخرى، كأنى صِرتُ حقيقية أكثر، تماهيتُ مع المفردات البسيطة حولى، وأخرى بعيدة لا أعرفها، لكنى أُدركها بطريقة ما، كان الظلام حنونًا مثل رَحِم، لم أعد أشعر بالوقت، أتحرك فى البيت طافية، أتطلّع إلى القمر من نافذتى، أتمدّد فى فراشى مثل ريشة، أتأمّل جدّتى، صحيح أنى لم أسمع ما تسمعه حتى الآن، لكنى أقف عند حدوده.

كنت كلما انتهَتْ شمعة أشعلْتُ واحدة جديدة وثَبّتُها على سطح المكتب، حتى لم يعد هناك مكان لواحدة أخرى، عَدَدْتُ الشموع المنتهية، بحساب تقريبى لما تستغرقه كل شمعة كان من المُفتَرَض أن يظهر النهار منذ ساعتين أو أكثر، نظرْتُ تجاه النافذة، رأيتُ جدّتى تقف هناك، والقمر بمواجهتها، تنظر إليه وينظر إليها، كأنهما وحدهما فى العالم، وقفْتُ بجوارها، منتصف الليل يغطى كل شىء، التفَتُ إليها.

قلت "ماذا الآن؟"

"تأخّرَ النهار"، قالت جدّتى ببساطة، وكأن الأمر يحدث كل يوم.

 

(2)

استيقظَتْ "سيمويا" قبل السابعة صباحًا بدقائق، لمَعَ فى رأسها ما قرأته الليلة الماضية، نظرَتْ إلى أوراق "الليل" فوق الكومودينو، تلفّتتَ حولها لتتأكد إن كانت أشياءها ما تزال موجودة، الحاسوب طاف على سطح المكتب، بجواره الهاتف، مُنبّه فوق كومودينو على الجانب الآخر من السرير، 6:55:31:07، نهضَتْ، فتحَتْ النافذة، شعرَتْ كأنها ترى النهار لأول مرة، ابتسمَتْ، مدّتْ يدها خارج النافذة ولَمَسَتْه.

"فكّرْتُ للحظة أنك غير موجود"، قالت بصوت مسموع.

نقلَتْ عينيها فى زوايا الميدان الذى تطلّ عليه البناية، صغير، دائرىّ، تتفرّع منه أربعة شوارع، راقبَتْ السيارات، المارة، كل شىء ينساب بشكل طبيعى، الشاشات الطيفية تدور حول نفسها فى الهواء وتعرض لقطات الأفلام، أخبار، درجات الحرارة، والوقت، المحلات والمقاهى تمارس حياتها العادية، بدا لها الأمر لوهلة مثل معجزة.

قالت لنفسها "صباح الخير سيمويا"

عادت إلى أوراق "الليل"، ابتسمَتْ لها، نَقَرَتها بسبابتها مرتين كأنما تعاتبها.

 "أنتِ"

شعرَتْ بتعاطف مع الشابة "بينورا" لفقدانها حاسوبها، ماذا لو أن الأمر حدث معى، تساءلَتْ، مَحَتْ الفكرة فى الحال.

فكّرَتْ أن تقرأ بعض الأوراق، سحبَتْ الورقة الأولى، تراجعَتْ عن فكرتها، لم يعجبها أن تقرأ بهذه الطريقة المُتعجلة كأنها تطالع خبرًا ما، أرادت أن يظل للأمر خصوصية مثلما كان الليلة الماضية، أعادت الورقة، شَغّلَتْ من الحاسوب موسيقا كمان مع فلوت، أخرجَتْ من ثلاجتها الصغيرة قطعة شيكولاتة، قضمَتْ زاويتها بطرف أسنانها، فكّرَتْ فى جدّتها، لا بد أنها فى المطبخ الآن تُعدّ لها شيئًا خاصًا قبل أن تسافر، من الجيّد لو ألقَتْ عليها تحية الصباح قبل أىّ شىء، أعادت بقية الشيكولاتة إلى الثلاجة، غادرَتْ حجرتها، شمّتْ رائحة دافئة تعرفها، توقفَتْ فى فتحة باب المطبخ، رأت جدّتها تمسك بصينية صغيرة بها بيتزا نضجَتْ لتوّها.

 "صباح الخير جدّتى، أشم رائحة البيتزا"

"أحببت أن تأكلى منها قبل أن تسافرى، صباح الخير"، وضعَتْ الصينية على لوح رخام مُثبّتْ بشكل متعامِد مع أحد جدران المطبخ.

 دخلَتْ "سيمويا"، قرّبَتْ أنفها من البيتزا.

"أحب هذه الرائحة"

أخرجَتْ الجدّة بيتزا ثانية من الفرن، وضَعَتْها بجوار الأولى، أشارت إلى الطاولة بمنتصف المطبخ.

"اِجلسى هنا حفيدتى، البيتزا خلال دقيقتين"

"هل يمكن أن أستحم أولاً؟"

"لا، لن ينهار العالم لو تحمّمْتِ ثانيًا"

"لن أقاوم مُتسلّقة جبال"

جلسَتْ "سيمويا" إلى الطاولة، نظرَتْ إلى جدّتها.

قالت "اخترْتِ الجبل الذى تتسلّقينه هذا العام؟"

"ليس بعد، لم أنتهِ من مشاهدة الأفلام التى وصلتنى بالأمس، ربما أطلب أفلامًا أخرى"، قالت الجدّة وهى تنقل البيتزا إلى طبقين مُسطّحَين، وتُقطّعها.

قالت سيمويا "أنتِ تتسلّقين الجبال، وأنا أتتبّع قصة حياتها"

وضعَتْ الجدّة طبقى البيتزا على الطاولة، وجلَسَتْ.

قالت "تعرفين، لو توقفْتُ عن تسلّق الجبال أموت، لا بد أن أتَسلّق كل عام جبلاً لم أتسلّقه من قبل، لا يكفينى أن أُلقى محاضرات أو أُعلّم الآخرين، أُحب أن أتعامل وحدى مع الجبل، أشعر به ويشعر بى"، سحبَتْ نفسًا عميقًا كأنها تستدعيه من مكان بعيد.

"الهواء الذى أتنفّسه على قمة جبل أصعده يُبقينى حيّة حتى التسلّق التالى"

قالت سيمويا "الوقوف على قمة جبل من أجمل الأشياء التى يفعلها إنسان فى حياته"

"لكن الشعور يختلف حسب طريقة الوصول إلى القمة، أن يصل أحدهم مُتسلقًا الجبل غير أن يصعد على قدميه أو يحطّ بطائرة، وفى كل الأحوال، لا أحد يستطيع أن يصفَ شعوره بالضبط، لا يمكن القبض على تلك اللحظة، هى سِرّ مثلما للجبل سِرّ، حتى إن الإحساس يختلف من قمة جبل إلى أخرى، يبقى ذلك الخيط المشترك، لكن لكل جبل خصوصيته"، نظرَتْ الجدّة بعيدًا مبتسمة كأنما تتفرّج على نفسها فوق قمة جبل، انتبهَتْ بعد لحظات، التفتَتْ إلى "سيمويا".

"ماذا فعَلْتِ بى، بدأتِ الكلام عن الجبال نسيتُ أنا البيتزا وكل شىء"، قطفَتْ مثلثًا من البيتزا خاصتها، مدّتْ يدها به إلى "سيمويا"، أخذَتْه، قضمَتْ منه، تباطأت فى المضغ كأنما تذكّرَتْ شيئًا.

"جدّتى، هل حدث وجَرّبْتِ ما يسمى انقطاع الكهرباء؟"

رفعَتْ الجدّة حاجبَيها قليلاً.

"انقطاع الكهرباء؟ غريب"، فكّرَتْ لحظة.

"نعم، مرتين، وكُنتِ معى فى الثانية"

هزّتْ "سيمويا" رأسها إشارة إلى أنها لا تذكر.

"يُمكنكِ أن تتذكرى ذلك، كان عيد ميلادك الثامن"

وضعَتْ "سيمويا" قطعة البيتزا فى طبقها.

 أكمَلَتْ الجدّة "قضينا النهار كله فى مدينة ألعاب، تناولنا العشاء فى مطعم به أنواع كثيرة من المُعجنات، اخترتِه بنفسك، وفى طريق عودتنا قابلنا مُهرّج متجوّل قدّم لك فقرة خاصة، واشتريتُ لنا حلوى مثلجة، لكن بمجرد خروجنا من المحل، قبل حتى أن نتذوقها، انقطعت الكهرباء، كأن العالم انطفأ، صرخْتِ أنتِ وخبّأتِ وجهكِ بين ساقى، لطّخْتِ وجهكِ وملابسى بالحلوى"

"المهرّج، تذكّرْت"، همسَتْ "سيمويا" وهى تمسح بيدها جانب وجهها.

"أشعر ببرودة الثلج على وجهى"

"عُدنا إلى المحل، غسَلْتُ وجهكِ ونظّفْتُ ملابسى، ورفضَتِ أن تخرجى حتى وعدتُكِ أن قمرًا كبيرًا ينتظرك بالخارج، ورأيتيه بنفسك من نافذة المحل"، صمتَتْ لحظة.

"لن أنسى عينيكِ وأنتِ تنظرين إليه وقتها"

قالت "سيمويا" كأنها تتكلم من داخل حلم "اشترَيتِ لنا حلوى جديدة، وحملتينى إلى صدرك"

"كى تكونى قريبة من القمر، هكذا قلتُ لكِ، تجوّلتُ بك فى الشوارع وأنت تحدّقين به، وكلما نظرْتُ إليكِ رأيتُه منعكسًا فى عينيك الاثنتين، وبعد أن عدنا إلى البيت جلسْتِ فى النافذة تنظرين إليه حتى عادت الكهرباء بعد ساعتين، كان غريبًا أن تنقطع كل هذا الوقت، أن تنقطع بالأساس"

ابتسمَتْ "سيمويا".

قالت "طوال هذه السنوات، كانت تفاصيل تلك الليلة تمرّ فى ذاكرتى من وقت لآخر مثل طيف، الحلوى المثلجة، وجهى البارد، تحديقى بالقمر الكبير، والمهرّج، لكنى لم أعرف أبدًا أن انقطاعًا للكهرباء أو شيئًا كهذا قد حدث"، صمتَتْ لحظة، نظرَتْ بعيدًا.

"ومن وقت لآخر يأتينى ذلك الحلم، أرانى وأنا أمشى فى شوارع يُضيئها قمر كبير أُحدّق به، وبيدى حلوى مثلجة، أحيانًا تكونين معى، وبيدك الحلوى خاصّتك، نتجوّل فى نور القمر والعالم هادئ حولنا، والمُهرّج يظهر لى ويختفى، أشعر داخل الحلم أنى سأقضى عمرى كله وأنا أمشى فى الشوارع وأنظر إلى القمر"، نظرَتْ إلى جدّتها.

 "الآن فقط أعرف، هذه الليلة حقيقية"

أومأتْ الجدّة، وابتسمَتْ.

قالت سيمويا "عندما انقطعتْ الكهرباء لم يتحوّل شىء إلى شىء آخر، صحيح؟"

"لا، لم يحدث، حسب ما أعرف"، قالت الجدّة وألقتْ نظرة على طبق "سيمويا".

 "والآن، هل يمكن على الأقل أن تنهى مثلث البيتزا الأول؟"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة.

"شكرًا جدّتى، شَبِعْت، وعلىّ أن أستعد للسفر"

عادت إلى حجرتها، غسَلَتْ أسنانها، تحمّمَتْ بمطر خفيف، ارتدَتْ كيلوت أزرق مرسومًا فيه سمكة، سوتيانًا أحمر داكنًا فيه نحلة، قميصًا برتقالى شروق الشمس، بنطلونًا كريمى، وحذاء من قماش بنفسجى.

لمَسَتْ أحد المربعات فى شاشة الحاسوب، تحوّلَ إلى قطعة شفافة بحجم إصبعين، أدخَلَتْه جيبها، أخرجَتْ من دولابها حقيبة ظهر بُنيّة، وضَعَتْ فيها أوراق "الليل"، ثلاث قطع شيكولاتة، وأدوات عملها: شاكوش صغير من الفضة، فرشـاة ناعمة كأنها فرشاة أسنان كبيرة، تستخدمها فى تنظيف عيّنات الصخور وغيرها، عدسة مُكبّرة قُطرها عشر سنتيميترات، زمزميّـة ماء، كاميـرا، ثلاثة كتب أحدها رواية، قُبّعتَين من قمـاش، أوراق، أقلام، مُذكّرات صغيرة لتسجيل الملاحظات، حذاءان قويّان يناسبان المشى فى الصحراء، حزام خصر عريض به جيوب وحلقات معدنية لتعليق الشاكوش وأشياء أخرى، أضافت بعض الملابس فى حال لم تتمكّن بسبب ظروف العمل من استعمال طريقـة الحاسوب لارتداء ملابسها، وحرِصَتْ أن يكون أغلبها مناسبًا لطبيعة العمل فى مواقع البحث الچيولوچى.

وضعَتْ الحقيبة على ظهرها، غادرَتْ إلى المطبخ، توقفَتْ بمواجهة جدّتها عند النافذة، تأمّلَتْ عينيها قليلاً.

"تمَنّى لى جدّتى"

ابتسمَتْ الجدّة.

"أتمنى لك رحلة تُسعدك"

"أُحبك"، قالت "سيمويا"، وقبّلَتْها على خدّها.

قالت الجدّة "انتبهى لنفسك"

 "سأحاول"

غادرَتْ "سيمويا" البيت، استعملَتْ السلّم للنزول.

وصلَتْ إلى المكان الذى صادفَتْ فيه فتاة الأوراق بالأمس، احتارت لحظة، هل تتمهّل قليلاً ربما تظهر وتعطيها شيئًا جديدًا، أم تُسرع قبل أن تعترض طريقها وتأخذ منها الأوراق, لم تعرف "سيمويا" ما فعلَتْه وقتها.

  دخلَتْ مركز الأبحاث عند الثامنة والنصف، قابلَتْ "دوفو" فى مكتب المدير، تحدّثَ معهما لدقائق، غادرا إلى باحة خلفية حيث تنتظر الهليكوبتر وطيّاريَن اثنين، أحدهما على الأرض لاستقبالهما، والآخر على مقعد القيادة، دخلَتْ "سيمويا" وهى تلوّح له.

 "صباح الخير"

 "آها، سيمويا"، قال الطيّار وأومَأ برأسه.

 جلسَتْ على مقعد فردى بجوار نافذة، وضعَتْ حقيبتها على الأرض، جلس "دوفو" على المقعد المقابل، دارت المحركات، ارتفعَتْ الهليكوبتر، التفتَ قائد الطائرة إليهما.

"أهلاً بكما، سيمويا، دوفو، مدة الرحلة 12 ساعة، أنصحكما ألا تسترخيا، اصنعا جلَبَة كبيرة، آها"، وغمزَ لهما بعينه.

أخرج "دوفو" حاسوبه من جيبه، وضعَه على مسند أمامى مُثبّتْ بالمقعد، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "قرأتِ شيئًا عن المهمة هذه المرة؟"

"القليل من كل شىء، كالعادة"، وابتَسمَتْ.

"لدينا عدد كبير من المواقع لندرسها"

"هذا يعنى معرفة أسرار أكثر عن العالم"

"أيهما أكثر إدهاشًا لكِ، اكتشاف السرّ أم البحث عنه؟"

فكّرَتْ، هزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا.

"لا دهشة بدون بحث، ولا بحث بدون سرّ"، أمالت رأسها على كتفها، حرّكَ "دوفو" يده على شكل موجة.

نظرَ كلٌ منهما عَبْرَ نافذته، رأيا تشكيلات من سحاب أبيض وأزرق، يتخلّلها نور فضىّ، ظهرَ سرب طيور فى جهة "دوفو"، التفَتَ إلى "سيمويا".

 "انظرى"، أشار إلى خارج النافذة.

 انتقلَتْ إلى جانبه، لوّحَتْ للطيور.

"صباح الخير، أنا سيمويا"

 نظرَ السربُ إليها، غير أن أيًا منهم لم يذكر اسمه، اقتربوا من النافذة، طيور برأس خضراء، منقار أصفر، صدر أسود لامع، أجنحة ذهبية، ظلوا بمحازاة الطائرة لثوان كأنهم يسابقونها، وبدأوا ينسحبون إلى الخلف واحدًا بعد الآخر، ببطء أولاً، ثم دفعة واحدة كأن شيئًا يجذبهم من ذيولهم البرتقالية. 

عادت "سيمويا" إلى مقعدها.

"برأيك دوفو، إلى أين يتجهون؟"

"تريدين الواقع أم الخيال؟"

"الخيال"

"ليس إلى أىّ مكان، يطيرون إلى الأبد"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة.

"أحبَبتُ هذا"

أخرجَتْ من حقيبتها قطعة شيكولاتة، قضمَتْ زاويتها بطرف أسنانها، استدارت بجسمها كله إلى "دوفو".

قالت "أفكر، لو كان باستطاعة الإنسان أن يطير بنفس السهولة التى يمشى بها، أيهما يكون ممتعًا له أكثر، الطيران أم المشى؟"

 ألقى نظرة خلفها عبْرَ النافذة.

"أُفضّل المشى"

"لماذا لستُ مندهشة؟"

"الطيران يحرمك أن تشعرى بتفاصيل العالم، كل الغابات ترينها بالأسفل مجرد لون أخضر، البحار والمحيطات أزرق، الجبال حصوات كبيرة، الشوارع والطرقات خطوط رفيعة"، نقلَ عينيه بين عدة نوافذ.

 "انظرى حولك، ماذا يمنحك الطيران غير السحاب والهواء النقى؟"

"أليس هذا جيدًا؟"

"ما رأيك أنتِ؟"

"امممم، أعتقد أنه يكون مملاً بعد وقت ليس طويلاً؟"

"هذه واحدة"

"ولا يمكننى الإمساك بالهواء أو السحاب"

"الثانية"

"لكنه آمن"

"وهى الثالثة، الطيران آمِن طوال الوقت، أو على الأقل لوقت أطول من اللازم، ما يُشعركِ بالملل، أما المشى، يمكنكِ أن تحصلى معه على مفاجأة فى الخطوة التالية، شىء لا تتوقعينه، هناك خطر محتمل"

"ألا يُغرى هذا بأن يكون الطيران مُفَضّلاً على المشى لدى كثيرين؟"

"لستُ منهم، ولا أنتِ، حسْب معرفتى بكِ، إن لم يشعر الإنسان بالخطر من وقت لآخر تجمّدَتْ روحه، الخطر حياة، والحياة خطر"

اعتدلَتْ "سيمويا" فى مقعدها، نظرَتْ عبْرَ النافذة، رأت بالأسفل لونًا أزرق ممتد، أنهَتْ قطعة الشيكولاتة، طوَتْ غلافها، وضعَتْه فى جيب داخلى بحقيبتها، مرّرَتْ يدها على أوراق "الليل"، فكّرَتْ متى يمكنها أن تقرأ ثانية، تذكّرَتْ شعورها بالارتباك أثناء قراءتها الصفحة الأولى، وكيف اعتادت عيناها سريعًا السطور المكتوبة بخط اليد، شعرَتْ بشىء إنسانىّ وهى تفكر أن شخصًا كتب كل هذه الكلمات بالقلم، دون وساطة من مفاتيح أو أزرار، وأنها ستقرؤها بعينيها مباشرة دون وساطة من شاشة، رأت فى الأمر لمسة رومانسية.

راقبَتْ السحاب، غَفَتْ، رأت نفسها طفلة بيدها حلوى مثلجة، تتجوّل فى شارع واسع تحت قمر مكتمل، انتقلَتْ إلى عدة شوارع، ما زالت الحلوى كما هى، مُهرّج يظهر لها ويختفى، رأت جدّتها تحملها وتمشى بها فى شارع ملىء بنور القمر، المشهد الأخير كانتا تقفان فيه أمام البيت.

فتحَتْ "سيمويا" عينيها، رأتْ عبر النافذة سحابًا ورديًا بحواف فضيّة، نظرَتْ إلى ساعتها، ثم إلى "دوفو"، كان يقرأ رواية.

 قالت "دوفو، لسْتَ جائعًا؟"

التفَتَ إليها.

"انتظرْتُ حتى تستيقظى لنأكل معًا"

"أنا الآن مستيقظة وجائعة، مشيتُ كثيرًا ولم يكن معى غير حلوى مثلجة، حتى إنى لم آكلها"

"حلم الحلوى المثلجة مرة أخرى؟"، أغلَقَ الرواية، وضعَها مكانه على المقعد.

مشى و"سيمويا" إلى مؤخرة الطائرة.

سألَتْه.

"الطيّاران؟"

"تناوبا القيادة والأكل وأنتِ تتجوّلين فى الشوارع بالحلوى المثلجة"

اختارت "سيمويا" سمكًا، أرزًا أبيض، سلاطة خضراء، عصير برتقال، اختار "دوفو" شريحة لحم مشويّة، أرزًا أحمر، سلاطة جزر وزيتون، عصير رُمان.

خلال تناولهما الطعام نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا" كأنما خطرَتْ له فكرة.

قال "بحر ومطر، أيهما يُبلّل الآخر؟"

توقفَتْ "سيمويا" عن الأكل، نظرَتْ إليه، وأمالت رأسها على كتفها.

لم تتوصل إلى إجابة.

كانت هذه إحدى ألعابهما معًا: يسأل أحدهما الآخر سؤالاً مفاجئًا، يبدو بلا إجابة، لديهما سؤال واحد خلال اليوم، يسأله أىّ منهما.

انتَهَيا من طعامهما.

عادا إلى مقعديهما، قرأ "دوفو" فى روايته، شغّلَتْ "سيمويا" فيلم رومانسى من شاشة مقعدها.

بعد الفيلم، نظرَتْ عَبْرَ نافذتها، رأت نورًا برتقاليًا يغطى الأفق، ذهبَتْ إلى قائد الطائرة.

قالت "اقتربنا على الخروج من النهار والدخول إلى الليل؟"

 "لست متأكدًا"

"هل من الممكن أن تخبرنى عندما نقترب؟"

 نظرَ إليها بجانب عينيه.

 قالت "أعرف أنى أطلب منك هذا فى كل مرة، حاول ثانية من فضلك"

 "آها"

"شكرًا شكرًا"

عادت إلى مقعدها، استدارت بجسمها كله إلى النافذة، استندَتْ بأطراف أصابعها على حافتها، نظرَتْ عبْرَ زجاجها، رأت طائرًا لونه أصفر لامع، التفتَ إليها، فتَح فمه وأغلقه مرتين، ربما قال اسمه.

مرّ سحاب له درجات مختلفة من البرتقالى.

عَبَرَتْ الطائرة فوق غابة.

وقرأ "دوفو" أربعة فصول من الرواية.

"آسف سيمويا"، قال الطيّار فى ميكروفون الطائرة.

كانت تُحدّقُ عبْرَ زجاج النافذة، نظرَ إليها "دوفو"، ناداها بصوت منخفض، لم تنتبه، لمَسَ كتفها، التفتَتْ إليه، وجهها شاحب، عيناها أوسع من طبيعتهما.

"أنتِ بخير؟"

أومأتْ من بُعد آخر.

"الطيار يتحدَث إليكِ"

 نظرَتْ عند مقدمة الطائرة.

"آسف سيمويا، الليل"، قال الطيّار، وحرّك يده فى الهواء كأنما أفلَتَ منه شىء.

أغلقَتْ عينيها لحظة، فتَحَتْهما، عادتا لحجمهما الطبيعى.

"شكرًا لكَ على أيّة حال، ربما فى المرة القادمة"، نظرَتْ عبْرَ النافذة، تأمّلَتْ الليل قليلاً، التفتَتْ إلى "دوفو".

قالت "تعتقد أن هناك لحظة فاصلة بين الليل والنهار؟ وإن كانت موجودة هل يمكن الإمساك بها؟"

"ما رأيكِ أنت؟"

فكّرَتْ.

 قالت "هل يمكن أن تفكر فى الليل والنهار على أنهما شىء واحد بتنويعات متعددة، وليسا شيئين مختلفين؟"

"كيف تفكرين أنتِ فيهما؟"

"أنا؟"، نظرَتْ بعيدًا.

"الآن أنا أفكر فى الليل"، انزلقَتْ فى مقعدها قليلاً، نظرَتْ عبْرَ النافذة. هَمَسَتْ لنفسها "الليل، أوراق الليل"

فتحَ "دوفو" حاسوبه، شَغّل فيلمًا وثائقيًا عن طائر النورس، ونام بعد أن شاهده.

فكّرَتْ "سيمويا" أن تقرأ بعض أوراق "الليل"، خشيَتْ أن يراها "دوفو" عندما يستيقظ، وسيعرف على الفور أنها الأوراق التى رآها معها فى مركز الأبحاث، شغّلَتْ فيلم وثائقى عن سمكة تونة، وآخر عن سمكة قرش، مدة كل واحد منهما ثلاثون دقيقة، رأت سمكة القرش مثل امرأة لا تقع فى الحب بسهولة، لكنّ روحها أوّل ما تُقدّمه عندما تَعشق، مسكينة، وضائعة فى عالم كبير، أما التونة، مراهِقة لا تتوقف عن الوقوع فى الحب، تُفصح عن مشاعرها على الفور، وتعتبر العالم مكانًا للعبث.

 فكّرتْ "سيمويا"، ماذا لو أنى سمكة؟ أكون تونة أم قرش؟ شعرَتْ أن السمكتين معًا تناسبانها.

استيقظ "دوفو"، تناول و"سيمويا" وجبة خفيفة، شغّلَ من حاسوبه ڤيديوهات للمواقع التى سيقومان بدراستها، أخرجَتْ من حقيبتها كتابًا عن أشهر أسئلة الأطفال فى العالم.

"ثلاثون دقيقة قبل الوصول إلى النقطة الزرقاء"، قال قائد الطائرة، نظرَ إلى "سيمويا" و"دوفو".

"استَعَدا، مَزّقا ثيابكما، أو دمّرا شعركما، لا يهم، آها"، غمزَ لهما بعينه.

"أنا أمزق ثيابى"، قال "دوفو"، وفتح الزرار العلوى من قميصه.

"وأنا أدمّر شعرى"، قالت "سيمويا"، ومرّرَتْ أصابعها خلال شعرها بشكل فوضوى.

اقتربَتْ الطائرة من الأرض، نظرا عَبْر زجاج النافذة، رأيا صحراء تنقسم إلى لونين، أحدهما أبيض، والآخر أزرق.

عند الساعة التاسعة وعشر دقائق مساءً، هبطَتْ الطائرة فى الصحراء البيضاء، قُرب الخط الوهمى الذى يفصلها عن الزرقاء، استقبلهم رجل يبدو فى منتصف الأربعين من عمره، رَحّبَ بهم، نقلَ عينيه بين "دوفو" و"سيمويا".

قال "ستة أشهر منذ آخر لقاء"

"فى موقع قفزة الغزال"، قال "دوفو".

أومأ الرجل.

" صحيح، أُحب وجودكما معًا"

"شكرًا بيالو"، قال "دوفو" و"سيمويا"، تطلّعَا إلى الصحراء الزرقاء، رأيا هياكل سفن وقوارب قديمة، اللون الأزرق واضح، وبه لمعة خفيفة.

"النقطة الزرقاء"، قال "دوفو".

قالت سيمويا "تبدو لى بحرًا، وليست نقطة"

قال بيالو "نتمنى أن تساعدانا لنعرف ماذا تكون بالفعل، الآن أصحبكما إلى الخيام لتبدّلا ملابسكما، بعدها نتناول العشاء معًا وأُعرفّكما إلى طاقم العمل"، نظرَ إلى الطيّارَين.

 قال "تفضّلا"

مشوا باتجاه خيام ملوّنة، كلٌ منهـا بحجم حجـرة عاديّة، القمر

مكتمل، يكشف مساحات كبيرة، وهناك الكثير من أعمدة الإنارة، بعضها مُضاء.

توقفوا عند خيمتين متجاورتين، أشار "بيالو" إلى الزرقاء منهما.

"خيمتكِ سيمويا"، وأشار إلى البرتقاليّة.

"هذه لكَ دوفو"، نظرَ إلى خيمة قريبة مُخَططة بالأصفر والأبيض.

"وأنا هناك، أنتظركما عندما تكونان جاهزَين"

قالت سيمويا "هل يمكن أن أعتذر عن العشاء، أشعر ببعض الإرهاق"

"لا مشكلة، كل ما تحتاجينه فى خيمتك"، نظرَ إلى "دوفو".

 "ماذا عنك؟"

 "ألقاكَ بعد قليل"

"حسنًا"، قال "بيالو" ونظرَ إلى الطيّارَين.

"تفضّلا، أصحبكما إلى خيمتيكما"

مشى الثلاثة فى عمق الخيام.

نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

قال "لسْتِ مرهقة بالفعل، صحيح؟"

"لكن لا رغبة لى فى عشاء جماعى وجلسة تعارف"

"حسنًا، أنا فى الجوار، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

دخلَ كلٌ منهما خيمته.

تحمّمـَتْ "سيمويا"، بدّلَتْ ملابسها، أخرَجَتْ أدوات عملها من الحقيبة، وضَعَتْها فى مكان مخصص، رتّبَتْ أوراقها وأقلامها على سطح المكتب، ملابسها فى الدولاب، نظرَت داخل ثلاجة متوسطة الحجم، وجدَتْ شيكولاتة، فاكهة، وطعامًا خفيفًا، أكلَتْ برتقالة، قضمَتْ زاوية صغيرة من قطعة شيكولاتة، أعدّتْ فنجان قهوة، جلسَتْ إلى المكتب، فتحَتْ أوراق "الليل" حيث توقفَتْ فى القراءة السابقة.

 

الليل

"سأنزلُ إلى الشارع"، قلتُ لجدّتى، أومأتْ موافِقة، وضَعْتُ قدمىّ فى حذاء خفيف، وجدْتُ مصاعد البناية مُتعطّلة مثلما توقّعْت، نزلْتُ السلّم ونور القمر يلمع على الدرجات الرخامية، وقفْتُ عند حافة الميدان، لم يكن مزدحمًا، رأيتُ بعض الأصدقاء، تبادلنا إشارات وابتسامات، بدأتُ أتنقّل بين الجميع، توقّعْتُ أنهم مثلى لم يناموا منذ الليلة الماضية، لم يذكر أحد شيئًا عما يُسمّى انقطاع الكهرباء، لا بد أن كلاً منهم قد تجاوز هذه الفكرة بطريقة ما، مثلما حدث معى والشموع التى أشعلتُها، سمعْتُ أحدهم يقول "هل يشعر أحد غيرى أن النهار قد تأخر، أم أنى وحدى المجنون هنا؟"

ازدادت الأعداد فى الميدان، جاء بعضهم بملابس النوم، تساءلوا "هل يمكن أن يحدث هذا؟"، "أهذا حقيقى؟"، ليس فقط أننا لم نُجرّب شيئًا مثله، لكنه أيضًا لم يخطر فى بال أحدنا، أو ربما فكّرَ شخص ما فى إمكانيّة حدوثه، لا أحد يعرف، يتلفّتون حولهم، كأنما يبحثون عن شخص مُؤهَل ليؤكد لهم بشكل نهائى أن الأمر حقيقى، نظروا إلى السماء باعتبارها المكان الذى يأتى منه الليل والنهار، إن كان هذا صحيحًا، رأيتُ دهشة فى عيونهم، كأنهم فوجئوا بوجود القمر، ربما نسوه فى زحام حياتهم، ما زال بإمكانه أن يُشكّل منظرًا جميلاً، ظهرَتْ وجوههم صافية، بلا أضواء صناعية، ملامحهم غير ملوّثة بضجيج الموتورات والأزرار، يمكننى القول إنهم كانوا أكثر إنسانية، لا بد أنى كنت كذلك أيضًا، أتمنى لو أن شخصًا رآى فىّ ما رأيته فيمن حولى، بَدَت ملامحهم، ملامحى، أكثر رقّة، كأن شيئًا ثقيلاً أُسْقِطَ عن كاهل العالم، مرّت نسمة هواء باردة، هزّتْ أطراف شعورهم وملابسهم، شعرْتُ بها أيضًا، أتوقّع أنها لمَسَتنا جميعًا فى اللحظة نفسها، وأننا أغمضنا عيوننا كى نشعر بها عميقًا، تخدّرْتُ لحظات، فتحْتُ عينىّ، رأيت البعض يتلفتون حولهم كأنهم سيعثرون على النهار، البعض الآخر يُفتش عنه فى السماء، لكنّ نهارًا لم يظهر.

"تأخّر النهار"، كانت مجهولة المصدر، هادئة، وحاسمة، مرّتْ لحظات دون أن تصدر ردّة فعل عن أحدنا، سمِعْتُ همهمات، تلفّتُ حولى، لم أرَ قلقًا أو خوفًا، أُفسّر ذلك بأنهم عندما تأكدوا أن النهار قد تأخّر، زالَ عنهم الخوف من احتمال حدوث هذا التأخر، وانتقلوا إلى مربّع جديد، كما أن كلاً منهم يعرف أنه أو غيره لم يتسبّب فيما حدث، الجميع أبرياء، كان هذا مريحًا لنا، يمكننى أن أرى هذا الارتياح على وجوههم، ويمكنهم أن يروه على وجهى.

فكّرْتُ، بما أن الليل لم يغادر، والنهار بطبيعة الحال لم يأت، فإن أحدهم ربما يكون سعيدًا لأنه نجا من ارتباط إجبارى بموعد لا يحبه، فى الوقت نفسه هناك شخص لن يحصل على موعد يحبه، قلت لنفسى "يا سيمويا، النهار نفسه ربما لن يأتى"، تساءلْتُ، هل توقف الزمن؟ ومن المفترَض الآن أن نموت، أم أننا لن نتقدّم فى العمر، نصير خالدين؟ واضح أننا لم نَمُتْ، وعلى الأرجح لا زلنا نتقدّم فى العمر، صار مفهومًا لنا، أو للبعض منا، فى هذه اللحظة على الأقل، أن لا شىء توقف غير ساعاتنا، كلها تشير إلى منتصف الليل تمامًا، أُفكّر، ربما توقفَتْ كل العلامات التى تدل على مرور الوقت، لكنه ما زال يمرّ، فما بالنا بالزمن نفسه؟ الوقت والزمن، لا يبدو أنهما الشىء نفسه، كما أن الاثنين يختلفان عما يُسمّى توقيت، مرّت الفكرة سريعًا فى عقلى، رأيت الزمن مثل رجل قديم غامض، الوقت شاب صعب المراس، والتوقيت صبىّ يطاوعنا أحيانًا، ويعاندنا أحيانًا أكثر.

 كنتُ منتشية بما حدث، عقلى جائع للاكتشاف، أبقى متماسكة فى المواقف التى يمكن تسميتها صعبة أو كبيرة، أتصرّف بحكمة، وتكون لدى رؤية شاملة، أما المواقف الصغيرة، فأنا فيها خاسرة كبيرة، فكّرْتُ أن المشكلة التى تواجه الجميع، هى أن النهار كان يأتى دون تدخّل من أحد، وعندما يتوقف عن المجىء ليس باستطاعة أحد أن يأتى به، هذا يعنى أن الأمر قد يستمر لمدة لا يعرفها أحد، ولا شىء يمكن توقّعه، تروق لى هذه المشكلة الجميلة.

بدأ الجميع بشكل تلقائى، أو اتفاق ضِمنى، يتجهون إلى السوبر ماركت، ومحلات المواد الغذائية، كانت مغلقة كما هو مُتوقّع، عدد قليل منها نصف مفتوح، أو أقل، لم يكن أحدها مهتمًا بالبيع أو الشراء، وليست هناك فرصة للتعامل إلا بالدفع النقدى، لم يعد بإمكان ماكينات تحصيل النقود التعامل مع البطاقات.

 لماذا أول شىء يفكر فيه الإنسان عند بداية كارثة، أو حَدَث غير عادى، هو تخزين الطعام، ما يسبّب الفزع للجميع، فكل إنسان لا بد سيشعر بالتهديد عندما يرى الآخرين يجمعون الطعام من العالم، ماذا لو أن كل شخص أخرج ما لديه بدلاً من إخفائه والاحتفاظ به لنفسه، لنفترض وجود شخصَين ضائعَين فى صحراء، وكلٌ منهما لديه ما يكفيه من الطعام لعدّة أيام، لكنهما لا يشتركان معًا فى طعامهما، وكلاهما يخاف غدْرَ الآخر به طَمَعًا فى طعامه، فى الوقت نفسه هناك ضائعَان آخران، معهما من الطعام ما يكفى شخصًا واحدًا، لكنهما يتشاركان فيه، يمكن تَوَقّع فرصة أكبر فى النجاة لهذين الأخيريَن، لأن كلاً منهما يشعر بالأمان تجاه صاحبه، وبالتالى ينامان باطمئنان، ويتحدثان فى أشياء تلهيهما عن الجوع والطعام، أما الآخران، سيحرص كلٌ منهما على البقاء مستيقظًا لأطول وقت ممكن، ولن يُفكّر إلا فى الجوع وكارثة نفاد طعامه، ما يصيبه بالقلق والتوتر، فيجوع أكثر، ولأنهما لا يتحدثان إلى بعضهما بعضًا، سيتعامل كلٌ منهما مع طعامه طوال الوقت، والمتوقّع من شخصين مثلهما، أن يُعامِلا الطعام بالطريقة الأشهر، الأكل، وليس المَنْح، فيقضى كلٌ منهما على طعامه بشكل أسرع، وتصير فرصته فى النجاة أقل، ورغم أن طريقة المَنْح أيضًا تؤدى بالطعام فى النهاية إلى أن يؤكل، لكنه يمرّ خلالها بمراحل عديدة، تجعل منه مصدرًا للأمان والشَبَع، وليس القلق والجوع.

 برأيى، ليس هناك طريقة لزيادة الطعام أفضل من أن يُمنَح، لا أعرف كيف يحدث هذا، لكنه يحدث.

اشتروا الكثير من الطعام والمواد الغذائية وعادوا إلى بيوتهم.

 عُدْتُ دون أن أشترى شيئًا، لم يكن معى نقود بالأساس، لاحظْتُ شمعاتٍ جديدة موزّعة فى زوايا البيت، لمَحْتُ "بلوبا" فى مكانه، دخلْتُ حجرتى، جدّتى عند النافذة تنظر إلىّ بعينيها الحَبيبتين، هل يمكن أن تنظر بشىء غير عينيها؟ نعم، تفعل ذلك كثيرًا، بروحها، قلبها، أنفاسها، وفى معظم الأوقات تنظر إلىّ بهذا كله معًا، توقفْتُ لحظات بجوار مكتبى، شعرْتُ بجثة حاسوبى فوقه، فكّْرتُ، أين ذهبَتْ ملفّاتى التى خزّنتُها فيه، الأفلام، الكتب، الصور، الأغنيات، القصص، وإيميلاتى، هذه المرة لم أرَ نفسى وحيدة فى صحراء بعيدة، شعرْتُ باطمئنان غريب، هل من الجيّد أن يشعر الإنسان أن اطمئنانه غريب، من المتوقّع أن يكون الإطمئنان بعيد عن أىّ شعور بالغرابة، ربما يصير للأشياء والمشاعر المبهجة طابع خاص عندما نشعر بأنها غريبة بدرجة ما، أو عندما تأتينا فى أوقات ومواقف لا نتوقعها، لم أعرف هل أستمتع باطمئنانى أم بغرابته، شعرتُ أن كل ما سجّلته فى حاسوبى لم يضِع، وأنه موجود فى مكان ما من العالم.

 أُفكّر أن العالم يحتفظ بأصواتنا، كلامنا، وأفعالنا، لا يُضيّعها، حتى أطيافنا تظل موجودة فى الأماكن التى مرَرْنا بها، وعندما يأتى أشخاص بعدنا ويمرّون بتلك الأماكن، فإنهم يمرّون داخل أطيافنا، ويتوّحدون معنا للحظة، مثلما نمرّ نحن داخل أطياف تركها أشخاص قبلنا، هكذا نتداخل جميعًا فى بعضنا بعضًا دون أن نشعر، لكن، هناك حالات نشعر بها، وبعمق، عندما نمرّ بطيف شخص تربطنا به علاقة خاصة، أو تتشابه روحه مع روحنا، وليس بالضرورة أن تكون بيننا وبينه صلة قرابة، أو حتى رأيناه أبدًا.

ابتسمْتُ ورأيت نفسى داخل شخصيات أحبها، بعضها مات منذ مئات أو آلاف السنين، ربما تداخلْتُ مع لصوص، سفّاحين، ومومسات، لن يُزعجنى هذا، أتمنى ألا يزعجهم، أتداخل أيضًا مع شخصيات تأتى إلى العالم بعد موتى بدقائق، أو مئات السنين، ربما تكون من بينها إحدى حفيداتى البعيدات، هل تشعر بى وقتها؟

تخيّلْتُ ملفاتى وهى تطير فى الهواء، يتنفّسها بشر، تلمس قلوبهم وعقولهم، هل كنت لأتمنّى أجمل من ذلك؟ ليس من العدل الآن أن أرانى وحيدة فى الصحراء، لن أفعل هذا بنفسى.

وقفْتُ بجوار جدّتى، شمَمْتُ منها رائحة الشيكولاتة الخفيفة، سألتُها إن كان من المفروض أن أشترى طعامًا كالآخرين، قالت "ليس مهمًا"، نظرْتُ إلى الميدان، كان خاليًا، لكن جدّتى نظرَتْ إليه بطريقة جعلتنى أعتقد أن شيئًا يحدث هناك ولا أراه، أو أن شيئًا لا بد يحدث حالاً، ظهرَ بعض المتشردين من الشوارع المتفرعة، تجمّعوا بمنتصف الميدان، يرتدون ملابس غريبة، بعضها من الزمن القديم، وبعضها كأنه من المستقبل، فكّرْتُ أنهم جاءوا من أزمنة وعوالم مختلفة، رأيتهم بوضوح فى ضوء القمر، متلألئين، وجديدِيِن، رغم أن كل ما فيهم يُفتَرض به أن يكون قديمًا، ومُستعْمَلاً جدًا، معهم عربات خشبية يدفعونها بأيديهم، أو يسحبونها خلفهم، ألعاب بدائية، بَدَا بعضها لوهلة كأدوات تعذيب، والبعض الآخر مُضحكًا من النظرة الأولى، شعرْتُ بمتعة كبيرة عندما لعبوا بها، أَخرجَ بعضهم من بين ملابسه آلات موسيقية وبدأوا العزف.

 قالت جدّتى "لننزل"

 طلبَتْ أن نترك باب البيت مفتوحًا، بَدَتْ كأنها تنتظر أن أسألها لماذا، لكنى كنت مهتمة بالنزول.

وجدنا الميدان مزدحمًا بالمتشردين، لأول مرة أرى هذا العدد منهم، فى الظروف العاديّة كنت أصادف واحدًا أو اثنين، قليلة هى المرات التى رأيت أحدهم نهارًا، أُفكّر أنهم ربما يختفون خلال النهار، يتحوّلون إلى أثير أو رسوم على الجدران، ويستعيدون طبيعتهم البشرية خلال الليل، الآن، أرى الكثيرين، يلعبون بألعاب بدائية، يعزفون على الآلات الموسيقية، أسمع موسيقا صاخبة، وأخرى هادئة، تصنع معًا لحنًا منسجمًا.

نَزَلَ الكثيرون من بيوتهم، يتفرّجون على المتشردين، موسيقاهم، ألعابهم، وحالتهم المبهجة، لم يهتم متشرد بأىّ منا، كأننا غير موجودين، هل كانوا يحتفلون بالليل الذى امتد كل هذا الوقت، وربما لن يغادر؟ لولا أننا نعرف أنه لا أحد يستطيع أن يأتى بالليل والنهار، أو يمنع ظهورهما، لاعتقدنا أن المتشرّدين اتفقوا مع الليل ألا يغادر، نعرف جميعًا أن بينهما الكثير من الاتفاقات بالفعل، لكن ليس من بينها أن يبقى فى مكانه لوقت أطول من المعتاد.

بالنسبة لى، كان ظهور المتشردين بهذا العدد يعنى أن النهار لن يظهر، ليس فى وقت قريب، أتوقّع أن هذه الفكرة راودت كثيرين غيرى، وكان من الطبيعى أن نسأل المتشرّدين، ولو على سبيل المزاح، "لماذا الليل موجود حتى الآن؟ لماذا تأخّر النهار؟"، ضحكَ بعضهم، حرّكَ البعض الآخر كتفيه بلا مبالاة، لم يتوقفوا عن اللعب والموسيقا، حتى قالت لنا طفلة فوق أرجوحة خشبية "ابحثوا عن النهار".

   لم لا؟ بدأ البعض منا على سبيل المزاح، أو الأمل البعيد، يبحثون عن النهار، مشيتُ معهم، أريد أن أعرف ما سيحدث، سايرَتْنى جدّتى، مشينا فى الشوارع المتفرعة من الميدان، ينادى البعض على النهار بتدليل "نهارووو، نهاريييى"، كأننا فى لعبة، لم تُنادِ عليه جدّتى، يبدو أنها لم تفكر حتى فى ذلك، فقط تستمتع بالمشى، القمر عين كبيرة حالمة، وأنا أتلفّتُ حولى، أراقب الجميع، أراهم يتفرقون فى الشوارع، أصواتهم تبتعد وتقترب، يختفون ويظهرون فجأة، كل شىء هامدًا، السيارات، المطاعم، الكافيهات، لا أسمع صوت موتور، ضغطة زِرّ، رنّة هاتف، وكأن العالم تحوّلَ إلى قطعٍ من الخردة.

 عندما بدأتُ أشعر بالقلق من هذا العالم الخردة، بدأ عالم جديد يطفو، تسرّبَ إلىّ صوت البحر من بعيد، حفيف الأشجار فى الشوارع، جريان النهر داخل الغابة، أنفاس الجبل، كنا مدينة محظوظة، لدينا بحر، نهر، غابة، وجبل، سمِعْتُ أصوات هذه الكائنات تعلو تدريجيًا، كأنها تسترد مكانتها فى العالم، تلفّتُ حولى، شعرْتُ أن الجميع يسمعونهم مثلى، منذ متى لم نسمعهم؟ كأننا نكتشف الآن أن هذه الكائنات تعيش معنا، أدركْتُ أننى أسمع الآن الصوت الحقيقى للعالم، وأن العُطل الذى أصاب الأزرار، الموتورات، والأضواء الصناعية، منح هذا الصوت الفرصة ليظهر.

نظرْتُ إلى جدّتى.

 قلت "صوت العالم، هذا ما كنتِ تسمعينه فى حجرتى"

 "نعم"

 تساءَلْتُ، لماذا لم أتمكّنْ من سماعه معها هناك، وكيف عرفَتْ أنى سأسمعه فيما بعد، تُخفين شيئًا عنى جدّتى؟ سألْتُها بينى وبين نفسى.

ازدادت أعدادنا فى الشوارع، أعتقد أن مَن لم يبحثوا عن النهار من البداية غيّروا رأيهم، توغلنا فى المدينة، بَدَت لى كأنها غير التى كنت أعرفها، الأشياء نفسها لكنها ليست هى، تغيّرات طفيفة لا أعرف إن كانت موجودة بالفعل طوال الوقت ولم ألحَظُها قبل الآن، أم أنها جديدة، أرى التواءً بسيطًا فى شارع أعرف أنه مستقيم، ثلاث شجرات فى مكان أعرف أنه خال من الأشجار، أكتشف فتحة جانبية فى شارع ما، ولا أكون متأكدة أنى رأيتها من قبل، يسكب القمر على مدينتنا ضوءًا غزيرًا، نرى الأشياء بشكل أوضح، لكن بمزيد من الظلال، والأوهام، مرَرْتُ قُرْبَ سينما "الفراشات الثلاث"، المُفضّلة لى.

 قلت "لماذا ليست فراشة واحدة؟"، لا أنتظر إجابة، فقط كنت أداعب السينما بين زيارة وأخرى.

 قالت جدّتى "لماذا لا يكونوا ثلاثًا؟"

 فكّرْتُ أن الأفلام التى شاهدْتُها تطير الآن فى الهواء، مثلما طارت ملفّات حاسوبى، تلفّتُ حولى ربما ألمح ملفًا منها، ابتسمْتُ لنفسى.

 ابتلَعَتنا شوارع المدينة، انفَتَحَتْ على بعضها بعضًا، لا أذكر أن تلك طبيعتها، فى الوقت نفسه لا يمكننى القول أنها على غير طبيعتها، تحوّل بحثنا الهزلىّ عن النهار إلى الجديّة، كأننا بالفعل سنجده فى مكان ما.

 لم يكن الأمر فقط أننا نبحث عنه، لكننا أيضًا نكتشف الروح الجديدة لمدينتنا، نريد أن نقضى وقتًا أطول فى ذلك الوهم الغامض الذى يلفّها، يلفّنا، نعود إلى بيوتنا من وقت لآخر كى نأكل، ونرتاح قليلاً، ثم نعاود البحث.

 

(3)

استيقظَتْ "سيمويا" قبل الشروق بثلاثين دقيقة.

 تحمّمَتْ، تناولَتْ إفطارها وهى تفكر فى "بينورا" وجدّتها، أعجبها رأيها عن أن المَنْح هو أفضل طريقة لزيادة الطعام.

ارتدَتْ قميص أزرق فضوليًا، بنطلونًا من قماش أحمر داكنًا بجيوب كثيرة، وحذاءً قويًا، أدخلَتْ أوراق "الليل" درج المكتب، أخرَجَتْ من الدولاب حقيبة كتف قماش، وضَعَتْ فيها الشاكوش، العدسة المُكَبّرة، الفرشاة، كاميرا، زمزميّة ماء، مُبرّدًا صغيرًا به تفاحة وقطعـة شيكـولاتة، ربَطَتْ حول خصرها حزامها العريض، وضَعَتْ فى جيوبه، هاتفها، أقلامًا بألوان مختلفـة، دفتر ملاحظات، علّقَتْ الحقيبة فى كتفها، التقطَتْ قُبعة، وخرجَتْ.

وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته، على كتفه حقيبة من قماش بّنّى، وحزامه العريض حول خصره.

"صباح الخير سيمويا"

"صباح الخير دوفو"

"نِمْتِ جيدًا؟"

مشَتْ إليه.

"نعم، وأنت؟"

حرّك يده على شكل موجة.

ظهرَ "بيالو" قادمًا باتجاههما، سألَهما عن نومهما وإفطارهما، أخبراه أنهما بخير، ومُستعدان.

ظهرَ بقية طاقم العمل فى أماكن متفرقة.

اتجه الجميع إلى الصحراء الزرقاء، دَخَلها طاقم العمل، توقف "دوفو" و"سيمويا" عند حدوها، ومعهما "بيالو"، تطلّعا إليها، رأيا هياكل سفن وقوارب قديمة، أشجارًا بلا أوراق، تكوينات غير واضحة المعالم، التقطَ "دوفو" حفنة من الرمل الأزرق، تحسّسها بين أصابعه، وجدَ بها بللاً خفيفًا، قرّبها من أنفه، شَمّ رائحة يود، تذوّقَها، شعرَ بملوحة خفيفة.

 أخبرهما "بيالو" أن الرمل لا يجفّ أبدًا رغم الشمس، كان "دوفو" يعرف ذلك.

دخلوا الصحراء الزرقاء.

طلَبَ "دوفو" من "بيالو" أن يتركه و"سيمويا" ليكتشفا الموقع بنفسيهما.

"حسنًا دوفو، أتفهّم طريقة عملكما، يمكنكما أن تخرجا وقت الغداء"

"لا أعتقد ذلك، معى مائى وطعامى"

"أنا أيضًا"، قالت "سيمويا"، وربّتَتْ حقيبتها.

"توقّعْتُ ذلك، حظًا سعيدًا لكما"

ابتعد "دوفو" و"سيمويا" عن الجميع، قابَلا هياكل أسماك كبيرة، أخرى صغيرة، محارات جافة، أصدافًا مُتكسّرة، جُزُرًا مرجانية ميتة، بقايا بيوت خشبية كأن بشرًا كانوا هنا يومًا، ورائحة يود خفيفة فى الهواء، نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

 قال "نحن نضيّع نصف الوقت بهذه الطريقة، ما رأيكِ أن ننفصل؟"، وحرّك يده على شكل موجة.

تلفّتتْ "سيمويا" حولها.

قالت "أمشى فى هذا الاتجاه"، وأشارت إلى صخرة زرقاء كبيرة.

أشار "دوفو" فى اتجاهين مختلفين.

"وأنا هنا، أو هنا"، نظرَ إلى "سيمويا".

"اعثرى على شىء مميز، كالعادة"

"سأحاول"

تجاوزَتْ "سيمويا" الصخرة الزرقاء، وجدَتْ قوارب صغيرة مُحطمة، مَشَتْ مسافة قصيرة، وصَلَتْ إلى سفينة قديمة، تتكوّن من عدة طوابق، بعض أجزائها مُفكّكة، شراعها مُمزّق، يخرج من أحد جوانبها سلّم خشبى مُتداعٍ يصل إلى الأرض، صعَدَتْه بحرص إلى سطحها، شَمّتْ رائحة الغَرَق، عرِفَتْها على الفور رغم أنها تصادفها للمرة الأولى، رأت قشور أسماك ملتصقة بالأرضيّة الخشبية، تحرّكَتْ بحذر، يزوم الخشب مع كل خطوة، كأنما يُهدّدها بالانهيار فى أيّة لحظة.

رأت عنـد الجانب القريب من السفينة هيـاكل عظميـة تستند إلى بعضها بعضًا، كأنهم نائمون، مشَتْ إليهم، نظرَتْ فيهم عن قُرْب.

"أنتم البحّارة، يا أصدقائى؟"

وجدَتْ شروخًا دقيقة فى أذرع البعض منهم، سيقانهم، وجماجمهم.

 "إصابات قديمة، آسفة"

وضعَتْ الكاميرا أمام عينها.

 "تسمحون لى ببعض الصور؟ شكرًا"

 سجّلَتْ لهم ڤيديو قصيرًا.

 انتقلَتْ إلى مقدمة السفينة، وجدَتْ هيكلاً عظميًا طويلاً يقف خلف الدفّة، متشبثًا بها، يُحدّق فى الأفق، فمه مفتوح، وفراغ عينيه واسع بشكل أكبر من المعتاد، كأنه ينظر إلى شىء مُذهل، تأمّلَته، نظرَتْ إلى الأفق حيث ينظر.

"ماذا رأيتَ هناك أيها القبطان المذهول؟"

التقطَتْ له بعض الصور، وسجّلَتْ ڤيديو.

بحثَتْ عن مدخل إلى الطابق السفلى، عثرَتْ على سلّم جانبى بمنتصف السفينة، نزلَتْ ثلاث درجات، رأت ظلامًا عدا أشعة النور التى تتسرّب من بين ألواح السقف، شغّلَتْ الكَشّاف والڤيديو فى هاتفها، انكسَرَتْ درجة السلّم الرابعة تحت قدمها، كادت تسقط، أكملَتْ نزولها، تطلّعَتْ إلى المكان حولها فى ضوء الهاتف، لمحَتْ طيفًا ملونًا يعبر أمامها، تَبِعَتْه، وجدَتْ نفسها فى بداية ممرّ مُضاء بأنوار ملوّنة مجهولة المصدر، عَرْضه مترين ويمتد بطول السفينة، على جانبيه أبواب متهدّمة، مشَتْ إلى الباب الأول، توقفَتْ فى فتحتْه، رأت ما بدا أنه غرفة نوم، غارقة فى نور أحمر ينتهى عند عتبة الباب، سرير كبير مُحطّم بالمواجهة، خلفه نافذة دائرية من زجاج أحمر، ملاءات ممزقة، ستائر بعضها عالق بالجدران، البعض الآخر ملقى على الأرض، كلها حمراء، مرآة مكسورة، لوحات على الحائط ليس فيها غير اللون الأحمر، وهيكل سمكة كبير على الأرض بجوار السرير، وحده لونه أبيض.

دقّقَتْ النظر فى الأحمر الذى يملأ الغرفة، لم تعرف مصدره، أدركَتْ أنه ليس نورًا، ولا لونًا، شعرَتْ به مثل شىء ثقيل، لم تتحمّل النظر إليه طويلاً، كان يمكنها أن تنظر إليه لوقت أطول لو أنه دم، شعرَتْ أنه سيصبغها لو دخلَتْ، ويحبسها هناك إلى الأبد، كان بلا رائحة، لا تشعّ منه أية حرارة أو برودة، لكنه ليس جثة، أدركَتْ "سيمويا" ذلك، الجثة آمنة، مُسالمة، حتى لو أنها تستدعى الرهبة، فى الحقيقة هى تستدعى الاحترام والترفّق، لكن هذا الأحمر، رغم انعدام الحرارة منه والبرودة، فإنه حىّ، وغير آمن.

 التقطَتْ صورًا، سجّلَتْ مقاطع ڤيديو، انتقلَتْ إلى الغرفة التالية، زرقاء، سرير محطّم، خلفه نافذة دائرية، ملاءات وستائر ممزقة، بعضها ملقى على الأرض، مرآة مكسورة، كانت نفسها محتويات الغرفة الحمراء، وبالترتيب نفسه، عدا نجم بحر ميت بدلاً من هيكل السمكة.

التقطَتْ صورًا، وسجّلَتْ فيديو.

 نظرَتْ فى الغرفة المجاورة، صفراء، تحوى الأشياء نفسها، وبالترتيب نفسه، عدا أخطبوط مُتَيبّس على الأرض قُرْب السرير، أذرعه متآكلة، وعينه نقطة بيضاء ميتة.

توقّعَتْ ألا تجد فيما تبقى من الممرّ غير غرف نوم، بالمحتويات نفسها، ولكلٍ منها لون مختلف، وكائن بَحَرىّ يخصّها.

نزَلَتْ طابقًا، كان مُضاءًا بنور برتقالىّ خافت، وجدَتْ فرقة موسيقية مُتيّبسة بمكانها، كل فرد منها فى وضع العزف على آلته الموسيقية، كأنه حفل توقف فجأة، تجوّلَتْ بينهم، ملامحهم هشّة، رائحتهم يود، يرتدون ملابس من عصور مختلفة، شَعرَتْ أن أيًا منهم سيتفَتَتْ أو يبدأ العزف لو أنها لمَسَته، لم تجازف، توقفَتْ عند عازفة كمان شابة، شعرها أحمر مُجعّد، ترتدى زيًا من قطعتين، قميصًا قرمزيًا بلا أكمام، مُطرّزًا بخرز ملوّن، ينتهى فوق السُرّة، وبنطلونًا أحمر بنجوم فضيّة، ينتهى عند منتصف الساقين، سألَتْها "ماذا كنتِ تعزفين، صديقتى؟"

لم تحصل على إجابة.

التقطَتْ صورًا للفرقة الموسيقية، وسجّلَتْ ڤيديو.

انتقلَتْ إلى الطابق السفلى، وجدَتْ نفسها فى قاعة خالية، تندفع أشعة الشمس من انهيار بمنتصف أرضيّتها على شكل دائرة قطرها ثلاثة أمتار، تقدّمتْ بحذر، توقفَتْ عند آخر نقطة آمنة، مدّتْ عنقها ونظرَتْ إلى أسفل، رأت أرضًا بعيدة، كأنها قعر بئر واسعة تلمع فيه آثار الماء، وينعكس عليها نور الشمس من زاوية ما، تراجعَتْ "سيمويا" بخفّة كى لا تزعج الخشب.

غادرَتْ السفينة.

 صوّرَتْها من زوايا مختلفة، حدّدَتْ إحداثيات موقعها على الهاتف.

 مشَتْ باتجاه أشجار عارية، شعرَتْ برغبة فى العودة إلى السفينة، التفتَتْ خلفها، لم تجدها، كانت واثقة أنها لم تبتعد بما يكفى ألا تراها، خاصة مع حجمها الكبير، عادت فى الاتجاه الذى تعتقد أنه يؤدى إليها، لم ترها على مدى البصر، اتصل بها "دوفو" على الهاتف، سألَها إن كانت قد عثرَتْ على شىء مميز.

قالت "أعتقد ذلك"، تلفتّتْ حولها.

 "لكنه ضاع منى"

"ماذا تقصدين؟"

"لدىّ صور وڤيديوهات، تأتى إلىّ أم آتى إليك؟"

"نتقابل فى الطريق"

استخدَمَ كلٌ منهما برنامج الإحداثيات فى هاتفه وحدّدَ موقع الآخر، تقابَلا عند تلّة زرقاء صغيرة، جلسا فى ظلها، حدّثته عن السفينة، شاهدا بعض الصور ومقاطع الڤيديو.

قال دوفو "أريد أن أدخل هذه السفينة"

"لنعثر عليها أولاً"

بَحَثا عنها حتى الغروب ولم يجداها، غادرا "الأرض الزرقاء"، قابلهما "بيالو"، سألهما إن كانا قد عثرا على شىء مميز.

"لا شىء حتى الآن، فقط سفن وقوارب قديمة"، قال "دوفو".

"ربما فى المرة القادمة"، قال "بيالو"، ونقلَ عينيه بينهما.

"أراكما على العشاء؟ يمكننا أن نتحدث قليلاً عن العمل"

"لست متأكدًا"، قال "دوفو"، وحرّك يده على شكل موجة.

قالت سيمويا "لا أعرف، آسفة"

مشيَا إلى خيمتيهما.

 قالت سيمويا "تُفكر فيما أفكر فيه؟"

"العودة إلى الصحراء الزرقاء"

"حسنًا، أتحمّم، أتناول وجبة خفيفة، وأكون مستعدة"

"بعد ساعة من الآن"

تحمّمَتْ "سيمويا"، تناولتْ وجبة خفيفة، نقلَتْ الڤيديوهات والصور إلى ملف "النقطة الزرقاء" فى حاسوبها، التقطَتْ هاتفها، خرجَتْ، وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته.

مشيا إلى "الصحراء الزرقاء"، سَمِعا صوت "بيالو" يناديهما وهما على بُعد خطوات منها، توقّفا حتى وصل إليهما، سألهما.

"تعودان إلى الصحراء الزرقاء؟"

"نعم"، قال "دوفو".

"هناك ما يستدعى ذلك؟"

"لا شىء محدد"

سمِعوا صوت موجة بحريّة قادمة من الصحراء الزرقاء، التفتوا إليها، تلاشى الصوت كأن البحر ألقى إحدى أمواجه على الشاطئ، لكن لم يكن هناك ماء، سمعوا موجة أخرى، ولمسَتْهم نسمة هواء بها رائحة اليود.

قال دوفو "الأمر حقيقى إذن"

قال بيالو "نعم، يمكن أن نسمع الآن غناء بحّارة أيضًا، وصوت ضربات أسماك كبيرة على سطح الماء، لكن الحقيقة أن لا شىء من هذا حقيقى"

"كيف لا يكون؟"، قالت "سيمويا" وهى تُدقّق النظر فى أفق الصحراء الزرقاء.

قال دوفو "برأيى أنّ هناك شىء حقيقى"، تطلّع إلى الصحراء الزرقاء.

"لنكتشف بأنفسنا"

 "توجد بعض كشّافات ضوئية مغروسة هناك، سأشغّلها لكم"، قال "بيالو".

"لا تفعل، دعنا لا نزعج البحر"، قال "دوفو".

دخلَ و"سيمويا" الصحراء الزرقاء، قابلَهما هواء مُحمّل برائحة البحر، تلفتَتْ "سيمويا" حولها.

"ما القصة هنا دوفو؟"

"لو أنكِ قرأتِ الملف الذى أرسله لكِ مركز الأبحاث عن المهمة لعرفت"

أمالت رأسها على كتفها، ابتسمَ "دوفو".

قال "القصة، أن صوت البحر يأتيهم أحيانًا من الصحراء الزرقاء، ومعه غناء بحّارة، نوارس، خفق أشرعة السفن، ضربات الأسماك بذيولها على سطح الماء، وعندما يوجهون كشّافات الضوء إليها، أو يُشغّلون الكشّافات الموجودة فيها، لا يجدون بحرًا ولا بحّارة"  

"جرّبوا أن يدخلوا دون أن يُشغّلوا كشاّفاتهم المزعجة؟"

"ولم يعثروا على شىء"

شغّلَتْ "سيمويا" برنامج الإحداثيات فى هاتفها.

"أُحدّد مكان سفينتنا"، نظرَتْ إلى الأمام.

"هذا الاتجاه"

ارتفع صوت البحر، ازدادت رائحته.

"كأن البحر سيظهر فى أيّة لحظة"، قالت "سيمويا".

توغّلا، القمر قريب، التراب الأزرق يلمع كأنما مرّ البحر منذ لحظات، شعرا برذاذ أمواج على وجهيهما، مسحَتْه "سيمويا" ومَصّتْ أصابعها، لعقَه "دوفو" من شفتيه.

 وصَلا إلى مجموعة قوارب جديدة كأنما صُنعَتْ لتوّها، نظرَتْ "سيمويا" فى هاتفها.

"كدنا نصل"

تجاوزوا القوارب بمسافة قصيرة.

توقفَتْ "سيمويا"، تلفّتَتْ حولها.

"هنا دوفو"

رأيا سفينة كبيرة على بُعْد خطوات كأنها كشفَتْ لهما عن نفسها، سليمة، شراعها يرفرف، يخرج من أحد جوانبها سُلّم خشبى يصل إلى الأرض.

مشيا إليها.

قالت سيمويا "السفينة التى رأيتها نهارًا، لكنها سليمة"، جرَتْ إلى السلّم.

"انتبهى سيمويا"، قال "دوفو".

صعدَتْ درجتين بشىء من الحذر، اطمأنتْ إلى سلامة السُلّم، أسرعَتْ، بمجرد وصولها إلى سطح السفينة أُضيئت فيها مصابيح قوية، شمّتْ "سيمويا" رائحة الإبحار، ظهرَ بحّارة من الجانب القريب بالسفينة، هلّلوا.

"أهلاً سيمويااااااا، دوفووووو"، نظروا إلى مقدمة السفينة، صمتوا، التفَتَ "دوفو" و"سيمويا"، رأيا القبطان واقفًا هناك، طويل، يميل إلى النحافة، له شعر أحمر طويل، شارب ولحية خفيفة بلون الذهب، عيناه زرقاوان جدًا، وكبيرتان بشكل أكبر من المعتاد، تنظران بذهول، وفمه مفتوح قليلاً ليؤكد ذهوله.

قالت سيمويا "أعرفه، القبطان المذهول"

"أنا أيضًا أعرفك، سيمويا"، همسَ القبطان لنفسه، اتجه إليهما، حافيًا، يرتدى ما يشبه چاكيت من قماش أسود خفيف، مفتوح الصدر، مُطرّز برسم أحمر جهة القلب على شكل دفّة سفينة، وبنطلون واسع من القماش نفسه، ويضع حول عنقه عقدًا من أحجار بَحريّة شديدة الزُرقة.

 ضمّ القبطان "سيمويا" و"دوفو" معًا إلى صدره.

"أهلاً سيمويا، دوفو، أنا قبطان السفينة"

شَمّا من فمه رائحة اليود.

قالت سيمويا "ما اسم القبطان؟"

تجاهل سؤالها.

قال "كنت أعرف أنكِ ستعودين"

فهِمَتْ أنه لا يريد أن يذكر اسمه، ربما لديه أسماء كثيرة، أو ليس لديه واحد.

قالت "كيف عرفْتَ أنى كنت هنا؟ لا يُتوقّعْ أن تعرف شيئًا بحالتكَ التى رأيتُكَ عليها"

"توقّعى أىّ شىء، وفى النهاية هذه سفينتى"

"حسنًا، هى سفينتك، وبالنسبة لى، أنت القبطان المذهول"

"لأكن"، فَتَحَ عينيه أكثر ونظرَ فى عينيها عن قُرْب.

قالت "أنا مذهلة لهذا الحد؟"

"أنتِ كذلك"

ابتسمَتْ.

"لماذا لم أعثر على السفينة مرة ثانية خلال النهار؟"

"غير مسموح لأحد أن يزورنى مرتين خلال نهار واحد، أو ليل واحد"، مال قليلاً ناحيتها.

 "ربما أفكر فى تعديل هذا، لأجلك"

نقلَ عينيه بينها وبين "دوفو".

"أعود إلى دفّة القيادة، وأنتما امرحا قليلاً مع البحّارة"

مشى خطوتين باتجاه مُقدمّة السفينة.

قالت سيمويا "بالمناسبة"

التفَتَ إليها، نظرَتْ فى عينيه.

قالت "أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ القبطان بخجل خفيف.

"أنت خجول"، قالت "سيمويا" بفرح.

اقتربَتْ منه، تطلّعَتْ فى عينيـه كأنما تبحث عن سِرّ تركيبة الخجل والجموح، شعرَتْ أنها تطيـر فى ألوان لا نهائية من المشاعر.

قالت "يعجبنى هذا"

وضَعَ يده على قلبها حتى شعرَ بدقّاتِه، جرى إلى مقدمة السفينة، فَتَحَ ذراعيه عن آخرهما، تطلّعَ إلى الأفق، صرخ وأدار الدفّة دورة كاملة.

انتبهَتْ "سيمويا" على صوت أمواج بحريّة، نظرَتْ و"دوفو" من حافـة السفينة، رأيا بحرًا تطفو فوقه قـوارب وسفن بها بحّارة.

قال دوفو "البحر بنفسه"

"كنت أعرف"، قالت "سيمويا".

انطلقَتْ السفينة، هلّلَ البحّارة، تجمّعوا حول حبل غليظ مربوط بحافتها، به عقد كثيرة عدا آخر مترين، أمسكوا بواحد منهم، ربطوا طرف الحبل حول خصره، ألقوه فى البحر، رأى "دوفو" و"سيمويا" البحّارَ يسبح بمحازاة السفينة، بسرعتها نفسها، رفَعَه زملاؤه بعد قليل، تدافعوا أيّهم يُلقىَ به إلى البحر، اختاروا واحدًا فى النهاية وربطوا الحبل حول خصره.

نظرَ أحد البحّارة إلى "سيمويا" و"دوفو".

قال "مَن يشاركنا هنا؟"، وأشار بيديه كأنه يُلقى بأحدهم إلى البحر.

"أنا"، قال "دوفو"، خَلَعَ ملابسه، طيّرَ حذاءه فى الهواء، اندفعَ تجاه البحّارة، قفزَ فى الوضع طائرًا وألقى بنفسه بينهم، ربطوا الحبل حول خصره، أرجحوه على أيديهم للخلف والأمام، ألقوه فى البحر وهم يهتفون "دوفووووووو"، بحثَتْ "سيمويا" عنه بين الأمواج، لم ترَه، ظهرَ بعد لحظات من تحت موجة، نفضَ رأسه، ضربَتْه موجة أخرى، اختفى بين الماء، ظهرَ وهو يسبح بمحازاة السفينة، بسرعتها نفسها، اندهشَ كيف أمكنه ذلك، قابلَتْه موجة كبيرة، ركَبَها، ارتفعَتْ به قُرْب حافة السفينة، وهبطَتْ، هَلّلَ البحارة، فَكّ الحبل من خصره، ظهرَتْ حوله دلافين، سبحَتْ معه وهى تقفز فى الهواء على شكل أقواس، اختفى "دوفو" تحت الماء لحظات، ظهرَ وهو يُمسك بالزعنفة الظهريّة لأحد الدلافين، ناداه البحّارة أنْ يربط الحبل حول خصره كى يرفعوه.

 هتفَتْ له سيمويا "ابْقَ كما تحب، استمتع"

 ابتعدَتْ الدلافين، تركَ "دوفو" دولفينه، توقفَ عن السباحة، ربطَ الحبل حول خصره، رفعه البحّارة، صَفَعوه خفيفًا على كتفيه وظهره.

"أنت أنانى دوفو، طمّاع"

 أفلَتَ منهم، ارتدى ملابسه، اقتربَتْ منه "سيمويا".

قالت "استمتَعْت، ها؟"

 أومأ والماء يقطر منه.

قالت "علينا الآن أن نزور طوابق السفينة، لا بد أن شيئًا قد تغيّر هناك"

مشيا إلى أحد جوانب السفينة، توقفَتْ "سيمويا" عند السُلّم المؤدى إلى أسفل.

"السلّم فى المكان نفسه"

نزلَتْ عدّة درجات، و"دوفو" خلفها.

"الدرجات سليمة هذه المرة"

انتهى السُلّم، وجدَا نفسيهما فى ردهة يغمرها نور هادئ مجهول المصدر، الأرض والجدران من خشب وردىّ، رائحة عِطْر خفيف تسرى فى الهواء.

"طابق غرف النوم"، قالت "سيمويا"، وثبّتَتْ عينيها على نقطة قريبة.

"الممرّ"

مشيَا إليه، توقّفا فى مدخله، نظيف حدّ أنهما نظرا إلى حذائيهما خشية أن يوسخّاه، أبواب الغرف على جانبيه مغلقة، تقدّما إلى الغرفة الأولى، بابها من خشب أحمر، له مقبض من معدن شفاف على شكل كرة صغيرة.

قالت سيمويا "دعنى أفتح الحجرة الأولى، دوفو"

أمسَكَتْ بالمقبض، شعرَتْ ببرودة لطيفة، حرّكَته ببطء، تسرّبَتْ من الداخل رائحة الورد، تركَتْ المقبض، انفتحَ الباب عن آخره، رأيا غرفة كبيرة، بدَتْ مُخصصة لعروسين، يطفو فيها لون أحمر رائق، كل محتوياتها حمراء بدرجات مختلفة، سرير كبير ومُرتّبْ، خلفه نافذة زجاجية على شكل دائرة، بجواره صندوق من خشب لأسرار العروس، ستائر على الجدران، وسجادة قُرْب السرير مرسوم بمنتصفها سمكة كبيرة.

شعرَ "دوفو" و"سيمويا" برغبة فى الدخول، إلا إن أيًا منهما لم يجرؤ، خَشِيَا أن يخدشا روعة الأحمر، كان لديهما شعور أن العروسين فى مكان ما بالغرفة، ربما يختبئان بين درجات الأحمر المتعددة.

التقطا صورًا، وسجّلا ڤيديو.

 أغلقَتْ "سيمويا" الباب بهدوء، انتقلا إلى الغرفة التالية، بابها خشب أزرق، فتحَها "دوفو"، تسرّبتْ منها رائحة ماء مُعَطّر، لها نفس محتويات الغرفة الحمراء لكن بلون أزرق، وبجوار السرير سجادة بها نقش لنجم البحر.

التقطا صورًا، وڤيديو.

أغلقَ "دوفو" الباب، انتقَلا إلى الغرفة المجاورة، بابها أصفر.

قال دوفو "نحتاج بالفعل أن نفتحها؟"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة، هزّت رأسها نفيًا.

نظرَا بطول الممرّ، رأيا أبوابًا بألوان مختلفة، يتخلّلها ما يبدو أنه ممرّات فرعية.

قالت سيمويا "ما رأيك؟"

"إلى الطابق التالى"

نَزلا، سَمِعا موسيقا راقصة، رأيا قاعة مزدحمة بأشخاص يرتدون ملابس من أزمنة مختلفة، رجال، نساء، شباب، وأطفال، يرقصون، يغنّون، والعازفون يتنقلون بينهم، اقتربَتْ منهما عازفة كمان شابة، لها شعر أحمر مُجعّد، ترتدى زيًا من قطعتين، قميصًا قرمزيًا بلا أكمام، مُطرّزًا بخرز ملوّن، ينتهى فوق السُرّة، وبنطلونًا أحمر بنجوم فضيّة، ينتهى عند منتصف ساقيها، عرِفَتْ "سيمويا" أنها الشابة نفسها التى رأتها مُتَيبسة فى الزيارة الأولى، وسألَتْها وقتها عما كانت تعزفه.

 ابتسمَتْ الشابة لهما، دارت حول "سيمويا".

قالت "أعزف مقطوعة اسمها الماء السحرى"

"شكرًا لإجابتك عن سؤالى"

"أنتِ أيضًا يُمكنكِ العزف"، قالت الشابة، ومدّتْ يديها بالكمان والقوس إلى "سيمويا"، أخذتهما بتلقائية، وبدأتْ، وجدَتْ نفسها تعزف المقطوعة نفسها، الماء السحرى، اندفعَ عازف شاب تجاه "دوفو"، ووضَعَ أكورديونه بين يديه.

قال "اِعزف دوفو"

حرّك "دوفو" أصابعه على المفاتيح، انطلقَ عزفه منسجمًا مع عزف "سيمويا"، انتقلا إلى وسط القاعة، صنعَ الجميع دائرة حولهما، غنّوا مقاطع جماعية، كل مقطع بلغة لا يعرفها "دوفو" أو "سيمويا"، حتى سَمِعا كلمة يعرفانها، غَنّيا معهم، وَجَدَا نفسيهما ينتقلان إلى لغات لم يتحدّثا بها من قبل، لم يفهَما ما يُغنّيانه لكنهما شعرا به.

غنّتْ "سيمويا" مقطعًا بمفردها، وغنّى "دوفو".

 استعادت الشابة كمانَها، والشاب أوكورديونه، وابتعدا.

شعرَ "دوفو" و"سيمويا" بالانفصال عن الجميع، كأنهم يغنّون ويرقصون فى بُعدٍ آخر، ولن يتوقفوا أبدًا.  

نزَلا إلى الطابق التالى، شعرا أنهما قطَعَا مسافة طويلة، وَجَدَا نفسيهما وسط شارع أرضه عبارة عن كسرات صغيرة من حجارة ملوّنة، وعلى جانبيه بيوت خشبية من طابق واحد، لكلٍ منها لون يختلف عن الآخر، رأيا شوارع كثيرة، ملتوية بنعومة كأنها مرسومة بفرشاة، انتبهَا أن الوقت ليل، السماء بنفسجيّة، بلا قمر، مُرصّعة بنجوم تومض وتنطفئ بالتناوب مع بعضها بعضًا.

"تعتقد أننا ما زلنا فى السفينة؟"، قالت "سيمويا".

"هل هذا يهم بالأساس؟"

شعرَا بحركة قريبة، تلفّتا حولهما.

"كنجارو"، قالت "سيمويا" بشىء من الدهشة.

توقف كنجارو برتقالى شاب بمنتصف الشارع، على بُعد أمتار منهما، كان فى طريقه إلى الجانب الآخر، تأمّلَهما لحظة، أمال رأسَه يمينًا ويسارًا، كان يُعَلّق على كتفه بشكل عكسى حقيبة من قماش، بحجم كتاب، لونها برتقالى داكن، أخرَج منها كراس رسم وقلم رصاص، رسَمَ "سيمويا" و"دوفو" بسرعة، وقفز إلى الجانب الآخر، جريَا إلى النقطة التى اختفى عندها، انفتحَ بمواجهتهما باب أحد البيوت، ظهرَتْ منه طفلة تبدو فى الثامنة من عمرها، لها ضفيرتان فضيّتان، ترتدى فستانًا أبيض فيه فراشات ملوّنة، أشارت لهما، اقتربا منها، نَفَضَتْ فستانها، طارت منه الفراشات، جَفِلا، ضحكَتْ، أشارت لهما أن يتبعاها إلى داخل البيت، مشيا خلفها لثلاثة أمتار فوق رمل أبيض، توقّفوا عند بابين متجاورين، أحدهما أصفر، والآخر أخضر.

قالت سيمويا "ماذا الآن؟ نختار أحدهما؟"

نقلَتْ الطفلة عينيها بين البابَين عدّة مرات، فتحَتْ الأصفر، ظهرَ حقل من قمح قرمزىّ اللون يمتد إلى ما لا نهاية، ونهار شفّاف يملأ العالم، التفَتَ "دوفو" و"سيمويا" خلفهما، رأيا الليل خارج باب البيت، نظرَا إلى الطفلة، أشارت لهما وعبرَتْ إلى الحقل، لَحِقَا بها، انغلقَ الباب.

تطلّع "دوفو" و"سيمويا" إلى الحقل، أطرافه تلامس السماء، أسراب عصافير فضّية تطير فوق السنابل، أو تحطّ، وبين لحظة وأخرى يدور سرب فى الهواء بحركة بهلوانية ويصنع رَجّة لطيفة، انفكّتْ ضفيرتى الطفلة شَعْرًا طويلاً بلون العصافير، رأى "دوفو" و"سيمويا" الفراشات التى طارت من فستانها أمام البيت تعود إليه ثانية.

 مَشَوا فى الحقل، تدور العصافير حولهم، وبين خطوة وأخرى تطير الفراشات من فستان الطفلة، وتعود إليه.

 قالت سيمويا "ما اسمكِ، صديقتى الصغيرة؟"

ابتسمَتْ الطفلة ولم ترد.

"أين نحن؟ تعرفين شيئًا عن سفينة وقبطان مذهول؟"

تطلّعَتْ الطفلة إلى الفراشات والعصافير، راقبَتْها "سيمويا" قليلاً.

قالت "فهِمْت، أنتِ لا تتكلمين"، نظرَتْ فى اتجاه آخر، رأت الكنجارو واقفًا على مسافة ليست بعيدة وبيديه الكراس والقلم، يرسمهم.

"الكنجارو الرسام".

أنهى الكنجارو ما كان يفعله، أمال رأسه يمينًا ويسارًا، لوّحَ لهم، وقفز مبتعدًا.

وَصَلوا إلى إحدى نهايات الحقل، أرض مفروشة بتراب وردىّ له رائحة النعناع، وبها جبـال ملوّنة، أشارت الطفلة إلى جبل أخضر.

قالت سيمويا "هل أنا مرغمة أن أتبعكِ هنا، صديقتى الصغيرة؟"

أشارت الطفلة إلى الجبل من جديد.

"يمكننى أن أقول اذهبى بمفردك"

هزّتْ الطفلة كتفيها، ومَشَتْ إلى الجبل.

"لم لا؟ لنلعب"، قال "دوفو" ومشى وراء الطفلة.

 لَحِقَتْ به "سيمويا".

"فى الحقيقة أنا مستمتعة، فقط أريد أن أسمع صوتها"

مشيا إلى جوار الطفلة، تأمّلَتها "سيمويا" قليلاً، مدّتْ يدها إليها.

"مسموحٌ أن ألمسك؟"

 ابتعدَتْ الطفلة خطوة، نظرَتْ إلى "سيمويا" بتحذير، وابتسمَتْ.

دارت بهما الطفلة خلف الجبل، وجَدَا بمدى البصر عُشبًا برتقاليًا قصيرًا، ثلاثة خيول بيضاء تأكل من تلّة سُكّر قرمزىّ، كان صوت قرمشة السكر تحت أسنانها مُسليًا، شعرَتْ "سيمويا" معه بدغدغة وأفلتَتْ منها ضحكة قصيرة، اقتربَتْ الطفلة من أحد الخيول، مسحَتْ مقدمة جبهته، حَكّتْ وجهه بجانب وجهها، قال شيئًا لها ما، ابتسمَتْ، همَسَتْ له بكلمة، تعلّقَتْ برقبته وصعَدَتْ إلى ظهره، أشارت إلى "سيمويا" و"دوفو"، امتطى كلٌ منهما أحد الحصانين، وانطلقوا.

انسجمَ "دوفو" و"سيمويا" مع حصانيهما على الفور، أشارت لهما الطفلة لينظرا حولهما، رأيا العالم يتغيّر مع كل قفزة من الخيول، أخذتْهُما إحدى القفزات إلى غابة، نقلتُهما القفزة التالية إلى شارع مزدحم بالناس، شاطئ بحرىّ، سحابة، صحراء، غابة، حتى توقفَتْ الخيول فوق قمّة جبل، الوقت ليل، قمر كبير يضىء السماء، نزلَتْ الطفلة عن حصانها، اتجهَتْ إلى حافة الجبل، تَبِعَها "دوفو" و"سيمويا"، رأيا جسرًا خشبيًا يمتد إلى جبل على الجهة الأخرى، مرّتْ ريح خفيفة أرجحَتْ الجسر، ثبّتَته الطفلة بلمسة من يدها، مشَتْ فوقه، التفتَتْ بعد عدة خطوات إلى "سيمويا" و"دوفو"، أشارت لهما.

تقدّمَ "دوفو"، وبعده "سيمويا"، وَصَلا إلى الجهة الأخرى حيث تنتظرهما الطفلة، يطلّ الجبل على بحر تسبح فيه سفن بعيدة غير واضحة المعالم، أشارت الطفلة إلى إحداها، صارت مرئية بوضوح لهما، كأنما ينظران إليها عبر منظار، رأيا القبطان المذهول عند الدفّة، البحّارة يربطون حبلاً حول خصر واحد منهم ويلقونه إلى البحر، نَظَرَا إلى الطابق العلوى، رأيا أبواب الحجرات الملونة، وفى الطابق الثانى كان الجميع يرقصون ويغنّون، عازفة الكمان الشابة، عازف الأوكورديون، شاهدا فى الطابق الأخير تهويمات من ألوان، نظرَا إلى الطفلة، ما زالت تشير إلى السفينة، ابتسمَتْ لهما، أنزلَتْ يدها، صارت السفينة بعيدة، وغير واضحة المعالم.

"والآن؟"، قالت "سيمويا".

أشارت الطفلة لهما، مشيَا معها إلى الجهة الأخرى من الجبل، توقفوا أمام بيت كبير يميل بزاوية فى الفراغ، لم يعرف "دوفو" و"سيمويا" إن كان قد ظهر لتوّه أم أنهما لم يلاحظاه فى البداية، بدا كأنه مجموعة من نوافذ زرقاء تشكّلَتْ بيتًا، له بوابة كبيرة من زجاج أزرق، دفعَتْها الطفلةُ.

 دخلوا.

 البيت خالٍ عدا سُلّم حلزونى من الخشب لِصْقَ أحد الجدران، وضوء أزرق يتسرّب من النوافذ.

بدأوا يصعدون السُلّم.

 تحوّل النور الأزرق إلى غيوم معتمة.

قالت سيمويا "لا أرى شيئًا؟"

"لا تتوقفى"، قال "دوفو".

تلاشتْ الغيوم، انتهى السُلّم، وجَدَا نفسيهما فى الطابق السفلى بسفينة القبطان المذهول.

"أين الطفلة؟"، قالت "سيمويا".

تلفّتا حولهما، لم يجداها، رأيا الكنجارو يقف بعيدًا وبيده قلمه وكرّاسه، رسمهما بسرعة، أمال رأسه يمينًا ويسارًا، لوّح لهما، ناداه "دوفو".

"انتظر، كنجارو"

اختفى داخل أحد الممرّات.

سَمِعَا موسيقا راقصة تأتى من الطابق التالى، صَعَدَا السُلّم، رأيا عازفة الكمان الشابة، عازف الأوكورديون، وكثيرين يغنّون ويرقصون، شَعُرَا أنهم فى بُعد آخر، أكملا صعودهما، مرّا بطابق الغرف ذات الأبواب الملونة، وَصَلا إلى سطح السفينة، وَجَدَا عددًا من الحبال معقودة حول حافتها، وفى نهاية كل حبل، بحّار يسبح مع زملائه وسط أسراب من وحوش البحر وفراشاته.

انتبها على صوت القبطان يناديهما، أشار لهما من مكانه عند الدفّة، ذَهَبا إليه، توقفَتْ "سيمويا" بمواجهته، قرّبَتْ عينيها من عينيه.

"أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ بلمسة من خجل.

قال "استمتَعْتِ هناك؟"

أومأتْ مرة واحدة قوية.

قالت "افتقدتَنى؟"

أومأ مرة واحدة بطريقتها.

"لديكَ فكرة عما رأيناه؟"، قالت "سيمويا".

"لديكِ فكرة عما لم ترياه؟"

"عندى شغف لأرى"

قرّبَ عينيه من عينيها.

"لا تفقدى شَغَفَك"

أدار الدفّة، انحرَفَتْ السفينة بزاوية كبيرة، دَخَلَتْ إلى منطقة أمواج هادئة، انتقلَ "دوفو" و"سيمويا" إلى أقرب نقطة للبحر، سمِعَا غناء الأسماك يصعد من القاع، خافتًا لكنه واضح، له صدى بعيد كأنه ذكرى حلم، رأيا التماعات ملوّنة تظهر على السطح وتختفى، ذيولاً، زعانفَ، وعيونًا.

جَلَسا قُرْب الغناء.

مرّ وقت طويل قبل أن ينتَبِها لدموعهما، تنهّدا فى اللحظة نفسها، وابتسما لبعضهما بعضًا.

تلاشى غناء الأسماك تدريجيًا، اختفت الالتماعات الملوّنة.

نظرَا إلى القبطان، كان يتطلّع إلى البحر ويده على الدفّة.

قال دوفو "يمكننا العودة الآن، سيمويا"

أومأتْ موافِقة.

قال دوفو "سيكرهنى القبطان على الأقل لو طلبْتُ منه أن يُخرجنا، تحدّثى أنتِ معه"

ابتسمَتْ "سيمويا"، ذهَبَتْ إلى القبطان، وقفَتْ إلى جواره، كتفها يلامس كتفه، وتنظر إلى البحر.

قال القبطان "لماذا لا تقضيا الليلة معنا؟"

"فى النهاية سنغادر"

"بالضبط، لذا، أكْمِلا الليلة، أكمليها هنا"

لم ترد.

"لو أردْتِ النوم قليلاً، لدينا غرف جميلة رأيتِها بنفسك، كلها مخصصة للضيوف"، التفَتَ إليها.

"أنا والبحّارة ننام نهارًا على سطح السفينة، مثلما رأيتنا"

نظرَتْ إليه، وابتسمَتْ.

"تُسمّى هذا نومًا؟"

"نوعًا من النوم"   

تأمّلَتْ عينيه لحظات.

"أعتقد أنك ستعيدنا إلى النقطة التى أخذتنا منها"

"هل تزورانى، تزورينى ثانية؟"

"سأحاول"

"اتفقنا، ستحاولين"

أدار الدفّة فى اتجاهات متعاكسة، دارت السفينة حول نفسها عدّة مرات، انطلقَتْ فوق أمواج عالية، وصلَتْ إلى مياه هادئة، وتوقفَتْ.

 نقلَ القبطان عينيه بين "سيمويا" و"دوفو".

 "نحن فى المكان الذى أخذتكما منه"

نظرَا حولهما إلى البحر.

"لا تقلقا، بمجرد أن تنزلا ستجدان شيئًا آخر"، وأمرَ البحّارة أن يُجهّزوا السُلّم.

أنزَلَ البحّارة طرف السلّم من جانب السفينة إلى البحر، بقى طافيًا هناك.

نظرَتْ "سيمويا" إلى القبطان.

قالت "ليس وداعًا"، قرّبَتْ عينيها من عينيه.

"أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ بطيف من خجل، ضَمّها إليه.

"أعرف أنك ستزورينى ثانية"، نظرَ إلى "دوفو".

"أتمنى أن أراكَ قريبًا"

"أنا أيضًا، قبطان"

نظرَتْ "سيمويا" إلى نهاية السُلّم على سطح البحر.

"عندى شغف، سأنزل أولاً"

نزلَتْ خطوتين، التفتَتْ إلى القبطان.

"لو أننا قضينا ليلة هنا معك، ماذا يحدث لنا فى الصباح؟"

اتَسعَتْ عيناه.

"ربما لا يظهر الصباح بالأساس، ويستمر الليل إلى الأبد"

أمالتْ رأسها على كتفها، فكّرَتْ إن كان يُلمّح إلى أوراق "الليل"، أم أنها جملة عابرة، حاولَتْ أن تفهم من عينيه، كانتا طبيعيتان، مذهولتان.

عاودَتْ النزول، توقفَتْ عند الدرجة الأخيرة، مرّرَتْ عينيها على البحر، نظرَتْ خلفها إلى القبطان، عيناه مذهلتان، سمِعَتْ صوته يهمس لها.

 "أنتِ بأمان"

نزلَتْ عن الدرجة الأخيرة، تحوّل الماء إلى مزيج هادئ من بحر وسماء، طفَتْ فوقه "سيمويا".

نزلَ "دوفو"، تحوّل البحر- سماء إلى صحراء زرقاء، هى نفسها التى جاءا لدراستها.

 عادت السفينة إلى حالتها التى رأتها "سيمويا" عليها نهارًا، قديمة، بعض أجزائها مُفكّكة، شراع مُمزق، سلّم متداعٍ، اختفى القبطان والبحّارة.

نادتْ سيمويا "أنت، قبطان مذهول، أنتَ هناك"

لم يردّ أحد.

نظرَتْ إلى "دوفو"، حرّك يده على شكل موجة، تلفّتا حولهما، رمل أزرق، سفن وقوارب قديمة.

شغّلَ "دوفو" برنامج الإحداثيات فى هاتفه، أشار إلى أحد الاتجاهات.

قال "طريق الخروج"

كانا يلتفتان إلى السفينة من وقت لآخر، لم يتكّلما حتى ظهرَتْ الصحراء البيضاء من بعيد.

قالت سيمويا "هل نذكر ما رأيناه لبيالو وطاقم العمل؟"

 "أُفضّل ألا نفعل"

 غادرا الصحراء الزرقاء.

قابلَهما "بيالو".

سألهما "عثرتما على شىء مميز؟"

 "لا، كل شىء عادى"، قال "دوفو"، وألقى نظرة خلفه إلى الصحراء الزرقاء.

 "ربما فى المرة القادمة"

"كم من الوقت مرّ على وجودنا هناك؟"، قالت "سيمويا" كأنما تسأل نفسها، ونظرَتْ فى ساعتها.

قال بيالو "ساعتان"

"إلا خمس دقائق"، قالت "سيمويا"، ونظرَتْ إلى "دوفو" بشىء من الدهشة، حرّك يده على شكل موجة.

"لا تندهشى، توقّعى أىّ شىء من الوقت"

قال بيالو "أعتقد أنكما فى حاجة إلى الراحة، أراكما صباحًا"

تركهما ومشى خطوتين، استدار إليهما.

"لماذا شعركما مُبلل، وملابسكما؟"

"أمطرَتْ هناك"، قال "دوفو" وأشار خلفه إلى الصحراء الزرقاء.

 ألقى "بيالو" نظرة هناك، مرّرَ عينيه على السماء، وأكمل طريقه.

استدار "دوفو" و"سيمويا" إلى الصحراء الزرقاء، تطلّعا إليها.

قالت سيمويا "أريد أن أُسجّل ما رأيناه بسرعة، كى لا أفقد شيئًا"

"والقبطان المذهول يستحق زيارة أخرى"

 التفتَتْ إليه، فتَحَتْ عينيها عن آخرهما.

قالت "أُحب هذه النظرة"

فى خيمتها، تشَمّمَتْ "سيمويا" خصلات شعرها، ملابسها، وجسمها.

 قالت لنفسها "كأنه حلم"

 تحمّمَتْ، سجّلتْ كل ما رأته فى حاسوبها، نطقَتْ آخر جملة كتبتها "أُحب هذه النظرة"، أغلقَتْ عينيها، استرخَتْ فى مقعدها. انتبهَتْ بعد دقائق.

 أكلَتْ ثلاث ثمرات فراولة، سَبْع حبّات لوز، أَعدّتْ فنجان قهوة، شغّلَتْ من الحاسوب صوتًا طبيعيًا للبحر، جلسَتْ مع أوراق "الليل" فى منتصف السرير، مرّتْ برأسها الطفلة التى صحبَتها و"دوفو" فى الرحلة، قفز الكنجارو الرسّام أمام عينيها، تمنّت لو رأت كيف رسَمَها، ابتسمَتْ، رشفَتْ من القهوة، وفتحَتْ الأوراق.

 

الليل

بعد ما يمكن أن أُقدّره بثلاثة أيام من بداية بحثنا عن النهار لم نكن مضطرين إلى العودة لبيوتنا لأجل الطعام، ترَكَ البعض مطاعمهم ومحلاتهم للآخرين، كى يحصلوا على مواد غذائية، أو يُعدّوا وَجَبَات، هؤلاء أدركوا مبكرًا أن النهار لن يظهر فى وقت قريب، أو أنهم كانوا على استعداد أن يفعلوا ذلك دون سبب، البعض الآخر احتاج وقتًا أطول. 

صرنا نتواصل وجهًا لوجه، دون وسائط الكترونية، نتبادل عددًا أكثر من الكلمات، كأننا نكتشف أن لدينا لغة، وأصواتًا، وبإمكان كل منا أن يتبادل الحديث مع إنسان آخر لوقت أطول، كان غريبًا أن نسمع أصواتنا البشرية فقط، اختفتْ تكّات الأزرار، رنّات الهواتف، كل الأصوات الميكانيكية، الأغرب أننا اعتدنا الأمر سريعًا، ربما كان هذا طبيعيًا جدًا بالأساس. أتذكّر حالتنا قبل الحادثة، كنا نتواصل عبر الأثير والعوالم الافتراضية، يقضى الواحد منّا معظم حياته مُحدّقًا فى شاشة ما، أصوات الآلات والأزرار الإلكترونية أكثر بكثير من الأصوات البشريّة، أبتسم الآن وأنا أرى بيننا لمسات أو احتكاكات جسديّة عفوية، قبل الحادث كان يمكن لواحدة من تلك اللمسات أن تؤدى بأحدهم إلى السجن.

 أمشى بين الجميع، وأُنصِتُ، من الممتع أن أسمع هذا الكّم من الأصوات البشرية الخالصة.

 لم يمرّ وقت طويل حتى صارت كل البيوت متاحة، يمكن لأىّ أحد أن يدخل أىّ بيت ليرتاح بعض الوقت، ثم يخرج ليكمل البحث عن النهار، والمشى فى أحلام المدينة، أو ربما هى أحلام الليل نفسه، حتى جاءت لحظة شعرْتُ فيها أن أيًا منا ربما لن يعود إلى بيته ثانية، عندها، كان علىّ أن أزور بيتى لأحصل على بعض أغراضى، لكلٍ منّا شىء صغير لا يريد أن يتركه خلفه، أو يريد التأكد أنه قد تركه.

سألْتُ جدّتى عمّا تريد أن أُحضره لها من البيت.

 قالت "لماذا لا أذهب معك؟"

"لا تقلقى، أعود سريعًا"، كنت متحمسة لأفعل هذا وحدى، بلا سبب واضح، أظنّها رأت ذلك.

 قالت "حسنًا، حافظة أوراق زرقاء فى الدرج العلوى من مكتبى إلى اليمين" "أعرفها"

 لا أعرف لماذا نطقْتُها بهذه الثقة، ربما لأطمئنها.

 لم أكن أعرف عن الحافظة غير أن بها أوراقًا رأيت جدّتى تقرأها فى حادثتين لا أنساهما.

ترَكْتُ الجدّة عند مسرح "الباب الأزرق".

 قابلْتُ فى طريقى إلى البيت أشخاصًا يمشون فى جماعات صغيرة، أو بمفردهم، بَدَت الشوارع جديدة، قديمة، غريبة، ومألوفة فى الوقت نفسه، وصلْتُ إلى الميدان، وجدْتُ أفرادًا من المتشردين، صعدْتُ إلى البيت، أخرجْتُ المفاتيح من جيبى، تذكّرْتُ أن الباب مفتوح مثلما طلَبَتْ جدّتى أن نتركه قبل أن ننزل، دفعْتُه برفق، دخَلْت، رأيتُ أشخاصًا نائمين بطول الردهة، توقفْتُ، تساءلْتُ وأنا أُمرّر عينىّ عليهم، هل توقّعَتْ جدّتى ما سيحدث، وتركَتْ الباب مفتوحًا كى يدخل هؤلاء، وغيرهم؟ تذكّرْتُ عندما انتظرَتْنى أن أسألها لماذا تريد أن نترك الباب مفتوحًا، لتخبرنى عن هذا؟ ربما الأمر فى النهاية أبسط مما أفكر فيه، ولو أنها بالفعل تركَتْ الباب مفتوحًا لأجل أن يدخله عابرون، فلا بد أن تكون سعيدة الآن.

 أما أنا، انزَعَجْت.

 مشيتُ بينهم بحرص، شموع جديدة موزعة فى البيت، أدركْتُ أنهم من أشعلوها، نظرْتُ فى وجوههم عن قُرب، لم أعرف أيًا منهم، شعرْتُ عند منتصف الردهة بأنفاس تلامس ظهر يدى، توقفْت، كان رجلاً عجوزًا، نائمًا جدًا، مستلقيًا بظهره إلى الحائط، غائصًا فى جيب الكون، هَشًا، وقابلاً للفناء فى أيّة لحظة، اهتزّ شىء بداخلى، وتلاشى غضبى، لم يكن غضبًا، كان انزعاجًا فقط مثلما سمّيته من قبل، تلفّتُ حولى، سمعْتُ تنفسّهم من جديد، كأنى لم أسمعه بمجرد دخولى، شعرْتُ أنى هشّة، كان هذا جميلاً، وجدتُنى متعاطفة، حنونًا، أحببْتُ وجودهم فى بيتى، مرّرْتُ عينىّ عليهم من جديد، ببطء هذه المرة، شكرًا لأنكم هنا، مشيْتُ إلى حجرتى، رأيت "بلوبا"، الروبوت، فى مكانه بعمق الردهة، وبيده قطعة الشيكولاتة، لوّحْتُ له.

 توقفْتُ فى فتحة باب حجرتى، رأيتُ شابة نائمة فى سريرى، لا يمكننى القول إن ما شعرْتُ به كان انزعاجًا أو ترحيبًا، أقول: ارتبَكَتْ مشاعرى، لأنى لا أعرف وصفًا لما شعرْتُ به، كنتُ لأول مرة أرى شخصًا نائمًا فى سريرى، حتى جدّتى لم تفعلها، تجمّدْتُ مكانى وأنا أراقب الفتاة، القمر قريب من النافذة المفتوحة، تجاهلَ كل شىء فى الحجرة وسكَبَ نوره عليها، يمكننى القول أنه لم يسكبه كله، إنما حَبَسَ جزءًا منه بداخله مثلما نحبسُ أنفاسنا، كى لا يزعجها، بدَتْ لى طافية، أو حلمًا رأيته مرة، لم يكن غيرها بالحجرة، أو أنى لم أرَ أحدًا، شعرْتُ بها تتسلل إلى داخلى، أعجبنى هذا.

لم أتوقّع أنّ منظرًا لشخص نائم فى سريرى يكون بهذا الجمال.

جلسْتُ على طرف السرير فى المساحة المظلمة، نظرْتُ إلى فتاتى بحرص، حتى إن بصرى توقّف فى المسافة إليها عدّة مرات كى لا يصدِمَ وجهها، بعض خصلات شعرها تُغطّى جانبًا منه، لون شفتيها أزرق سماوى، بالكاد لاحظْتُ تنفّسها، شمَمْتُ منها رائحة لم أشمّها من قبل، لكنى عرفْتُ أنها نوعًا من فاكهة ما، واحدة من المرات التى تعرف فيها شيئًا ولا تعرف كيف عرفته، فكّرْتُ أنها فاكهة لا وجود لها، فقط رائحتها موجودة فى العالم من خلال هذه الفتاة، تأمّلتُ جسدها الهشّ، شعرْتُ للحظة أنى أنظر إلى نفسى نائمة، أوشكْتُ أن أزيح خصلات شعرها لأرى وجهها، خشيتُ أن أزعجها، حرّكْتُ يدى فى الهواء بطول جسدها كأنى أمسح عليه، لا يفصلنى عنه غير خيط وهمىّ تسبح فيه روحها، ارتعشَتْ أطراف أصابعى. أعرف هذه الرعشة، وأحب كل ما يوصّلُنى إليها.

انتهيتُ من ملامسة روحها، ضمَمْتُ يدىّ بين ركبتىّ، أطبقْتُ عليهما، ظللْتُ أتأمّلُ فتاتى، شعرْتُ أن بينى وبينها رابطة قوية لمجرد أنها نائمة فى سريرى، كان إحساسًا عميقًا جدًا، ليس حبًا أو شيئًا أعرفه.

 يُمكنكَ أن تُشارك الآخرين الطعام آلاف المرات، لكن كم مرة تدخل حجرتك وتجد شخصًا نائمًا فى سريرك، المئات لهم اسمك الأول نفسه، لكن كم مرة تصادف شخصًا يحمل تاريخ ميلادك، ربما تمرض بمرض يُصيب آلافًا غيرك، لكن كم مرة تتبرّع بدمك أو عضوًا من جسدك لشخص ما، هذه التفاصيل قد تفعل بنا أشياء كبيرة.

 فتاة عابرة وجدتُها نائمة فى سريرى، صارت روحًا أخرى لى فى هذا العالم.

 راودَتنى الرغبة ثانية أن أزيح شعرها عن وجهها، لكنى حسمْتُ الأمر، لن أفعل، لستُ فى حاجة لذلك، كنتُ متأكدة أنى سأعرفها لو صادفتها فى أىّ زمان أو مكان، تمنّيتُ أن تحصل على أهنأ نوم يمكن أن يحصل عليه إنسان، ونهضْتُ لأجمع الأغراض التى عدْتُ لأجلها.

انزلَقَ بعض نور القمر من جسد الفتاة لينير لى، يتحرك معى ولا يكشف إلا ما أريد رؤيته، كأنه يعرف ما أفكر فيه، فتحْتُ دولابى، اخترْتُ حقيبة ظهر كبيرة تتّسع لأغراضى وأغراض جدّتى، حتى أحملها وحدى طوال الوقت ولا أُتعِبُها، وضعْتُ فيها خيمة قابلة للطىّ، زِمزميّتَين للماء، هل طلبَتْ جدّتى ذلك أم أنى أفعله بدافع منى؟ لا أذكر، أخذْتُ بعض ملابسى، أوراقًا، أقلامًا، قدّاحة، مشابك للشعر على شكل فراشة، نحلة، كمانًا، وردة، ليس لأستعملها بالضرورة، أحبَبْتُ فقط أن تكون معى، صورة تجمعنى وجدّتى داخل إطار خشبى أحمر داكن، كنت فى بداية دراستى الجامعيّة، وجدْتُ فى الثلاجة ثلاث قطع شيكولاتة، أخذْتُ اثنتين، وتركْتُ الثالثة للفتاة النائمة فى سريرى.

 غادرْتُ وبيدى الحقيبة إلى حجرة جدّتى، نور القمر يدخل من النافذة المفتوحة، الأرض مزدحمة بأشخاص نائمين، تتمدّد فى السرير امرأة تحضن طفلاً من ظهره، دخلْتُ وأنا أبحث عن موضع لقدمىّ، توقفْتُ عند السرير، تأمّلتُ المرأة، أربعينية على ما يبدو، عيناها مغلقتان، يدها تمسح رأس الطفل، صدّقتُ أنها نائمة، فكّرْتُ أن ألمس يدها، لكنّ صوتًا بداخلى قال إن النهار سيظهر لو فعَلْت، وينتهى كل شىء، شعرْتُ أن الأمر جدىّ، الخيار لى، يمكننى الآن أن ألمس الأم أو طفلها فيظهر النهار، يعود كل شىء إلى طبيعته، أستعيد حاسوبى، أو أمتنع عن لمس أىّ أم أو طفل، أضع فى حقيبتى بعض ملابس جدّتى، حافظة أوراقها الزرقاء، ويبقى العالم مثلما هو الآن، لا أعرف عنه شيئًا.

قبل أن أغادر البيت توجهْتُ إلى "بلوبا"، نظرْتُ فى عينيه.

 "أهلاً صديقى، سأغادر"

 فكّرْتُ أن أكتب له رسالة، فضّلتُ ألا أفعل، أتصلُ به إذا عادت الأمور إلى طبيعتها، أين أكون وقتها؟ اعتذرتُ له لأنى لن أتمكن من اصطحابه معى.

 "أتمنّى أن أراك قريبًا، ما زلت أريد قطعة الشيكولاتة"

تركْتُ باب البيت مفتوحًا، تذكّرْتُ فى الشارع أنى نسيت أن أُودّع حجرتى، لم أفعل معها والفتاة النائمة فى سريرى أىّ شىء يتعلّق بالوداع، ربما لأنى لم أحب توديعهما بالأساس، "هذا أفضل"، قلت لنفسى.

وصلْتُ إلى جدّتى عند مسرح "الباب الأزرق"، كِدْتُ أسألها إن كانت قد عرفَتْ مسبقًا، أو حتى خمّنَتْ أن هناك مَن سيدخل البيت فى غيابنا، لهذا تركَتْ الباب مفتوحًا، شعرْتُ أن فى الأمر لعبة، وأنى أنسحب منها أو أُوقفها لو حصلْتُ على إجابة لأسئلتى، فضّلْتُ أن يستمر اللعب.

خلَعَتْ جدّتى الحقيبة من ظهرى.

 قلت "تعمّدْتُ أن أضع أغراضنا فى حقيبة واحدة كى أحملها ولا أُتعبك بها"

 لم تَرُد، وضَعَتْ الحقيبة على ظهرها.

 قلت "نتبادل حَمْلها"

 ابتسَمَتْ، ونظرَتْ إلىّ ثوان.

 قالت "لا أعتقد"

مشينا.

 رائحة الشيكولاتة الخفيفة التى لا تفارق جدّتى.

 شعرْتُ بارتياح كبير وأنا أفكر فى كل الأسلحة التى لا بد تعطّلَتْ، البنادق، القنابل، المسدسات، الطائرات، المدافع، السفن، الغواصات، الصواريخ، كلها صارت مجرد قِطَعًا من الخردة.

لا أحد يستطيع الآن أن يراقبنى، لا أحد فى العالم يمكنه الوصول إلىّ، كما لا يمكننى الوصول إلى أحد، الهواتف، المواقع الإلكتروينة، الطنين، دقّات الأزرار، المربعات الأثيرية، الشاشات، مات كل هذا الضجيج.

 لم أشعر بالحرية فى أىّ وقت مثلما أنا الآن.

 لا أتوقّع أحدًا، ولا أحد يتوقّعنى.

تساءلْتُ مع نفسى، ماذا حدث؟ هل يمكن أن يكون والليل النهار قد مَلاّ حضورهما وانصرافهما فى مواعيد محددة كل يوم، وأرادا أن يفعلا شيئًا جديدًا، أو أن الرغبات البشرية الكثيرة والمتناقضة سبّبَتْ لهما ارتباكًا، وجعلتهما يتصرفان بشكل خاطئ دون قصد، أو أنهما يتعمّدان أن يُعاقِبا البشر على رغباتهم التى لا يتوقفون عن إطلاقها فى العالم، فكّرْتُ، لو أن البشر جميعًا، وفى اللحظة ذاتها، توقفوا عن الرغبة فى أىّ شىء لمدة دقيقة واحدة، ما هى درجة الخفّة التى سيكون عليها العالم خلال هذه الدقيقة؟

استبعَدْتُ أن تكون رغبات البشر سببًا فى الحادث، هم لم يتوقفوا عن إطلاقها طوال الوقت، ولم يظهر فى أداء الليل والنهار ما يدل على غضبهما، إنما يتفهّمان هذه الرغبات وتناقضاتها، ويبدو واضحًا فى أحيان كثيرة أن هذه الأشياء تحديدًا تُسعدهما.

هل يكون ما حدث ردًا من الليل والنهار على تجاهلهما، وعدم تقديرهما، يؤديان عملهما منذ سنوات طويلة، يأتى كلٌ منهما فى موعده ويغادر دون أن يشعر به البشر، أو يهتموا، يمارسون حياتهم بشكل يومى، ينامون ويستيقظون آلاف المرات، يفعلون آلاف الأشياء، ينطقون آلاف الكلمات، ليس من بينها شيئًا يدلّ على الامتنان لوجود الليل أو النهار، وتفانيهما فى الحضور كل يوم، بكل هذا الجمال، مهما كانت الظروف، لا يسمع أىّ منهما كلمة ترحيب واحدة، لا أحد يبتسم للنهار ويقول "أهلاً بك نهار"، أو يداعب الليل "شكرًا ليل لأنك موجود"، ربما قليلون يفعلون ذلك أحيانًا، لكنه يظل غير كاف.

 استبعَدْتُ هذا أيضًا، واضح أن الليل والنهار لا ينتظران أىّ مقابل، لو كانا يفكران بهذه الطريقة لحدث الأمر منذ مدة طويلة، ولو مرة واحدة.

بمرور الوقت، تماهى الجميع مع حالة الليل، حَسْب ما بدا لى، لم نغضب لأن أحدًا لم يأت لمساعدتنا، كأن شيئًا بداخلنا يرغب أن نستمر فى هذه التجربة، هل بإمكان أحد أن يساعد فى مثل هذا الموقف بالأساس، أعتقد أن كل شخص الآن يحتاج إلى مساعدة ما، أُرجّح أن الأمر حدث فى مدن وبلاد أخرى، لا بد أن النهار يغطى الآن جزءًا كبيرًا من العالم، فكّرْتُ أن الوضع فى جانبنا مُمتع للمتشردين، سيحبون أن يستمرّ الليل بلا نهاية، لكن ماذا عن مُتشرّدى الجانب النهارىّ من العالم، ماذا يمكن أن يحدث لهم؟

 تتلألأ أرواح المتشردين فى الليل.

البحر أول ما أذهلنى، وجدْتُ نفسى بمواجهته، كأنه يختبئ لى خلف شجرة، أو فى انعطافة شارع، ابتسمْتُ له، أكون سعيدة لو ظهر لى من تحت ملابسى، كان مهتاجًا، كأن به شهوة غامضة، رأيته يندفع فى موجات متتالية باتجاه السماء، تمتزج كل موجة منه بجزء منها، حتى انتقل كله إلى هناك، إلا أن هذا الهُناك لم يكن فيه بحر أو سماء، إنما مزيج منهما، يمكن تسميته بحر- سماء، أو سماء- بحر، تحوّل سقف الدنيا إلى أمواج سما- بحريّة، زرقاء، تتقلّبُ فيها نجوم وقوارب، يسبح القمر بينها لبعض الوقت بحالته الطبيعية ثم يتحوّل شابًا له جسد زَلِق مثل سمكة، مرة قمرًا، وأخرى شابًا، امتزج صوت البحر بصوت السماء، صَنَعَا معًا، يا للجمال، صوتًا رأيته بعينىّ، تساقطَتْ منه عملات نقدية خفيفة بلون الفضة، منقوش على أحد وجهيها ما بدا لى أنه صوت السماء، وعلى الوجه الآخر صوت البحر، تأمّلْتُ هذا كله وروحى تهدر بداخلى، كان ما أتأمّله قريبًا منى، شعرْتُ أن نصفى سماء ونصفى الآخر بحر، حتى بدأ كل شىء يرتفع تدريجيًا وغاب عن عينىّ، لكنّ رذاذًا أزرق ظَلّ يتساقط وينثر فى الليل نورًا خافتًا.

 لا أعرف متى انتبهْتُ على أصوات تنادينى من الأرض التى تركَها البحر، رأيت بمدى عينىّ رمالاً ملوّنة بدرجات لا نهائية من الأزرق، كانت بمستوى الأرض التى أقف عليها، كأنما صعَدَ قاع البحر، أسماك كبيرة تضرب بذيولها بحثًا عن بحرها، وتنفثُ من خياشيمها دفقات هواء مُبلّل، أسماك صغيرة ترتعد من البرد، سفنًا قديمة، بحّارة يهتفون لى بلُغات لا أفهمها، ويقذفون باتجاهى قِطَعًا من ملابسهم، غرقى من جميع الأعمار ينهضون بأجساد زرقاء جميلة، يقفزون بخفّة فوق صخور ملساء لا يكادون يلمسونها، أشجارًا يسيل بينها زبدٌ دون موج، حيوانات لها فراء، وأخرى بجلود لامعة، طيورًا بأحجام ضخمة، وأخرى صغيرة، تُحلّق ولا تتجاوز حدود أرض البحر، عُمّالاً يبنون بيوتًا من خشب، قطارًا قديمًا راقدًا على جَنْبه ويتنفس، فرقة موسيقية، سيرك، جنازة، حفل زفاف جماعى، بلاد كاملة تمتد أمامى.

 تقدّمْتُ خطوة، قبضَتْ يدٌ على ذراعى، أعرف فيما بعد أنها جدّتى، تحرّرتُ منها، تقدّمْتُ خطوة أخرى، انحنيتُ لألمس الأرض الزرقاء، شعرْتُ أنى لمسْتُ ما تحت جلد البحر، وأنه لمسَ ما تحت جلدى، أغمضْتُ عينىّ لحظة، أو ألف عام، لا أعرف، وعندما فتحتهما رأيت البحر قادمًا من بعيد، لم أستطع أن أُحوّل عينىّ عنه، أزرق، يملأ الدنيا، فتحَتْ الأسماك زعانفها، خياشيمها، أطلقَتْ السفن أبواقها، أشرعتها، هَلّلَ البحارة، اعتدل القطار واقفًا ونفَثَ دفقات من رذاذ الماء، تقافز الغرقى بخفّة أكثر، الطيور، الحيوانات، الكل ينتظره، غمرَهم بسرعة، كنت أنتظره، أريد أن أُجرّب ما يشعرون به، لا بد أن شيئًا جميلاً يحدث لأرواحهم هناك، لكنى لم أتقدّم خطوة واحدة، هو ما يحدث لإنسان يرى جمالاً مُرعبًا، أو رُعبًا جميلاً، لا يستطيع أن يقترب منه أو يبتعد، فقط يبقى فى مكانه، وينتظر.

 البحر قادم باتجاهى، سمعْتُ أجمل ما فىّ يقول له "أنت جميل"، شعرْتُ أنه يملأ الوقت والمكان، لم يكن ضِمْن حدود بصرى، كان بصرى ضِمْن وجوده، مستعدة ليأخذنى، لكنه لم يفعل، رأيته ينتهى عند قدمىّ زبَدًا رهيفًا، لمسْتُه بيدى، بللّتُ شفتىّ به، نظرْتُ إلى السماء، مغسولة، قمرها مكتمل، نجومها لامعة، كأنما خُلِقَ العالم لتوّه.

 

(4)

      استيقظَتْ "سيمويا" عند الرابعة والنصف صباحًا.

شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا جيتار مع مطر خفيف، تحمّمَتْ وهى تفكر فى بحر أوراق "الليل" الذى امتزج بالسماء.

تناولَتْ إفطارها، ارتدَتْ تى- شيرت أصفر مرسوم على صدره وعول، بنطلونًا بُنّيًا أحمر، وضعَتْ الهاتف فى أحد جيوبه الكثيرة، أحاطت خصرها بحزام العمل العريض، علّقَتْ فى كتفها حقيبتها القماش الصغيرة، وخرجَتْ.

وقفَتْ أمام خيمتها، السماء بنفسجية شفّافة، نسمة باردة مُحبّبة تروح وتجىء، ألقَتْ نظرة على خيمة "دوفو"، مَشَتْ إلى الصحراء الزرقاء، توقفَتْ عند حدودها، رأت سفنًا قديمة، قوارب محطمة، هياكل أسماك ضخمة، التقطَتْ حفنة من الرمل، مُبلّل، ليس أكثر ولا أقل مما كان عليه بالأمس، تركَتْه يتسرّب من بين أصابعها، نظرَتْ بامتداد الأزرق، تمنّت لو يُسمِعُها البحر صوتَه، يلمسها برذاذه، كانت تعرف أنه موجود هناك بطريقة ما.

تخيّلَتْ منظرًا البحر وهو يصعد إلى السماء تاركًا قواربه وأسماكه، تساءلَتْ إن كان ما قرأتْه فى أوراق "الليل" قد حدث هنا، لكن ما قرأتْه يقول إنه حدث فى مدينة ما، لا يهم، ربما مرّ وقت كاف لتتحوّل المدينة إلى صحراء أو أىّ شىء آخر، ولو أنّ الأمر حدث هنا بالفعل، أين كانت تقف الفتاة "بينورا"؟ تلفتَتْ "سيمويا" حولها، نظرَتْ بين قدميها، هل كانت "بينورا" تقف هنا، مكانى؟

أغلقَتْ عينيها لحظات، فتَحَتْهما، رأت قوس الشمس البرتقالى يبزغ من بعيد، سمعَتْ صوت "دوفو".

"صباح الخير سيمويا"

التفتَتْ خلفها، رأته على بُعد خطوات.

"صباح النور دوفو"

وقف إلى جوارها، تطلّع إلى الأفق.

قالت سيمويا "شجرة نبَتَتْ اليوم، كم طائرًا يمرّ بها؟"

فكّرَ "دوفو"، حرّكَ يده على شكل موجة.

ظهر "بيالو"، وأفراد من طاقم العمل، تبادلوا تحيّات الصباح، ودخلوا الصحراء الزرقاء.

 ابتعدَ "دوفو" و"سيمويا" عن الجميع.

 "أريد أن أرى القبطان وبحّارته وهم هياكل عظمية"، قال "دوفو".

بحثَتْ "سيمويا" فى هاتفها عن إحداثيات موقع السفينة.

وَصَلا إليها.

توقّفا عند سُلّمها المتهالك.

قالت سيمويا "اسمح لى أن أصعد قبلك، وانتبِه أثناء صعودك"

وصلَتْ إلى ربع السلم تقريبًا، بدأ "دوفو" صعوده، شعرَ بالخشب يزوم تحت قدميه، تحرّكَ بخفّة أكثر وحافظ على المسافة بينه وبين "سيمويا" حتى لا يُمثّلا ضغطًا زائدًا.

 وَصَلا إلى سطح السفينة.

تطلّعا إلى الصحراء الزرقاء ليتأكدا أنها لم تتحوّل بحرًا، اتجهوا إلى الهياكل العظمية، نظروا فيها عن قُرْب.

قالت سيمويا "يبدون لك كنائمين؟"

"أحاول أن أُتعرّف عليهم"، توقفَ عند أحدهم، دقّقَ فيه النظر.

قال "أعتقد أنه مَنْ عَقَدَ الحبل حول خِصرى فى الزيارة السابقة"

انتقلا إلى مقدمة السفينة، دار "دوفو" حول هيكل عظمىّ يتشبّث بدفّة القيادة، وينظر إلى الأفق، تأمّلَ فراغ عينيه الواسع بأكثر من المعتاد، وفمه المفتوح قليلاً.

"البحّار المذهول"، قال "دوفو".

"انتبِه لما تقول، أتوقّع أن يُحدّثنا عن زيارتنا تلك عندما نلتقيه ليلاً"

نظرَ "دوفو" إلى النقطة التى فى تقديره ينظر إليها القبطان.

"أتساءل، ما آخر شىء رآه قبل أن تغرق سفينته"

"تعتبره غريقًا؟ مَنْ أبْحرَ بنا الليلة الماضية؟"

"ومَنْ يُبحِر بنا الليلة؟"

نَزَلا إلى الطابق العلوى فى السفينة.

 رأى "دوفو" حجرات النوم ذات الأبواب المُحطمة، وفى الطابق الثانى الفرقة الموسيقية المُتَيبسة، عازفة الكمان الشابة، عازف الأكورديون، نظرَ من الفراغ الموجود بأرضيّة الطابق الثالث إلى قعر البئر المُبلل بالماء.

عادا إلى السطح.

توقّفا عند مقدمة السفينة، تطلّعا إلى الصحراء الزرقاء.

قالت سيمويا "تعتقد أن البحر كان هنا يومًا وغادر؟"

"كما تعرفين، يمكن اعتبار كل صحراء بحرًا، إما كانت أو ستكون، إلا لو كنت تفكرين فى بحر معين"

انتبهَتْ إلى أنها بالفعل تفكر فى بحر أوراق "الليل"، وتعتبر أنه كان موجودًا هنا تحديدًا.

قالت "أفكر أن البحر الذى كان هنا لم يغادر بطريقة عادية، إنما صعدَ إلى السماء"، ونظرَتْ عاليًا.

أكملَتْ "امتزج بها، وعاد إلى الأرض"

حرّك "دوفو" يده على شكل موجة.

قال "سهل، كل شىء ممكن، لكنّى لا أفكر فى هذا كاحتمال أول، إلا بدليل"

نظرَتْ "سيمويا" إلى الأفق، رأت الكنجارو الرسّام فوق مقدمة سفينة قديمة، يرسمهما، لمعَتْ عيناها.

"الكنجارو الرسام"، وأشارت إليه أن ينتظر.

هتفَتْ "لا تهرب، فقط أريد أن أرى الرسم"

غادرَتْ و"دوفو" سفينة القبطان المذهول، رأيا الكنجارو ما يزال فى مكانه.

"انتظر كنجارو"، هتفَتْ "سيمويا".

راقبهما لحظات وهما يجريان إليه، أمال رأسه على كتفيه يمينًا ويسارًا، أعاد كراسه وقلمه إلى حقيبته، تركَ مكانه، ظهرَ بعد لحظات واقفًا بجوار سفينته كأنه ينتظرهما، توقّفا على بُعْد أمتار قليلة منه.

قالت سيمويا "فقط أريد أن أرى الرسم، لماذا لا نكون أصدقاء؟"

اقتربَتْ خطوتين، ابتسمَتْ.

"صدقنى، أنا بنت لطيفة، اسمى سيمويا، ما رأيك؟"

ابتسمَ الكنجارو.

"أرأيت، أنتَ تبتسم"

أمال رأسه يمينًا ويسارًا، لوّح لها، قفز مُبتعدًا، جَرَيا خلفه، كان يبطئ من سرعته كلما ابتعد عنهما، دخلَ بين مجموعة صخور زرقاء، ظَلّ يظهر ويختفى وهما يتبعانه، وجدَا نفسيهما فى طريق واسع، أرضه مفروشة بكسرات صغيرة من حجارة ملوّنة، تتفرع منه شوارع تراصّتْ على جوانبها بيوت خشبية صغيرة، ألوانها متساقطة، توقفَا، تلفّتَا حولهما، لم يجدَا الكنجارو، تطلّعَا إلى البيوت.

 قالت سيمويا "تُذكركَ بشىء؟"

 "الأرض التى دخلناها فى سفينة القبطان، أحب هذا اللعب"، قال "دوفو" ونَقَلَ عينيه بين البيوت.

 "أيّها فى رأيكِ بيت الطفلة الصامتة؟"

 نظرَا معًا باتجاه بيت به بقايا ألوان برتقاليّة، مشيَا إليه، رأيا فى بابه نقشًا لفراشة زرقاء، دفَعَتْه "سيمويا" بأطراف أصابعها، ظهرَ على بُعد خطوات باب من خشب أخضر، يتسرّب من أسفله قوس قزح، تقدّما إليه، فتحَتْه "سيمويا" على مهل، وجدَا حقلَ ورود مُتفتحة يمتد بلا نهاية، طارت منه فراشات باتجاه سماء بلون الغروب، نظَرا خلفهما، رأيا نور الشمس الفضىّ خارج البيت، ظلّتْ الفراشات تنطلق من الورود بلا انقطاع، وتتزايد، لم يستطيعا دخول الحقل.

جلسا فى فتحة الباب، يتفرّجان على الفراشات الملوّنة وهى تندفع إلى البرتقالىّ.

 مرّ وقت كأنه لحظة أو أيام.

قالت سيمويا "والآن ماذا؟"

"أعتقد أن الفراشات تعود إلى الورود بعد أن نغادر"

عادا إلى داخل البيت، أغلقَتْ "سيمويا" الباب الأخضر، سَمِعَا رفيف أجنحة الفراشات يقترب ويتزاحم كأنما يهبط من مكان مرتفع، ثم يخفْتُ تدريجيًا، حتى سكنَ تمامًا.

"عادت الفراشات إلى الورود"، قال "دوفو".

رأيا بابًا لم يكن موجودًا عند دخولهما، لونه أصفر، يتسرّب من أسفله نور أزرق، اتجها إليه، فتحَتْه "سيمويا"، وجدَا الصحراء الزرقاء، مشيا فيها بشكل عشوائى.

 مرّرَتْ "سيمويا" عينيها على السماء.

"قل لى دوفو، ماذا تفعل لو اختفى النهار؟"

"ماذا تقصدين؟"

 "أقصد أن تنام ليلاً، ولا تجد النهار عندما تستيقظ، يصير العالم، عالمك على الأقل، ليل مستمر" 

تطلّعَ "دوفو" إلى العالم حوله.

قالت سيمويا "ليس هذا فقط، تتوقف أيضًا كل الساعات، تتعطّل الأضواء، السيارات، القطارات، الطائرات، وتفقد حاسوبك وهاتفك"

"لماذا يحدث هذا كله، ولماذا أنتِ بهذه الجدية، كأن الأمر حدثَ فعلاً؟"

ارتبكَتْ "سيمويا" لحظة.

"فقط أخبرنى، ماذا لو أنه حدث؟"

فكّر "دوفو".

"أعتقد أنه سيكون فرصة جيّدة للعب"

"أنت لا تنتظر الفرص كى تلعب دوفو، أنت تلعب فى كل الأحوال"

"وما رأيكِ؟"

ابتسمَتْ.

"تعرف أنى أحب هذا"

"حسنًا، لنجرّب لعبة"

ابتعدَ عنها أمتارًا قليلة، نظرَ فى أحد الاتجاهات، نادى بأعلى صوته.

"سيموياااااا"، ترَدّد صداه عدّة مرات.

 ابتسمَتْ "سيمويا".

"جَرّبى"، قال "دوفو".

تلفّتَتْ حولها لتختار اتجاهًا، فكّرَت لحظة فيمن تنادى.

"أنادى جدّتى"، سحبَتْ نفَسًا عميقًا.

هتفَتْ "فريليااااااا"، أنصتَتْ لصدى صوتها، ضحِكَتْ فى نهايته.

قالت "أنا مرة أخرى"، أخرجَتْ دفقة هواء.

"قبطاااااااان"

فتحَ "دوفو" ذراعيه، ودار حول نفسه.

هتف "كنجارووووووو"

سيمويا "بينوراااااااااا"

دوفو "جَبَااااااااااال"

"بااااااااااحْر"

"سماااااااااااا"

"مطااااااااااااار"

"ألعاااااااااااااب"

"شيكولاتااااااااا"

"موسيقااااااااااا"

نظرَتْ "سيمويا" حولها كأنما تبحث عن اسم تناديه، ارتبكَتْ قليلاً.

"دَوْركِ"، قال "دوفو".

هزّتْ كتفيها.

"حاولى"

هتفَتْ "سأحاوييييييل"، وضحكَتْ.

تحوّلَتْ بشرة الشمس إلى البرتقالى، غادرا الصحراء الزرقاء.

 توقفا عند خيمتيهما.

قال دوفو "أراكِ على العشاء، كونى مستعدة لرحلة القبطان"

تحمّمَتْ "سيمويا"، سجّلَتْ معلومات جديدة فى ملف "النقطة الزرقاء"، استلقَت فى السرير لما يقرُب من ساعة، ارتدت قميصًا بلون موسيقا البحر، وبنطلونًا أخضر داكنًا، التقطَتْ هاتفها، ذهبَتْ إلى خيمة الطعام، وجدَتْ طاقم العمل والطيّاريَن، حَيّتْ الجميع، وجلسَتْ بجوار "دوفو".

تحدثوا عن الصحراء الزرقاء خلال العشاء، واستمرّ حديثهم لما بعده، نظرَتْ "سيمويا" إلى ساعتها، مالت على "دوفو".

قالت "القبطان فى انتظارنا"

استأذن "دوفو" فى الانصراف، قال إنه و"سيمويا" سيزوران الصحراء الزرقاء مرة أخرى.

"حظًا سعيدًا لكما"، قال "بيالو".

فى الصحراء الزرقاء، تطلّعَتْ "سيمويا" إلى القمر.

"ألا يبدو أكبر مما هو عليه بالخارج؟"

"وأقْرَب"، قال "دوفو". 

تتبّعا إحداثيات السفينة فى هاتف "سيمويا"، ظهرَتْ فى مدى رؤيتهما، جريَا حتى توقّفا عند سُلّمها، التقطا أنفاسهما وهما يتطلّعان إليها.

 أشارت "سيمويا" بيد مفتوحة إلى السلّم.

"دورك لتصعد أولاً"

وَصَلا إلى سطح السفينة.

استعادت حياتها.

سمِعَا صوت البحر، ظهَرَ البحّارة وهم يهتفون.

"سيمويااااا، دوفووووو" 

كانوا جديدين، مُبلّلين، يفوح منهم اليود، كأنهم خُلِقوا من البحر للتوّ.

نظرَ "دوفو" و"سيمويا" إلى مقدمة السفينة، رأيا القبطان المذهول ينتظرهما فاتحًا ذراعيه، ذَهَبا إليه، ضمّهما معًا إلى صدره.

"عُدتما سريعًا"

 "ماذا كنتَ تتوقّع، وقعْتُ فى غرام عينيك"، قالت "سيمويا".

ابتسمَ القبطان.

"أُحب هذا الكلام"، نقلَ عينيه بينهما.

"مستعدان؟"

نظرَتْ "سيمويا" إلى البحر، فتحَتْ ذراعيها.

هتفَتْ "أناااا جاااااهزة، ياااا بحر"

ضربَتْها موجة، امتلأ جوفها بروح البحر.

أدار القبطان الدفّة دورة كاملة، طارت السفينة فوق موجة عالية.

"أُمتعكما الليلة"

قالت سيمويا "أَنزل البحر أولاً أنا ودوفو؟"

"ارجِعا بسرعة"

 جَريا إلى البحّارة.

 "أريد حبلين، سننزل البحر"، هتفَتْ "سيمويا".

 خلعَتْ قميصها، ظهرَ سوتيانها الأزرق، هَلّل البحارة، ألقَتْ القميص إلى أحدهم، شمّه وضمّه إلى صدره، خلعَتْ البنطلون، صَفّر البحّارة وهم يُحدّقون فى كيلوتها، هتفوا.

"أزرق، أزرق، أزرق"

 رفعَتْ يدها بالبنطلون، مدّوا لها أيديهم، طيّرته فى الهواء، اندفعوا إليه، تلقّفه أحدهم، قاسَه على نفسه وضَحِك، خلعَتْ حذءاها، نظرَتْ إلى "دوفو"، عاريًا إلا من اللباس الداخلى، ملابسه ملقاة إلى جواره، نظرَ إلى البحّارة.

"لا أعتقد أن أحدًا يريد ملابسى"

اندفع البحّارة إلى "سيمويا"، أمسكوا بها، تعمّدَتْ ألا تجعل الأمر سهلاً، تخيّلتْ نفسها سمكة، انزلقَتْ من أيديهم عدة مرات، ربط "دوفو" حبله حول خصره بنفسه، وقفَ فوق حافة السفينة، كاد يفقد توازنه، سلّمَتْ "سيمويا" نفسها للبحّارة، ربطوا حول خصرها عُقدة غير مؤلمة، رفعوها بجوار "دوفو"، ثبّتوها وهم يمسكون ساقيها، ضربَتْ بأصابعها على أيديهم، كادت تفقد توازنها، تأمّلَتْ البحر لحظات، نظرَتْ إلى "دوفو".

"أنا جاهزة"

 قَفزَا، غاصا عدّة أمتار، رأيا الأزرق صافيًا، تخدّرا لحظات، دَفَعَا بأقدامهما وصعدا إلى السطح، صفّرَ لهما البحّارة، سَبِحَا بمحازاة السفينة، بسرعتها نفسها، ظهرَتْ حولهما دلافين، سبحَتْ معهما لبعض الوقت، وابتعدَت، رأيا قوارب صغيرة فى كلً منها صيّاد بمجدافين، تظهر لهما وتختفى بين الأمواج، دخلَتْ جميعها من فتحة فى جانب السفينة، انقلَبَتْ "سيمويا" على ظهرها، رأت القمر يتحوّل إلى شاب عارٍ، يسبح فى مزيج موجٍ وسحاب، عادَ قمرًا، قفزَتْ إلى صدرها سمكة صغيرة، ملوّنة بالأحمر والذهبى، شعرَتْ بجسمها الرشيق، شمّتْ رائحتها البرّاقة، تقلّبَتْ السمكة مرتين سريعًا، ضربتها بذيلها ضربة خفيفة، وقفزتْ إلى الماء.

عاودَتْ "سيمويا" السباحة على بطنها، لمحَتْ عينى القبطان تنظران إليها من مقدمة السفينة، كبيرتان، تملآن العالم دهشة، شعرَتْ أنهما ابتلَعَتاها لحظة.

هتفَتْ للقبطان "أُحب"، امتلأ فمها بالماء، ابتلَعَته.

"هذه"، اندفعَتْ إلى فمها موجة أخرى، رفَعَتْ صدرها عاليًا.

"النظرة"، قالتها وعيناها فى عينيه، ابتسمَتْ، سمعَتْ صوته يهمس لها "سمعتُكِ"، ورأت ابتسامتَه، نظرَتْ إلى "دوفو"، أشارت برغبتها فى الصعود إلى السفينة، تسلّقَ كلٌ منهما الحبل خاصته، جذبهما البحّارة فى اللحظة نفسها.

أثناء صعودهما، رأيا فى الطابق السفلى للسفينة نوافذ من ضوء، كل نافذة بلون مختلف، وتُعطى انطباعًا بأنها شفافة، لكنها لا تكشف عما خلفها، شاهدا فى الطابق التالى أشخاصًا يرقصون، يغنّون، وفرقة موسيقية تتنقل بينهم، شابة تعزف الكمان، وشابًا يعزف الأكورديون، وفى الطابق العلوى شوارع لكلٍ منها لون مختلف، بيوت من ورق مُقوّى، مرسوم فيه بِحار، أسماك، وقوارب.

وصَلا إلى سطح السفينة، ارتديا ملابسهما، ذَهَبا إلى العينين المُذهلتين، المذهولتين.

قالت سيمويا "تغيّرَ ترتيب طوابق السفينة أيها القبطان، بالأمس كان طابق غرف النوم بالأعلى، الآن هو بالأسفل"

"تغيير، زيارة أخرى وتريان شيئًا آخر"، نقَلَ عينيه بينها وبين "دوفو".

"الآن، أنتما لى"

 أشار لهما ليقفا بجواره، وقفَت "سيمويا" عن يمينه، "دوفو" عن يساره، أدارَ الدفّة ثلاث دورات، انزلقَتْ السفينة فوق موجة، أمسكَتْ "سيمويا" بذراعه، دفَعَها.

 "اتركى نفسكِ للبحر"

 انطلقَتْ السفينة بسرعة كبيرة.

 قابلَهم ضباب برتقالى، دخلوه، قلّلَ القبطان سرعته، سمعوا مع صوت البحر حفيف أوراق أشجار، شمّوا رائحة منعشة كأن ألف شخص يُقشّرون ألف برتقالة فى اللحظة ذاتها، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" برذاذ القشر يلمس وجهيهما مثل نشوة، رأيا البرتقال يتطاير حول السفينة، ويعبر فوقها، كأن أشخاصًا يتبادلونه أو يلعبون به، حاولا أن يُمسكا بواحدة، يراوغهما البرتقال، ويسمعان ضحكات أطفال فى كل محاولة، ترك القبطان الدفّة، راقب البرتقال لحظات، قفز وأمسكَ بواحدة، قشّرها بيديه، اقتسمها مع "سيمويا" و"دوفو"، توقف البرتقال عن الطيران، تلاشى الضباب عدَا طبقة خفيفة على سطح البحر، لم يكن هناك أطفال أو أشجار.

خرجَتْ السفينة إلى الأزرق.

"انظرا خلفكما"، قال القبطان.

رأى "دوفو" و"سيمويا" الضباب البرتقالى يتكوّن من جديد.

"انظرا أمامكما"

رأيا مدينة طافية على مسافة قريبة، تتحرك فى مكانها بخفّة، بيوتها خشب ملوّن، شوارعها خشب بُنّى، تحرّكَتْ السفينة بمحازاتها على مهل، رأى "دوفو" و"سيمويا" ساحات للعب، أطفالاً يلعبون، سوقًا كبيرًا به أسماك وفاكهة، لم يلتفت أحد من داخل المدينة إلى السفينة، كأنها غير موجودة، البحر هادئ هناك، والقمر يُضيئها بشكل خاص.

 تجاوزَتْ السفينةُ المدينة، ظهرَتْ على مرمى البصر أمواج عالية، زُرْقتها لامعة، اتجه القبطان إليها بسرعة، اقتحمها واحدة بعد أخرى وهو يصرخ، رأوا على مسافة قريبة جبال قادمة باتجاههم.

 هتفَتْ سيمويا "جبال، أيها المذهول"، وضحِكَتْ.

"بحروووووو"، هتفَ القبطان، اندفعَ إلى الجبال، بعضها به أعشاب، أشجار، بِرَك مياه، تتحرك فيه غزالات، فهود، ماعز، خيول، وعول، بعضها الآخر به حيوانات، لكن بلا ماء أو عُشب.

 كانت حيوانات الجبال الجرداء تنتظر اللحظة المناسبة لتقفز إلى الجبال الخضراء، يسقط بعضها فى الماء، ويسبح حتى يصل إلى أقرب جبل.

نظرَ القبطان إلى "سيمويا".

هتفَ "عندكِ شغف؟"

"جدًا"، قالت بصوت مرتفع.

نظرَ إلى "دوفو".

"تحب اللعب؟"

"طبعًا"

"استعِدّاااااا"

دخل بين الجبال، أدار الدفّة بقوة، فقدَتْ "سيمويا" توازنها، تعلّقتْ بذراعه، دفَعَها، ضحِكَتْ، سقط حصان صغير من أحد الجبال إلى جوارها، صرخَتْ، راقبته لحظة وهو يحاول النهوض، اقتربَتْ منه.

"أنتَ بخير؟ هيا، انهض؟"

ألقى الحصان عليها نظرة، حاول النهوض، انزلقَتْ أقدامه، كرّر المحاولة.

مدّتْ يدها، أمسَكَتْ بأذنه وجذَبَتها كأنها توقفه.

"انهض"

أحاط "دوفو" رقبة الحصان بيديه وشدّه إلى الأمام.

"هيا، الآن"

وقف الحصان، اقتربَ من حافة السفينة، نظرَ إلى القبطان.

"أعرف ما تريد"، قال القبطان واقترب بالسفينة من جبل به عشب.

هتفَ "اقفز، الآن"

قفزَ الحصان إلى الجبل، أدار القبطان الدفّة فى اتجاه معاكس.

 كانت الجبال تتبادل أماكنها، يتفاداها المذهول بدورات سريعة من الدفّة وصرخات شبه مجنونة، انسجمَ "دوفو" و"سيمويا" مع اللعبة، صَرَخا مع كل انحراف للسفينة، فتحَا أذرعهما للموجات العالية، رأيا فى قاعدة بعض الجبال أهدابًا تساعدها على السباحة، البعض الآخر له زعانف من أصداف، محار، وذيل من ألياف الأشجار، جبال أخرى تسبح دون مساعدة.

 وقفَتْ بعض الحيوانات على حواف الجبال الخضراء، تمضغ العشب وتراقب السفينة، اقتربَ منها "دوفو" و"سيمويا"، شعرا بأنفاسها على وجهيهما، بعضها حار، والبعض بارد.

 لمَسَتْ "سيمويا" ظهر فَهْد، مسح "دوفو" رأس غزالة.

 سَمِعَا الجبال تنادى بعضها بعضًا وتضحك، نظرَتْ "سيمويا" إلى واحد منها ونادَته، التفتَ إليها، اندفعَ تجاه السفينة، هربَ منه القبطان، نادى "دوفو" جبالاً أخرى، اندفعَتْ كلها إليه، نظرَ إلى القبطان.

قال "اِلعب، أرنى مهارتك"

قهقه القبطان.

"أُحب هذا"

أدارَ الدفّة بسرعة كبيرة فى اتجاهات متعاكسة، تفادى الجبال، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "ما رأيك؟"

"أُحب، هذه، النظرة"

ابتسمَ القبطان بلمسة من خجل.

وصلوا إلى أمواج هادئة تلمع فى ضوء القمر، وقف "دوفو" و"سيمويا" عند حافة السفينة، تأمّلا الأفق، سَمِعَا صوت أقدام رشيقة تتقافز على الماء، تلفّتا حولهما، ظهرَ "الكنجارو الرسّام" وهو يجرى قريبًا منهما، لم يبدُ مهتمًا بهما.

 نادَته سيمويا "كنجارو، هنا"

ألقى عليهما نظرة عابرة، مرّ من أمام السفينة، واختفى.

 سَمِعَا رفيف أجنحة رقيقة، ظهَرَ سرب فراشات ملوّنة، اقترَبَ منهما، طار بمحازاتهما، مدّتْ "سيمويا" يدها لإحدى الفراشات.

 هَمَسَتْ "تعالى، تعالى"

 حَطّتْ الفراشة على يدها، رفعَتْها أمام عينيها، رأت أجنحتها مُنقّطة بالأحمر، الأخضر، الذهبى، وبينها فراغات ورديّة، كان لعينيها الألوان نفسها.

"أنا سيمويا"

تأمّلَتْها الفراشة كأنما تعدّ ألوان عينيها، عادت إلى السرب، قالت لهم شيئًا ما، ربما يكون اسم الفتاة الموجودة فى السفينة، وعدد ألوان عينيها، أو شيئًا آخر، اقتربوا جميعًا من الفتاة، نظروا فى عينيها لحظات، وابتعدوا.

انحرف القبطان بالسفينة، قابلَتْه دفعات من أمواج عالية، غَطّتْهم عدّة مرات، تجاوزها إلى مساحة هادئة، قلّلَ من سرعته، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "هذا لأجلكِ"، وأشار إلى الأمام.

وقفَتْ "سيمويا" عند آخر نقطة من مُقدمة السفينة، شمّتْ رائحة شيكولاتة خفيفة، تغيّر لون البحر إلى البُنىّ، نظرَتْ خلفها إلى القبطان، أومأ وابتسم.

قال "نعم سيمويا، شيكولاتة"

رأت الموجات البُنيّة تلمع فى ضوء القمر، سمعَتْها تضرب جوانب السفينة بخفّة، ويصدر عنها صوت عميق، بُنىّ، تطاير الرذاذ، رسَمَ أشكالاً فى الهواء، جلسَتْ على ساقيها، غمسَتْ يدها فى الشيكولاتة، غمَرَها حنان، انطلقَتْ منها آهة قصيرة، أغلقَتْ عينيها، أدخلَتْ رأس إصبعها الوسطى فى فمها، أطبقَتْ عليه بشفتيها، ارتعشَتْ، شعرَتْ ببلل خفيف فى سروالها الداخلى.

 خلعَتْ ملابسها كلها، وألقَتْ بنفسها عارية فى بحر الشيكولاتة.

غاصَتْ فى سبع درجات من اللون البُنّى، وسبع درجات من طعم الشيكولاتة، لها جميعًا الجوهر نفسه، صعدَتْ إلى السطح، سبحَتْ وهى تُحرّكُ ذراعيها على مهل، انزلَقَ جسمها كأنما تغوص فى حضن الشيكولاتة، مسحَتْ بيديها على جسمها كله، ملأتْها الرائحة، شعرَتْ أنها ذابَتْ وأُعيد تجميعها مرات عديدة، بكَتْ، ضحِكَت، غنّتْ، تكلّمَتْ بلغات لم تتكلم بها من قبل.

 انتبهَتْ على صوت القبطان يهمس لها.

"سيمويا، سيمويا"

رأته عند مقدمة السفينة، ابتسمَتْ، مدّ لها ذراعه.

"يكفى"

هزّتْ رأسها نفيًا.

"تعرفين كم من الوقت أمضَيتِه عندك؟"

"لا أريد أن أعرف"

"لأجلى أنا، لأجل هذه النظرة"، وفتَحَ عينيه عن آخرهما.

ابتسمَتْ، تطلّعَتْ حولها بمدى البصر، ملأتْ يدها بالشيكولاتة، رشَفَتْ منها رشفة واحدة صغيرة، أعادت البقية إلى البحر، سبَحَتْ إلى القبطان، أمسك بيدها، انزلقَتْ منه، ضحِكَتْ، أمسكَ بها ثانية، أفلتَتْ، تركَتْ نفسها لتغطس فى الشيكولاتة قليلاً، عادت إلى السطح، أشارت له ليتركها تصعد بنفسها، استندَتْ بيديها إلى حافة السفينة.

صعدَتْ والشيكولاتة تغطيها وتقطر منها.

دارت حول نفسها وهى تتفرّج على جسدها، ضحِكَتْ، نقلَتْ عينيها بين القبطان و"دوفو"، رفعَتْ سبّابتها.

 "لا يفكر أحدكما فى شىء، ولا لحْسَة واحدة"

ابتسمَ "دوفو"، وحرّكَ يده على شكل موجة.

قال القبطان "اتبعينى سيمويا"

مشى أمامها إلى وسط السفينة، توقّفا عند البحّارة، حدّقوا فيها، نقلَتْ عينيها بينهم.

"ماذا بكم؟ أيتها الهياكل العظمية"، قالت "سيمويا" وضحِكَتْ، نثرَتْ يديها على وجوههم، دوّخَهم رذاذ الشيكولاتة.

قال القبطان "نظفّوها"، لم ينظر إليه أحدهم.

 هتَفَ فيهم "بحّارة؟"

 أداروا وجوههم إليه بحركة بطيئة.

"نظّفوها، أيتها الهياكل"

قرّبَتْ "سيمويا" عينيها من عينيه.

"كأنكَ لستَ هيكلاً أنت الآخر"

"ما رأيكِ أنتِ؟"، مسَحَ شفتها السفلى بإصبعه الصغير، مَصّه، ومشى إلى مقدمة السفينة.

اقترَبَ منها البحَارة كأنهم مُنَوَّمين، جرَتْ منهم لتلاعبهم، لاحقوها، أمسكو بها، انزلَقَتْ من أيديهم عدَة مرات وهى تضحك.

 انكشفَتْ أجزاء من جسدها.

قالت "الآن أيتها الهياكل"، تركَتْ نفسها لهم.

وضعوها فى مغْطس خشبى ملىء بالماء. 

غادرَتْ السفينةُ بحر الشيكولاتة.

 عادت "سيمويا" إلى المقدمة، وقفَتْ بجوار "دوفو"، تطلّعَتْ إلى الأفق، حضَنَتْ نفسها بذراعيها، أغلَقَتْ عينيها، ظلّتْ على هذا الوضع لدقيقة، أخرجَتْ نفسًا عميقًا، وفتَحَتْ عينيها.

قال دوفو "أهلاً بعودتِك"

ابتسمَتْ.

"شكرًا دوفو"، نظرَتْ إلى القبطان.

سألَتْه "الآن ماذا؟"

"عندى متعة"، قالها القبطان بطريقتها عندما تقول: عندى شغف.

اندفعَ بالسفينة وسط أمواج قوية، بدأت النجوم تختفى واحدة بعد أخرى، اختفَتْ كلها وبقى القمر وحده، لون الليل أكثر عُمقًا، انحدرَتْ السفينة بين موجتين عاليتين، بدا أنها وصلَتْ إلى قاع البحر، صعدَتْ إلى السطح، لم يعُد هناك قمر، فقط ليل وبحر، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" بالبحر فوقهما وتحتهما، صوته يملأ الكون، يتردّد صداه عدّة مرات، ملح، زَبَد، رذاذ، رائحة بَحريّة، وأمواج زرقاء تَشعّ أحلامًا.

تنقّلَتْ السفينة بين درجات مختلفة من ألوان الليل، توقّفَتْ فى مساحة ساكنة، ليس بها موج، فقط يرتعش الماء بخفّة، صوت البحر بعيد كأنه وشيش، سحَبَ القبطان ذراعًا حديدية زرقاء بجوار الدفّة، بدأت السفينة تغطس ببطء، لم يتبق من جسمها على سطح البحر غير متر واحد، مشى القبطان إلى رأس المقدمة، فتحَ فى جانبها الخارجى بابًا عَرْضيًا، سحَبَ من داخله شريط فلّين، عَرْضُه مترين، طوله ثلاثة أمتار، وسُمْكه نصف متر، ألقاه على سطح البحر، وقفز إليه، أشار إلى "سيمويا" و"دوفو"، قَفَزَا، تمدّدَ القبطان على بطنه، حَدّقَ فى الماء، فَعَلا مثله، رأيا فى عمق البحر طبقات بألوان مختلفة، زرقاء، خضراء، حمراء، برتقالية، ورديّة، ذهبية، صفراء، بيضاء، بنفسجيّة، تكرّرَتْ الألوان بدرجات مختلفة، بدَتْ كأنها لن تنتهى، حتى رأيا طبقة مُعتمة، نفَذَ بصرهما منها إلى قاع مضئ، بَدَا قريبًا، كادا يمدّان أيديهما إليه، خَشِيَا أن يخدشا هذا الجمال، كأن كل شىء خُلِقَ للتوّ، أو أنه موجود منذ أول لحظة فى الوجود، انمحَتْ ذاكرتاهما، نَسيَا كل لحظة حزن وفرح، تلاشى الوقت والمكان.

 كانا ينظران مباشرة إلى سرّ البحر.

عادوا إلى السفينة.

 توقف "دوفو" و"سيمويا" عند المُقدمة، حدّقَا فى البحر، أدار القبطان الدفّة على مهل، دخل بين أمواج كبيرة، هادئة، ظهر القمر والنجوم من جديد، مرّ وقت دون أن يتكلم أحدهم، نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

قال "والآن؟"

تنهّدَتْ.

"لا أعرف، ليس لدىّ مانع أن نخرج لو أنك تسأل"

"نخرج فى النهاية، كما تعرفين"

نظرَتْ إلى القبطان، كان مشغولاً بالبحر.

"لماذا لا نلتقط معه بعض الصور؟"

ذَهَبَا إليه.

قالت سيمويا "هل تسمح أن نلتقط معك بعض الصور، قبطان؟"

أومأ وهو يتطلّع إلى البحر.

 أعطَتْ "سيمويا" هاتفها إلى "دوفو"، التقط صورًا لها مع القبطان فى وضعيّات مختلفة، كانت تقف فى إحداها بمواجهته وتقول "أُحب هذه النظرة".

أخذَتْ الهاتف من "دوفو"، التقطَتْ صورًا له مع القبطان، نادتْ البحّارة، صوّرَها "دوفو" معهم.

 ظهَرَ الكنجارو واقفًا فوق حافة السفينة.

قالت سيمويا "أنت هنا؟ طبعًا"

أمالَ رأسه يمينًا ويسارًا.

"ترغب فى صورة معنا؟"

قفزَ إلى سطح السفينة، وقف بمواجهتها، نظرَ فى عينيها عن قُرْب، لمحَتْ كرّاس الرسم والقلم الرصاص فى حقيبته، ابتسمَ، مدّ يده وأخذ الهاتف من "دوفو"، تراجع عدّة خطوات، أشار بيده لينضموا معًا، التقط لهم صورة، ألقى بالهاتف إلى "سيمويا"، وقفز خارج السفينة.

"انتظر، كنجارو"، هتفَتْ "سيمويا"، جَرَتْ إلى حافة السفينة، رأته يقفز مبتعدًا.

"أريد أن أرى الرسم"

تباطأ قليلاً، نظرَ إليها من فوق كتفه.

"انتظر، يمكننا أن نكون أصدقاء"

ابتسمَ، وابتعد حتى اختفى.

نظرَتْ إلى الصورة التى التقطها لهم، وجدَتُه فيها معهم، واقفًا خلفها، يده على كتفها، وينظر إلى الكاميرا، ابتسمَتْ، نظرَتْ حيث اختفى، رأت موجة ونورَسًا، عادت إلى "دوفو" والقبطان، نقلَتْ عينيها بينهما، كأنها تطلب أن يُعلن أحدهما نهاية الرحلة، لن تفعل هى.

قال القبطان "لماذا أشعر أنها صور نهاية الرحلة؟"

قالت سيمويا "أخشى ذلك، صديقى"

تطلّعَ إلى البحر.

"تزورينى مرة أخرى؟"

أمالت رأسها على كتفها.

"لا أحد يعرف"

"أكون موجودًا لأجلك"

مرّرَتْ عينيها على زوايا السفينة.

قالت "أريد أن أسألكَ عن شىء"

"لا يستطيع أحد أن يرى سفينتى بنفسه، أنا أُظهر نفسى لمن أختار، لستُ متاحًا"

"كيف عرفْتَ أنى سأسألك عن هذا؟"

"للأسف لم أُخمّن، أنا أعرف ما يفكر فيه كل شخص على سفينتى، ولا تعتقدى أن هذا شىء جيد"

"هذا مخيف"

"ليس لديكِ فكرة"

نظرَتْ إلى الهاتف فى يدها.

"تحب أن تشاهد الصور؟"

"كلها هنا"، وأشار إلى عينيه.

"حتى الصور التى التقطتِها لنا خلال النهار، الهياكل، والسفينة نصف المحطمة"

"أحذُفَها لو أنها تزعجك"

ابتسمَ، ربّتَ خدّها، تأمّلها لحظة.

قال "أعرف، ما زالت لديكِ أسئلة"

هزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا.

"لا أريد أن أعرف إجابتها"

ألقى القبطان نظرة على البحر.

"لا تريدين أن تعرفى أين يذهب البحر نهارًا؟"

"أبقِ هذا سرًا"، أمالت رأسها على كتفها.

"تريد أنتَ أن تسألنى؟"

"أنا أعرفكِ، سيمويا"

ابتسمَتْ عيناها.

نظرَ القبطان إلى "دوفو".

"أنتَ تفكر فى سؤال"

"لكنك ستعطينى إجابة واحدة، أنا أتخيّل عدة إجابات، أعتبرها كلها صحيحة، لن أسألك"

عاد القبطان بالسفينة إلى مكانها الأصلى، وقف مع "سيمويا" و"دوفو" عند بداية السلم، نقلَ عينيه بينهما.

"كنتما سببًا لسعادتى"

 قال دوفو "أنت السبب، شكرًا لك"

تأمّلَتْ "سيمويا" عينى القبطان.

"عِدْنى ألا يمحو شىء هذه النظرة من عينيك"

"لا شىء يستطيع"، أمال رأسه على كتفه بطريقتها.

"قوليها سيمويا، أُحبّ أن أسمعها"

"وكلما قلتُها ابتسمْتَ أنت بخجل"

"لا أستطيع منْعَ نفسى، هذا لم يحدث لى من قبل، غريب غريب"

"جميل جميل"، قرّبَتْ عينيها من عينيه.

قالت "أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ بخجل خفيف.

"وأُحبّ هذه الابتسامة"

ضَمّها إليه، نظرَ فى عينيها.

"لا تفقدى شغَفَك"

قبّلَتْ خدّه.

وغادرَتْ السفينةَ بعد "دوفو".

مشَتْ دون أن تلتفت إليها.

قالت "لا أريد أن أرى سفينتهم تتفكّك، أُحب أن أحتفظ بهم أحياء فى ذاكرتى"

ابتعدا.

 فتحَتْ "سيمويا" ملفّ الصور فى هاتفها، توقفَتْ عند واحدة لها مع القبطان.

همسَتْ "هذه النظرة"، أغلقَتْ الهاتف، أدخلَتْه جيبها، تطلّعَتْ حولها إلى الصحراء الزرقاء.

قالت "إن لم نكن سنزوره ثانية، أعتقد أن عملنا هنا انتهى، أو ما رأيك، دوفو؟"

"ألا تتوقّعين سفينة مشابهة فى مكان ما، قبطان مذهول آخر، أو شىء مختلف؟"

"ربما، لكنى أشعر أنى اكتفيتُ هنا، لدىّ فضول لأعرف ماذا يوجد فى النقاط الأخرى"

تطلّع "دوفو" حوله.

"حسنًا، أعتقد أننا حصلنا على سرّ هذا الموقع، جهّزى تقريرك، نسافر غدًا صباحًا"

غادرا الصحراء الزرقاء.

 طلبَ منها أن تذهب إلى خيمتها، بينما يذهب إلى "بيالو" والطيّارَين ليخبرهم بسفرهما غدًا.

قال "اختارى الموقع الذى ننتقل إليه"

تحمّمَتْ "سيمويا"، تناولَتْ طعامًا خفيفًا، نقلَتْ نسخة من الصور والڤيديوهات إلى ملف خاص فى حاسوبها أسمته "القبطان المذهول"، جهّزَتْ تقريرها عن "النقطة الزرقاء"، واختارت الموقع الذى تسافر إليها غدًا مع "دوفو".

أعدّتْ فنجان قهوة، شغّلَتْ موسيقا بيانو مع صوت البحر.

أخرجَتْ أوراق "الليل" من درج المكتب.

 

الليل

مشينا من جديد، جدّتى، وأنا، تَقِلّ أعداد البيوت تدريجيًا، نصادف أحدها من وقت لآخر، ويتناقص طعامنا القليل.

 جاءت لحظة لم يظهر بعدها أىّ بيت، وجدْتُ نفسى فى طرقات واسعة، مساحات مفتوحة، لا شىء يشبه مدينتى، فى الوقت نفسه لم أكن متأكدة أنى غادرْتُها، ليس مهمًا، حتى إنى لم أشعر بالقلق عندما نفَدَ طعامنا، فكّرْتُ أننا لا بد سنجد شيئًا نأكله، ومهما كان بسيطًا سيكون كافيًا، لكننا، ولمدة يومين، لم نحصل على هذا البسيط، أو أقل منه.

"أنا جائعة"، قلتُ لجدّتى.

 قالت "تأكلين بعد دقائق"، وحرّكَتْ يدها فى الهواء.

 لم أعرف إن كانت تشير إلى شىء مُحدّد كى أنظر إليه أم أنها حركة عشوائية، تساءلْتُ، كيف عرِفَتْ أنى سآكل بعد دقائق، أم أنها فقط تتمنى؟ رأيتُ على مسافة لم أستطع أن أُقدّر إن كانت قريبة أم بعيدة، مصابيح يدوية ملوّنة تتأرجح فى الهواء، كأنها مُعلّقة بخيوط غير مرئية، وقد تراصّت على شكل دائرة، سمعْتُ موسيقا وشمَمْتُ رائحة طعام تأتيان من هناك، جريتُ باتجاه المصابيح، رأيتُ كثيرين يظهرون فجأة من كل اتجاه، سمعْتُ أحدهم يقول "هل تسمع رائحة الطعام؟"، ردّ صاحبه "هل تشمّ الموسيقا؟"، كأن حواسهم ارتبكَتْ وتبادلَتْ وظائفها فرحًا بالعثور على طعام، ربما هما من ارتبك وليست حواسهما، لا أحد يعرف.

 توقفتُ مع الآخرين عند المصابيح، كانت مُعلّقة بخيوط رفيعة تتدلّى من أشجار تصطف فى دائرة واسعة، لها مدخل عبارة عن قوس من ضوء أحمر، مرسوم فى الهواء على ارتفاع أعلى قليلاً من قامة إنسان، توزّعَتْ داخل الدائرة طاولات فوقها مفارش ملوّنة، وأصناف عديدة من طعام يتصاعد منه البخار، رجال ونساء بملابس جديدة يرقصون فى فوضى جميلة، إلا أنهم وطاولات الطعام يختفون ويظهرون بتناغم مع تأرجح المصابيح، بدا لى أن كل واحد، أو أكثر، يرتبطون بحركة مصباح ما، يظهرون عندما ينعكس ضوءه عليهم، ويختفون عندما يبتعد، لم يكن أيًا منهم ينظر إلينا، كأننا غير موجودين، تلفّتُ حولى بحثًا عن جدّتى، رأيتها قادمة على بُعد خطوات، أفسَحَ الجميع لها مجالاً تمرّ منه، ابتسمْتُ للنجمة الواثقة لوزيّة العينين، هذه جدّتى لو أنكم لا تعرفون، لكنهم على الأرجح لن يعرفوا، لأنها لم تُعرنى أىّ اهتمام، أنا هنا، شكرًا لأنها لم تهتم بأىّ أحد آخر، اتجهَتْ إلى المصابيح، أمسكَتْ بواحدٍ منها وثبّتته، توقفَ رجلان وامرأتان من الموجودين داخل الدائرة عن الاختفاء، ابتسموا لها، تركَتْ المصباح، ظَلّ ثابتًا، جاءت إلىّ، أمسكَتْ بيدى ودخلنا الدائرة.

 فَعَلَ الجميع مثل جدّتى، يُثبّتُ الواحد منهم أحد المصابيح، فيتوقف واحد، أو أكثر من الموجودين داخل الدائرة عن الاختفاء، ويبتسمون له، كأنها دعوة للدخول، وبمجرد دخوله يحصل على ملابس جديدة.

ثبتَتْ جميع المصابيح، امتلأت الدائرة ببشر فى ملابسهم الجديدة، كنت وجدّتى منهم، أكلنا ورقصنا كأننا لم نصادف ألَمًا فى حياتنا، ولا نتوقّع أن نصادفه، أعتقد أن حواسّى وقتها كانت تتبادل وظائفها.

قضينا فى هذا المكان ما يقارب ليلة، ما زال بإمكانى تقدير الوقت ولو بالتقريب، اختفَتْ بعدها طاولات الطعام، تلاشى الأشخاص الذين وجدناهم عند وصولنا، وحدها المصابيح ظلّتْ بأماكنها لتكشف لنا أننا صرنا وحدنا، فى العراء، عادت إلينا ملابسنا القديمة، نظرنا إلى بعضنا بعضًا دون كلام، بحثْتُ بعينىّ عن جدّتى، رأيتها تقف وحدها خارج دائرة الأشجار، وعلى وجهها ابتسامة لم أفهمها، شعرْتُ أنها تقف هناك منذ البداية ولم تدخل بالأساس.

انصرفَ الجميع فى اتجاهات مختلفة، يختفى الواحد منهم بعد خطوات قليلة، كأنما يدخل سردابًا غير مرئى، مشيتُ إلى جدّتى.

 سألَتنى "مستعدة؟"

 قالتها ببساطة كأننا فى رحلة، وهذا ما كنت أشعر به فعلاً، أشرْتُ لها لتتفضّل بالخطوة الأولى.

 "الجدّات أولاً"

 غمزَتْ لى بعينها وهى تمرّ من أمامى وتُعدّل وضع الحقيبة على ظهرها.

 مشيتُ إلى جوارها، كانت تمشى بإيقاع واثق، كأنها تعرف المكان حولنا، على الأقل لديها فكرة عنه، أو ربما هى فقط طريقتها السهلة فى التعامل مع الأشياء، لم أسألها كيف عرِفَتْ أنى سآكل بعد دقائق عندما أخبرتها أنى جائعة، وسِرّ المصابيح، لستُ متأكدة بالأساس أنها تعرف سرّ تلك الأشياء، يمكن للأمر كله أن يكون مصادفة، أو حَدْسًا منها، أُفضّل أن أحصل بنفسى على إجابة، وإذا احتجتُ أن أسألها عن شىء فيما بعد، فهى موجودة، لن تطير، وإنْ كنت لا أستبعد أن تفعل، ليس لأنها خارقة، هى ليست كذلك، أو لأنها تعرف أشياء لا أعرف كيف عرفَتْها، هذا طبيعى، فقط أشعر أن بإمكانها أن تفعل الأشياء، هكذا، ببساطة، حتى إن طيرانها لن يبدو شيئًا غريبًا، أو حتى صعبًا، سيبدو معها مثل شىء عادى، يمكن لأىّ شخص أن يفعله.

تخيّلتُها فى الهواء، بسيطة، عادية، والكثيرون يتطلّعون إليها، يتهامسون "هذا سهل، أستطيع ذلك"، يفتحون أذرعهم، ويطيرون، هكذا، ببساطة.

سألْتُ جدّتى "برأيك إلى متى يمكن أن نبحث عن النهار؟"

قالت "هل تبحثين عنه بالفعل؟"

"ليس تمامًا، أنا فقط أمشى وأكتشف ما يحدث"

"حسنًا، لنفعل ذلك معا"

تأمّلْتُها لحظة.

قلت "لا أعتقد أنك تكتشفين وفقط، علاقتك بما يحدث ليست كعلاقتى به"

"هذا طبيعى"

فكّرْتُ فى إجابتها البسيطة، المفتوحة على كل الاحتمالات، سبقتُها خطوتين، مشيتُ بظهرى وأنا أنظر إليها.

قلت "لو كان لكِ الاختيار، أيهما تُفضّلين، أن تكونى موجودة فى جانب الليل أم النهار؟"

"أُفضّل الجانب الذى تكونين فيه"، قالت، ومرّتْ بجوارى.

لحِقْتُ بها، ابتسمَتْ لى عيناها، طلبْتُ أن أحمل عنها الحقيبة، هزّتْ رأسها نفيًا.

دخلنا طريقًا ملتويًا، تحوّل بعد قليل إلى ممرّ مفروش بحصى أبيض، على جانبيه أشجار عالية لم أستطع أن أرى نهايتها، سألْتُ جدّتى إن كانت تعرف اسمها.

 قالت "أشجار السحاب"

"أنتِ تخترعين اسمًا"

"ليكن، لم لا؟"

 أوصَلَنا الممرّ إلى أرض من رمل برتقالى، سمعْتُ نغمات بيانو، مشينا فى الاتجاه الذى اعتقدنا أنها تأتى منه، مرّ وقت ولم أشعر أننا اقتربنا أو ابتعدنا، هى درجة الصوت نفسها، توقفْتُ، تلفّتُ حولى.

 قلت "بيانو، اكشف عن نفسك، أو ..."

 قالت جدّتى "أنتِ من طلَبْت"

 مشينا خطوة، انقطع صوت البيانو.

 قلت "لم أطلب منه أن يصمت"

"ربما اعتقَدَ أن هذا ما تريدينه"

سمعْتُ صوت ماء يترقرق، تلفّتُ حولى، رأيت من بعيد خَطًا يتلألأ على الأرض، قادم باتجاهنا، تحوّل إلى قناة عرضُها متر، مرّت بجوارنا.

شرِبنا، وملأنا الزمزميّتَين.

قالت جدّتى "لماذا لا نرتاح هنا قليلاً؟"

أقمنا الخيمة.

ذهبَتْ الجدّة تتجوّل فى الجوار.

استلقَيتُ على ظهرى قرب القناة، تأمّلْتُ النجوم، لاحظْتُ اختلافات طفيفة فى حجمها، درجة لمعانها، القليل منها بها مَسّ من ألوان خاصة، أحمر، ذهبى، أو أزرق، صنعْتُ من بعضها أشكالاً، هذا قارب، هذه غزالة، فراشة، سمكة، وما هذا، طفل؟ لا، طفلة، لديها ضفيرتان صغيرتان، تُمسك بيد أمها، تمشيان معًا، كانت مجموعة النجوم التى تمثّلهما تتحرّك إلى الأمام خطوة بعد أخرى، وتزداد لمعانًا، حتى لم يعد بإمكانى النظر إليها، أوشكْتُ أن أُحوّل عينىّ عنهما، لكن الطفلة وأمها تحوّلتا إلى ندف صغيرة تساقطَتْ إلى الأرض، جلَسْتُ فى مكانى وتتبّعتُها بعينىّ، تجمعَتْ فى نقطة بعيدة على حافة قناة المياه، رأيت هناك امرأة تجلس على ساقيها وتُحَمّم طفلة رضيعة، كانت تفاصيل الطفلة واضحة لى بشكل خاص، وجه مدوّر، عينان مفتوحتان على السماء، جسم وردىّ، رأيت يديها عن قُرْب وهما تضربان الماء، سمعْتُ ضحكتَها، مدَدْتُ يدى إليها، كِدْتُ ألمسها، شعرْتُ بيد تحطّ على كتفى، انتفَضْت، كانت جدّتى، تأمّلْتُها لحظة، نظرْتُ حيث كانت الطفلة وأمها، لم أجدهما، رأيت الماء هناك مضطربًا، أغلقْتُ عينىّ لحظة، سمعْتُ ضحكة الطفلة، فتحْتُ عينىّ، رأيت الماء ساكنًا، قالت جدّتى شيئًا ما، حدّقتُ فى عينيها، أوشكْتُ أن أسألها عن أبى وأمى، شعرْتُ بلسانى ثقيلاً، لم أنطق، أو ربما حدث معى شيئًا يشبه ما يحدث لأحدهم فى حلم عندما يتكلم ولا يصدر عنه صوت، ضمّتنى إلى حضنها.

 قالت "أنتِ فى حاجة إلى الراحة"

 دخلَتْ بى الخيمة، وضعَتْنى فى السرير، جلسَتْ إلى جوارى تمسح شعرى.

أغلقْتُ عينىّ.

 فكّرْتُ، جدّتى لم تُحدثنى أبدًا عن أبى أو أمى، حتى إنى لم أر صورة لأىّ منهما فى البيت، ليست لى صورة مع أحدهما، اكتشفْتُ أنى لم أسألها عنهما فى أىّ وقت، أكثر من ذلك، لم أشعر أبدًا برغبة أن يكون لى أب أو أم، أو أكون ابنة، ولا أشعر أن شيئًا ينقصنى عندما أرى أحدهم مع أبيه أو أمه.

 سألْتُ نفسى، لماذا لم أسألها عن أبى وأمى أبدًا؟ لا أذكر أنى عشتُ يومًا معهما، لم أتحدّث عنهما لأحد، أذكر أنى صادفْتُ أشخاصًا لم يروا آبائهم أو أمهاتهم، رغم ذلك يتحدثون عنهم، ويتمّنون لو أنهم قابلوهم أو عاشوا معهم لبعض الوقت، لماذا لم أشعر بمثل هذا أبدًا؟ لم أفكر فى أبى أو أمى ولو لحظة واحدة، لماذا لا أشعر ولو بقليل من الأسف لأنى لم أرهما، والآن، وأنا أتساءل عن هذا كله، ما زلت لا أشعر بأية رغبة أن يكون لى أب أو أم، أو أكون ابنة، ردّدْتُ بينى وبين نفسى "أمى، أبى، أمى، أبى"، لم يتحرك فىّ أىّ شعور لهما، تساءلْتُ، لو أنى بالفعل لم أفكر فيهما أبدًا، لماذا أفعل الآن؟ ربما بسبب الحادث، عدم ظهور النهار، الليل المتواصل، الأم وطفلتها اللتان سقطتا من السماء، أعتقد ذلك، يمكننى أن أتوقع أىّ شىء. 

فتحْتُ عينىّ، ما زالت جدّتى تمسح شعرى.

 قلت وأنا أنظر إلى سقف الخيمة "جدّتى، هل سألتُكِ يومًا عن أبى وأمى؟"، لم أكن أنتظر إجابة، ليس الآن على الأقل.

 توقفَتْ يدها على شعرى لحظة، عاودَتْ الحركة ببطء.

 قلت "حسنًا، ليس الآن"، أغمضْتُ عينىّ، أعتقد أنى نِمْت.

عندما استيقظْتُ لم أجد جدّتى، نظرْتُ من فتحة الخيمة، رأيتها جالسة عند قناة المياه تقرأ فى حزمة أوراق.

 أعرف هذه الجِلْسة، هذه الأوراق، لكنى لا أعرف ما تحويه، رأيت جدّتى فى هذا الوضع مرتين من قبل، أذكرهما جيدًا.

الأولى، كنت قد انتهيتُ للتوّ من تجهيز أول تحقيق صحفى لى، وأردتُ أن تقرأه جدّتى قبل أىّ أحد، ذهبْتُ إلى حجرتها، طرقْتُ الباب وفتحتُه دون أن تأذن لى بالدخول، رأيتها مُتربّعة بمنتصف سريرها مثل طيف، تستند بيدها إلى ذقنها، وتنظر إلى الأوراق، توقفْتُ فى فتحة الباب، رفَعَتْ عينيها إلىّ ببطء، كانت تنظر من حياة أخرى، شعرْتُ بمزيج من الشفقة عليها والخوف منها، تمنّيتُ لو أُربّتُ صدرها وفى الوقت نفسه أردتُ الهَرَبْ، بقيتُ فى مكانى لحظات، انسحبْتُ أخيرًا، وأغلقْتُ الباب.

المرة الثانية، قبل أيام من حادثة الليل والنهار، كنت عائدة من سفر لعدّة أيام خارج المدينة، دخلْتُ البيت عند الثانية صباحًا تقريبًا، رأيت ضوء المطبخ، اعتقدْتُ أن جدّتى هناك، ربما لا، مشيتُ إليه، شعرْتُ بحضور بشرىّ، قلت "أنا هنا"، وقفْتُ فى فتحة الباب، رأيت جدّتى جالسة إلى الطاولة بمنتصف المطبخ، تستند بذقنها إلى يدها، وتنظر فى الأوراق، رفعَتْ عينيها إلىّ، ومثل المرة الأولى شعرْتُ بالشفقة عليها والخوف منها.

تأمّلْتُ جدّتى من داخل الخيمة وهى تقرأ الأوراق، ومثل المرتين الأولى والثانية، شعرْتُ بالشفقة والخوف، لم أنتظر حتى ترفع عينيها إلىّ، عُدْتُ إلى سريرى، دخلَتْ جدّتى بعد لحظات، أغلقْتُ عينىّ، شعرْتُ بها وهى تعيد الأوراق داخل الحقيبة، مسَحَتْ أطراف شعرى، فتحْتُ عينىّ، ابتسمَتْ.

 قالت "تشعرين بتحسّن؟"

 جلَسْتُ.

 "أنا بخير جدّتى"

 مدّتْ يدها لى بزمزميّة الماء.

 "اشربى، واغسلى وجهك"

 أخذْتُها منها.

 "أشرب فقط، لن نهدر الماء"

 "أعدُكِ ألا نموت جوعًا أو عطشًا"

 أنزلْتُ القربة من فمى.

 "كيف عرفتِ جدّتى؟"

 صمتَتْ لحظة.

قالت "لم أعرف"

خرجْتُ وزمزميّة الماء بيدى، نظرْتُ حيث كانت الأم تُحمّم طفلتها، لا شىء، غسَلْتُ وجهى من ماء القناة، ملأتُ الزمزميّة، التفَتُ خلفى، رأيت جدّتى تُدخِلُ الخيمة فى الحقيبة، وضَعَتْها على ظهرها ومشَتْ إلىّ، ابتسمَتْ، أمالت رأسها على كتفها.

 سألتنى "جاهزة؟"

 "لِمَ لا أحمل عنكِ الحقيبة قليلاً؟"

"تفعلين، فيما بعد"

 ومشينا.

فكّرْتُ، أنا لم أشغل نفسى بأوراق جدّتى فى أىّ وقت، ولا بالصور والڤيديوهات التى تحتفظ بها ولم تجعلنى أراها أبدًا، وكلها موجودة فى الحقيبة، لكنى أفكر فيها الآن، أتوقّع أن تُحدثنى عنها فى النهاية، أتمنّى أن تفعل قبل النهاية، أنا لن أتسلل إلى أوراقها لأقرأها، لكنى لا أضمن ألا أسألها عنها فى وقت ما، ربما يكون قريبًا.

 صرْتُ مهتمة بالأوراق، لأنى أشعر بوجود علاقة بينها وبين وما يحدث.

 

(5)

استيقظَتْ "سيمويا" عند السابعة صباحًا، جلسَتْ على طرف السرير، نظرَتْ إلى أوراق "الليل" فوق سطح المكتب، فكّرَتْ فيما قرأته الليلة الماضية عن أن الحفيدة "بينورا" لم تشعر يومًا بأنها تحتاج أبًا أو أمًا، ولم تسأل جدّتها عنهما أبدًا.

همسَتْ لنفسها "أنا أيضًا".

 لم ترَ "سيمويا" أباها أو أمها أبدًا، ولو فى صورة، لم تشعر يومًا بحاجة لأىّ منهما، لا تشعر أن شيئًا ينقصها عندما ترى أحدهم مع أمه أو أبيه، كان غريبًا بالنسبة لها أنها لم تلاحظ ذلك إلا بعد أن قرأت أوراق "الليل".

لم تتذكّر أنها رغبَتْ يومًا أن تكون ابنة، لطالما أحبّتْ أن تكون حفيدة، وأكثر من ذلك، لم تشعر أبدًا برغبة أن تكون أُمًا، اكتشفَتْ أنها طوال الوقت تتمنّى أن تكون جدّة، كان مفهومًا لها إلى حدٍ ما عدم رغبتها أن تكون أُمًا حتى الآن، ربما يتعلّق الأمر بسنّها، لكن ماذا عن أمنيتها بأن تكون جدّة فى هذه السّن الصغيرة نفسها؟

 شعرَتْ أن الأمر لو عُرِضَ عليها من جديد، وكان لها الخيار بين أن تكون ابنة أو حفيدة، أُمًا أو جدّة، لاختارت الحفيدة والجدّة.

 نهضَتْ، تحرّكَتْ بعشوائية وهى تقول "غريب، غريب"، توقّفَتْ.

 قالت لنفسها "اهدأى سيمويا، أنتِ بخير"

 شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا بيانو، دخلَتْ الحمّام، نظرَتْ لنفسها فى المرآة.

 "ما ذنبكِ، هذا ما تشعرين به، كل شىء بخير"

 تحمّمَتْ، أكَلَتْ ثمرة خوخ، خمس حبّات لوز، بدّلَتْ ملابسها، جهزّتْ حقيبتها للسفر، راجَعَتْ تقريرها عن "النقطة الزرقاء"، سمعَتْ صوت "دوفو" أمام الخيمة يناديها.

"سيمويا، صباح الخير"

فتحَتْ له.

يحمل حقيبة الظهر خاصته.

قالت "أنت جاهز"

"وأنتِ؟"

"جاهزة، تفضّل"

عادت إلى مكانها أمام الحاسوب، وَقَفَ "دوفو" بجوارها.

قال "أرسلْتُ تقريرى عن النقطة الزرقاء إلى إيميلك، يمكنكِ الآن أن ترسلى التقارير الثلاثة إلى بيالو ومركز الأبحاث"

كان جزءًا من طريقة عملهما أن يكتبا ثلاثة تقارير عن المواقع

التى يدرسانها، أحدها يكتبه "دوفو"، الآخر تكتبه "سيمويا"، ثم يقومان بكتابة تقرير مشترك.

إلا أنهما فى حالة "النقطة الزرقاء"، سيكون لديهما تقرير سرّى عن رحلتهما مع القبطان المذهول، وسفينته، يحوى الصور والڤيديوهات، لن يكشفا عنه حتى ينتهيا من دراسة كل النقاط الأخرى، أو ربما يبقى سرًا بينهما، لا أحد يعرف.

أرسلَتْ "سيمويا" نسخة من التقارير الثلاثة إلى مركز الأبحاث، وأخرى إلى "بيالو"، فتحَتْ الملفّ الذى يحوى جميع نقاط المهمة، توقفَتْ بمؤشر الفأرة عند إحداها.

"اخترتُ الموقع الذى نذهب إليه"

نظرَ "دوفو" إلى شاشة الحاسوب.

قال "جبل النور، لسبب محدّد؟"

"أعجبنى الاسم"

نظرَ إليها.

"مُقنِع جدًا، أعنى ذلك"

ظلّتْ عينا "سيمويا" على "جبل النور"، لكنها لم تكن تنظر إليه بالفعل.

سألها دوفو "أنتِ بخير؟"

نظرَتْ إليه.

"نعم، أنا بخير"

تأمّلَها لحظة.

قال "حسنًا، يمكننا أن نتحرك"

ودّعَهُما "بيالو" عند الطائرة.

 طلبَتْ "سيمويا" من الطيّار أن يطير فوق الصحراء الزرقاء ببطء، وعلى ارتفاع منخفض، علّقَتْ الكاميرا خاصّتها على صدرها، فتحَتْ باب الهليكوبتر، وقف "دوفو" بجوارها، بَحَثَا عن سفينة القبطان المذهول.

"هناك"، هتفَتْ "سيمويا" وهى تشير إلى السفينة.

 طلبَتْ من الطيّار أن يدور حولها، رأيا تفاصيلها بوضوح، هيكلاً عظميًا متشبّثًا بالدفّة، شراعًا ممزقًا، هياكل عظمية تستند لبعضها بعضًا.

صوّرَتْ "سيمويا" السفينة من زوايا مختلفة، ابتعدَتْ الطائرة عنها، ظلّتْ "سيمويا" تنقل عينيها فى الصحراء الزرقاء كأنما تبحث عن شىء ما، رأت الكنجارو قادمًا باتجاهها وهو يتطلّع إليها، هتفتْ.

"الكنجارو"

جرى مع الهليكويتر، قلّلَ الطيّار من سرعته وارتفاعه حتى صار على بُعد أمتار قليلة منه، فتحَ الكنجارو فمه بابتسامة كبيرة، التقطَتْ له "سيمويا" صورًا قريبة، قفز لأعلى قدْر استطاعته وهو يمدّ يده إليها، وحقيبته البرتقالية تطير تحت ذراعه، أعطَتْ الكاميرا إلى "دوفو"، مدّتْ يدها إلى الكنجارو، كان يقترب منها أكثر مع كل قفزة، و"دوفو" يصوّرهما، لَمَسَتْ "سيمويا" رأس الكنجارو فى إحدى قفزاته، توقّف بعدها فى مكانه، وابتسمَ لها.

قال الطيّار "يمكننا أن نلتقطه"

تعرف "سيمويا" أن "الكنجارو" لن يحب ذلك.

 ارتفعَتْ الطائرة، ظلّت "سيمويا" تنظر إلى الكنجارو، وينظر إليها، حتى تلاشى كلٌ منهما من عينى الآخر.

"لا تنسنى"، همسَتْ "سيمويا".

أغلقَ "دوفو" باب الطائرة، عاد و"سيمويا" إلى مكانيهما، بدأتْ تتفرّج على الصور التى التقطَتْها للسفينة، وصورها مع الكنجارو وهو يقفز إليها بينما تقف فى فتح باب الهليكوبتر وتمدّ يدها إليه، شهقَتْ وهى تُحدّق فى صورة ظهر فيها الكنجارو قريبًا جدًا من الطائرة، يبتسم ابتسامة كبيرة، حقيبته مُعلّقة فى كتفه وتطير إلى جواره، بينما تُمسك بإحدى يديها مقبضًا فى فتحة باب الهليكوبتر، جسمها كله تقريًبا فى الهواء، ويدها الأخرى ممدودة إلى أسفل تلامس رأس الكنجارو.

تأمّلَتْ الصورة قليلاً، نظرَتْ إلى "دوفو".

"كيف التقطتَ هذه؟"، قرّبتْ الكاميرا منه، مال "دوفو" ونظر إلى الصورة، ابتسمَ، وحرّكَ يده على شكل موجة.

قالت سيمويا "يدى تلمس رأس الكنجارو، أمسكْتَ باللحظة، شكرًا دوفو"

"أهلاً بكِ، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

سمِعا صوت قائد الطائرة يقول "أمامنا11 ساعة إلى "جبل النور"، حسب فروق التوقيت نصل قبل منتصف الليل بقليل، استرخوا أو العَبوا، عن نفسى أبدأ بالصراخ، ياهااااااااااااااا"

هتفَتْ له سيمويا "عندى شغف، ياهياااااااااااا"

ضحِكَ "دوفو" ضحكة قصيرة، شغّل فى فيديو المقعد فيلمًا وثائقيًا عن "الكنجارو"، نظرَتْ "سيمويا" عبْرَ زجاج النافذة، أسندَتْ رأسها إلى مقعدها، ابتسمَتْ ابتسامة خفيفة، أغمضَتْ عينيها، رأت سطور أوراق "الليل" الزرقاء، فكّرَتْ فى الحفيدة "بينورا"، والأشياء المشتركة بينهما، كلٌ منهما بلا أب أو أم، لديها جدّة، بيتها يطلّ على ميدان، وتعشق الشيكولاتة.

فكّرَت فى الجدّة صاحبة العينين اللوزيتين، هل تعرف شيئًا مُسبقًا عن رحلتها مع حفيدتها؟ نظرَتْ إلى حقيبتها، تحسّستْ حافظة أوراق "الليل"، فكّرَتْ أن تقرأ منها، تراجعَتْ، ربما يلاحظها "دوفو"، كما أن العالم ما يزال نهارًا، أعجبها أن تقرأ ليلاً فقط.

بعد أن تناولا الغداء، قرأ "دوفو" فى رواية، شغّلَتْ "سيمويا" فيلم رومانسى قديم، وعندما تلوّنَتْ السماء بالبرتقالى، استدارت بجسمها كله إلى النافذة، نظرَتْ عبْرَ زجاجها، انتظرَتْ اللحظة التى تنتقل فيها الطائرة من النهار إلى الليل، لكنها، عند لحظة ما، وجدَتْ نفسها داخل ليل كامل.

 سَمِعَتْ قائد الطائرة يقول "آسف سيمويا"

 "لا عليك، أنا أيضًا لم أستطع الإمساك بها"، قالت "سيمويا"، ونظرَتْ إلى "دوفو".

"أنتقل إلى الخلف، لبعض الوقت"

أومأ بابتسامة.

 انتقلَتْ بحقيبتها إلى المقعد الأخير، نظرَتْ عبْرَ زجاج النافذة، رأت نجومًا وسحابًا بنفسجيًا.

 أخرجَتْ أوراق "الليل" من الحقيبة.

وبدأتْ تقرأ.

 

الليل

أثناء مشينا، نرى على البُعد أشكالاً مختلفة، بيوتًا، أشجارًا، وغيرها، لكنها تتلاشى عندما نقترب منها، كأنها سراب ليلىّ.

رأيت خطًا من نور ناصع البياض يمتد فى الأفق، لم أعرف إن كان يهبط من السماء أم يصعد من الأرض، بدا لوهلة كأنه نهار، تمنّيتُ ألا يكون. سألْتُ جدّتى "هذا نهار؟"

كانت تنتظر اكتمال المشهد، قلت لنفسى "هى مثلى لا تعرف".

 تقلّصَ خط النور، ارتفع بقمّة مُدَببة، انطلقَتْ منه كُرات تطير عاليًا وتنفجر لتنثر نورًا لا يسقط إلى الأرض، إنما يظل هناك، يحجب فى كل مرة جزءًا من الليل، قلتُ لنفسى إن النهار الذى أعرفه لم يكن يفعل ذلك، لكنها ربما تكون لعبة جديدة، فأنا لا أعرف كل شىء عنه بالأساس، رأيت أشخاصًا يظهرون من كل اتجاه ويتابعون المنظر، ارتفعَ خط النور كثيرًا عن الأرض، تشكّلَ على هيئة مثلث كبير، توقّفَ عن إطلاق كرات النور، أدركْتُ أنه ليس نهارًا، يبدو كأنه جبل من نور، توقفنا، نتطلّع إليه وننتظر إشارة.

الإشارة كانت جدّتى.

 مَشَتْ إلى الجبل، مشينا معها، اقتربنا منه، رأيت قنوات من النور تسيل باتجاهنا مُحمّلة بكسرات صخور منوّرة، راقبوها بحذر، نظرَتْ جدّتى إليها باطمئنان، جلسَتْ على حافة إحدى القنوات، غمسَتْ أصابعها فى النور، بلّلتْ به شفتيها، ابتسمَتْ لنا ورذاذه يقطر من أصابعها، جلس بعضهم إلى القنوات، جرى البعض الآخر إلى الجبل، جلسْتُ بجوار الجدَة، لمَسْتُ النور، دافئ، نظرْتُ إليها.

قالت "لنصعد الجبل؟"

صخوره من نور صلب، تسبح بداخلها ندف بيضاء هشّة، تضطرب مع كل خطوة، تتحرك فى اتجاهات مختلفة، وتعود بالتدريج لحركتها العادية، بَدَتْ وضعيّات الصخور كأنها فى نظام يُكوّن مجموعات من السلالم، تتخلّلها ممرّات تؤدى إلى بعضها بعضًا، صادفْتُ شلالات صغيرة من نور، لها صوت متلألئ يرنّ فى صدرى، شرِبْتُ منها، أوقفتنى جدّتى معها تحت واحدٍ منها، تحمّمْنا نورًا، ظلّتْ قطراته عالقة بى لبعض الوقت، شعرْتُ بها تسيل فى خطوط جسمى، كنتُ منتشية.

اقترحَتْ جدّتى أن أنطلق وأكتشف المكان وحدى، طلبْتُ أن أحمل عنها الحقيبة, هزّتْ رأسها نفيًا وأدارت لى ظهرها.

قفزْتُ فوق قنوات متجاورة، تطلّعْتُ حولى، رأيت وعولاً وغزالات من نور تمشى على حافة الجبل، تتوقف بين خطوة وأخرى لتنظر إلىّ، تميل برأسها يمينًا ويسارًا، فعلْتُ مثلها، لوّحْتُ لها، تناطَحَتْ برفق كأنما تداعب بعضها بعضًا، لمحْتُ رذاذ النور يتناثر من بين رؤوسها، رأيت فى جانب آخر فهودًا مُرقّطة برسومات من نور أحمر وأبيض، وفى مساحة مُنبسطة كان قطيع ماعز يأكل عشبًا من نور ملوّن، راقبْتُ إحدى العنزات وهى تُرضع أطفالها من ضرع كأنه كتلة نور فى حالة بين السيولة والصلابة، كلما توقّف أحد الصغار ليلتقط أنفاسه، انفلَتَ من جانب فمه خيط نور حليبىّ.

  عثرْتُ على كهف يشعّ منه النور، دخلْتُه، كلما توغلْتُ صار نوره أكثر رقّة، وصفاء، فكّرْتُ أن وجودى ربما يُعكّره، أو يؤلمه، شعرْتُ به على شعرى وأصابعى كأنما يقول لى "أهلاً بك".

 خرجْتُ من الجهة الأخرى للكهف، وجدْتُ مساحة تغطيها أشجار قصيرة من نور، لا يزيد ارتفاعها عن ذراع واحدة، تحمل ثمارًا صغيرة من نور أبيض مُتكثّف، ومُغلّفة بأخضر شفاف، بَدَت كحالة بين الورد والفاكهة، قطفْتُ ثمرة، سقط عنها الغلاف الأخضر، استقرّتْ الكتلة البيضاء فى يدى، كانت مُغوية بالأكل، كأنما حياتها أن تؤكل، وضعْتُها فى فمى، لها طعم خبز هشّ مُحلّى بالسكر، مُشبِعَة وفى الوقت نفسه مُحرّضة على تناول المزيد، احترْتُ هل أتوقف أم آكل أكثر، كلما قطفْتُ ثمرة ظهرَتْ فى الحال واحدة أخرى ناضجة.

صعدْتُ إلى قمة الجبل، وجدْتُ زهورًا من نور تتمايل برفق مع الهواء، بِرَك مياه صغيرة تسبح فيها أسماك، وفى الهواء عصافير، وفراشات تطير على مهل، أحاطنى سرب منها لدقائق، تفرّق فراشة بعد أخرى، جلسْتُ عند حافة إحدى البرَك، تأمّلْتُ فيها السمك الصغير، رأيت أحشاءه خيوطًا من نور، مدَدْتُ يدى، ظلّتْ الأسماك هادئة، مسحْتُ على بطنها بأطراف أصابعى، لم أستطع أن أقاوم فضولى، أخرجْتُ سمكة من الماء، انفجرَتْ مثل فقاعة رهيفة وتحوّلتْ إلى رذاذ من نور، تلفّتُ حولى، رأيتُ البعض يقطفون الأزهار، فتتحوّل على الفور إلى رذاذ وتتلاشى، توقّعْتُ أن شيئًا مثل هذا يحدث مع الفهود، الوعول، الفراشات، وبقية كائنات الجبل.

بحثتُ بعينىّ عن جدّتى، رأيتها على مسافة قريبة، تمشى بخفّة كأنها لا تحمل على ظهرها حقيبة بها كل أغراضنا، ازداد حبى لها فجأة، كثيرًا ما يحدث لى دون مناسبة أن أنظر إلى شخص أحبه، فأشعر بدفقة قوية من المشاعر تجاهه، وأنى صِرْتُ أحبه أكثر.

 همَسْتُ وأنا أنظر إلى جدّتى "أحبّك"

 توقفَتْ ونظرَتْ إلىّ، فكّرْتُ أنها سمِعَتْنى، أعرف أن قلبها مَن سمعنى، ذهبْتُ إليها، سألَتْنى إن كنت استمْتَعْت.

 قلت "جدًا، وأنتِ؟"

 قالت بحماس أقلّ "نعم"

مشينا إلى زاوية فى قمّة الجبل على شكل قوس كبير، لها حافة بارتفاع متر، بَدَتْ كأنها شُرْفة، تطلّعنا إلى الليل، مرّت نسمة هواء، تطاير شعر جدّتى مثل موجة من حرير أبيض.

 سألتُها "ماذا تعتقدين أنه يحدث الآن فى جانب النهار؟"

 "يمشون مثلنا"

 "وهل هناك مَن يقف الآن على جبل غير عادى، مثلما نقف؟"

 "ماذا تتوقّعين أنت؟"

 لمسَتْنى دفقة هواء باردة، أسندْتُ ذراعىّ على حافة الشرفة، أغمضْتُ عينىّ، رأيت عينين مدوّرَتَين، فى كلٍ منهما دوّامة مياه، عرفْتُ أنهما عينا النوم، أراهما للمرة الأولى، لكنى عرفتهما، حدّقْتُ فيها، أو حدّقَتَا فىّ حتى نِمْت، حسْب ما أظن.

فتَحْتُ عينىّ، شعرْتُ بطعم العسل فى فمى، لمَسْتُ شفتىّ بطرف لسانى، كان هناك أيضًا، تلفّتُ حولى، وجدْتُ نفسى مُمدّدَة فى سريرى بالخيمة، جدّتى جالسة بمواجهتى على طرف سريرها، ابتسمَتْ لى، حاولْتُ أن أتذكر متى عُدْتُ إلى الخيمة.

 قلت "آخر ما أذكره وقوفنا فى الشرفة، فوق الجبل"

 قالت "تحدثنا هناك عمّا يمكن أن يكون عليه الحال فى جانب النهار، ثم أغمضْتِ عينيك، وتخيّلْتِ بعض أشياء"

 "أشياء مثل ماذا؟"، واعتدلْتُ جالسة.

"بحيرات عسل، مطر، وسيرك، نزلنا بعدها من الجبل، مشينا بعض الوقت، قابَلَنَا شاب، وخَمّنى ماذا سألنا؟"، صَمَتَتْ لحظة.

رأيت آثار عسل بأطراف أصابعى.

قالت "سألَنا عن السيرك، إنْ كنا صادفناه، أجبْتُه بأنى لم أره، لكنكِ أشَرْتِ له تجاه نقطة ورديّة فى السماء، وقلتِ أنه سيجده تحتها، شَكَركِ الشاب، وخمّنى ثانية ماذا أعطاكِ؟"

 أشارت إلى نقطة فى الأرض قريبة منى.

 قالت "قرص عسل ورغيف خبز"

القرص ذهبىّ اللون، الرغيف أحمر، وكبير.

"بعد أن انصرف الشاب سألتُكِ إن كنتِ تعرفينه، قلتِ لا، سألتُكِ كيف عرفْتِ بوجود السيرك، قلتِ أنك رأيتِه عندما كنتِ فوق الجبل، قبل وقوفنا فى الشرفة"

 قلت "لا أذكر شيئًا من هذا كله، لكنى حلمتُ بالعسل، الشاب، النهار، وكنتِ معى"

 ابتسمَتْ.

 "ماذا رأيتِ؟ احكِ لى"

 نظرْتُ بعيدًا، كنت أريد تجميع مقاطع الحلم، شعرْتُ أنى أحتاج لرؤيته ثانية، انتقلَتْ جدّتى إلى جوارى.

قالت "حاولى، فقط استلقى على ظهرِك وأغلقى عينيك"، وضعَتْ إحدى يديها على صدرى والأخرى على ظهرى، وأعادتنى إلى وضعى مُستلقية.

"يمكنكِ أن ترى حلمكِ من جديد"

 لمسْتُ شفتىّ بطرف لسانى، وابتلعْتُ ريقى العَسَلى.

 بدأ الحلم يتشكلّ فى عقلى.

 قلتُ كأنى أقرأ من كتاب "الوقت نهار، الشمس ساطعة، أنا وأنتِ مع ناس لا أعرفهم، كنا جوعى وعطشى، نمشى فى صحراء لونها بُنّى، سمعنا صوتًا شابًا يأتينا من كل الجهات، يهتف "تعالوا، العرض مجانى"، توقّفنا وتلفّتنا حولنا، رأينا لون الصحراء فى أبعد نقطة يتحوّل إلى الوردىّ ويتقدّم باتجاهنا، يزداد معه الصوت وضوحًا "العرض مجانى"، توقّفَ اللون الوردىّ عند أقدامنا، بَدَا لى مثل تراب ناعم، تحسّسته بقدمى الحافية، به بلل خفيف، "تعالوا، هنا"، قال الصوت، رأينا شخصًا يقف على مسافة ليست بعيدة، لم تكن ملامحه واضحة، جرينا إليه، عندما وصلنا شعرْتُ أنى قطعْتُ مسافة أطول بكثير مما توقّعْت، كان شابًا حافيًا، يرتدى بنطلونًا من قماش أبيض، ونصف جسده العلوى عار، على صدره وشم أخضر لباب بدرفتين مفتوحتين، وتظهر خلفه بمدى البصر حيوانات متنوعة، أفيال، أُسود، دِببة،، كلاب، وخيول، أيضًا سَحَرَة، بهلوانات، ومهرّجون، يؤدون ألعابهم جميعًا، كأنه سيرك مفتوح، قال لنا "ادخلوا بملابسكم الرثّة، وأقدامكم الوَسِخة، لا مشكلة"، لم يُبدِ أحدنا اهتمامًا بدخول السيرك، هتفَ فينا "ادخلوا، انسوا جوعكم، أنسى معكم جوعى"، تحمّسنا للدخول، اقتربنا منه، أشار بيده لنتوقف، غرسَ أصابعه بمنتصف صدره وفَتَحَه لنا بمساحة باب كبير، تراجعْتُ خطوة، أنتِ جدّتى بقيتِ فى مكانِك، رأيتُ داخل صدر الشاب كل الحيوانات التى كانت خلفه، السحرة، والمُهرّجين، شعرْتُ أن هذه الكائنات كانت هناك منذ البداية، سمعْتُ موسيقا مرحة تتصاعد من داخله، قال وهو يشير بيديه إلى صدره المفتوح "ادخلوا"، ارتفع صوت الموسيقا، اندفعَ الأطفال ودخلوا صدره، تدافع الكبار للدخول وهم يتعثرون ببعضهم بعضًا، يضحكون، يطلقون شتائم بذيئة مرحة، لم يتبق غيرنا جدّتى، نظرْتُ إليكِ، أومأتِ لى ودخلنا، وقفنا فوق تراب وردىّ، يُظلّلنا سحاب قريب، سمعْتُ أصواتًا تهتف كى يبدأ الشاب عرْضَه، بدأ السحرة والمهرجون والحيوانات، كلٌ منها يؤدى العرض الخاص به، بدا الجميع كأنهم يشتركون بالأساس فى عرض واحد كبير، تنقّلنا بين الألعاب، هطلَ مطر وردىّ، خفيفًا فى البداية وسرعان ما اشتد، تراكمَتْ المياه، ملأتْ الأرض كأنها نهر يُغطى الدنيا، سَبحنا لوقت طويل دون تعب، حملتنا موجة كبيرة، ألقتْ بنا إلى جزيرة، نهضنا على الفور، تحسّستُ ملابسى، وجدْتُها جافة، مشينا جميعًا فى الجزيرة، أرضها مُغَطّاة بطبقة من عسل أبيض مُتَجمّد شَمَمْتُ رائحته اللطيفة فى الهواء، صادفنا بعد قليل بحيرات صغيرة من العسل، تتراصّ على حوافها أرغفة خبز طازج، جلسنا حولها جميعًا، نغمس قطع الخبز بالعسل، كنتِ عن يمينى جدّتى، نظرْتُ عن يسارى، وجدْتُ الشاب الذى دخلنا صدره يبتسم لى".

انتهى الحلم.

 أَبقيْتُ عينىّ مُغلقتين للحظات، فتَحتُهما.

 قلت لجدّتى "هذا كل شىء"

 "هل كان الشاب الذى رأيتِه فى الحلم هو نفسه مَنْ سألَنا عن مكان السيرك؟"

"أخبرتك جدّتى أنى لا أذكر شيئًا منذ أن كنا فى شرفة الجبل، حتى إنى لا أذكر بالأساس أنى غادرتها"، تذوقْتُ العسل من شفتىّ بطرف لسانى، نظرْتُ إلى آثاره فى أصابعى.

 "لماذا طعم العسل فى فمى وعلى أصابعى، هل أكلْتُ من القرص؟"، نظرْتُ إلى قرص العسل وأنا أعرف أنه سليم.

 قالت جدّتى "لم تأكلى، لكنك أمسكتِه، ربما تركَ أثره فى أصابعك، ولمستِ بها شفتيك"

"أو ربما أكلتُ العسل من جزيرة رأيتها فى حلمى"

 ابتسمَتْ.

 قالت "يمكنكِ أن تأكليه الآن أيضًا"

 التقطَتْ قرص العسل، مدّت يدها به إلىّ.

 قلت "لستُ جائعة"

"لم تأكلى منذ نزولنا من الجبل"

 نظرْتُ إلى أصابعى.

 "من أين إذن حصلْتُ على طعم العسل فى فمى، وأثره على يدىّ، أُرجّح أنى أكلت فى جزيرة حلمى"

"كنتُ معك فى الحلم، لماذا لا أشعر بطعم العسل فى فمى؟"

 "أنا لم أركِ تأكلين فى حلمى، فقط كنتِ جالسة إلى جوارى"

 تأمّلَتنى لحظة.

 قالت "تقولين إن الطعم فى فمك، والأثر على يديكِ بسبب أنكِ أكلتِ عسلاً فى الحلم، وليس لأن شابًا قابلنا فى الطريق وأعطاكِ قرص عسل؟"

 أومأتُ.

أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "يعجبنى، أُفضّل أن يكون هذا ما حدث"، أعادت قرص العسل إلى مكانه بجوار رغيف الخبز.

قالت "أنا أيضًا لستُ جائعة"

سمعْتُ نقرات المطر على الخيمة.

 قلت "المطر، أتمنى أن يكون ورديًا"

 خرَجْتُ.

 رأيت أرضًا يُغطيها عشب فضىّ قصير، اشتد المطر، حاولْتُ أن أعرف لونه فى ضوء القمر، جمَعْتُ بعضًا منه فى يدىّ، لم يكن ورديًا، فتحْتُ ذراعىّ، نظرْتُ إلى السماء، دُرْتُ حول نفسى عدّة دورات، جاءت جدّتى فاتحة ذراعيها للمطر وتنظر إلى السماء، توقّفَتْ بجوارى، دارت حول نفسها عكس اتجاه دورانى.

قالت "مطر مطر مطر"

 سألتُها بصوت مرتفع "هل يمكن أن تقولى لى شيئًا عن أمى وأبى؟"

انتظرَتْ حتى أكملَتْ دورة.

قالت "تمنّيتُ ألا تسألينى أبدًا"

 "لماذا؟"

"لأن حفيدتكِ ستسألك هذا السؤال يومًا ما؟"

 "كيف عرفتِ؟"

 أسرعَتْ فى دورانها.

"لأنكِ سألتِنى، أنا أيضًا سألْتُ جدّتى عن أبى وأمى، وقالت إن حفيدتى ستسألنى لأنى سألتها"

 توقّفْتُ عن الدوران.

 "وماذا قالت لكِ؟"

توقفَتْ جدّتى، نظرَتْ فى عينىّ.

"قالت إنها لا تعرف شيئًا عنهما، لأنها بالأساس لم تكن أُمًا يومًا، ولم ترغب أن تكون، مثلما لم يكن لها أب ولا أم، ولم تشعر أبدًا برغبة أن تكون إبنة"

"إذن كيف تكون جدّة لكِ، لا بد أنها حصلَتْ عليكِ بطريقة ما غير أن تكون.."

 قاطَعَتنى.

 "أعرف أنها جدّتى"

 "كيف يمكنك أن تكونى متأكدة؟"

"مثلما أنا متأكدة أنى جدّتك"

 تأمّلْتُها صامتة للحظة.

 قلت "يمكننى أن أُخمّن أنكِ مثل جدّتكِ، بلا أب أو أم، بلا ابن أو ابنة، ولم تشعرى يومًا برغبة أن تكونى ابنة أو أُمًا، وأنكِ لا تعرفين شيئًا عن أبى أو أمى، إن وُجِدا يومًا بالأساس"

 "يجعلكِ هذا تشكّين أنى جدّتك؟"

"ليس بهذه السهولة"

مرّرَتْ أصابعها على جانب شعرى.

قالت "أعرف أنكِ أيضًا لم تشعرى أبدًا برغبة أن تكونى ابنة، أو أُمًا"

"كيف عرفتِ؟"

"يمكننى أن أعرف هذا، كما أنك سألتِنى عن أمك وأبيك، وهذا يجعلكِ امتدادًا للسلالة "

"سلالة نساء بلا أب أو أم ولا أبناء، تعيش الواحدة منهن حفيدة لبعض الوقت، ثم تصير جدّة"

أومأتْ بشىء من تعاطف.

قلت "إذا كان هذا صحيحًا، وأنا الآن حفيدة، متى وكيف أكون جدّة؟" "تعرفين عندما يأتى وقتك"، قالت بهدوء، وربّتَتْ خدّى.

سألْتها "كيف حصلْتِ أنتِ علىّ، ومتى؟"

"ما أذكره أنى جدّتك طوال عمرى"

"هذه إجابتكِ؟ وتكون إجابتى لحفيدتى؟"

"لا أحد يعرف ما قد تقولينه لحفيدتك"

تأمّلْتُها قليلاً، ما زال المطر يهطل.

"أنتِ متأكدة أنكِ جدّتى؟"

أمالت رأسها على كتفها.

قالت "بِمَ تشعرين أنت تجاهى؟"

صمَتُ لحظات.

احتضَنْتُها.

"أنتِ جدّتى"

أمسَكَتْ بيدىّ، رقَصْنا معًا، كنت أنظر فى عينيها مباشرة، لم أشعر يومًا أنى حفيدتها أكثر مما شعرْتُ فى هذه اللحظة.

 رقصنا حتى انقطع المطر.

 عدنا إلى الخيمة، جفّفَتْ لى جسمى، ألبَستنى ملابس جديدة، أكلنا العسل والخبز.

مشينا.

العشب الفضّى يلمع فى نور القمر، العالم مُبلّل كأنما تحمّمَ لتوه، شَمَمْتُ فى جسمه رائحة المطر.

 سألْتُ جدّتى "برأيكِ، فى أىّ يوم نحن؟"

فكّرَتْ لحظة، هَزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا.

 قالت "مرّ وقت طويل منذ رؤيتنا آخر نهار"

 "ماذا لو لم يكن للأيام اسم أبدًا، هل كانت لتبدو مثل وقت ممتد، ليس فيه غد أو أمس، هل كان هذا ليريح البشر أم يتعبهم؟"

 "لا أعرف، لكن، أُفكر أن العالم يُرتّب أوراقه بتسمية الأشياء، تخيّلى، هى مجرد أسماء، لكنها تساعد جدًا فى ترتيب العالم، يبدو أنها ليست مجرد أسماء فى النهاية"

"لكن أسماء الأيام تبدو كأنها وهْم، حتى التوقيتات، مثلاً، ماذا كان ليتغيّر لو أن الساعة سبعون دقيقة أو خمسون، وليست ستين، أو كان اليوم ثلاثين ساعة أو أربعين، حتى إن أسماء الأيام يمكن أن تتغيّر فى أىّ وقت"

"ربما الساعات، الدقائق، والأيام، ليست إلا علامات على الوقت، الزمن، كأننا نحاول محاصرته، لكنه يستغلّ كل علامة، لينوّع أساليب هروبه، المفارقة أنه يُداهم الجميع، يهرب منّا لأنه يداهمنا، أو يداهمنا لأنه يهرب منّا"

 تطلّعْتُ إلى الليل.

قلت "لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك الآن"

 "لمجرد أن النهار لم يظهر؟ تعتقدين ذلك؟"

هزَزْتُ كتفى.

 قالت "لم تفكرى أنها ربما تكون طريقة جديدة للهرب أو المداهمة، أو ليفعل شيئًا آخر؟"

 فكّرْتُ لحظة.

 قلت "مخادع هو، الزمن؟"

"لا أراه كذلك"

"فهمْتُ من كلامك أنك ترينه غامضًا ومراوغًا"

"هذا لا يجعله مخادعًا، حتى إنه واضح بقدْر غموضه، لم يمنح سرّه لأحد، حتى الآن على الأقل، لا وعود، لا صداقات، ولا اسثتناءات، هذا بحدّ ذاته وضوح"

تأمّلْتُها لحظة، تطلّعْتُ إلى الأفق المفتوح.

 فكّرْتُ أنى حتى الآن لم أكتب شيئًا مما صادفناه، تساءلْتُ إن كانت هناك فرصة للكتابة، كنتُ مُتلهفة لأرى، وأكتشف ما يأتى، اختبرْتُ ذاكرتى، مرّتْ الأحداث كلها أمام عينىّ، حتى إنى رأيت حلم الشاب الذى فتح صدره لنا، اندهشْتُ من قدرتى على تذكّر كل التفاصيل، فكّرْتُ أنها من يتذكّرنى.

لكنى لم أتذكّر الشاب الذى قالت جدّتى إنه قابلَنا بعد نزولنا من "جبل النور"، وأنى أرشدْتُه عن مكان السيرك.

 

(6)

توقفَتْ "سيمويا" عن القرءاة بعد أن سَمِعَتْ قائد الطائرة يقول "عشرون دقيقة ونصل إلى جبل النور"

 أعادت أوراق "الليل" إلى حقيبتها، فكّرَتْ فى حوار الحفيدة وجدّتها.

 هى أيضًا لا ينقصها غير أن تسأل جدّتها عن أبيها وأمها كى تؤكد انتماءها لهذه السلالة من النساء، لكنها لم تشعر بالحزن لما هى عليه، كان الأمر طبيعيًا بالنسبة لها، ما شغَلَها بالفعل هو تلك الرابطة التى تجمعها بهذه الشابة "بينورا"، وجدّتها، كلما تقدّمَتْ فى القراءة، تساءلَتْ، ماذا بعد؟

عادت بحقيبتها إلى مقعدها.

قال دوفو "أهلاً، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

 نظرَتْ عبْرَ زجاج نافذتها، رأت قمة جبليّة مُسطحة يشعّ منها النور، تتوزّع فيها بِرَك صغيرة من نور سائل.

 همسَتْ لنفسها "جبل النور".

 حلّقَتْ الطائرة حول الجبل لدقائق، وحَطّتْ بالقرب منه فى مكان مُخصص.

استقبلَتْهم شابة عشرينية، قدّمَتْ نفسها باسم "ليارو".

تطلّعْت "سيمويا" إلى الجبل.

قالت "نصعده الليلة، صحيح دوفو؟"

"نعم"

قالت ليارو "لن ترتاحا قليلاً أو تأكُلا شيئًا؟"

"شكرًا، أكلنا فى الطائرة، مرتين"، قالت "سيمويا".

"وقضينا أكثر من عشر ساعات فى مقاعد مريحة"، قال "دوفو".

نقَلَتْ "ليارو" عينيها بينهما.

"طبعًا، سيمويا ودوفو، ماذا أتوقّع؟"، ابتسمَتْ وحرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

"لم نتقابل من قبل بشكل رسمى، لكنى أعرفكما جيدًا"

ابتسمَ "دوفو" و"سيمويا" لعزفها الوهمى.

صحبَتْهما إلى خيمتين متجاورتين، أشارت إلى واحدة برتقالية مُنقّطة بالأزرق.

 "خيمتكِ سيمويا"، أشارت إلى البنفسجية المنقطة بالأبيض.

"أنت هنا دوفو"، ونظرَتْ إلى نقطة قريبة.

"سأكون فى، أو عند خيمتى الصفراء، هناك، عندما تكونان مستعدين"

تَحمّمتْ "سيمويا" سريعًا، ارتدَتْ تى-شيرت بنفسجيًا، مرسوم على صدره جبال حمراء لها قمم بيضاء، بنطلونًا مموّه بالأزرق والأخضر الداكن، وحذاءً قويًا، علّقَتْ الكاميرا على صدرها، هاتفها فى جيبها، أخرجَتْ قطعة شيكولاتة من ثلاجة زجاجية، قضمَتْ زاويتها الصغيرة بأطراف أسنانها، وأعادتها مكانَها.

خرجَتْ.

 وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته، مشيا إلى خيمة "ليارو"، خرَجَتْ إليهما قبل أن يصلا بخطوات، اقترحَتْ أن يروا "بحيرات العسل" قبل أن يصعدوا الجبل.

خرجوا من الخيام، مشوا خمسين مترًا تقريبًا، ظهرَتْ ثلاث بحيرات متجاورات، صغيرة الحجم، وملأى بعسل أبيض، الأولى أكبر من زميلتيها، الثانية أكبر من الثالثة، وقريبات من الجبل.

قالت ليارو "نسمّيها فراشات العسل لأن كلاً منها على شكل فراشة"

توقفوا عند البحيرة الكبيرة، العسل شفاف، يلمع فى نور القمر، وتتحرك فيه موجات وهميّة، جلسَتْ "سيمويا" على ساقيها، مدّتْ إصبعها إليه، علّقت يدها فى الهواء، نظرَت إلى "ليارو".

 "هل يمكننى؟"

"أخشى أن هذا غير مسموح"

نهضَتْ "سيمويا".

"لو أننى لم أسأل"

"هناك بالفعل من يأكل من البحيرات، لكنهم ليسوا ضمن فريق العمل"

"يوجد أحد غيركم هنا؟"

نظرَتْ "ليارو" إلى "جبل النور".

"نعم، فرقة سيرك تأتى من الجبل مرة كل ثلاثة أيام، عند منتصف الليل تمامًا، معهم أرغفة خبز ساخن، يجلسون حول إحدى البحيرات ويغمسون خبزهم بالعسل، منعناهم فى البداية، لم يقاوموا وعادوا إلى الجبل، لكن البحيرات الثلاث تحوّلَتْ إلى كتل من الملح حتى موعد نزولهم التالى، لم نمنعهم ثانية"، نقلَتْ عينيها بين "سيمويا" و"دوفو".

"الليلة القادمة يصادف موعد نزولهم"

تجوّل الثلاثة بين البحيرات، نظرَتْ "ليارو" إلى "سيمويا".

 "تتجمّد البحيرات مع شروق الشمس، وتتفكّكْ مع الغروب، لدينا ڤيديوهات لذلك"

اتجهوا إلى "جبل النور".

قالت ليارو "يتحوّل الجبل عند الشروق إلى صخور عاديّة، ويبقى طوال النهار مثل أىّ جبل، ومع بداية الغروب يعود ثانية ويكون صخورًا مضيئة طوال الليل، لدينا ڤيديوهات أيضًا"

قالت سيمويا "شكرًا ليارو، أعرف أنك تذكرين هذه المعلومات لأجلى"

"لا عليكِ، تعجبنى طريقتك فى العمل، ليس مُهمًا أن نقرأ المعلومات المتوفرة عن المواقع قبل دراستها، ليس كثيرًا على الأقل" 

بدأوا صعود الجبل، الصخور عبارة عن كتل من نور شفاف، بداخل كل منها كتلة أقلّ شفافية كأنها قلب لها، فكّرَتْ "سيمويا" فى جبل أوراق "الليل"، تلفّتتْ حولها.

قالت "وجدتم أىّ حيوانات، نباتات، طيور، أو كائنات أخرى فى الجبل، ليارو؟"

"لا، ليس إلا الصخور المضيئة"

قال دوفو "كأن الجبل ماسة من نور صعدَتْ لتوّها من الأرض"

"أو هبطت من السماء"، قالت "ليارو" وحرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

نظرَتْ "سيمويا" بين زوايا الجبل.

"أتمنى أن نرى فرقة السيرك الليلة؟"

قالت ليارو "لا أحد يعرف من أين يظهرون، حدْسى يقول إنهم لا يغادرون الجبل إلا ليأكلوا من بحيرات العسل"

حاولَتْ "ليارو" وفريق العمل فى إحدى المرات أن يصعدوا الجبل مع فرقة السيرك، لكنّ قائد الفرقة الشاب منعهم، تعقّبَتْهم مع اثنين من زملائها، تفرّقَتْ الفرقة بين سلالم الجبل، واختفوا فى لحظة ما دون أن يُعثَر لهم على أثر، تكرّرَ الأمر ثلاث مرات، وامتنعَتْ "ليارو" عن تعقّبهم.

 تنقّلَتْ "سيمويا" بين الصخور بقفزات واسعة، توقفَتْ عند نقطة مرتفعة، نظرَتْ حولها.

هتفَتْ "مرحبًا، هل من سيرك هنا؟"

تردّدَ صدى صوتها عدة مرات، نظرَتْ إلى "ليارو".

"لم تجدوا شيئًا مميزًا على قمة الجبل؟"

"المميز أنه ليس له قمة، فى كل مرة نصل فيها، نضع علامة عند أعلى نقطة منه، وفى الليلة التالية نجده قد ارتفع عدّة سنتيمترات، كأنه يُحوّل بعض نور النهار إلى صخور مضيئة، الجبل ينمو كل يوم"

"ربما يتوقف لو توقف النهار عن الظهور"

"كأن هذا ممكن بالأساس"

"كل شىء ممكن، مثلما يقول دوفو"، خطفَتْ نظرة إليه، وقفزَتْ على السلّم صعودًا.

"لكنى لا أريد للجبل أن يتوقّف"، قالت "سيمويا" واختفَتْ بين الصخور.

هتفَتْ لها ليارو "لا تبتعدى"

ردّتْ "سيمويا" بضحكة.

جلس "دوفو" على ساقيه يفحص إحدى الصخور، جلسَتْ "ليارو" بجواره.

 "تعرف دوفو، أنت وسيمويا تُشكّلان ثنائيًا رائعًا"، حرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

 نظرَ إليها يطلب توضيحًا.

"أقصد فى العمل، ربما تكون طريقة عملكما مختلفة، أنت تعمل بطريقة بها بعض الرومانسية، وسيمويا لها أسلوب عملى إلى حد كبير، بهذا يُكمل كلٌ منكما الآخر"

 "سيمويا لم تكتشف بَعد جانبها الرومانسى، أرى لمسة رومانسية فى كل ما تفعل"

"أنتما الأفضل على أيّة حال"

سَمِعَا صوت "سيمويا" ينادى.

"بينورااااا، بينورااااااا"

رفع "دوفو" سبّابته فى الهواء.

"تنادى أشخاصًا غير موجودين، هذه رومانسية"

سمِعَا صوت "سيمويا" ينادى.

"سيرك، مرحباااااا، هيااااااا، أعرف أنكم هنااااااا"

قال دوفو "الآن تنادى أشخاصًا وجودهم مُحتَمَل، هذه سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ "ليارو".

"أشعر أن العالم يفتح لكما أبوابه السريّة، أو أنكما تعرفان طريقة الوصول إليها"

 "أو أن العالم يلعب معنا، ونلعب معه"

"اللعب، أحب هذه الكلمة منك بشكل خاص"

"شكرًا، هذا إطراء أحبه"، قال "دوفو" ونهض، تنقّلَ بين الصخور، مَشَتْ معه "ليارو".

سَمِعَا "سيمويا" تنادى.

"فريلياااااا، بينورااااا"

وَصَلا إلى قمة الجبل، نظرَتْ "ليارو" حولها.

 قالت بشىء من الدهشة "قمة الجبل؟"

"ما المشكلة؟"

"لم يحدث أن وصَلْتُ بهذه السرعة، كأن الجبل كشَفَ لنا عن سُلّم مختصر"

سَمِعَا صوت "سيمويا" خلفهما.

 "لماذا تأخرتما؟"

استدارا إليها، نَظَرَ "دوفو" إلى "ليارو".

قال "كشف لها الجبل عن سُلّم أسرع"

"قلتُ لك، العالم يكشف لكما أسراره"

"أنتِ تُصدقين هذا جدًا"

"نعم، أحب أن أُصدقه"، حرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

نظرَ فى عينيها لحظة، تلفّتَ حوله.

"ماذا يوجد هنا على أيّة حال؟"

"لا جديد، صخور، لكنها مُتعة الوقوف على قمة الجبل"

قال سيمويا "كنتما تتحدثان عنى منذ لحظات؟"

قال دوفو "نعم، تعتقد ليارو أن العالم يكشف لكِ أسراره"

تجوّلوا فى المكان.

 قمة الجبل عبارة عن مساحة كبيرة، خالية، يَشعّ منها النور، القمر كبير وقريب.

 توقّفوا قُرْبَ الحافة، تطلّعوا إلى الليل، مرّت بهم نسمة خفيفة، سَمِعوا حركة السحاب، همْسَ النجوم، وتنفّسَ القمر، حتى صمتَتْ كل الأصوات تدريجيًا، السحاب أولاً، النجوم، والقمر، بدأوا يسمعون الجبل، يُعبئهم بصوته قطرة بعد أخرى، امتلأوا به، نسوا كل شىء، شعرَ كلٌ منهم بأنه نقطة صغيرة فى الكون، لكنها تحوى كل شىء، نقطة فانية وفى الوقت نفسه أبديّة.

 صَمَتَ الجبل.

 شعرَ كلٌ منهم أنه يتحلّل على مهل، تطير كل ذرة منه إلى الكون، وتدور إلى الأبد.

 انتبهوا على صوت عميق صَعَدَ من تحتهم إلى قلوبهم مباشرة، نظروا بين أقدامهم، التفتوا إلى بعضهم بعضًا.

 قال دوفو "ربما يريدنا الجبل أن ننزل الآن"

نزلوا.

قالت ليارو "أعتقد أننا استعملنا سُلّمًا سريًا أيضًا فى النزول"

مشوا باتجاه الخيام، اقتربوا من البحيرات الثلاث، قابلَتْهم نسمة هواء مُحَمّلة برائحة عسل خفيف، أغلقَتْ "سيمويا" عينيها لحظة، وسحَبَتْ نفسًا عميقًا.

قالت "فراشات العسل، أُحب هذا الاسم"، فتحَتْ عينيها.

 ابتسمَ لها "دوفو".

قال "ألن تناديها مرة أخيرة؟"

نظرَتْ إليه متساءلة.

 قال "بينورا"

 "آها، صديقتى"، فكّرَتْ لحظة.

 "ربما تنتظرنى الآن فى خيمتى"

فى خيمتها، أثناء استحمامها، فكّرَتْ "سيمويا" فى "جبل النور"، وأنه يشبه إلى حد كبير الجبل الذى قرأتْ عنه فى أوراق "الليل"، شعرَتْ أن الأمر لن يتوقف هنا.

 ابتسمَتْ وهى تتساءل عمّا كانت تفكر فيه وهى تنادى "بينورا"، صديقتها كما قالت عنها.

خرجَتْ من الحمام، شعرَتْ بجوع، أكلَتْ خوخة، وخمس حبات لوز، أنشأَتْ فى حاسوبها مَلفًا أسمته "جبل النور"، كتبَتْ فيه ملاحظاتها عن الجبل وبحيرات العسل.

أخرجَتْ أوراق "الليل" من حقيبتها.

"الآن، صديقتى بينورا، وجدّتها".

 

الليل

خرجنا، جدّتى وأنا، من أرض العشب الفضىّ، دخلنا إلى شوارع متقاطعة، ليس فيها بيوت أو أشجار، فقط أشخاص متناثرين، أو مجموعات صغيرة، رأيت فتاتين وصبىّ يقفون حول بقعة نار يتدفأون بها، مجموعة صغيرة يجلسون على شكل دائرة، يغنّون، وفى المنتصف شابة ترقص، فى شارع آخر كان البعض يُحدّقُون بالسماء، ربما ينتظرون ظهور النهار، أو يعدّون النجوم، لديهم كل الوقت ليفعلوا، آخرون يتبادلون حكايات أو لُقَيمات صغيرة.

رأيت امرأة مُمددة على جانب أحد الشوارع، تمسحُ بيدها رأس طفل نائم فى حضنها، لَمَعَتْ فى ذاكرتى المرأة الأربعينية التى رأيتها نائمة مع طفلها فى سرير جدّتى، اقتربْتُ منها، كانت مغمضة العينين، مدَدْتُ يدى إليها، كِدْتُ ألمسها، تراجَعْتُ، ربما لو لمستها يظهر النهار ويعود كل شىء إلى طبيعته.

لفتَ انتباهى رجل لم أتبيّن ملامحه، فقط رأيتُ فى عينيه شحوبًا لامعًا، تطير أطراف شعره الأبيض مع الهواء، يرتدى ملابس ملوّنة شفافة، يتحرك بين النائمين بخطوات خفيفة، لا يكاد يلمس الأرض، لم أعرف إن كان حريصًا على عدم إزعاجهم أم تلك طبيعته، مشيْتُ خلفه، حرصْتُ على مسافة بيننا، سايرتنى جدّتى، تساءلْتُ لماذا ليست به مهتمة مثلى، هل تعرف ما يفعله، أم أنها فقط غير مهتمة؟

وصلَ الرجل إلى شارع هادئ، فيه رجال، نساء، وأطفال، كلهم مّمددون على الأرض، نظرَ فى وجوههم عن قُرْب بحنوّ، مسحَ رؤوسهم، توقّفَ عند شابة نائمة فى وضع الجنين، فتحَ فمه قليلاً، أَدخلَ فيه طرَفَى سبّابته وإبهامه، أَخرجَهُما وهو يُمسكُ شريطًا شفافًا كأنه حالة بين النور والماء، وصدَرَ عنه صوت مزيج من رقرقة الماء وانسكاب النور، لم أرَ روحًا من قبل، لكنى عرفْتُ أنها روح الرجل، سحبَها كاملة من داخله، ازدادت طولاً وعرْضًا، كانت نسخة شفافة عنه، أَمسكَ طرفيها العلويين بأطراف أصابعه، رفعَها بمواجهته مثلما يتفرّجُ شخص على ملابسه قبل أن يرتديها، رأيت فى نور القمر أصابعه الرقيقة والأظافر النظيفة.

 شَقّ الرجل روحَه نصفَين، سمعتُها تشهق بنشوة، رفرف كل نصف كأنما دبّتْ فيه حياة إضافية، وضَعَ أحدهما على ذراعه، غطّى بالآخر الشابة النائمة، ربّتَ خدّها، مشى عدّة خطوات، توقفَ عند عجوز نائم، غطّاه بالنصف المُتبقى من روحه، نظرَ إلى النائمين، ازدادت عيناه شحوبًا ولمعانًا، مشى فى عمق الشارع، أردتُ أن ألحَقَ به كى أنظر فى عينيه عن قُرْب، أو أتحدث إليه ولو بكلمة، فكّرْتُ أنه إذا كان لا يريد إزعاج الآخرين حتى بخطواته، لن أزعجه بخطواتى، ظللْتُ أرقبه، يزداد وضوحًا كلما ابتعد، صار فوق حدود رؤيتى.

انتبهْتُ وجدّتى تقف إلى جوارى، ابتسمْتُ لها، تلفّتُ حولى، الشوارع متقاطعة حولنا، كل واحدٍ منها بلون مختلف، بدَا الأمر مثل متاهة كبيرة، كنت سعيدة بما يحدث.

 قالت جدّتى "الآن، إلى أين؟"

 أشرْتُ إلى شارع قريب، أرضه من رمل أبيض يكاد يضىء بنور القمر، وبه حصى صغير ملوّن كأنه كنز مبعثر.

 "ما رأيكِ فى هذا الشارع؟"

 "لِمَ لا؟"

مشينا إليه.

 لم يكن فيه أحد، بعد عدّة أمتار صار الشارع وحيدًا دون تقاطعات، تحوّل إلى ممر عرْضه مترين، قابَلَنا إطار خشبىّ فارغ بحجم باب حجرة عادية، توقفنا عنده، رأينا من خلاله أرضًا ممتدة من تراب بُنىّ، اعتقدْتُ لوهلة أنه شيكولاتة مذابة، نظرْتُ إلى جدّتى وأنا أشير بيد مفتوحة تجاه الإطار.

 "الجدّات أولاً"

 ابتسمَتْ عيناها اللوزيتان وعبرَتْ الإطار، تَبِعتُها، سمعْتُ صوت باب ينغلق خلفى، التفَتُ، وجدْتُ بابًا خشبيًا بلا مقبض، كان بإمكانى أن أمرّ بجواره لو أردت العودة، لكنى فهمْتُ الرسالة.

 سمعْتُ نغمات بيانو هادئة، داعبَ الهواء أطراف شعرى، شمَمْتُ رائحة شيكولاتة خفيفة.

 قلت "هل تشمّين رائحة شيكولاتة، جدّتى، أقصد غير رائحتكِ أنتِ؟"

 "نعم، جميلة، وناعمة"

 جلسنا على ساقينا، تحسّسنا التراب، ناعم، تفوح منه رائحة شيكولاتة، كأنه مادة خام لصناعتها، تذوّقْتُه بطرف لسانى، فعلَتْ جدّتى الشىء نفسه، نظرْتُ حولى.

 همَسْتُ "أرض الشيكولاتة"

 قالت جدّتى "لا يمكننى أن أمشى هنا بحذائى"

 خلَعْنا حذائينا، وضعناهما فى جيب بالحقيبة.

يدغدغ الترابُ باطن قدمىّ، وبين خطوة وأخرى أَنزلقُ انزلاقة خفيفة مُحبّبة، تتغيّر درجة حرارته من مكان لآخر، يكون دافئًا، أفكر فى شيكولاتة دافئة غير متماسكة، يكون باردًا، أفكر فى قطعة باردة صلبة، سحبَتْ جدّتى نفسًا عميقًا وهى تنظر حولها.

 قالت "يمكننى أن أمشى هنا للأبد"

 "وأنا معك"

لا زلتُ أسمع البيانو، يأتينا من كل اتجاه، خافت مثل رائحة الشيكولاتة، كأنه يهمس، لكن، أو ربما بسبب ذلك، كانت كل نغمة مسموعة بوضوح، رأيت فى التراب تموّجات كأنها بحر صغير من الشيكولاتة، قابَلَتْنا تلال صغيرة كأنها كتل منها، تطلعَتْ جدّتى حولها.

همسَتْ "موسيقا وشيكولاتة"

 ابتسمْتُ لها، تأمّلْتُ عينيها، كانت منتشية، رائقة، وجدْتُنى أعترض طريقها بخفّة وحسم.

 قلت "حدّثينى عن قصة حبك؟"

كنت أعرف أن لجدّتى قصة حب كبيرة، أخبرتنى بنفسها، لكنها لم تذكر عنها إلا أشياء قليلة، حتى إنى لا أعرف اسم حبيبها، ربما تعمّدَتْ ذلك، كانت تقول جملة أو اثنتين فى أوقات خاصة، أو تفاجئنى بها، بهما، خلال حوار عادىّ، لم يكن ما تقوله خارج سياق الحديث، بالعكس، كان يعجبنى اختيارها لتوقيت الجملة، وعلاقتها السريّة بما نتحدث عنه، كنت أصمت وأنتظر أن تُكمل، لكنها تعود لحديثنا العادى بسلاسة.

 مُغرَمةٌ أنا بذكائها وسرعة بديهتها.

عرفْتُ منها أن حبيبها مات فى سِن مبكرة، دون تفاصيل، وعلى فترات متباعدة كانت تقول جملة أفهم منها أنها لم تُحب بعده، كأنها تُبلّغنى، هل أعرف عن قصتها أكثر من ذلك؟ ليس بالفعل، لم أسألها، وبقَدْر ما كانت لدىّ رغبة لأعرف، أعجبتنى لعبة الجُمَل العابرة.

لكنى أسألها الآن، أعتقد أن رائحة الشيكولاتة وموسيقا البيانو أغويانى لأفعل، وربما يُغويانها لتحكى.

  توقّفَتْ جدّتى، نظرَتْ فى عينىّ قليلاً، أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "تؤمنين بالحب من أول نظرة؟"، ومرّتْ بجوارى.

بقيتُ فى مكانى لحظات، لم تسألنى هذا السؤال بشكل مباشر من قبل، اعتبرْتُ أنه بداية لتحكى لى قصة حبها، لحقْتُ بها.

 قلت "الحب من أول نظرة، لم أُفكر فيه من قبل، أتمنّى أن يكون موجودًا"

 قالت "حتى من لا يؤمنون بوجوده ويسخرون منه، أو على الأقل يقولون أنه غير موجود يتمنّون أن يكون موجودًا، ويعيشوه"

 "كنتِ منهم جدّتى؟"

 هزّتْ رأسها نفيًا، نظرَتْ إلىّ.

 "لم أفكر فى وجوده من عدمه حتى وجدْتُه، أو وجدَنى"، تأمّلَتْنى لحظة.

قالت "تعتقدينه شيئًا جميلاً، أن تُحبى من أول نظرة؟"

 فكّرْتُ لحظة.

 "اممم، نعم، لا أتوقع أن يكون سيئًا"

"ولا ساذجًا؟"

"لا، كيف يكون الشعور بالحب ساذجًا"

اندهشْتُ لأنى أدافع عن الحب من أول نظرة بهذه الطريقة رغم أنى لم أفكر فيه من قبل، لمحْتُ فى عينى جدّتى إعجابًا باندفاعى، حتى إنها توقفَتْ لحظة، ونظرَتْ فى عينىّ لتتأكد أنى لا أسايرها.

 ما زالت أنغام البيانو حولنا.

 قالت "تعرفين ما هو أجمل من الحب من أول نظرة؟"

 لم أتنفّس.

نظرَتْ بعيدًا.

 قالت "الحب حتى آخر لحظة، أن تُحب حبيبك حتى بعد أن تفقده، وبعدما لا يكون لديك ما تنظر به، هذا هو الاختبار الحقيقى"

 توقفْتُ أُفكّرُ فى كلامها، سبقتنى بعدّة خطوات، التفتَتْ إلىّ.

 "لماذا توقفْتِ؟"

 مشيتُ إليها، نظرْتُ فى عينيها عن قُرْب، تأكدْتُ أنها ترى نظرتى بوضوح كى تعرف أنى سأسألها سؤالاً مباشرًا.

 "ما اسمه جدّتى؟ حبيبك"

 كنت أخشى أن تتوقف المحادثة لأىّ سبب، ولا تأتى فرصة لتُكمل لى القصة، فكّرْتُ أنها لو ذكرَتْ لى اسم حبيبها، يكون من السهل أن تُكملها.

قالت "تريدين أن تعرفى اسمه كى تضمنى أن أستمر فى الحكى، هذا ما تفكرين فيه؟"

 "نعم، ولأنك عرفْتِ ذلك، أطلب منكِ وعدًا بأن تُكملى القصة، أنا أستحق ذلك، حسب ما أعتقد"

 ابتسمَتْ عيناها.

 "اسم حبيبك جدّتى"

 صوت البيانو ورائحة الشيكولاتة يُرقّقان اللحظة أكثر.

 أمالت جدّتى رأسها على كتفها، ابتسمَتْ عيناها.

 قالت "دوفو، حبيبى اسمه دوفو".

 

(7)

استيقظَتْ "سيمويا" عند الخامسة والنصف صباحًا.

وضعَتْ أوراق "الليل" فى درج المكتب.

 فكّرَتْ فى حوار "بينورا" وجدّتها عن الحب من أول نظرة، ابتسمَتْ لأن حبيب الجدّة، وشريكها فى العمل، لهما الاسم نفسه، "دوفو".

لمعَتْ فى عقلها صورة الرجل الذى يَشقّ روحه نصفين، ويُغطّى بهما النائمين فى الشوارع، رأته شفّافًا، شاحبًا، وبه بريق غامض.

 تساءلَتْ، هل يمكن أن تعثر على أرض للشيكولاتة فى "جبل النور" لأنها قرأتْ عنها فى أوراق "الليل"، يمكنها أن تتوقّع ذلك؟

تحمّمَتْ، تناولَتْ إفطارها، ارتدَتْ قميصًا أبيض مُجَعّدًا، بخطوط طوليّة برتقالية متباعدة، وبنطلونًا أزرق داكنًا، ربطَتْ حول خصرها حزامها، وبه الشاكوش، الفرشاة، العدسة المكبّرة، أقلام، مُفكّرة، وضعَتْ فى حقيبتها القماش، كاميرا، برتقالة، أوراق، زمزميّة ماء، الهاتف فى جيبها، التقطتْ قُبعة، وخرَجَتْ.

رأت "دوفو" يخرج من خيمته.

"صباح الخير دوفو"

"صباح الخير سيمويا"

التقيَا "ليارو" أمام خيمتها، مشوا إلى بحيرات العسل، توزّعَ بقية أفراد فريق العمل فى نقاط مختلفة من الموقع.

 فحَصَ "دوفو" و"سيمويا" البحيرات، كلها متجمّدة، سطحها ناعم، صلب، تنعكس عليه أشعة الشمس الصباحية، يبدو شفافًا بطريقة ما، لكنه لا يكشف ما تحته، وتفوح منها جميعًا رائحة عسل خفيف.

تطلّعَتْ "سيمويا" إلى "جبل النور".

قالت "هذا الجبل يثير فضولى"

مشوا إليه، توقفوا أمامه.

 أحجار حمراء مع رتوش من الأخضر والأزرق، صعدوا، لم تكن هناك سلالم، إنما منحدرات وممرّات، لا شىء غير الصخور.

 قضى "دوفو" و"سيمويا" معظم النهار وهما يتنقّلان بين البحيرات والجبل، التقطوا لهما صورًا، مقاطع ڤيديو، وأخذوا عيّنات.

عند الغروب، وقَفَا مع "ليارو" وبعض أفراد طاقم العمل بين البحيرات الثلاث ينتظرون تفكّكها.

غابت الشمس، مرّتْ نسمة هواء.

قالت ليارو "تشمّان رائحة العسل؟"

أومأتْ "سيمويا".

"استعِدّا"

مَرّ فوق الجبل برْق لامع، التفتوا إليه.

"الآن"، قالت "ليارو" وعزفَتْ على البيانو الوهمى خاصّتها.

بدأتْ البحيرات تتفكّك، تصاعدَتْ منها رائحة العسل، رفّتْ حوافها كأنها فراشات دبّتْ فيها الحياة، فى الوقت نفسه بدأ الجبل يَشعّ نورًا من أماكن متفرقة دون أن يصدر عنه صوت، حتى تحوّلَ إلى كتلة من نور.

 قام "دوفو" بتصوير الجبل، وصوّرَتْ "سيمويا" البحيرات.

صعد الثلاثة إلى الجبل.

بحثوا عن فرقة السيرك.

 تهتف "سيمويا" من وقت لآخر "سيرك، أين أنتم، نعرف أنكم هنااااا، هيااااااا"

قالت ليارو "إنْ لم يظهروا، ننتظرهم بجوار البحيرات عند منتصف الليل، لا يتأخرون أبدًا"

تساءلَتْ "سيمويا" مع نفسها، هل يكون لقائد السيرك الشاب علاقة بالشاب الذى رأته "بينورا" فى أحلامها، ودخلَتْ صدرَه مع جدّتها؟

مشوا إلى زاوية فى قمّة الجبل على شكل قوس كبير، لها حافة بارتفاع متر، بَدَتْ مثل شُرْفة، تطلّعوا إلى النجوم وزوايا الليل، مرّتْ بهم نسمة باردة، سحبَتْ "سيمويا" نفسًا عميقًا وسريعًا، نظرَتْ إلى "ليارو".

"قلتِ إن طريقتى فى العمل تعجبك، ماذا يعجبكِ فيها؟"

"حسنًا، أعتقد أنى أفهم فكرتك، أنت تريدين أن تكتشفى الموقع الذى تذهبين إليه دون تصوّرات مُسْبقة عنه، تتعرّفين إليه بنفسك دون وساطة، حتى لو كانت معلومات من مراكز بحثيّة متخصصة، برأيى أن هذه الطريقة تتضمّن جزءًا من متعتك الشخصية بالعمل"

"هذا صحيح، ولو أن المعلومات عن المواقع بهذه الوفرة، لماذا نذهب إليها وندرسها؟"

قال دوفو "لأنها مجرد معلومات، ليست أكثر من حد أدنى نبدأ منه"

"لا أتحمّس لهذا النوع من البدايات، بالعكس، أشعر معه بالملل، والتقليدية"

ابتسمَ "دوفو".

"لن أعارضك، أنا بالأساس أُحب طريقتك"

"لا أُنكر أنى أنزعج أحيانًا عندما أَسأل عن أشياء بسيطة، لكنى أقول لنفسى، هذه إجابات أو معلومات الكل يعرفها، أنتِ لا تسألين عن سرّ، كما أنى، وفى أغلب المرّات، لا أحب أن يذكر لى أحد أية معلومات عن الموقع، لكنى لا أستطيع أن أقول لأحدهم توقف، لا أريد أن أسمعك"، نظرَتْ إلى "ليارو".

"لم أقصدكِ بهذا، كنتِ رائعة معى اليوم، شكرًا لك"

"كنت لأعرف لو أنكِ لا تريدين أن تسمعينى"

"شكرًا مرة أخرى"

قال دوفو "أرأيتِ ليارو؟ كل تفاصيل طريقتها رومانسية، قلت لك، سيمويا فتاة رومانسية لم تكتشف نفسها بعد"

ابتسمَتْ "سيمويا".

"تعرف دوفو أنى أحب رأيكَ فىّ، أتمنّى أن يحدث قريبًا ما يجعلنى أكتشف رومانسيتى"

قالت ليارو "أنت أيضًا رومانسى دوفو، وعندى دليل"، عزفَتْ على بيانو تراه وحدها.

نظرَ إليها بتساؤل.

قالت "رأيتكَ فى أحد المواقع، وأنت تلتقط بإصبعيك النمل الذى يزحف من الأرض إلى ملابسك، وتعيده إليها برفق، حتى لم تكن تنفضه، رغم أن هذا لم يكن ليؤذيه، أعجبنى ما كنت تفعله"

"هذه ليست رومانسية"

"هكذا رأيتها، وما زِلْت"

قالت سيمويا "لماذا تنفى الرومانسية عن نفسك دوفو، كأنها عَيب؟"

"لا أنفيها"

"تفعل الآن"

"أبدًا، رأيى أن جوهر العالم رومانسى، كيف أنزع عن نفسى جوهر العالم؟"

ابتسمَتْ عينا "سيمويا".

"أصدقك دوفو"

ضحكَتْ ضحكة قصيرة وهى تهزّ رأسها كأنما تذكّرَتْ شيئًا.

"ما زلت أندهش كلما طلبنى أحد مراكز الأبحاث فى مهمة، مع طريقتى الرومانسية تلك، مثلما تسميها"

قال دوفو "لابد أنها تعجبهم، وما يُهِم بالأساس هو ما تتوصلين إليه فى المواقع التى تدرسينها"، صمَتَ لحظة، ابتسمَ كأنه سيقول شيئًا مشاغبًا.

"ما كنت لأختارك للعمل معى فى كل مهمة، لو لم تكونى بالمهارة التى أنتِ عليها"

"أنتَ من تختارنى؟ أنا من أختارك"، قالت "سيمويا" بكبرياء طفولى.

دوفو "أنا أختارك"

سيمويا "أنا"

"أنا"

"أنا"

قال دوفو "حسنًا، فى الحقيقة هم يختاروننا معًا"

هدأتْ "سيمويا"، أومأت برأسها.

"نعم، هذا مقبول"

التفتَتْ إليه بسرعة.

"لا، أنا مَن يختارهم"

ضحكوا، ربما.

ظهرَتْ فرقة السيرك عند منتصف الليل.

كان "دوفو"، "سيمويا"، "ليارو"، وبعض أفراد فريق العمل جالسين بجوار البحيرات، سمِعوا موسيقا مرحة قادمة من الجبل.

"السيرك"، قالت "ليارو".

 ظهرَ بين حجارة الجبل مجموعة من رجال، نساء، شباب، فتيات، يرتدون ملابس ملوّنة، بعضهم يعزف على آلات موسيقية، يقودهم شاب يرتدى قميصًا مفتوح الأزرار، يكشف عن صدره الموشوم برسم ما، كانوا واضحين فى نور الصخور، تقافزوا على درجات السلالم نزولاً، وهم يصرخون بمرح بين لحظة وأخرى.

 وصلوا إلى سفحَ الجبل، توقفوا عن العزف، مشوا إلى البحيرات.

وقف الشاب قائد الفرقة عند "سيمويا" و"دوفو"، نقَلَ عينيه بينهما، ثبّتهما على "سيمويا"، رأت على صدره وَشْمًا أخضر عبارة عن باب بدرفتين مفتوحتين، هو نفسه الموجود على صدر شاب أوراق "الليل"، مثلما قرأتْ.

اقتربَ منها خطوة.

"أهلاً سيمويا"

"أهلاً، تعرفنى؟"

"نعم، حلمْتُ بكِ"

أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

"وكيف كنتُ فى حلمك؟"

 "رائعة، وتعزفين على كمان"

 "الكمان من آلاتى الموسيقية المُفضّلة"

"قلت لكِ إنى أعرفكِ؟"

"هذا ليس كافيًا"

فتحَ الشاب ذراعيه.

"لدينا الوقت لأُقدم لك أفضل"، ألقى نظرة على بحيرات العسل.

"ما أراه عسل؟"

نظرَتْ "سيمويا" إلى البحيرات.

"يقولون أنكَ وفرقتك فقط تأكلون منها، لماذا؟"

"لهذا حكاية تعرفينها فيما بعد، أمّا الآن، آكُلُ أنا وفرقتى، بعدها أصحبكِ فى رحلة داخل الجبل، أعرف أنك ترغبين فى ذلك"

"لن آتى وحدى"

"أعرف، أنتِ ودوفو معًا، هذا مفهوم"

قال "دوفو" للشاب "حلمْتَ بى أيضًا؟"

"لا، هناك طرق كثيرة لأعرفك بها"، قال الشاب ونظرَ إلى "سيمويا".

"بيننا اتفاق؟"

"ليس قبل أن أعرف اسمَك"

"أفهم من هذا أنكِ لم تحلمى بى؟"

"وقلبى يتقطّع"

ابتسمَ الشاب، نظر فى عينيها عن قُرْب.

"اسمى، كاريسكا"

أشار إلى فرقته، أخرجَ كلٌ منهم رغيف خبز من بين ملابسه، أحمر، له رائحة دافئة، كأنما خرج لتوّه من الفرن، مشوا إلى البحيرة الكبيرة، أخرجَ "كاريسكا" رغيفه، نظرَ إلى "سيمويا".

"أُحب أن تشاركينى"

 "ربما مرة أخرى"

جلسَتْ الفرقة حول البحيرة، يقطع كلٌ منهم لقمة من رغيفه ويغمسها فى العسل، طارت رائحة الخبز والعسل فى الهواء.

 همسَتْ سيمويا "أُحب هذه الرائحة"، رأت "كاريسكا" يرفع رغيفه لأعلى كأنما سمعَها ويدعوها لتأكل معه، ابتسمَتْ وهزّت رأسها نفيًا.

انتهوا من وجبَتهم.

صعدَ "دوفو" و"سيمويا" الجبل مع "كاريسكا" وفرقته.

تلفّتَتْ "سيمويا" حولها كأنما تبحث عن شىء ما.

قالت "ألا توجد فى الجبال كائنات أخرى؟"

"مثل ماذا؟"، سأل "كاريسكا".

"حيوانات، أشجار، أسماك، ربما تكون هى أيضًا من نور"

فكّرَ "كاريسكا" لحظة، بدَا متردّدًا أن يقول شيئًا ما.

"أحكى لكِ فيما بعد"

"أنت تؤجل كل الحكايات"

وصلوا إلى مساحة مُسطّحة دائرية الشكل، قطرها لا يتجاوز عشرة أمتار، أرضها رمل أبيض متماسك، وفى منتصفها شجرة طويلة، تتدلّى من أغصانها نُسَغٌ رفيعة، فى نهاية كل واحد منها ثمرة دائرية بيضاء لها شكل رغيف الخبز، تهتز مع حركة الهواء العادية، تحتكّ ببعضها بعضًا ويصدر عنها صوت جاف.

"شجرة الخبز"، قال "كاريسكا".

اقتربوا منها، تحسّسَتْ "سيمويا" إحدى الثمار، ناعمة، ودافئة.

قال كاريسكا "اقطفيها"

قَطَفَتْها، انتفخَتْ وصارت رغيفًا ساخنًا بدرجة محتملة.

 "اقضمى منه"

 قضمَتْ قضمة صغيرة، نظرَتْ إلى "دوفو".

 "لذيذ"

 "طبعًا"، قال "دوفو" ونظر إلى "كاريسكا".

"هل يمكننى أن ..."

"طبعًا، تفضّلْ"

 قطَفَ "دوفو" رغيفًا، وقضمَ منه.

قال كاريسكا "هذا خُبزنا، نأكل مرة واحدة كل ثلاثة أيام عندما ننزل إلى بحيرات العسل، يزعجنى أن زملاءكم بالخارج لا يأكلون منها"

قالت سيمويا "غير مسموح لهم، هم يدرسون المكان"

"وأين المشكلة؟"، هَزّ كتفيه، وأشار بيده كى يمشيا معه.

"هيا، لدينا متعة لنلحق بها"

نزلوا فوق أحد السلالم ومعهم فرقة السيرك.

 انتهى "دوفو" و"سيمويا" من أكل الخبز.

توقف "كاريسكا" أمام صخرة كبيرة يمرّ بمنتصفها خطّ متعرج، أدّى حركة بهلوانية من إيقاع واحد، انشقّتْ الصخرة عند الخطّ المتعرج إلى نصفين، انزاحَ كل نصف جانبًا.

 دخلوا.

 نزلوا فوق سلّم من صخور مضيئة، الوقت ليل، سماء بلا نجوم، تتناثر فيها أقمار ملوّنة.

قالت سيمويا "ما زلنا داخل الجبل، كاريسكا؟"

"لا، نحن تحت الأرض، وفوقنا سماء، يُمكن لأىّ منكما أن يمشى فى أىّ اتجاه، وسيظهر له سلّم"

 نظر "دوفو" و"سيمويا" حولهما، رأيا بعض أفراد الفرقة يتحركون فى اتجاهات مختلفة، فيظهر سلّم على الفور فى الاتجاه الذى يختاره أحدهم.

 غيّرَتْ "سيمويا" اتجاهها، ظهرَتْ درجة سُلّم تحت قدمها، أعجبتها اللعبة، تحركّتْ فى اتجاهات متعاكسة مرات متتالية، ظهر السُلّم تحت قدمها، نظرَتْ إلى "كاريسكا".

 "إلى أين تأخذنا؟"

 "أريكِ شيئًا يُعجبكِ، فقط نتوقف فى الطريق لنؤدى عرضًا مُهمًا"

"ليس من السهل أن تُثير إعجابى"

"سأحاول"، وابتسمَ.

"هذه كلمتى"

غمزَ لها بعينه.

مرّرَتْ عينيها على أفراد السيرك.

"أتساءل لماذا لا يوجد حيوانات فى فرقتك؟"

انتهتْ السلالم عند أرض مفروشة بخرز ملون، تتوزّع فيها بيوت من طين بألوان مختلفة، بدأ بعض أفراد الفرقة العزف على آلاتهم الموسيقية، خرَجَ أطفال من البيوت، جروا إلى "كاريسكا" وهم يهتفون باسمه بشكل إيقاعى، تجمّع بعضهم حوله، يرقصون رقصاتٍ خفيفة، مشى البعض الآخر بجوار العازفين.

  توقف "كاريسكا" عند امرأة عجوز تجلس أمام بيتها، قَرّبَ وجهه من وجهها، ابتسم لها.

"جئتُ فى موعدى"

رفعَتْ عينيها إليه.

"نعم كاريسكا"، ونقلَتْ عينيها بين "سيمويا" و"دوفو"، ثبّتتهما على "سيمويا".

 "اقتربى"

 مالت "سيمويا" إليها، تأمّلَتْ المرأة عينيها.

 "أنتِ ستعرفين شيئًا عن مستقبلك"

 "كيف عرفْتِ؟"

"أنا أوشك على الموت، لذا، ربما أعرف عنكِ شيئًا لا تعرفينه، أو تعرفينه فيما بعد"، نظرَتْ إلى "دوفو".

"أنت"

قرّبَ وجهه منها، تأمّلَتْ عينيه، مسحَتْ رأسه، ونظرَتْ إلى "كاريسكا".

"أين العرض الخاص بى؟"

سـألَها دوفو "لماذا لم تقولى شيئًا لى؟"

تأمّلَته لحظات بتعاطف غامض، التفتَتْ إلى "كاريسكا" ثانية.

"وقتى ينفد"

نظرَ "كاريسكا" إلى الفرقة.

 هتفَ "الوحش الحنون"

 خرجَتْ من بين أفراد الفرقة امرأة أربعينية، ضخمة، خفيفة الحركة، لها صدر قوى، عينان واسعتان، يدان ممتلئتان، فم كبير، شفتان ملوّنتان بالأحمر، ترتدى ثوبًا واسعًا من طبقات بألوان عديدة، مرسوم فيه حيوانات، نمور، أُسود، أفيال، دببة، قرود، كلاب بحر، ورسومًا أخرى لفاكهة، قِطَع لحم، وأسماك، وقفَتْ فى مقدمة الفرقة، لها حضور طاغ، تحيط بها هالة من الدفء.

شعرَتْ "سيمويا" بطاقة حنان كبيرة داخل "الوحش الحنون"، حتى كادت تندفع إليها وتحضنها.

نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

قال "سألنى أحدهم عن حيوانات فرقتى؟"

صنَع أفراد الفرقة قوسًا كبيرًا حول الوحش الحنون"، فتحَتْ ذراعيها جانبًا، حرّكَتْ أصابعها برعشة سريعة وهى تدور بعينيها فى الأفق، صاحَبَتْها دقّات طبول تصاعديّة، دارت حول نفسها، زادت سرعة دورانها، انفتحَتْ طبقات ثوبها، طارت منه الرسوم مُتحوّلة إلى كائنات حقيقية، نمور، دببة، أسود، أفيال، سحبَتْ من تحت ملابسها سوطًا طويلاً خيوطه من أضواء ملوّنة، فرقَعَتْ به مرة واحدة، تناثر منه رذاذ ملوّن، اصطفّتْ الحيوانات حولها، فرقعَتْ مرة أخرى.

 هتفَتْ "هيااااااا"

 صوتها وحشىّ وحنون معًا.

 تحرّكَتْ الحيوانات وهى تؤدى عرضًا متناغمًا، تلتقط "الوحش الحنون" بين لحظة وأخرى رسمًا من ثوبها، يتحوّل إلى طعام حقيقى، مرة يكون موزة تُلقيها إلى قرد، أو قطعة لحم تعطيها لأسد، أو سمكة لدُب، وكلما هتفَتْ فيهم "هيااااا"، ازداد حماسهم.

بالكاد منعَتْ "سيمويا" نفسها أكثر من مرة أن تندفع إلى المرأة وتحضنها.

 هتفَتْ الوحش الحنون "هياااااا"

 فرقَعَتْ بسوطها فى الهواء، قفزَتْ الحيوانات إليها فى وقت واحد وتحوّلَتْ إلى رسوم فى ثوبها، نظرَتْ إلى الأفق، صدرها يعلو ويهبط بأنفاسها مثل هضبتين صلبتين، رائحة الدفء تنطلق منها، تكاد تشعل الهواء حولها، حرّكَتْ السوط فى الهواء على شكل موجة كبيرة، أعادته تحت ملابسها، نظرَتْ إلى "سيمويا"، دقّ قلبها بقوة، أماءت لها المرأة كأنما تمنحها الإذن، وفتحَتْ أحد ذراعيها، اقتربَتْ منها "سيمويا"، شعرَتْ بنفسها وهى تخترق تلك الهالة الدافئة، ضمّتْها "الوحش الحنون" إلى حضنها.

"هيا، وقتى ينفد"، هتفَتْ المرأة العجوز.

عادت "الوحش الحنون" إلى مكانها بالفرقة.

"هايوووووو"، هتفَ "كاريسكا"، ودخلَ ساحة العرض بحركات بهلوانية، انضمّ إليه بعض أفراد فرقته بحركات مختلفة، لكنها منسجمة، البعض الآخر يعزف الموسيقا المصاحبة، عزفَتْ "الوحش الحنون" على آلة نفخ، يصْدر عنها ذلك الصوت الشجىّ بين بقية الأصوات المرحة.

 انتهى العرض، صفقَتْ العجوز، اقتربَ منها "كاريسكا".

 "سعيدة الآن؟"

 ابتسمَتْ.

 "الآن يمكننى أن أموت"، نهضَتْ، وقفَتْ فى فتحة باب بيتها، نَقَلَتْ عينيها بين "كاريسكا"، "سيمويا"، و"دوفو".

"أكملوا رحلتكم"، دخلَتْ بيتها، واختفَتْ.

 نظرَتْ "سيمويا" إلى "كاريسكا".

 قالت "ستموت المرأة فعلاً؟"

 "نعم"

 "ونتركها ونمضى، هكذا؟"

"لا شىء يمكننا أن نفعله"، ألقى نظرة تجاه باب البيت.

"اسمعى سيمويا، هذا المرأة وحيدة، لم تبتسم منذ مدة طويلة، أخبرتنى أنها ستموت اليوم، وطلبَتْ أن أمنحها بعض السعادة، الآن تموت سعيدة، وبعد موتها يعتنى بها آخرون، لا تقلقى"

مشى "كاريسكا"، ظلّتْ "سيمويا" فى مكانها، نظرَتْ إلى عمق البيت، بدَا كأنه بُعدًا آخر، انتبهَتْ على صوت "دوفو".

"امشى سيمويا"

خرجوا من أرض الخرز الملوّن.

 نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا" و"دوفو".

 "يمكنكما الجرى؟"

 لم ينتظر إجابتهما وجرى، جرَتْ معه الفرقة، ربتَتْ "الوحش الحنون" كتف "سيمويا"، وهتفتْ بطريقتها "هياااااا".

عبروا نهرًا، شوارع من ذهب وفضة، غابة، صحراء رمالها ورديّة، مساحات ممتدة من عشب طويل، مرّوا قُربَ بركان يقذف الحِمَم، أرض تغطيها الثلوج، لم يشعر "دوفو" أو "سيمويا" بأىّ تعب، رأيا من وقت لآخر حيوانات "الوحش الحنون" تجرى معهم، سمِعَا فرقعة السوط الملوّن فى الهواء، والصوت الوحشىّ الحنون يهتف "هيااااا".

 توقفوا عند حدود أرض من تراب بُنّى، بها أكواخ صغيرة من أغصان أشجار بنيّة، نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

 "هذا لأجلِك"

 نظرَتْ إلى التراب، بدَا كأنه شيكولاتة مُذابة، تذكّرَتْ "أرض الشيكولاتة" التى قرأتْها فى أوراق "الليل".

 قال كاريسكا "نخلع أحذيتنا قبل أن ندخل حتى لا نُغضب أحدًا"

دخلوا وأحذيتهم بأيديهم، توقفَتْ "سيمويا" بعد خطوتين، تلفّتتْ حولها.

 "أُحِب هذه الرائحة"، جلَسَتْ على ساقيها، التقطَتْ حفنة من التراب، تحسّسَتْه، شَمّتْه، وتذوّقته بطرف لسانها.

همسَتْ "أرض الشيكولاتة، لا يمكننى أن أمشى هنا بحذائى"

 انتبهَتْ إلى أنها الجملة نفسها التى قالتها جدّة "بينورا"، أعادت التراب بهدوء.

مشَتْ مع "كاريسكا" و"دوفو"، رأت على مسافة قريبة امرأة أربعينية تحمل على رأسها دلوًا تطير من فمه رائحة زهرة غامضة، أومأتْ كلٌ منهما للأخرى وابتسمَتْ، ظهرَتْ بعد لحظات أربعينية أخرى تمسك تحت ذراعها حزمة أغصان بُنيّة، ظلّت تبتسم فى عينى "سيمويا" حتى اختفَتْ بين الأكواخ، مرّتْ أربعينية ثالثة تحمل طبقًا من فاكهة متنوعة على يدها، وابتسامة على شفتيها.

 لاحظ "دوفو" و"سيمويا" أن كل مَن فى القرية نساء أربعينيات، حافيات، لهن بشرة بُنّى فاتح، كل شىء هنا له إحدى درجات اللون البُنّى، لم يسألا "كاريسكا"، فضّلا أن يكتشفا بنفسيهما، أو ربما عَرِفا السرّ، ظَلا يتطلّعان حولهما.

 المزيد من الأربعينيات المُبتسمات.

توقف "كاريسكا" عند كوخ مفتوح، نظرَ إلى "سيمويا".

 "هنا جائزتكِ"

شمّتْ رائحة تحبها تأتيها من داخل الكوخ، دقّ قلبها.

سألَتْ "ندخل؟"

"تعرفين ما هذا المكان؟"

انتظرَتْ إجابته.

"داخل هذا الكوخ صُنعَتْ أول قطعة شيكولاتة فى العالم"

 لم تشعر "سيمويا" بشىء لبرهة، ثم اندفعَتْ مشاعرها كلها دفعة واحدة، غرقَتْ فيها لحظات، تلاشى بعدها كل شىء، وبقى معها شجن جميل.

 تركوا أحذيتهم خارج الكوخ، ودخلوا.

 تطلّعَتْ "سيمويا" حولها، لا تريد أن تُبعِدَ عينيها عن أىّ شىء، أحبّتْ أن تنظر أولاً إلى كل قطعة على حِدة، ثم إلى القطع مجتمعة فى نظرة واحدة، شمّتْ رائحة شيكولاتة، بَدَتْ لها حاضرة منذ مئات السنين دون انقطاع، عتيقة وجديدة معًا، رأت فى أحد الزوايا طاولة خشبية صغيرة مستطيلة، فوقها كوب خشبى به ماء، ثلاثة أطباق صغيرة من الخشب، أحدها به حفنة سُكّر بُنىّ، الثانى به أوراق وردة بنفسجيّة، الثالث به بودرة كاكاو، وبجواره أداة طَحْن يدويّة صغيرة.

 هَمَسَ كاريسكا "غير مسموح بلمس أىّ شىء، أو الكلام بصوت مرتفع"

 وقفَتْ "سيمويا" بمواجهة ورقة مُعلّقة على الجدار داخل إطار من أوراق الشجر، مرسوم فيها بحِبْر بُنىّ وجه امرأة أربعينية، لها عينان واسعتان، شعر غزير مفرود فى حزمتين على صدرها، رفعَتْ "سيمويا" يدها ومرّرَتها ببطء فى الهواء كأنما تلمس وجه المرأة.

همسَتْ "أنا أعرفك"

انتقلَتْ إلى زاوية أخرى، رأت صندوقًا صغيرًا من الخشب، منقوشًا بزخارف لطيور وأوراق أشجار.

همَسَتْ "صندوق ملابسها"

 مرّرَتْ يدها فى الهواء كأنها تتحسّسه، ابتسمَتْ، رأت بجواره بساطًا من قطن برتقالى، يَسع شخصًا واحدًا، به رسوم بُنيّة لطيور ترفرف، وحوريّات.

همَسَتْ "مكان نومها"

 رأت نافذة صغيرة مفتوحة، وبجوارها مقعد خشبىّ هزّاز، ألقَتْ نظرة عبْر النافذة، وبالكاد منعَتْ نفسها من الجلوس على المقعد.

 وقفَتْ فى منتصف الكوخ، تطلّعَتْ إلى كل قطعة على حِدَة، أغلقَتْ عينيها، سحبَتْ نفسًا عميقًا، حبسَتْه لوقت طويل، شعرَ "كاريسكا" بالقلق عليها، مدّ يده إليها، منعَه "دوفو".

قال "لا تقلق"

 فتحَتْ "سيمويا" عينيها، أطلقَتْ نَفَسَها، نظرَتْ إلى "كاريسكا"، أومأت بما يُفيد أنها يُمكن أن تغادر.

 خرجَ "كاريسكا" "ودوفو".

 توقفَتْ "سيمويا" فى فتحة الكوخ، قبّلَتْ باطن يدها ولوّحَتْ للمرأة المرسومة فى الورقة، صانعة أول قطعة شيكولاتة فى العالم.

التقطوا أحذيتهم، ابتعدوا عن الكوخ.

 قالت سيمويا "تعرفان، الشيكولاتة البُنيّة هى الشيكولاتة الحقيقية، لا يمكنكَ القول أنك أكلْتَ شيكولاتة لو لم يكن لونها بُنّى"، تطلّعَتْ حولها إلى الأكواخ، والمزيد من الأربعينيّات المُبتسمات.

قالت "البُنىّ ليس من الألوان ذات الشعبيّة الكبيرة، لكنه يُعوّض ذلك بكونه لون الشيكولاتة، لو أنه موجود فقط لأجلها فهذا يكفيه ليكون رائع جدًا، ومحبوب جدًا"، تنهدّت.

"البُنّى دم الشيكولاتة"

وصلوا إلى سُلّم خشبى يتفرّع من جانب أحد الشوارع ويؤدى إلى الأسفل.

 قال كاريسكا "يمكنكما أن ترتديا حذائيكما"

 بدأوا ينزلون السُلّم.

 حلزونى الشكل، مُعلّقًا فى الهواء، حوله تهويمات من نور يتغيّر لونه بين لحظة وأخرى، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" أنهما داخل جنين حلم.

وجدا عند نهايته أرضًا عبارة عن سبعة دوائر داخل بعضها بعضًا، تفصل بينها مسافات متساوية، ولكل واحدة منها لون مختلف.

الدائرة الخارجية زرقاء، الثانية بنفسجيّة، الثالثة بيضاء، الرابعة حمراء، الخامسة برتقالية، السادسة صفراء، السابعة خضراء، وفى المركز نقطة صغيرة تنبض.

 نظرَ "كاريسكا" إلى "دوفو".

 قال "سيعجبك هذا"

دخلوا الدائرة الزرقاء.

شعروا أنهم  يمشون فى المساحات الحالمة من العالم، حيث المطر، الموسيقا، والمشاعر العميقة، فيه حجرة نوم السماء وأسرار قلبها، الأزرق أكثر مكان تحدث فيه قصص الحب من النظرة الأولى.

قالت سيمويا "الأزرق، أحلام البحر"

دخلوا الدائرة البنفسجيّة.

يمشون فى الأماكن الهشّة، الرقيقة، يتواجد عشّاق السهر، المتشردون، ومَن ضلّوا الطريق إلى البيت، فيه تجمّعات الندى، مساحات الشجن، الأغنيات الهادئة، وأجمل شوارع العالم المخصصة للمشى.

قال دوفو " البنفسجى، أحلام الليل"

الدائرة البيضاء.

المساحات المجهولة من العالم، لا يمكنهم توقّع ما يحدث، يمكن أن يتشكّل من الأبيض أىّ شىء فى أيّة لحظة، الأخطر ألا يتشكّل منه شىء، انتَبِه، أنت فى أكثر الأماكن خطورة.

قال كاريسكا "الأبيض، حِبْر الأسئلة"

الدائرة الحمراء.

أكثر الأماكن التى تتكرر فيها اللحظات العاطفية، والحوادث المرعبة، هنا يتم اختراع أوضاع الحب، آلات التعذيب، العطور ذات الأصل الحيوانى، والسكاكين المُخصصة للتعامل مع الأجساد الحيّة، يستطيع الأحمر أن يصنع مزيجًا مدهشًا من الألم واللذّة، أو يُلخّص أيًا منهما فى لحظة واحدة عميقة، يحمل ذلك الوعد الذى لا نُكذّبه أبدًا، والإغواء الغامض للتهوّر، كل ما يقوله هو: إفْعَل، استمرّ، الأحمر موجود كى يمنعنا عن التوقف.

قال دوفو "الأحمر، وعْد الغواية"

الدائرة البرتقالية.

أكثر الأماكن التى تحبها الشمس، وتكون معها فى أرقّ حالاتها، البرتقالى رسّام الشروق والغروب، أحد أكبر صُنّاع البهجة، تتجمّع فيه سنوات شباب جميع الكائنات، وأشخاص يتبادلون الابتسامات والأحضان بسهولة، أفضل مكان لإعداد جميع أنواع الكيك، خاصة كيك البرتقال.

قالت سيمويا "البرتقالى، محبوب الشمس"

الدائرة الصفراء.

مناطق العالم التى تتجمّع بها سنوات المراهقة لجميع الكائنات، تلك الأوقات المحبوبة برعونتها، ولأنها أكثر فترة من العمر تحدث فيها الأشياء للمرة الأولى، به كل أنواع الألعاب، مباريات سرعة البديهة، الحوارات الذكية، والنِكَات، تتواجد قصص الحب العابرة التى لا تُنسى، حتى لو كانت نظرة عَبْر نافذة قطار، الأصفر أرض اللعب، الابتكارات، والعجائب.

قال دوفو "الأصفر، طائر اللعب"

الدائرة الخضراء.

أفضل الأماكن التى يمكنهم الحصول فيها على أصدقاء، الكل يساعد الكل، اطمئن، هنا، لن يقسو عليك أحد، أنت فى الأكثر أمانًا ورحمة.

قال كاريسكا "الأخضر، دم الطبيعة"

وصلوا إلى النقطة المركزية داخل الدوائر السبع، قطعة من طين نقىّ، لها حجم قلب الإنسان وشكله، وتنبض بالطريقة نفسها، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" بالحنين إليها، وأن قلبيهما ينبضان مع نبضها.

 قال كاريسكا "قلب الأرض"

لم يكن أىّ منهما فى حاجة ليسأله إن كان بإمكانه أن يلمس هذا القلب، جلسا على سيقانهما، أحنىَ كلٌ منهما رأسه قليلاً للحظة، مدّت "سيمويا" يدها، وضعَتْها على القلب، دافئ، مُطْمَئن، شعرَتْ بنبضه فى قلبها وروحها، أغمضَتْ عينيها، تخيّلَتْه داخل صدرها، ابتسمَتْ، تنهدّتْ، ورفعَتْ يديها عنه.

وضَعَ "دوفو" يده على قلب الأرض، ظلّ يتأمّلَه، تخيّلَه داخل قلبه.

همسَ لنفسه" "قلب الأرض، قلب الأرض"

عادوا إلى "جبل النور".

 لم يعرف "دوفو" و"سيمويا" إن كانا قد أمضيا تحت الأرض عدّة سنوات أم لحظة واحدة، ليس مُهمًا، صعدوا أكثر من سُلّم، وصلوا إلى السحاب.

سألَتْ سيمويا "إلى أين تأخذنا كاريسكا؟"

 "القمر"

 تنقّلوا بين طبقات ملوّنة فى السحاب، تتوقّف "سيمويا" بين لحظة وأخرى، تلمس سحابة، تَحُكّ وجهها بها، أو تتذوّقها بطرف لسانها.

انتهى السلّم عند حافة القمر.

 دخلوه.

 توقفوا بعد خطوتين، الأرض رماد فضّى، التقطَتْ "سيمويا" حفنة منه، بارد، وناعم، همَسَ لها بأنه رماد الأحلام، ابتسمَتْ له، شَمّتْ فيه رائحة السّهَر، عرِفَتْها رغم أنها تشمّها للمرة الأولى، أو أن الرائحة عرّفَتْها بنفسها، تركَتْ حفنة الرماد، تلاشَتْ فى الهواء مثل دُخان فضّى.

 تطلّعَتْ "سيمويا" حولها، رأت أرنبًا بنفسجيًا على مسافة قريبة، يحفر الرماد بفأس من ورق أبيض، تذكّرَتْ الأرنب الذى كانت تراه فى طفولتها كلما نظرَتْ إلى القمر، كان يفعل شيئًا مختلفًا فى كل مرة، يحمل دلوًا، يحفر بفأس، أو يقفز فى الهواء، الآن تراه عن قُرْب يحفر بفأسه، نظرَ إليها، رأت فى عينيه الخضراوَين دهشة كأنه يقول لها "أنتِ؟"، لم ينقصه غير أن ينطقها.

 همَسَتْ له "أنا سيمويا"

 مشَتْ إليه، صارت على بُعد خطوات منه، تركَ فأسه وقفز مبتعدًا، لاحقَتْه، يتناثر رماد الأحلام من أقدامهما ويتلاشى فى الهواء، يتوقف الأرنب بين لحظة وأخرى حتى لا تفقده، بدَا أنه يُلاعبها، أو يقودها إلى مكان ما، توقّفَ عند بركة ماء على شكل فراشة، مساحتها لا تتجاوز مترًا واحدًا، جلسَتْ بمواجهته عند حافتها، نظرَ فى عينيها، مدّ فمه ليشرب، تأمّلَته، رفعَ عينيه إليها بتحريض كأنما يقول لها "اشربى"، لم ينقصه غير أن ينطقها، تمدّدَتْ على بطنها، بدأتْ تشرب، سمعَتْ صوتًا يهمس فى أذنها، يخبرها عن سِرّ لعبة القمر الأثيرة: كيف يمكنه أن يمشى مع الجميع فى وقت واحد، ابتسمَتْ روحها.

انتبهَتْ عندما انتهَتْ بركة المياه، جلسَتْ على ساقيها، ابتسمَتْ للأرنب، ابتسمَ لها، مدّتْ يدها إليه، قرّبَ رأسه منها، مسَحَتْها برفق، أغلقَ عينيه ونام قليلاً، استيقَظ، سحَبَ رأسه من يدها ببطء، قفزَ مبتعدًا، تبِعَتْه، توقّف عند فأسه، نظرَ إلى الزائرة لوزيّة العينين، توقّفَتْ على بُعد خطوات، حرّكَ فمه الوردىّ بسرعة، ابتسمَتْ، التقط الفأس وعاود الحفر.

 عادت "سيمويا" إلى "دوفو" و"كاريسكا" عند حافة القمر، وقفَتْ بجوارهما، تأمّلَتْ الأرنب، أمالت رأسها على كتفها، نادَته.

"أرنب، أنت، يا بنفسجى، أخضر العينين"

لم يلتفت إليها كأنه لم يكن معها منذ لحظات، ابتسمَتْ، خرجَتْ من القمر إلى السلّم الذى ينتظر، لَحِقَ بها "دوفو" و"كاريسكا"، لم تسألهما عما رأياه هناك، تساءلَتْ مع نفسها إن كانت قد رأت شيئًا فى القمر عدا الأرنب البنفسجى.

صعدوا فى السحاب.

 دخلوا غيمة داكنة الزُرقة، شعروا بلمسة برد خفيفة، خرجوا منها إلى نور الشمس، غطّوا عيونهم بأيديهم لحظات، كشفوا عنها ببطء، رأوا سحابًا أبيض به رتوش برتقالية، وشمس منتصف النهار تلمع على مسافة قريبة، كانوا يقفون على آخر درجة من السُلّم، انحرفَ "كاريسكا" خطوة إلى اليمين، ظهرَتْ تحت قدمه درجة سُلّم جديدة، طلَبَ من "سيمويا" و"دوفو" أن يقفا إلى جواره.

"انظرا إلى الشمس"

رأياها بلون برتقالىّ تغطس فى البحر، انتقلَ "كاريسكا" خطوة إلى أعلى، أشار إليهما، وقَفَا بجواره، رأيا الشمس بلون زَهرىّ تهبط خلف أشجار عالية، تحرّكوا خطوة إلى اليمين، رأوا شمسًا ذهبية تُشرق خلف جبل، خطوة إلى اليسار، رأوا شمسًا فضيّة تُشرق على طريق ملىء بالبشر، نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

"ما رأيكِ؟"

"كأنها شمس أخرى فى كل مرة، أعجبنى هذا"

ابتعدوا عن الشمس.

 دخلوا سحابة ملأى بالنور بحيث لم يستطع أىّ منهم أن يرى شيئًا.

 "استمرّا، لا تقلقا"، قال "كاريسكا".

قالت سيمويا "لم يَشْتَكِ لك أحد؟"

ضحكَ ضحكة قصيرة.

"ستشعران متى عليكما أن تتوقفا"

بعد لحظات، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" أنهما اخترقا حاجزًا ما، توقّفا، رأيا أمامها ما شعرَا أنه نهاية العالم، مساحة لا نهائية من فراغ، ليس بها نور أو ظلام، مسّهما خوف غامض.

قال كاريسكا "هذا ما تُطلقون عليه مكان خارج العالم"

قالت سيمويا "ماذا تقصد؟"

 "أنتم، هناك، خارج الجبل، يحدث أن تقولوا عن شىء ما إنه من خارج العالم، هذا هو"

"لكنه مجرد توصيف، نستعمله عندما نصف شيئًا بأنه جميل جدًا، المُفْتَرَض أن كل الأشياء والأماكن موجودة داخل العالم"

قال دوفو "يبدو أننا كرّرنا جملة: خارج العالم، عددًا كافيًا من المرات حتى نشأ مكان مثل هذا بالفعل، وصار حقيقة"

رأوا بيانو يسبح أمامهم فى الفراغ، كمان، كُتُب، أشجار، أقلام، وبيوت.

 قال كاريسكا "كل مَن يدخل هذا المكان يتحوّل إلى شىء ما، ما ترونه كانوا بشرًا دخلوا إلى هنا برغبتهم أو بطريق الخطأ، وتحوّلوا"

قالت سيمويا "هل يمكن أن يعود أىّ منهم إلى حالته الأصلية"

 "لا أعرف"

راقبَتْ "سيمويا" الأشياء لحظات.

"ماذا يحدث لو مدَدْتُ يدى هناك؟"

رفعَتْ يدها، أمسكَها "كاريسكا".

 "لا تفعلى، ربما يكون هذا كافيًا لتتحوّلى"

 نظرَتْ إلى "دوفو".

 قالت "إلى ماذا يمكن أن أتحوّل برأيك؟"

 "سهل جدًا، قالب شيكولاتة، أو كمان"

 ابتسمَتْ.

سألَها دوفو "ماذا تتوقّعين لى؟"

"أنت بيانو، أو حفنة دقيق"

صعدوا أحد السلالم.

قال كاريسكا "بالمناسبة لا يعجبنى أن تصفوا شيئًا جميلاً بأنه من خارج العالم"

"لماذا؟"، سألَتْ "سيمويا"

"أشعر فى هذا بإهانة للعالم، كأنه ليس جميلاً كفاية لنحصل منه على شىء رائع"