عالم من الخيال، اختلط فيه الواقعى، بالعبثى، ونطقت فيه الجمادات. تحدث البحر، وعادت الأموات، ومات الأحياء، فى عالم مُتخيل، لرحلة، هرب فيها الكاتب من حياة الأرض الضاجة بالقتال، والاقتتال، ليعيش فى السماء مع الموسيقى والألوان، والحب. فى رواية تبدو للقارئ أنها تعيش فى الخيال، وبالخيال، غير أنها تحمل كل هموم الأرض.

ألف جناح للعالم (رواية العدد)

محـمد الفـخـرانى

 

الإجابات أسئلة متنكرة

لا تفقد شَغَفَ

مَنْ أَحَبَّ نَجا

 

(1)

انتهَتْ لتوّها من الطيران مع التنّين.

"الوقت؟"، سألَتْ "سيمويا" بمجرد أن فتحَتْ عينيها.

 "السابعة صباحًا"، ردّ حاسوبها الطافى على مكتبها.

 رَفَعَتْ عنها غطاء النوم، تسرّبَتْ رائحتها ممزوجة برائحة تنّين رأته فى أحلامها.

 "ضوء"، قالت "سيمويا"

 غمَرَ الحجرة ضوء هادئ.

غادرَتْ سريرها، خلعَتْ تى_ شيرت شفافًا ينتهى أسفل مؤخرتها، ألقَتْه على حافة السرير، سحبَتْ الكيلوت بحركة رشيقة من إبهامها، طيّرتْه فى الهواء، صارت عارية إلا من حرشفة صغيرة خضراء بنهاية ظهرها، سقط الكيلوت فوق التى- شيرت، دخلَتْ الحمّام المُلحق بحجرتها، توقفَتْ بمواجهة شاشة طيفيّة مُقسّمة إلى مربعات صغيرة بها صور لمناظر طبيعية، لَمَسَتْ صورة سحابة مُمطرة، تسرّبَ من إحدى زوايا السقف بُخار أبيض تحوّل بسرعة إلى رمادى داكن، تشكّلَ على هيئة سحابة فيها رعد وبرق، هطلَ منها مطر غزير، انتقلَتْ "سيمويا" تحتها، تمطّرَتْ بها، نزَعَتْ الحرشفة الخضراء من ظهرها، تحركَتْ خطوتين، توقفَتْ بمواجهة مساحة صغيرة فى الجدار مُغطّاة بألمونيوم ملىء بالثقوب، لمسَتْ زرًا أحمر، اندفع من الثقوب تيار هواء دافئ جفّف الماءَ عن الخطوط العامة من جسمها، استعمَلَتْ منشفة صغيرة للتفاصيل، غادرَتْ الحمّام إلى ثلاجة صغيرة بزاوية الحجرة، أخذَتْ منها قطعة شيكولاتة، فتحَتْ غلافها بعناية، قضمَتْ ذرة من زاويتها بأطراف أسنانها كأنها تستأذنها لتأكلها، توقفَتْ أمام المكتب، لمسَتْ أحد المربعات فى شاشة الحاسوب، انفتحَ ملفّ الموسيقا، شغّلَتْ صوت مطر طبيعى، لَمَسَتْ مُربعًا آخر، انفتحَ ملفّ ملابسها، قسم الملابس الداخلية، توقفَتْ عند كيلوت أبيض فيه شمس حمراء، لَمَسَتْ الشاشة، اندفعَتْ منها حزمة ضوء تحوّلتْ على جسم "سيمويا" إلى الكيلوت المُختار، قضمَتْ قطعة صغيرة من الشيكولاتة، اختارت مُرَبعًا آخر، اندفعَتْ حزمة نور جديدة وتشكّلتْ سوتيانًا أزرق سماويًا احتوى ثدييها الرشيقين، تجوّلَتْ فى حجرتها حتى انتهتْ الشيكولاتة، سَوّتْ غلافها، وضَعَته فى درج بالمكتب يحوى أغلفة أخرى، وقفَتْ بمواجهة الحاسوب، اختارت من ملابس الخروج قميصًا أزرق بَحَريًا، بنطلونًا قطنيًا أبيض، وحذاءً من قماش أصفر موزى، مشّطَتْ أطراف شعرها بمشط خشبى، لا ماكياج، وعطرها رائحتها الخالصة.

التقطَتْ هاتفها من سطح المكتب، غادرَتْ حجرتها إلى المطبخ، توقفَتْ فى فتحة الباب، نور الشمس يدخل من النافذة المواجهة ويتكَسّر فى جميع الزوايا، راقبَتْ جدّتها وهى تُطيّر قرص البيض فى الهواء، وتدور معه حول نفسها قبل أن تتلقّاه فى مقلاتها، صفّقَتْ لها ودخلَتْ.

"صباح الخير جدّتى"

"صباح الخير سيمويا"

قبّلَت الحفيدة خدّ جدّتها، تمهّلَتْ لحظة وسحبَتْ نفَسًا خفيفًا كأنما تشمّها.

قالت "لا شىء فى الصباح أجمل من رائحتك جدّتى، الشيكولاتة الخفيفة"

"أنتِ الجميلة، سيمويا"

وضعَت الجدَّة طبق البيض فوق طاولة دائرية بمنتصف المطبخ، حوله جُبن، عسل، قهوة، وخبز، تناولَتْ "سيمويا" لُقمة من كل نوع، قطعَتْ بالسكين شريحة من قرص البيض، أكلَتْها، مسحَتْ يديها فى منديل ورقى، التقطَتْ فنجان القهوة، تأمّلَتها جدّتها لحظة.

 قالت "تُسَمّين هذا إفطارًا؟"

"أنا لم أُسَمّ شيئًا، وجدْتُ الجميع يُسمّونه إفطارًا، لم أعترض"

"أنت تأكلين مثل عصفورة"

رفعَتْ "سيمويا" سبّابتها.

"لا أحد يعرف بالفعل ما تأكله عصفورة، لا تنخدعى بحجمها"، أعادت فنجان القهوة إلى الطاولة، نظرَتْ إلى جدّتها.

قالت بشىء من الحماس "اتصلوا بى أمس من مركز الأبحاث"

"مهمة جديدة؟"

"أتوقّع ذلك، موعدى معهم فى الثامنة والنصف"، نظرَتْ إلى ساعتها.

"من الأفضل أن أغادر الآن، لديك عمل اليوم؟"

"ليس خارج البيت، أنتظر مجموعة أفلام توثيقية عن بعض الجبال، اليوم ربما أختار جَبَلى"

"أنتِ الأفضل جدّتى"

 أمالت "سيمويا" رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

قالت "الآن، تَمَنّى لى"

"يومك حلو"، قالت الجدّة، وربّتَتْ خدّ حفيدتها.

تذهب "سيمويا" إلى عملها مشيًا، مركز للأبحاث الچيولوچية، يُكلّفها بمَهام قد تستغرق الواحدة منها عدة شهور، أكثر ما تحبه فى عملها، السفر، التعرّف إلى العالم، واكتشافه.

 تقرأ فى طريقها بعض الأخبار من الشاشات الطيفيّة السابحة فى الهواء، تتابع لقطات دعائية للأفلام السينمائية الجديدة، وتفكر فيما يمكن أن تكون عليه مُهمّتها.

 توقفَتْ بعد أن كادت تصطدم بفتاة، وبدلاً من أن تقول لها كلمة مناسبة وتُكمل طريقها، ظلّتْ فى مكانها تنظر إليها كأنما تنتظر منها شيئًا، شعرَتْ تجاهها بغموض، وأُلْفة شفافة، كأنما قابلَتْها فى مكان تعرف أنها لن تتذكّره أبدًا، كانت الفتاة فى العشرين من عمرها، تنظر فى عينى "سيمويا" مثلما ينظر شخص إلى شىء يحبه، ويريد أن يتأكد أنه على حاله مثلما رآه آخر مرة منذ مدة طويلة.

قالت سيمويا "هل أعرفكِ؟"

ابتسمَتْ الفتاة، دفعَتْ بحزمة أوراق إلى صدر "سيمويا"، وضعَتْ يدها عليها بتلقائية كأنما حصلَتْ على ما تنتظره.

"اقرأيها ليلاً"، قالت الفتاة.

 رأت "سيمويا" نفسها داخل الليل للحظة، وعندما عادت إلى النهار لم تجد الفتاة أمامها، لمَحَتْها على مسافة ليست بعيدة، جرَتْ إليها.

 "أنتِ، أنتِ"

 لم تلتفت الفتاة، اختفَتْ بعد لحظات، توقفَتْ "سيمويا"، تلفّتَتْ حولها، نظرَتْ إلى الأوراق فى حضنها، أسندَتْها إلى راحة يدها، حزمة كبيرة من أوراق مُفرَدَة لا يتعدّى وزنها حفنة هواء، وفى منتصف الصفحة الأولى كلمة واحدة بخط اليد وحِبْر أزرق، "الليل"، قرأتها بصوت عادى، لكنها سمِعَتْ صداه يتردّد حولها كأنها هتفَتْ بها فى ليل ومكان مفتوح، تلفّتتْ حولها، انقطع الصدى ورأت نهارًا وبنايات، تصفّحَتْ بعض الأوراق، وجدَتْها ملأى بكلام أزرق مكتوب بخط اليد، كان مُدهشًا لها أن ترى كل هذه السطور اليدويّة دفعة واحدة، منذ متى لم ترَ صفحة كاملة بخط اليد، ربما أبدًا، ظلّتْ مأخوذة بالخط الرائق، لم تقرأ الكلمات بالفعل، انتبهَتْ، فكّرَتْ أن تقرأ شيئًا، تذكّرتْ ما قالته الشابة "اقرأيها ليلاً"، لم يكن هذا ليمنعها، تناقش الأمر فيما بعد، الآن عليها أن تلحق بموعدها.

اشتَرَتْ من مكتبة فى طريقها حافظة أوراق بلونها المُفَضّل، الأزرق، تجاوزَتْ تقاطعين، انعطفَتْ إلى اليسار، وبعد خمسين مترًا تقريبًا كانت بمواجهة مبنى زجاجى من خمسة طوابق، تجاهَلَتْ المصعد كعادتها، صعدَتْ السلّم إلى الطابق الثالث، تحيّات صباحيّة لبشر وروبوتات، توقفَتْ عند باب زجاجى كأنه ماء، طرقَتْه مرتين، دخَلَتْ، يجلس خلف مكتب بمواجهة الباب رجل يبدو فى منتصف الأربعين من عمره، ربما تجاوز الستين فى حقيقته، لا أحد يمكنه أن يعرف العمر الحقيقى لشخص آخر، ليس بهذه السهولة، أمام المكتب يجلس شاب يبدو فى نهاية العشرين.

 قالت "صباح الخير"

"أهلاً سيمويا"، قال الشاب.

 "صباح الخير، تأخرْتِ ثلاث دقائق"، قال الرجل.

 "اعتراض بسيط فى الشارع، آسفة"

أشار لها، جلسَتْ بمواجهة الشاب، حافظة الأوراق على ركبتها.

قالت "ماذا فاتنى؟"

قال الرجل "فقط عرِفَ دوفو الخبر قبلك، لديكما مهمة جديدة"

لمعَتْ عينا "سيمويا"، خطفَتْ نظرة إلى "دوفو"، ابتسمَ لها، نقَلَ الرجل عينيه بينهما.

قال "نقاط موزّعة فى أماكن كثيرة من العالم، كأنها خريطة ممزقة وغير مفهومة، نريد أن نجمعها ونفهمها"

"أُفكّر، هذا تقريبًا ما نفعله دائمًا"، قالت "سيمويا".

"هناك تفاصيل صغيرة تجمع بين هذه النقاط، لكن الغموض هو أكثر شىء واضح لنا"

"هذا أيضًا موجود فى كل مهمة، الغموض"

"هل تعطينى الفرصة لأقول شيئًا لا نفعله دائمًا، وغير موجود فى كل مهمة؟"

"سأحاول، تفضّل"، قالت "سيمويا" وابتسمَتْ.

"تطوّرَ الأمر فجأة، لم يكن فى خطّتنا الاستعانة بباحثين إضافيين، قررنا ذلك بالأمس فقط، تم اختياركما بالإجماع"

قالت سيمويا "أخشى أن هذا أيضًا حدث من قبل"

ابتسمَ الثلاثة.

"السفر غدًا عند التاسعة صباحًا، تحصلان على المعلومات المتوفرة لدينا عن المواقع المطلوب دراستها، تبدآن من موقع أسميناه النقطة الزرقاء، بعدها لكما حرية اختيار الموقع الذى تنتقلان إليه"، صَمَتَ لحظة، نقَلَ عينيه بينهما.

"أية أسئلة؟"

"الأسئلة تنتظرنا هناك"، قال "دوفو".

نظرَ الرجل إلى "سيمويا".

قال كأنه يحرّضها "أىّ تعليق؟"

"عندى شغف"، قالت "سيمويا" وابتسمَتْ.

"أحبَبْتُ أن أسمعها"، قال الرجل.

نهَضَ، وصافحهما.

"أيًا كانت الطريقة التى تفعلان بها ذلك، تعرفان أنى أُحب عملكما معًا، استعِدّا"

 خرجَ "دوفو" و"سيمويا"، توقفَا على بُعْد خطوات من المكتب.

قالت سيمويا "أشعر بالحماس"

 قال "دوفو" وهو يقلّدها فى ردّها مع المدير "هذا ما تشعرين به فى كل مهمة"

ابتسمَتْ.

"لا شىء يثيرنى أكثر، أنت تعرف"

"يمكننا أن نشرب قهوة فى المكتب، ونشاهد بعض الڤيديوهات والصور الخاصة بالمهمة"

 مَشيَا باتجاه ردهة قريبة، توقفَتْ "سيمويا" بعد خطوتين كأنما تذكّرَتْ شيئًا.

"آسفة دوفو، غيّرْتُ رأيى، سأنصرف"، وأمالت رأسها على كتفها، لاحَظَ "دوفو" أصابعها وهى تضغط حافظة الأوراق.

"سَهْل، كما تحبين، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

الشارع، فكّرَتْ "سيمويا" فى الشابة التى أعطتها الأوراق، ولماذا طلبَتْ أن تقرأها ليلاً؟ قصَدَتْ ألا أقرأها أبدًا إلا خلال الليل، أم اليوم فقط؟ ماذا يوجد فيها، وما علاقتى بها؟

تعرف "سيمويا" أن ما حدث مُتعَمّد، هذا واضح، كما أنها لا تؤمن بالمصادفات، لم تكن لتلتزم بالقراءة الليليّة وحدها، كل ما يمكنها فِعلُه أن تؤجل المرة الأولى إلى الليل، بعدها تقرأ وقتما تحب، برأيها، هذا مريح للجميع.

 فكّرَتْ أن تَشْغل نفسها طوال النهار خارج البيت، حتى لا تكون فى مواجهة هناك مع الأوراق.

دخلَتْ مقهى، اختارت طاولة بعيدة عن الشارع، أخرجَتْ الأوراق من الحافظة، وضَعَتْها أمامها، تأمّلَتْ كلمة "الليل" دون أن تفكر فى شىء محدد، جاء النادل، طلبَتْ قهوة بدون سكر وقطعة شيكولاتة من نوع وحجم مُحدَدَيْن، نظرَتْ بجانب عينيها إلى الأوراق، لماذا لا تقرأ ولو قليلاً، سحبَتْ ورقة "الليل"، ظهرَتْ الورقة التالية ملأى بكلام أزرق، فوجئتْ كأنها لم ترها من قبل، فكّرَتْ أنه من الأفضل لو التزَمَتْ باتفاقها الشخصى وأجّلَتْ القراءة الأولى إلى الليل، أعادت الورقة، جاء النادل بما طلبَتْه، التقطَتْ قطعة الشيكولاتة، فكّتْ غلافها برفق، استأذنتها لتأكلها.

أنهَتْ الشيكولاتة مع آخر رشفة قهوة، طَوَتْ غلافها بعناية، وضَعَتْه فى جيبها، دفعَتْ الحساب وغادرت.

 ما زال النهار فى أوله.

دخلَتْ مكتبة، لم تقضِ فيها غير دقائق، الكتب تستدعى القراءة، ولا شىء ترغب فى قراءته إلا أوراق "الليل".

شاهدَتْ فيلمًا رومانسيًا بالسنيما.

حسنًا، يمكنها أن تُضيّع الكثير من الوقت فى "شارع الحلوى"، هكذا تسميه، أحد أماكنها المُفضّلة فى العالم، يبعُد خمس دقائق مشيًا، واسع إلى حد ما، طوله لا يتعدّى المائة متر، أرضه قِطَع صغيرة مستطيلة من بازلت أسود ناعم، كأنها خرجَتْ من عمق الأرض خصيصًا له، وتراصّت بطريقة ليست نظامًا ولا فوضى، تتوزّع فيه مقاعد خشبية بعضها طويل، وعلى جانبيه محلات الحلوى.

 تأتى "سيمويا" من وقت لآخر، تتنقل بين فاترينات المحلات، تتفرّج على حلواها الحبيبة، ألوانها وأشكالها المختلفة، تستمتع بالنظر إليها مثلما يستمتع شخص بأىّ منظر جميل، لا يوجد هواء فى الشارع، إنما رائحة سُكريّة خفيفة، تشعر "سيمويا" أنها فى جنّة صغيرة من سُكر طيّار، فاكهة، فراشات، زهور، مياه، عشب، وألوان، تُشعرُها الرائحة بخفّة، فرح لطيف، وتحملها إلى هامش الطفولة.

 "سيمويا" لا تأكل الحلوى، لا تُهديها أو تقبلها من أحد، حتى فى أعياد ميلادها، لا يمكنها أن تتحمّل السكين وهى تُقطّعها، الأسنان وهى تنغرس فيها، لكنها تأكل الشيكولاتة، شغفها، لا تعتبرها نوعًا من الحلوى، أو صنفًا من المأكولات، الشيكولاتة لا تنتمى إلا لنفسها.

  تتفرّع من "شارع الحلوى" عدّة شوارع، بها مقاهٍ، وعلى أرصفتها كتب، صحف، مجلات، أشخاص مُتوَحّدون يبيعون عملات نقدية قديمة، وأشياءَ من الماضى أو المستقبل، لها أشكال عجيبة، وكلها لا تعمل، لكن لا يوجد بها محلات للحلوى، وأرضها ليست من البازلت.

مساحة المنطقة كلها لا تتعدّى نصف كيلو متر، تبدو كأنها نشَأتْ دفعة واحدة بكل ما فيها، لم يَبْنِها أحد، ربما هبطَتْ من سماء، صعدَتْ من أرض أو بحر، لم تكن "سيمويا" تعرف اسم أىّ شارع منها، هكذا تصاحبها أكثر.

اقتربَتْ من "شارع الحلوى"، تعرف أنه فى الانعطافة التالية، لا يمكنها أن تخطئ فى هذا، وجدَتْ نفسها فى شارع لم تره من قبل، وفى الوقت نفسه لا يبدو غريبًا، به شىء من روح المكان الذى تعرفه، ليس لديها مانع من ظهور شارع جديد، فكّرَتْ أنه يصل بها فى النهاية إلى "شارع الحلوى"، مشَتْ فيه، وشوارع تتفرّع منه، أرضها من البازلت، ليس بها مقاهٍ، كتب، صحف، متوحّدون يبيعون أشياء من الماضى أو المستقبل، ولا محلات للحلوى، كلها مُخصصة للألعاب، وإضاءتها الداخلية الخافتة تُشكّل تجانسًا ضوئيًا يدعو إلى حالة من نعاس، ويطفو بها على جانبى الشارع، ظلّتْ "سيمويا" تشمّ رائحة حلوة خفيفة طوال الوقت، وأحيانًا تهُب عليها نسمة سُكريّة من داخل أحد المحلات، تندفعُ إليه، لا تجد فيه غير ألعاب، تعتقد أن الرائحة تأتى من محل مجاور، تنتقل إليه، تحصل على ألعاب جديدة، شعرَتْ عند لحظة أنّ المحلات كلها ليست إلا محلاً واحدًا يتمدّد فى المكان، وهذا الواحد ليس إلا لعبة من عدة فقرات، كان أصحاب المحلات يتحركون ببطء كأنهم تحت الماء، يدعونها للدخول بابتسامة وإشارة باليد تجاه الباب المفتوح، ترى ابتسامتهم وهى تتشكّل فى وجوههم، الحركة المائية لأذرعهم، والتواءات شفاههم أثناء الكلام، تشعر برهبة ورغبة فى الضحك، تندهش من امتزاج الشعورَين وتبتهج بهما.

 ظلّتْ تطارد رائحة الحلوى وهى تحضن أوراقها حتى تلوّنَتْ السماء بالبنفسجى الفاتح، يمكنها الآن العودة إلى البيت لتقرأ أوراق "الليل"، تلفّتتْ حولها لتختار طريقًا للخروج، رأت طفلة تمسك بخيط فى نهايته بالونة حمراء تعبر إلى شارع جانبى، تبِعَتْها، وجدَتْ نفسها بمواجهة فاترينة ملأى بالحلوى، كان المحل المُفضّل لها، وصاحبته الأربعينية، بشعرها الذهبى وساقيها الحلوتين تقف فى فتحة الباب وتبتسم لها، ابتسمَتْ لها "سيمويا"، ومرّرت عينيها على ساقيها.

كلما تأتى "سيمويا" إلى "شارع الحلوى"، تتوقفُ طويلاً أمام هذه الفاترينة، تراها المرأة من داخل المحل، تخرج إليها، تقف فى فتحة الباب، لا تتبادلان أىّ كلام، فقط ابتسامة لا يكاد العالم يلحظها، لكنهما تريانها بوضوح، تتفرّج "سيمويا" على الحلوى لوقت طويل، وفى النهاية، تُمرّر عينيها على ساقى المرأة، تنظر إليهما بالطريقة نفسها التى تنظر بها إلى حلواها، تشعر أنهما مصنوعتان من المادة ذاتها، تراهما جديدتين فى كل مرة، وتتمنى لو تُمرّر إصبعها عليهما يومًا، فى الوقت نفسه كانت المرأة تحب نظرة "سيمويا"، وتشعر بها مثل خيط ماء بارد يمرّ على قلبها، ولأجلها، جَلَبَتْ من كل مكان فى العالم عددًا كبيرًا من الچيب القصير، كانت ترتديه فى البداية كلما جاءت إلى المحل، صارت ترتديه كل وقت، كان الچيب فى عينى "سيمويا" مصنوعًا من حلوى عالم القماش.

 تشعر "سيمويا" أن صناعة الحلوى فى العالم ستنهار لو انهارت هاتين الساقين، لا تعرف أن المرأة تُسمّيها "لَوزيّة العينين"، ولا تعرف المرأة أن "سيمويا" تُسمّيها "حُلوة الساقين".

عادت إلى البيت، نادَتْ جدّتها، جاءها الردّ من المطبخ.

"أنا هنا"

ذهبَتْ إليها، وجدَتْها تصنع بعض معجّنات الجبن.

"رائحة جميلة"، قالت "سيمويا".

"أنتِ الجميلة"، قالت الجدّة.

قبّلَتْها "سيمويا" على خدّها، وغادرَتْ إلى حجرتها.

 وضعَتْ حافظة الأوراق على المكتب، شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا بيانو، تحمّمَتْ تحت شلال، ارتدَتْ تى- شيرت أحمر، بنطلونًا فضّيًا بخط جانبى أزرق، فتحَتْ الإيميل، وجدَتْ رسالة من مركز الأبحاث بها معلومات، ڤيديوهات، وصور عن المهمة الجديدة، نقَلَتْ نسخة منها إلى ملف أسمته "النقطة الزرقاء".

المطبخ، تحدّثَتْ "سيمويا" إلى جدّتها أثناء العشاء عن المهمة الجديدة، والسفر صباح الغد.

 "كم تبقين هناك؟"

 "لا أعرف تحديدًا، سأتصل بك"

مسَحَتْ شعر جدّتها الأبيض الطويل.

"أُحبك جدّتى"

عادت إلى حجرتها مع فنجان قهوة، وضَعَتْه فوق الكوميدينو، غيّرَتْ موسيقا البيانو إلى صوت طبيعى لماء يترقرق داخل غابة، التقطَتْ حافظة الأوراق من سطح المكتب، جلسَتْ متربّعة بمنتصف السرير، أخرجَتْ أوراقها، وضَعَتْها تحت عينيها، تأمّلَتْ كلمة "الليل"، زرقاء، وجميلة، سحبَتْ الورقة ببطء كأنما تفتح إحدى بوّابات العالم، تركَتْها جانبًا، وبدأتْ تقرأ.

 

الليل

لم أعرف ماذا حدث.

رأيت الظلام لأول مرة فى حياتى، كان الوقت منتصف ليلة ثلاثاء، الموعد الإسبوعى الذى أُضيف فيه مواد جديدة إلى موقع إلكترونى أنشأتُه بنفسى، وقَسّمْتُه إلى أبواب متنوعة، تأتينى مواد من كل مكان فى العالم، قصص، أخبار، صور، ڤيديوهات، أشعار، مقاطع من روايات، مقالات، أغان، أفلام، كُتب، وموسيقا، جَعلَ منى الموقعُ اسمًا معروفًا بشكل جيّد، رغم أنى أنشأته قبل عام واحد من الحادثة، حادثة الليل والنهار، وكنت ما أزال فى السنة الأولى من عملى بالصحافة بعد تخرّجى من الجامعة.

لكنى لم أُضِف إليه شيئًا فى تلك الليلة، لأن كل شىء انطفأ.

وحلّ الظلام.

تحوّل حاسوبى إلى قطعة معدن بحجم الكفّ، سمعْتُ رنين موتها على سطح المكتب، فى حالته العادية، وعندما أُطفئه، كان يتحوّل إلى شريحة بحجم الإصبع من معدن شفاف بلا وزن، تتحرك بداخلها ذرات ملونة تنبض بالحياة.

فى تلك الليلة، كان ميتًا، وثقيلاً، حتى إنى بالكاد استطعْتُ أن أرفعه عن سطح المكتب للحظة واحدة.

بحثْتُ بجواره عن الهاتف، كنت قد أجريتُ مكالمة منذ دقائق، ارتطَمَتْ يدى بقطعة معدن أخرى أقل حجمًا، لها ملمس مختلف، لكنها بالموت نفسه، والبرودة نفسها، أدركْتُ أنه هاتفى، حاولْتُ أن أرفعه، بذَلْتُ مجهودًا كبيرًا ولم أُحرّكه إلا ملليمترات.

شعرْتُ أنى مع جُثّتين.

تركْتُ مكتبى، تَحَسّسْتُ طريقى إلى النافذة، نظَرْتُ عَبْرَ زجاجها، رأيت العالمَ مُطفأ، كيف يمكننى أن أراه إذا كان مُطفئًا، فهمْتُ ذلك بعد قليل، لم يكن هناك أىّ ضوء فى الميدان الصغير الذى تطلّ عليه بنايتى، ولا الشوارع المتفرعة منه، أقصد الأضواء الملوّنة التى اعتدتها على واجهات المحلات، الكافيهات، المطاعم، شاشات طيفيّة تعرض لقطات دعائية للأفلام، علامات تدور حول نفسها فى الهواء لتعلن الوقت، درجات الحرارة، كلها مطفأة، فتحْتُ زجاج النافذة بيدى بعد أن تحوّل كل شىء إلى العمل بالطريقة اليدوية، شكرًا لأن النافذة ما زالت تعمل، رأيت السيارات متوقفة وأصحابها يحاولون تشغيلها دون فائدة، البعض يدورون حول سياراتهم، يبحثون فيها عن مصدر الخلل ولا يعرفونه، بينما وقفَ أصحاب المحلات على رصيف الشارع، يتطلّعون إلى العالم المُطفأ، والظلام الذى حلّ عليهم.

كنت أسكنُ فى الطابق الرابع، ويمكننى أن أسمع تعليقاتهم.

 يتساءلون "ماذا حدث؟ كل هذا الظلام؟"

 انتبهْتُ إلى نور هادئ يسيل فى الميدان والشوارع، إذن لم يكن العالم مُطفأ، شعرْتُ أن هذا النور يستعيد مملكته الضائعة، وضِمْن هذه المملكة كان بيتى، نافذتى، وحجرتى، بَدَا لى متواضعًا بطريقة ما، تتبّعتُه، لم يكن مصدره أىّ شىء على الأرض، إنه القمر، مكتمل، وجديد، كأنه أول قمر يظهر فى العالم، شعرْتُ به يداعب وجهى، لا بد أنى ابتسمْتُ له، اعتادت عيناى نورَه بعد لحظات، رأيت الميدان والمبانى بوضوح كاف، قِطَعٌ إنسانية تجلس فى الكافيهات، وأخرى فى الميدان، السيارات هامدة كأنها لم تتحرك يومًا، العلامات الضوئية التى تعلن الوقت ودرجات الحرارة، الشاشات الطيفية التى تعرض مقاطع الأفلام، ودعايات الأعمال الفنية، كلها مُلقاة فى الهواء، ليست طافية ولا مُعلّقة، إنما جثث مُعتمة من أثير، مثلما تُلقَى جثة على الأرض.

 الوقت ما زال كما هو، منتصف الليل.

فكّرْتُ.

 لمَعَ فى رأسى شىء قرأتُ عنه كان يحدث فى أزمنة سابقة، يُسمّى "انقطاع التيار الكهربائى"، قلت لنفسى بصوت مسموع "ما هذه الأفكار، بينورا؟"، لم أصادف هذا الشىء الغريب فى حياتى، حَسْب ما أذكر على الأقل، شَمَمْتُ رائحة شيكولاتة خفيفة تأتى من خلفى، عرِفْتُ أنها جدّتى، استدرْتُ إليها، كانت تنظر إلىّ بعينين مضيئتين، هناك شىء أكثر صفاء من الضوء فى عينيها، شعرْتُ أنها ترانى بوضوح رغم الظلام، أو بسببه، ابتسمَتْ عيناها لى، نادرة هى العيون التى يمكنها أن تبتسم، أُفكّرْ أن ابتسامة العيون أجمل كثيرًا من ابتسامة الشفتين، يمكن للشفتين أن تبتسما فى أىّ وقت تقريبًا، وتكون ابتسامتهما زائفة أحيانًا، لكن العيون لا تبتسم إلا إذا أرادت ذلك، لا بد أن تكون سعيدة وراضية كى تفعل، لذا، ابتسامتها دائمًا حقيقية.

 سألْتُ جدّتى "ماذا حدث؟"

قالت "لا شىء يدعو للخوف، بينورا، انقطعَتْ الكهرباء"

 أفلَتَتْ منى ضحكة، حدَثَ بالفعل الشىء الذى قرأتُ عنه، إذن ليس علىّ أن أقلق، فقط أنتظر قليلاً، ربما عدّة دقائق، وتعود "الكهرباء المنقطعة"، هاهاها، لا أحد يستطيع أن يلومنى على ضحكة أخرى.

 لكن، لماذا تحوّلَ حاسوبى وهاتفى إلى معدن ميّت؟ ما قرأته أن انقطاع الكهرباء، هاهاها، لا يُحوّل الأشياء.

 "أُشعل شمعة"، قلتُ وأنا أمرّ بجوار جدّتى، رأيت عينيها فى الظلام، ارتبكْتُ كأنى أراهما للمرة الأولى، هذا صحيــح بطريقة ما، كنت لأول مرة أراهما فى مثل هذه الظروف، أدركْتُ أنهما ليستا مُضيئتَين، إنما منوّرتَين، مثل أن توقد شمعة فى الظلام، نور الشمعة الهادئ، لا أحد يصف لَهَب الشمعة بأنه نار، إنما نقول "نور الشمعة"، وفى أعنف توصيف يمكن أن نقول "لهب الشمعة".

عينا جدّتى لَوزِيّتَى الشكل، لهب الشمعة أيضًا أقرب إلى شكل اللوزة، ابتسمْتُ للعلاقة التى توصّلْتُ إليها بين عينى جدّتى ولهب الشمعة، اللوز والنور.

 أخرجْتُ من درج مكتبى شمعة عطريّة ملونة، أكشف الآن بعض أسرارى الصغيرة، كانت لى عادات كلاسيكية أمارسها من وقت لآخر، يمكن اعتبارها نوعًا من الرومانسية، مثل أن أحتفظ بشموع فى أدراجى، مشابك شَعْر صغيرة، حتى لو لم أكن أستعملها إلا نادرًا، أقلام بأشكال وأحجام وألوان مختلفة، أضعها على سطح المكتب، وبالطبع أوراق، أحيانًا أستعمل القلم والورق بدلاً من الكتابة على الحاسوب، قليل جدًا مَنْ يفعل ذلك، ومِن وقت لآخر أُطفئ نور حجرتى، أُشعل شموعى، أُشغّل موسيقا هادئة، وأقضى ليلتى كأنى حلم، أو روح طافية.

أمارس هذه العادات الرومانـسية، البطيئة، كى أُبطئ سرعة العالم قليلاً، فأشعر بإيقاع الوقت وعمقه، كيف أُفسّر ما قلته للتوّ؟ ربما يعنى هذا أن يكون للأشياء حضور أقوى فى حياتى، أو من أجل أن يكون لدىّ حكايات أحكيها، يعجبنى التفسير الأخير.

كانت شمعة بلون كلاسيكى، الأحمر، ورائحة كلاسيكية، الياسمين، أشعلتُها، وضعْتُها على سطح المكتب، وزّعَتْ لمسات من الضوء على مفردات الحجـرة، نظرْتُ إلى مُنبّه بجوار فراشى، 12:00:00:00، وساعة على شكل نصف تفاحة عند مدخل الحمّام، عقاربها الأربعة متوقفة عند الثانية عـشرة.

 تعطّلَتْ الساعات؟ ما علاقة هذا بما يُسمّى "انقطاع الكهرباء؟!" هاهاها، لا بد أنى سأستطيع يومًا أن أمنع نفسى عن الضحك كلما قلت هذه الجملة، أفضّلُ ألا أضطر لقولها ثانية.

وقفْتُ بجوار جدّتى عند النافذة، أتأمّلُ معها العالم، كانت هادئة، كأنها تعرف شيئًا، أو تشعر بشىء تجاه ما حدث، ولا تريد أن تحدثنى عنه.

 قلت "توقفَتْ الساعات عن العمل"

 قالت "القمر جميل"

 ابتسمْتُ له، يوشك أن يتحدث إلينا، إلينا جميعًا.

"بلوبا"، الروبوت، كيف نسيته، ربما لأنى لم أحصل عليه إلا منذ أيام قليلة، أهدته لى صديقة فى عيد ميلادى، كدْتُ أصطدم به وأنا فى طريقى إلى حجرته، كان واقفًا بمنتصف الردهة، تطلّعْتُ إليه لحظات حتى اعتادت عيناى العتمة ورأيته بشكل كاف، عيناه مطفأتان، إحدى قدميه ممدودة إلى الأمام فى وضع المشى، يمسك بقطعة شيكولاتة من نوعى المُفضّل، كان فى طريقه إلىّ، همَسْتُ باسمه، لم يُبْدِ أىّ ردّة فِعْل، لديه نسخة من ملفاتى الموجودة فى حاسوبى، فكّرْتُ أنه ربما ينقذها لى، لم يفعل، حاولْتُ أن أسحب قطعة الشيكولاتة من يده، متشبّث بها، يُصرّ أن يعطيها لى بنفسه، ربما تستطيع بعد قليل.

 "شكرًا بلوبا"، وعُدْتُ إلى حجرتى.

أوشكَتْ الشمعة على الانتهاء، روحها الياسمينة تُرفرف فى الحجرة، جدّتى عند النافذة، أخرجْتُ من درج مكتبى شمعة لها رائحة بنفسجيّة، باغتنى شعور أنى لن أستعيد حاسوبى ثانية، كان من المبكر أن يراودنى هذا الشعور، الأمر حتى الآن ليس أكثر من انقطاع الكهرباء، هاهاها، حتى إنى لا زلت أضحك، لكن يحدث أحيانًا أن ينبض شىء بداخلك، وترى نقطة فى المستقبل، تراها كاملة، واضحة، غير قابلة للشك، فتشعر بمزيج من شجن وسرور غامض، سرور لأنك عرفت شيئًا من المستقبل، وشجن لأن هذا الشىء ليس فى صالحك.

الغريب أنى لم أشعر بالغضب أو الحزن لفقدانى حاسوبى، فكرْتُ، كنت أحزن لأقل من هذا، فهمْتُ الأمر سريعًا، ما فقدْتُه يتجاوز الغضب وأىّ شعور آخر، ليس لدى ردّة فعل أعرفها تجاه فقدانى حاسوبى، لم أتخيّل حدوث هذا، بإمكانى أن أتخلّى عن أىّ شىء عداه، عالمى كله معه، رأيتُنى دون أىّ شعور بالندم أو الخسارة أقف عارية، وحيدة، فى صحراء بلا نهاية، تأمّلْتُنى من بعيد، بذلك العرى، تلك الوحدة، وفى النهاية كان علىّ أن أُنقذنى، أشفقْتُ على نفسى، مشيتُ إلىّ كل تلك المسافة، قبَضْتُ على يدى، لكنى أنا العارية لم أشعر بالقبضة، حاولتُ أن أعيدنى إلى عالمى، لكنى أنا الوحيدة كنت صخرة نبتَتْ فى المكان، حاولْتُ أكثر، وأخيرًا استطعْتُ أن أنتزعنى من هناك وأعود بى، كنت أعرف أنى سأفكر فى حجم خسارتى فيما بعد، لكن ليس الآن، علىّ أن أنقذ هذه الشابة العارية، الوحيدة، خاصة أنها لم تُخطئ، لم تلمس زرًا أو مربعًا خاطئًا مثلاً، ليس هناك ما ألومها عليه.

شعرْتُ بجوع شديد، ربما بسبب الصحراء التى مشيتُها كى أُعيدنى، فكّرْتُ أنْ أُعدّ بعض فطائر البيتزا، يمكننى أن أتظاهر بأنى مشغولة بها عن التفكير فى حاسوبى، ولو قليلاً، وافَقَتْ جدّتى، أشعلْتُ شمعتين، أمسَكَتْ كلٌ منا بواحدة ومشينا إلى المطبخ، خشيتُ أن يكون الماء والغاز أيضًا قد انقطعا، فتحْتُ الماء، أشعلْتُ الغاز، "شكرًا، لدينا ماء ونار".

أنا ماهرة فى صناعة البيتزا، لأنها تعتمد بالأساس على الدقيق الذى أحبه بشكل خاص، ملمسه، رائحته، ودرجة دفئه التى تمنحنى حالة من الطمأنينة، أفكر لو أنه بشرىّ لكان شابًا فى منتصف الثلاثين، حنونًا، هادئًا، مَرِحًا، به لمسة من خجل لا تعيبه، ولا يُتوقّع منه خيانة.

 نثرْتُه على الطاولة الرخامية، وقفَتْ جدّتى عند النافذة، تأمّلَتنى وهى تميل برأسها على كتفها قليلاً، أُحبها عندما تفعل ذلك، أعرف أنى سأقع فى غرام شاب يُصوّب لى تلك الضربة القاضية، أنْ يميل برأسه قليلاً على كتفه مثلما تفعل جدّتى، كان نور القمر يلامس ظهرها ويتبعثر حولها، شعرْتُ أنها فى حاجة لرسّام يرسمها، الحقيقة أنّ أىّ رسام فى حاجة لمنظر كهذا ليرسمه.

أصنع البيتزا فى حالات خاصة، مثلاً، عندما أريد أن أخلق أجواء احتفالية خفيفة، أو أثناء سهراتى مع جدّتى، أُعدّها أيضًا لأصدقائى المُقرّبين، ربما يأتينى أحدهم حزينًا، متخاصمًا مع العالم، أدخل به المطبخ، نتحدث بينما أُجهّز عجينة البيتزا، أبدأ معه بكلام بعيد عن مُشكلته، حتى ندخلها بطريقة سلسة، كأنها شىء عارض فى العالم، أُدخلُ البيتزا الفرن، نُكمل حديثنا حول طاولة صغيرة بوسط المطبخ، وقد تعمّدْتُ أن أنثر على سطحها طبقة رقيقة من الدقيق، وما زالت آثار العجين بيدى، ما يُشعرنى أن بى شيئًا أموميًا، طفوليًا، الأم الطفلة، يساعدنى هذا الشعور فى تفكيك ما يحكيه صديقى أو صديقتى، ورؤية التفاصيل بشكل صاف، نرسم بأصابعنا خرائط فى طبقة الدقيق، نكتب كلمات، كأننا نبحث عن طريق للخروج من متاهة، تتصاعد رائحة البيتزا، تصير الدنيا طيّبة، أحرص أن يكون رفيقى مستعدًا للبيتزا قبل أن أُخرجها من الفرن، على الأقل نكون فى طريقنا للخروج من المتاهة، لا أحد يقابل بيتزاتى الجميلات بوجه حزين.

 نخرج من المتاهة أثناء تناولنا المثلثات البرتقالية الدافئة، ويصير العالم فى النهاية سهلاً.

 لا أصنع البيتزا لو كنت حزينة أو غاضبة، لا أُفرغ هَمّى فى معجناتى، أُفضّل أن أضع فيها جزءًا من فرحى، ومزاجى الحلو، لكن، ما الذى يجعلنى الآن فى مزاج حلو، بِمَ أحتفل، لا أعرف، أشعر بحماس، ربما بسبب تلك الحادثة الغريبة، التى من المُفترض أن تُشعرنى بالقلق، خاصة وقد أفقدتنى حاسوبى، ولا أعرف ما تفعله بى فيما بعد، لكنى لا أستطيع منع نفسى أن أتحمّس لكل جديد، وأتفاءل به، حتى لو كانت بداياته مُربكة، وليست فى صالحى، الأحداث والأفكار الجديدة تُبقينى على قيد الحياة.

سألْتُ جدّتى أثناء تجهيزى عجينة البيتزا إن كانت صادفَتْ من قبل ما يُسمّى انقطاع الكهرباء.

قالت "مرّتين، ولم يستمرّ غير ثوان"

"هل تحوّل أىّ شىء إلى شىء آخر؟"

 "لا أعتقد"

 "إذن ما حدث ليس انقطاعًا للكهرباء"

 جلَسَتْ جدّتى إلى الطاولة.

"ماذا تعتقدين أن يكون؟"

 تأمّلْتُها لحظة.

 "لماذا أشعر أنكِ بطريقة ما تعرفين حقيقة ما حدث؟"

 أمالت رأسها على كتفها قليلاً وهى تنظر فى عينىّ دون كلام.

 كانت هذه علامة على أشياء كثيرة، أفهم منها الآن أنها لا تريد أن تكمل الحوار.

 أَدخلْتُ بيتزاتى الفرن.

بالمناسبة، أنا كَذِبْتُ، ليس حقيقيًا أن كل أصدقائى يخرجون من المتاهة عندما أصنع لهم البيتزا، يبقى بعضهم بداخلها، لكن من الجيّد لك وله، أنْ تمشى مع أحدهم فى متاهته ولو قليلاً.

 بعض أصدقائى أيضًا يقابلون بيتزاتى الجميلات بوجه حزين، وهذا لم يقتلنى.

بمناسبة الكذب، يمكننى أن أتفهّم عندما يكذب علىّ أحدهم، وأتسامح معه، ليس لأنى أكذب أحيانًا، وهذا يحدث، لكن لأن الإنسان فى رأيى هو البيئة الطبيعية للكذب والصدق، إن لم يكن باستطاعة كائن ما أن يختار بين ضدّين، فلا يمكن القول أنه فَعَلَ أحدهما، والإنسان لديه القدرة، على الأقل فى معظم الأحوال، أن يختار بين الصدق والكذب.

 أفكّر أن الكذب مثل التشرّد، يظل موجودًا طالما الإنسان موجود، فقط يكون من الجيّد لو أن كذْبنا غير مؤذ للآخرين، عندها يكون الجميع سعداء.

عُدنا إلى حجرتى بعد أن أكلنا البيتزا، تمدّدْتُ فى سريرى، قالت جدّتى وهى تنظر من النافذة إن بإمكانى النوم، وستبقى هى مستيقظة، لكنى لم أكن لأنام فى كل الأحوال، لدىّ إحساس أن الكهرباء لن تعود، أريد أن أتابع ما يحدث، وإذا عادت، لا بد أن أكون فى انتظارها، وأرى كيف يعود حاسوبى إلى طبيعته، وتدور السيارات فى الشوارع، رغم معرفتى بأن ليس لها علاقة بأىّ من هذا.

سمِعْتُ تعليقات بعضهم فى الميدان، حتى بدأتْ أصواتهم تخفْتُ وهدأ كل شىء.

 "سأنزل جدّتى"

"ليس الآن، من فضلِك"

 شعرْتُ لوهلة أنها تعرف الوقت المناسب للنزول، جاءت بمقعد قُرْب سريرى، جلسَتْ، نظرَتْ إلى القمر.

 قالت "تسمعين ما أسمع؟"

 أَنْصَّتُ لحظات.

 "لا أسمع شيئًا"

 استرخَتْ فى جِلْسَتها، أغمضَتْ عينيها، رأيت ابتسامة فى ملامحها.

"ما الذى تسمعينه جدّتى؟"

"لا تقلقى، تسمعينه قريبًا"

 "ما هو؟"

لم ترد.

شعرْتُ بعد قليل بأُلفة مع الظلام، وأنّ حضورى فى العالم يزداد لحظة بعد أخرى، كأنى صِرتُ حقيقية أكثر، تماهيتُ مع المفردات البسيطة حولى، وأخرى بعيدة لا أعرفها، لكنى أُدركها بطريقة ما، كان الظلام حنونًا مثل رَحِم، لم أعد أشعر بالوقت، أتحرك فى البيت طافية، أتطلّع إلى القمر من نافذتى، أتمدّد فى فراشى مثل ريشة، أتأمّل جدّتى، صحيح أنى لم أسمع ما تسمعه حتى الآن، لكنى أقف عند حدوده.

كنت كلما انتهَتْ شمعة أشعلْتُ واحدة جديدة وثَبّتُها على سطح المكتب، حتى لم يعد هناك مكان لواحدة أخرى، عَدَدْتُ الشموع المنتهية، بحساب تقريبى لما تستغرقه كل شمعة كان من المُفتَرَض أن يظهر النهار منذ ساعتين أو أكثر، نظرْتُ تجاه النافذة، رأيتُ جدّتى تقف هناك، والقمر بمواجهتها، تنظر إليه وينظر إليها، كأنهما وحدهما فى العالم، وقفْتُ بجوارها، منتصف الليل يغطى كل شىء، التفَتُ إليها.

قلت "ماذا الآن؟"

"تأخّرَ النهار"، قالت جدّتى ببساطة، وكأن الأمر يحدث كل يوم.

 

(2)

استيقظَتْ "سيمويا" قبل السابعة صباحًا بدقائق، لمَعَ فى رأسها ما قرأته الليلة الماضية، نظرَتْ إلى أوراق "الليل" فوق الكومودينو، تلفّتتَ حولها لتتأكد إن كانت أشياءها ما تزال موجودة، الحاسوب طاف على سطح المكتب، بجواره الهاتف، مُنبّه فوق كومودينو على الجانب الآخر من السرير، 6:55:31:07، نهضَتْ، فتحَتْ النافذة، شعرَتْ كأنها ترى النهار لأول مرة، ابتسمَتْ، مدّتْ يدها خارج النافذة ولَمَسَتْه.

"فكّرْتُ للحظة أنك غير موجود"، قالت بصوت مسموع.

نقلَتْ عينيها فى زوايا الميدان الذى تطلّ عليه البناية، صغير، دائرىّ، تتفرّع منه أربعة شوارع، راقبَتْ السيارات، المارة، كل شىء ينساب بشكل طبيعى، الشاشات الطيفية تدور حول نفسها فى الهواء وتعرض لقطات الأفلام، أخبار، درجات الحرارة، والوقت، المحلات والمقاهى تمارس حياتها العادية، بدا لها الأمر لوهلة مثل معجزة.

قالت لنفسها "صباح الخير سيمويا"

عادت إلى أوراق "الليل"، ابتسمَتْ لها، نَقَرَتها بسبابتها مرتين كأنما تعاتبها.

 "أنتِ"

شعرَتْ بتعاطف مع الشابة "بينورا" لفقدانها حاسوبها، ماذا لو أن الأمر حدث معى، تساءلَتْ، مَحَتْ الفكرة فى الحال.

فكّرَتْ أن تقرأ بعض الأوراق، سحبَتْ الورقة الأولى، تراجعَتْ عن فكرتها، لم يعجبها أن تقرأ بهذه الطريقة المُتعجلة كأنها تطالع خبرًا ما، أرادت أن يظل للأمر خصوصية مثلما كان الليلة الماضية، أعادت الورقة، شَغّلَتْ من الحاسوب موسيقا كمان مع فلوت، أخرجَتْ من ثلاجتها الصغيرة قطعة شيكولاتة، قضمَتْ زاويتها بطرف أسنانها، فكّرَتْ فى جدّتها، لا بد أنها فى المطبخ الآن تُعدّ لها شيئًا خاصًا قبل أن تسافر، من الجيّد لو ألقَتْ عليها تحية الصباح قبل أىّ شىء، أعادت بقية الشيكولاتة إلى الثلاجة، غادرَتْ حجرتها، شمّتْ رائحة دافئة تعرفها، توقفَتْ فى فتحة باب المطبخ، رأت جدّتها تمسك بصينية صغيرة بها بيتزا نضجَتْ لتوّها.

 "صباح الخير جدّتى، أشم رائحة البيتزا"

"أحببت أن تأكلى منها قبل أن تسافرى، صباح الخير"، وضعَتْ الصينية على لوح رخام مُثبّتْ بشكل متعامِد مع أحد جدران المطبخ.

 دخلَتْ "سيمويا"، قرّبَتْ أنفها من البيتزا.

"أحب هذه الرائحة"

أخرجَتْ الجدّة بيتزا ثانية من الفرن، وضَعَتْها بجوار الأولى، أشارت إلى الطاولة بمنتصف المطبخ.

"اِجلسى هنا حفيدتى، البيتزا خلال دقيقتين"

"هل يمكن أن أستحم أولاً؟"

"لا، لن ينهار العالم لو تحمّمْتِ ثانيًا"

"لن أقاوم مُتسلّقة جبال"

جلسَتْ "سيمويا" إلى الطاولة، نظرَتْ إلى جدّتها.

قالت "اخترْتِ الجبل الذى تتسلّقينه هذا العام؟"

"ليس بعد، لم أنتهِ من مشاهدة الأفلام التى وصلتنى بالأمس، ربما أطلب أفلامًا أخرى"، قالت الجدّة وهى تنقل البيتزا إلى طبقين مُسطّحَين، وتُقطّعها.

قالت سيمويا "أنتِ تتسلّقين الجبال، وأنا أتتبّع قصة حياتها"

وضعَتْ الجدّة طبقى البيتزا على الطاولة، وجلَسَتْ.

قالت "تعرفين، لو توقفْتُ عن تسلّق الجبال أموت، لا بد أن أتَسلّق كل عام جبلاً لم أتسلّقه من قبل، لا يكفينى أن أُلقى محاضرات أو أُعلّم الآخرين، أُحب أن أتعامل وحدى مع الجبل، أشعر به ويشعر بى"، سحبَتْ نفسًا عميقًا كأنها تستدعيه من مكان بعيد.

"الهواء الذى أتنفّسه على قمة جبل أصعده يُبقينى حيّة حتى التسلّق التالى"

قالت سيمويا "الوقوف على قمة جبل من أجمل الأشياء التى يفعلها إنسان فى حياته"

"لكن الشعور يختلف حسب طريقة الوصول إلى القمة، أن يصل أحدهم مُتسلقًا الجبل غير أن يصعد على قدميه أو يحطّ بطائرة، وفى كل الأحوال، لا أحد يستطيع أن يصفَ شعوره بالضبط، لا يمكن القبض على تلك اللحظة، هى سِرّ مثلما للجبل سِرّ، حتى إن الإحساس يختلف من قمة جبل إلى أخرى، يبقى ذلك الخيط المشترك، لكن لكل جبل خصوصيته"، نظرَتْ الجدّة بعيدًا مبتسمة كأنما تتفرّج على نفسها فوق قمة جبل، انتبهَتْ بعد لحظات، التفتَتْ إلى "سيمويا".

"ماذا فعَلْتِ بى، بدأتِ الكلام عن الجبال نسيتُ أنا البيتزا وكل شىء"، قطفَتْ مثلثًا من البيتزا خاصتها، مدّتْ يدها به إلى "سيمويا"، أخذَتْه، قضمَتْ منه، تباطأت فى المضغ كأنما تذكّرَتْ شيئًا.

"جدّتى، هل حدث وجَرّبْتِ ما يسمى انقطاع الكهرباء؟"

رفعَتْ الجدّة حاجبَيها قليلاً.

"انقطاع الكهرباء؟ غريب"، فكّرَتْ لحظة.

"نعم، مرتين، وكُنتِ معى فى الثانية"

هزّتْ "سيمويا" رأسها إشارة إلى أنها لا تذكر.

"يُمكنكِ أن تتذكرى ذلك، كان عيد ميلادك الثامن"

وضعَتْ "سيمويا" قطعة البيتزا فى طبقها.

 أكمَلَتْ الجدّة "قضينا النهار كله فى مدينة ألعاب، تناولنا العشاء فى مطعم به أنواع كثيرة من المُعجنات، اخترتِه بنفسك، وفى طريق عودتنا قابلنا مُهرّج متجوّل قدّم لك فقرة خاصة، واشتريتُ لنا حلوى مثلجة، لكن بمجرد خروجنا من المحل، قبل حتى أن نتذوقها، انقطعت الكهرباء، كأن العالم انطفأ، صرخْتِ أنتِ وخبّأتِ وجهكِ بين ساقى، لطّخْتِ وجهكِ وملابسى بالحلوى"

"المهرّج، تذكّرْت"، همسَتْ "سيمويا" وهى تمسح بيدها جانب وجهها.

"أشعر ببرودة الثلج على وجهى"

"عُدنا إلى المحل، غسَلْتُ وجهكِ ونظّفْتُ ملابسى، ورفضَتِ أن تخرجى حتى وعدتُكِ أن قمرًا كبيرًا ينتظرك بالخارج، ورأيتيه بنفسك من نافذة المحل"، صمتَتْ لحظة.

"لن أنسى عينيكِ وأنتِ تنظرين إليه وقتها"

قالت "سيمويا" كأنها تتكلم من داخل حلم "اشترَيتِ لنا حلوى جديدة، وحملتينى إلى صدرك"

"كى تكونى قريبة من القمر، هكذا قلتُ لكِ، تجوّلتُ بك فى الشوارع وأنت تحدّقين به، وكلما نظرْتُ إليكِ رأيتُه منعكسًا فى عينيك الاثنتين، وبعد أن عدنا إلى البيت جلسْتِ فى النافذة تنظرين إليه حتى عادت الكهرباء بعد ساعتين، كان غريبًا أن تنقطع كل هذا الوقت، أن تنقطع بالأساس"

ابتسمَتْ "سيمويا".

قالت "طوال هذه السنوات، كانت تفاصيل تلك الليلة تمرّ فى ذاكرتى من وقت لآخر مثل طيف، الحلوى المثلجة، وجهى البارد، تحديقى بالقمر الكبير، والمهرّج، لكنى لم أعرف أبدًا أن انقطاعًا للكهرباء أو شيئًا كهذا قد حدث"، صمتَتْ لحظة، نظرَتْ بعيدًا.

"ومن وقت لآخر يأتينى ذلك الحلم، أرانى وأنا أمشى فى شوارع يُضيئها قمر كبير أُحدّق به، وبيدى حلوى مثلجة، أحيانًا تكونين معى، وبيدك الحلوى خاصّتك، نتجوّل فى نور القمر والعالم هادئ حولنا، والمُهرّج يظهر لى ويختفى، أشعر داخل الحلم أنى سأقضى عمرى كله وأنا أمشى فى الشوارع وأنظر إلى القمر"، نظرَتْ إلى جدّتها.

 "الآن فقط أعرف، هذه الليلة حقيقية"

أومأتْ الجدّة، وابتسمَتْ.

قالت سيمويا "عندما انقطعتْ الكهرباء لم يتحوّل شىء إلى شىء آخر، صحيح؟"

"لا، لم يحدث، حسب ما أعرف"، قالت الجدّة وألقتْ نظرة على طبق "سيمويا".

 "والآن، هل يمكن على الأقل أن تنهى مثلث البيتزا الأول؟"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة.

"شكرًا جدّتى، شَبِعْت، وعلىّ أن أستعد للسفر"

عادت إلى حجرتها، غسَلَتْ أسنانها، تحمّمَتْ بمطر خفيف، ارتدَتْ كيلوت أزرق مرسومًا فيه سمكة، سوتيانًا أحمر داكنًا فيه نحلة، قميصًا برتقالى شروق الشمس، بنطلونًا كريمى، وحذاء من قماش بنفسجى.

لمَسَتْ أحد المربعات فى شاشة الحاسوب، تحوّلَ إلى قطعة شفافة بحجم إصبعين، أدخَلَتْه جيبها، أخرجَتْ من دولابها حقيبة ظهر بُنيّة، وضَعَتْ فيها أوراق "الليل"، ثلاث قطع شيكولاتة، وأدوات عملها: شاكوش صغير من الفضة، فرشـاة ناعمة كأنها فرشاة أسنان كبيرة، تستخدمها فى تنظيف عيّنات الصخور وغيرها، عدسة مُكبّرة قُطرها عشر سنتيميترات، زمزميّـة ماء، كاميـرا، ثلاثة كتب أحدها رواية، قُبّعتَين من قمـاش، أوراق، أقلام، مُذكّرات صغيرة لتسجيل الملاحظات، حذاءان قويّان يناسبان المشى فى الصحراء، حزام خصر عريض به جيوب وحلقات معدنية لتعليق الشاكوش وأشياء أخرى، أضافت بعض الملابس فى حال لم تتمكّن بسبب ظروف العمل من استعمال طريقـة الحاسوب لارتداء ملابسها، وحرِصَتْ أن يكون أغلبها مناسبًا لطبيعة العمل فى مواقع البحث الچيولوچى.

وضعَتْ الحقيبة على ظهرها، غادرَتْ إلى المطبخ، توقفَتْ بمواجهة جدّتها عند النافذة، تأمّلَتْ عينيها قليلاً.

"تمَنّى لى جدّتى"

ابتسمَتْ الجدّة.

"أتمنى لك رحلة تُسعدك"

"أُحبك"، قالت "سيمويا"، وقبّلَتْها على خدّها.

قالت الجدّة "انتبهى لنفسك"

 "سأحاول"

غادرَتْ "سيمويا" البيت، استعملَتْ السلّم للنزول.

وصلَتْ إلى المكان الذى صادفَتْ فيه فتاة الأوراق بالأمس، احتارت لحظة، هل تتمهّل قليلاً ربما تظهر وتعطيها شيئًا جديدًا، أم تُسرع قبل أن تعترض طريقها وتأخذ منها الأوراق, لم تعرف "سيمويا" ما فعلَتْه وقتها.

  دخلَتْ مركز الأبحاث عند الثامنة والنصف، قابلَتْ "دوفو" فى مكتب المدير، تحدّثَ معهما لدقائق، غادرا إلى باحة خلفية حيث تنتظر الهليكوبتر وطيّاريَن اثنين، أحدهما على الأرض لاستقبالهما، والآخر على مقعد القيادة، دخلَتْ "سيمويا" وهى تلوّح له.

 "صباح الخير"

 "آها، سيمويا"، قال الطيّار وأومَأ برأسه.

 جلسَتْ على مقعد فردى بجوار نافذة، وضعَتْ حقيبتها على الأرض، جلس "دوفو" على المقعد المقابل، دارت المحركات، ارتفعَتْ الهليكوبتر، التفتَ قائد الطائرة إليهما.

"أهلاً بكما، سيمويا، دوفو، مدة الرحلة 12 ساعة، أنصحكما ألا تسترخيا، اصنعا جلَبَة كبيرة، آها"، وغمزَ لهما بعينه.

أخرج "دوفو" حاسوبه من جيبه، وضعَه على مسند أمامى مُثبّتْ بالمقعد، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "قرأتِ شيئًا عن المهمة هذه المرة؟"

"القليل من كل شىء، كالعادة"، وابتَسمَتْ.

"لدينا عدد كبير من المواقع لندرسها"

"هذا يعنى معرفة أسرار أكثر عن العالم"

"أيهما أكثر إدهاشًا لكِ، اكتشاف السرّ أم البحث عنه؟"

فكّرَتْ، هزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا.

"لا دهشة بدون بحث، ولا بحث بدون سرّ"، أمالت رأسها على كتفها، حرّكَ "دوفو" يده على شكل موجة.

نظرَ كلٌ منهما عَبْرَ نافذته، رأيا تشكيلات من سحاب أبيض وأزرق، يتخلّلها نور فضىّ، ظهرَ سرب طيور فى جهة "دوفو"، التفَتَ إلى "سيمويا".

 "انظرى"، أشار إلى خارج النافذة.

 انتقلَتْ إلى جانبه، لوّحَتْ للطيور.

"صباح الخير، أنا سيمويا"

 نظرَ السربُ إليها، غير أن أيًا منهم لم يذكر اسمه، اقتربوا من النافذة، طيور برأس خضراء، منقار أصفر، صدر أسود لامع، أجنحة ذهبية، ظلوا بمحازاة الطائرة لثوان كأنهم يسابقونها، وبدأوا ينسحبون إلى الخلف واحدًا بعد الآخر، ببطء أولاً، ثم دفعة واحدة كأن شيئًا يجذبهم من ذيولهم البرتقالية. 

عادت "سيمويا" إلى مقعدها.

"برأيك دوفو، إلى أين يتجهون؟"

"تريدين الواقع أم الخيال؟"

"الخيال"

"ليس إلى أىّ مكان، يطيرون إلى الأبد"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة.

"أحبَبتُ هذا"

أخرجَتْ من حقيبتها قطعة شيكولاتة، قضمَتْ زاويتها بطرف أسنانها، استدارت بجسمها كله إلى "دوفو".

قالت "أفكر، لو كان باستطاعة الإنسان أن يطير بنفس السهولة التى يمشى بها، أيهما يكون ممتعًا له أكثر، الطيران أم المشى؟"

 ألقى نظرة خلفها عبْرَ النافذة.

"أُفضّل المشى"

"لماذا لستُ مندهشة؟"

"الطيران يحرمك أن تشعرى بتفاصيل العالم، كل الغابات ترينها بالأسفل مجرد لون أخضر، البحار والمحيطات أزرق، الجبال حصوات كبيرة، الشوارع والطرقات خطوط رفيعة"، نقلَ عينيه بين عدة نوافذ.

 "انظرى حولك، ماذا يمنحك الطيران غير السحاب والهواء النقى؟"

"أليس هذا جيدًا؟"

"ما رأيك أنتِ؟"

"امممم، أعتقد أنه يكون مملاً بعد وقت ليس طويلاً؟"

"هذه واحدة"

"ولا يمكننى الإمساك بالهواء أو السحاب"

"الثانية"

"لكنه آمن"

"وهى الثالثة، الطيران آمِن طوال الوقت، أو على الأقل لوقت أطول من اللازم، ما يُشعركِ بالملل، أما المشى، يمكنكِ أن تحصلى معه على مفاجأة فى الخطوة التالية، شىء لا تتوقعينه، هناك خطر محتمل"

"ألا يُغرى هذا بأن يكون الطيران مُفَضّلاً على المشى لدى كثيرين؟"

"لستُ منهم، ولا أنتِ، حسْب معرفتى بكِ، إن لم يشعر الإنسان بالخطر من وقت لآخر تجمّدَتْ روحه، الخطر حياة، والحياة خطر"

اعتدلَتْ "سيمويا" فى مقعدها، نظرَتْ عبْرَ النافذة، رأت بالأسفل لونًا أزرق ممتد، أنهَتْ قطعة الشيكولاتة، طوَتْ غلافها، وضعَتْه فى جيب داخلى بحقيبتها، مرّرَتْ يدها على أوراق "الليل"، فكّرَتْ متى يمكنها أن تقرأ ثانية، تذكّرَتْ شعورها بالارتباك أثناء قراءتها الصفحة الأولى، وكيف اعتادت عيناها سريعًا السطور المكتوبة بخط اليد، شعرَتْ بشىء إنسانىّ وهى تفكر أن شخصًا كتب كل هذه الكلمات بالقلم، دون وساطة من مفاتيح أو أزرار، وأنها ستقرؤها بعينيها مباشرة دون وساطة من شاشة، رأت فى الأمر لمسة رومانسية.

راقبَتْ السحاب، غَفَتْ، رأت نفسها طفلة بيدها حلوى مثلجة، تتجوّل فى شارع واسع تحت قمر مكتمل، انتقلَتْ إلى عدة شوارع، ما زالت الحلوى كما هى، مُهرّج يظهر لها ويختفى، رأت جدّتها تحملها وتمشى بها فى شارع ملىء بنور القمر، المشهد الأخير كانتا تقفان فيه أمام البيت.

فتحَتْ "سيمويا" عينيها، رأتْ عبر النافذة سحابًا ورديًا بحواف فضيّة، نظرَتْ إلى ساعتها، ثم إلى "دوفو"، كان يقرأ رواية.

 قالت "دوفو، لسْتَ جائعًا؟"

التفَتَ إليها.

"انتظرْتُ حتى تستيقظى لنأكل معًا"

"أنا الآن مستيقظة وجائعة، مشيتُ كثيرًا ولم يكن معى غير حلوى مثلجة، حتى إنى لم آكلها"

"حلم الحلوى المثلجة مرة أخرى؟"، أغلَقَ الرواية، وضعَها مكانه على المقعد.

مشى و"سيمويا" إلى مؤخرة الطائرة.

سألَتْه.

"الطيّاران؟"

"تناوبا القيادة والأكل وأنتِ تتجوّلين فى الشوارع بالحلوى المثلجة"

اختارت "سيمويا" سمكًا، أرزًا أبيض، سلاطة خضراء، عصير برتقال، اختار "دوفو" شريحة لحم مشويّة، أرزًا أحمر، سلاطة جزر وزيتون، عصير رُمان.

خلال تناولهما الطعام نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا" كأنما خطرَتْ له فكرة.

قال "بحر ومطر، أيهما يُبلّل الآخر؟"

توقفَتْ "سيمويا" عن الأكل، نظرَتْ إليه، وأمالت رأسها على كتفها.

لم تتوصل إلى إجابة.

كانت هذه إحدى ألعابهما معًا: يسأل أحدهما الآخر سؤالاً مفاجئًا، يبدو بلا إجابة، لديهما سؤال واحد خلال اليوم، يسأله أىّ منهما.

انتَهَيا من طعامهما.

عادا إلى مقعديهما، قرأ "دوفو" فى روايته، شغّلَتْ "سيمويا" فيلم رومانسى من شاشة مقعدها.

بعد الفيلم، نظرَتْ عَبْرَ نافذتها، رأت نورًا برتقاليًا يغطى الأفق، ذهبَتْ إلى قائد الطائرة.

قالت "اقتربنا على الخروج من النهار والدخول إلى الليل؟"

 "لست متأكدًا"

"هل من الممكن أن تخبرنى عندما نقترب؟"

 نظرَ إليها بجانب عينيه.

 قالت "أعرف أنى أطلب منك هذا فى كل مرة، حاول ثانية من فضلك"

 "آها"

"شكرًا شكرًا"

عادت إلى مقعدها، استدارت بجسمها كله إلى النافذة، استندَتْ بأطراف أصابعها على حافتها، نظرَتْ عبْرَ زجاجها، رأت طائرًا لونه أصفر لامع، التفتَ إليها، فتَح فمه وأغلقه مرتين، ربما قال اسمه.

مرّ سحاب له درجات مختلفة من البرتقالى.

عَبَرَتْ الطائرة فوق غابة.

وقرأ "دوفو" أربعة فصول من الرواية.

"آسف سيمويا"، قال الطيّار فى ميكروفون الطائرة.

كانت تُحدّقُ عبْرَ زجاج النافذة، نظرَ إليها "دوفو"، ناداها بصوت منخفض، لم تنتبه، لمَسَ كتفها، التفتَتْ إليه، وجهها شاحب، عيناها أوسع من طبيعتهما.

"أنتِ بخير؟"

أومأتْ من بُعد آخر.

"الطيار يتحدَث إليكِ"

 نظرَتْ عند مقدمة الطائرة.

"آسف سيمويا، الليل"، قال الطيّار، وحرّك يده فى الهواء كأنما أفلَتَ منه شىء.

أغلقَتْ عينيها لحظة، فتَحَتْهما، عادتا لحجمهما الطبيعى.

"شكرًا لكَ على أيّة حال، ربما فى المرة القادمة"، نظرَتْ عبْرَ النافذة، تأمّلَتْ الليل قليلاً، التفتَتْ إلى "دوفو".

قالت "تعتقد أن هناك لحظة فاصلة بين الليل والنهار؟ وإن كانت موجودة هل يمكن الإمساك بها؟"

"ما رأيكِ أنت؟"

فكّرَتْ.

 قالت "هل يمكن أن تفكر فى الليل والنهار على أنهما شىء واحد بتنويعات متعددة، وليسا شيئين مختلفين؟"

"كيف تفكرين أنتِ فيهما؟"

"أنا؟"، نظرَتْ بعيدًا.

"الآن أنا أفكر فى الليل"، انزلقَتْ فى مقعدها قليلاً، نظرَتْ عبْرَ النافذة. هَمَسَتْ لنفسها "الليل، أوراق الليل"

فتحَ "دوفو" حاسوبه، شَغّل فيلمًا وثائقيًا عن طائر النورس، ونام بعد أن شاهده.

فكّرَتْ "سيمويا" أن تقرأ بعض أوراق "الليل"، خشيَتْ أن يراها "دوفو" عندما يستيقظ، وسيعرف على الفور أنها الأوراق التى رآها معها فى مركز الأبحاث، شغّلَتْ فيلم وثائقى عن سمكة تونة، وآخر عن سمكة قرش، مدة كل واحد منهما ثلاثون دقيقة، رأت سمكة القرش مثل امرأة لا تقع فى الحب بسهولة، لكنّ روحها أوّل ما تُقدّمه عندما تَعشق، مسكينة، وضائعة فى عالم كبير، أما التونة، مراهِقة لا تتوقف عن الوقوع فى الحب، تُفصح عن مشاعرها على الفور، وتعتبر العالم مكانًا للعبث.

 فكّرتْ "سيمويا"، ماذا لو أنى سمكة؟ أكون تونة أم قرش؟ شعرَتْ أن السمكتين معًا تناسبانها.

استيقظ "دوفو"، تناول و"سيمويا" وجبة خفيفة، شغّلَ من حاسوبه ڤيديوهات للمواقع التى سيقومان بدراستها، أخرجَتْ من حقيبتها كتابًا عن أشهر أسئلة الأطفال فى العالم.

"ثلاثون دقيقة قبل الوصول إلى النقطة الزرقاء"، قال قائد الطائرة، نظرَ إلى "سيمويا" و"دوفو".

"استَعَدا، مَزّقا ثيابكما، أو دمّرا شعركما، لا يهم، آها"، غمزَ لهما بعينه.

"أنا أمزق ثيابى"، قال "دوفو"، وفتح الزرار العلوى من قميصه.

"وأنا أدمّر شعرى"، قالت "سيمويا"، ومرّرَتْ أصابعها خلال شعرها بشكل فوضوى.

اقتربَتْ الطائرة من الأرض، نظرا عَبْر زجاج النافذة، رأيا صحراء تنقسم إلى لونين، أحدهما أبيض، والآخر أزرق.

عند الساعة التاسعة وعشر دقائق مساءً، هبطَتْ الطائرة فى الصحراء البيضاء، قُرب الخط الوهمى الذى يفصلها عن الزرقاء، استقبلهم رجل يبدو فى منتصف الأربعين من عمره، رَحّبَ بهم، نقلَ عينيه بين "دوفو" و"سيمويا".

قال "ستة أشهر منذ آخر لقاء"

"فى موقع قفزة الغزال"، قال "دوفو".

أومأ الرجل.

" صحيح، أُحب وجودكما معًا"

"شكرًا بيالو"، قال "دوفو" و"سيمويا"، تطلّعَا إلى الصحراء الزرقاء، رأيا هياكل سفن وقوارب قديمة، اللون الأزرق واضح، وبه لمعة خفيفة.

"النقطة الزرقاء"، قال "دوفو".

قالت سيمويا "تبدو لى بحرًا، وليست نقطة"

قال بيالو "نتمنى أن تساعدانا لنعرف ماذا تكون بالفعل، الآن أصحبكما إلى الخيام لتبدّلا ملابسكما، بعدها نتناول العشاء معًا وأُعرفّكما إلى طاقم العمل"، نظرَ إلى الطيّارَين.

 قال "تفضّلا"

مشوا باتجاه خيام ملوّنة، كلٌ منهـا بحجم حجـرة عاديّة، القمر

مكتمل، يكشف مساحات كبيرة، وهناك الكثير من أعمدة الإنارة، بعضها مُضاء.

توقفوا عند خيمتين متجاورتين، أشار "بيالو" إلى الزرقاء منهما.

"خيمتكِ سيمويا"، وأشار إلى البرتقاليّة.

"هذه لكَ دوفو"، نظرَ إلى خيمة قريبة مُخَططة بالأصفر والأبيض.

"وأنا هناك، أنتظركما عندما تكونان جاهزَين"

قالت سيمويا "هل يمكن أن أعتذر عن العشاء، أشعر ببعض الإرهاق"

"لا مشكلة، كل ما تحتاجينه فى خيمتك"، نظرَ إلى "دوفو".

 "ماذا عنك؟"

 "ألقاكَ بعد قليل"

"حسنًا"، قال "بيالو" ونظرَ إلى الطيّارَين.

"تفضّلا، أصحبكما إلى خيمتيكما"

مشى الثلاثة فى عمق الخيام.

نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

قال "لسْتِ مرهقة بالفعل، صحيح؟"

"لكن لا رغبة لى فى عشاء جماعى وجلسة تعارف"

"حسنًا، أنا فى الجوار، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

دخلَ كلٌ منهما خيمته.

تحمّمـَتْ "سيمويا"، بدّلَتْ ملابسها، أخرَجَتْ أدوات عملها من الحقيبة، وضَعَتْها فى مكان مخصص، رتّبَتْ أوراقها وأقلامها على سطح المكتب، ملابسها فى الدولاب، نظرَت داخل ثلاجة متوسطة الحجم، وجدَتْ شيكولاتة، فاكهة، وطعامًا خفيفًا، أكلَتْ برتقالة، قضمَتْ زاوية صغيرة من قطعة شيكولاتة، أعدّتْ فنجان قهوة، جلسَتْ إلى المكتب، فتحَتْ أوراق "الليل" حيث توقفَتْ فى القراءة السابقة.

 

الليل

"سأنزلُ إلى الشارع"، قلتُ لجدّتى، أومأتْ موافِقة، وضَعْتُ قدمىّ فى حذاء خفيف، وجدْتُ مصاعد البناية مُتعطّلة مثلما توقّعْت، نزلْتُ السلّم ونور القمر يلمع على الدرجات الرخامية، وقفْتُ عند حافة الميدان، لم يكن مزدحمًا، رأيتُ بعض الأصدقاء، تبادلنا إشارات وابتسامات، بدأتُ أتنقّل بين الجميع، توقّعْتُ أنهم مثلى لم يناموا منذ الليلة الماضية، لم يذكر أحد شيئًا عما يُسمّى انقطاع الكهرباء، لا بد أن كلاً منهم قد تجاوز هذه الفكرة بطريقة ما، مثلما حدث معى والشموع التى أشعلتُها، سمعْتُ أحدهم يقول "هل يشعر أحد غيرى أن النهار قد تأخر، أم أنى وحدى المجنون هنا؟"

ازدادت الأعداد فى الميدان، جاء بعضهم بملابس النوم، تساءلوا "هل يمكن أن يحدث هذا؟"، "أهذا حقيقى؟"، ليس فقط أننا لم نُجرّب شيئًا مثله، لكنه أيضًا لم يخطر فى بال أحدنا، أو ربما فكّرَ شخص ما فى إمكانيّة حدوثه، لا أحد يعرف، يتلفّتون حولهم، كأنما يبحثون عن شخص مُؤهَل ليؤكد لهم بشكل نهائى أن الأمر حقيقى، نظروا إلى السماء باعتبارها المكان الذى يأتى منه الليل والنهار، إن كان هذا صحيحًا، رأيتُ دهشة فى عيونهم، كأنهم فوجئوا بوجود القمر، ربما نسوه فى زحام حياتهم، ما زال بإمكانه أن يُشكّل منظرًا جميلاً، ظهرَتْ وجوههم صافية، بلا أضواء صناعية، ملامحهم غير ملوّثة بضجيج الموتورات والأزرار، يمكننى القول إنهم كانوا أكثر إنسانية، لا بد أنى كنت كذلك أيضًا، أتمنى لو أن شخصًا رآى فىّ ما رأيته فيمن حولى، بَدَت ملامحهم، ملامحى، أكثر رقّة، كأن شيئًا ثقيلاً أُسْقِطَ عن كاهل العالم، مرّت نسمة هواء باردة، هزّتْ أطراف شعورهم وملابسهم، شعرْتُ بها أيضًا، أتوقّع أنها لمَسَتنا جميعًا فى اللحظة نفسها، وأننا أغمضنا عيوننا كى نشعر بها عميقًا، تخدّرْتُ لحظات، فتحْتُ عينىّ، رأيت البعض يتلفتون حولهم كأنهم سيعثرون على النهار، البعض الآخر يُفتش عنه فى السماء، لكنّ نهارًا لم يظهر.

"تأخّر النهار"، كانت مجهولة المصدر، هادئة، وحاسمة، مرّتْ لحظات دون أن تصدر ردّة فعل عن أحدنا، سمِعْتُ همهمات، تلفّتُ حولى، لم أرَ قلقًا أو خوفًا، أُفسّر ذلك بأنهم عندما تأكدوا أن النهار قد تأخّر، زالَ عنهم الخوف من احتمال حدوث هذا التأخر، وانتقلوا إلى مربّع جديد، كما أن كلاً منهم يعرف أنه أو غيره لم يتسبّب فيما حدث، الجميع أبرياء، كان هذا مريحًا لنا، يمكننى أن أرى هذا الارتياح على وجوههم، ويمكنهم أن يروه على وجهى.

فكّرْتُ، بما أن الليل لم يغادر، والنهار بطبيعة الحال لم يأت، فإن أحدهم ربما يكون سعيدًا لأنه نجا من ارتباط إجبارى بموعد لا يحبه، فى الوقت نفسه هناك شخص لن يحصل على موعد يحبه، قلت لنفسى "يا سيمويا، النهار نفسه ربما لن يأتى"، تساءلْتُ، هل توقف الزمن؟ ومن المفترَض الآن أن نموت، أم أننا لن نتقدّم فى العمر، نصير خالدين؟ واضح أننا لم نَمُتْ، وعلى الأرجح لا زلنا نتقدّم فى العمر، صار مفهومًا لنا، أو للبعض منا، فى هذه اللحظة على الأقل، أن لا شىء توقف غير ساعاتنا، كلها تشير إلى منتصف الليل تمامًا، أُفكّر، ربما توقفَتْ كل العلامات التى تدل على مرور الوقت، لكنه ما زال يمرّ، فما بالنا بالزمن نفسه؟ الوقت والزمن، لا يبدو أنهما الشىء نفسه، كما أن الاثنين يختلفان عما يُسمّى توقيت، مرّت الفكرة سريعًا فى عقلى، رأيت الزمن مثل رجل قديم غامض، الوقت شاب صعب المراس، والتوقيت صبىّ يطاوعنا أحيانًا، ويعاندنا أحيانًا أكثر.

 كنتُ منتشية بما حدث، عقلى جائع للاكتشاف، أبقى متماسكة فى المواقف التى يمكن تسميتها صعبة أو كبيرة، أتصرّف بحكمة، وتكون لدى رؤية شاملة، أما المواقف الصغيرة، فأنا فيها خاسرة كبيرة، فكّرْتُ أن المشكلة التى تواجه الجميع، هى أن النهار كان يأتى دون تدخّل من أحد، وعندما يتوقف عن المجىء ليس باستطاعة أحد أن يأتى به، هذا يعنى أن الأمر قد يستمر لمدة لا يعرفها أحد، ولا شىء يمكن توقّعه، تروق لى هذه المشكلة الجميلة.

بدأ الجميع بشكل تلقائى، أو اتفاق ضِمنى، يتجهون إلى السوبر ماركت، ومحلات المواد الغذائية، كانت مغلقة كما هو مُتوقّع، عدد قليل منها نصف مفتوح، أو أقل، لم يكن أحدها مهتمًا بالبيع أو الشراء، وليست هناك فرصة للتعامل إلا بالدفع النقدى، لم يعد بإمكان ماكينات تحصيل النقود التعامل مع البطاقات.

 لماذا أول شىء يفكر فيه الإنسان عند بداية كارثة، أو حَدَث غير عادى، هو تخزين الطعام، ما يسبّب الفزع للجميع، فكل إنسان لا بد سيشعر بالتهديد عندما يرى الآخرين يجمعون الطعام من العالم، ماذا لو أن كل شخص أخرج ما لديه بدلاً من إخفائه والاحتفاظ به لنفسه، لنفترض وجود شخصَين ضائعَين فى صحراء، وكلٌ منهما لديه ما يكفيه من الطعام لعدّة أيام، لكنهما لا يشتركان معًا فى طعامهما، وكلاهما يخاف غدْرَ الآخر به طَمَعًا فى طعامه، فى الوقت نفسه هناك ضائعَان آخران، معهما من الطعام ما يكفى شخصًا واحدًا، لكنهما يتشاركان فيه، يمكن تَوَقّع فرصة أكبر فى النجاة لهذين الأخيريَن، لأن كلاً منهما يشعر بالأمان تجاه صاحبه، وبالتالى ينامان باطمئنان، ويتحدثان فى أشياء تلهيهما عن الجوع والطعام، أما الآخران، سيحرص كلٌ منهما على البقاء مستيقظًا لأطول وقت ممكن، ولن يُفكّر إلا فى الجوع وكارثة نفاد طعامه، ما يصيبه بالقلق والتوتر، فيجوع أكثر، ولأنهما لا يتحدثان إلى بعضهما بعضًا، سيتعامل كلٌ منهما مع طعامه طوال الوقت، والمتوقّع من شخصين مثلهما، أن يُعامِلا الطعام بالطريقة الأشهر، الأكل، وليس المَنْح، فيقضى كلٌ منهما على طعامه بشكل أسرع، وتصير فرصته فى النجاة أقل، ورغم أن طريقة المَنْح أيضًا تؤدى بالطعام فى النهاية إلى أن يؤكل، لكنه يمرّ خلالها بمراحل عديدة، تجعل منه مصدرًا للأمان والشَبَع، وليس القلق والجوع.

 برأيى، ليس هناك طريقة لزيادة الطعام أفضل من أن يُمنَح، لا أعرف كيف يحدث هذا، لكنه يحدث.

اشتروا الكثير من الطعام والمواد الغذائية وعادوا إلى بيوتهم.

 عُدْتُ دون أن أشترى شيئًا، لم يكن معى نقود بالأساس، لاحظْتُ شمعاتٍ جديدة موزّعة فى زوايا البيت، لمَحْتُ "بلوبا" فى مكانه، دخلْتُ حجرتى، جدّتى عند النافذة تنظر إلىّ بعينيها الحَبيبتين، هل يمكن أن تنظر بشىء غير عينيها؟ نعم، تفعل ذلك كثيرًا، بروحها، قلبها، أنفاسها، وفى معظم الأوقات تنظر إلىّ بهذا كله معًا، توقفْتُ لحظات بجوار مكتبى، شعرْتُ بجثة حاسوبى فوقه، فكّْرتُ، أين ذهبَتْ ملفّاتى التى خزّنتُها فيه، الأفلام، الكتب، الصور، الأغنيات، القصص، وإيميلاتى، هذه المرة لم أرَ نفسى وحيدة فى صحراء بعيدة، شعرْتُ باطمئنان غريب، هل من الجيّد أن يشعر الإنسان أن اطمئنانه غريب، من المتوقّع أن يكون الإطمئنان بعيد عن أىّ شعور بالغرابة، ربما يصير للأشياء والمشاعر المبهجة طابع خاص عندما نشعر بأنها غريبة بدرجة ما، أو عندما تأتينا فى أوقات ومواقف لا نتوقعها، لم أعرف هل أستمتع باطمئنانى أم بغرابته، شعرتُ أن كل ما سجّلته فى حاسوبى لم يضِع، وأنه موجود فى مكان ما من العالم.

 أُفكّر أن العالم يحتفظ بأصواتنا، كلامنا، وأفعالنا، لا يُضيّعها، حتى أطيافنا تظل موجودة فى الأماكن التى مرَرْنا بها، وعندما يأتى أشخاص بعدنا ويمرّون بتلك الأماكن، فإنهم يمرّون داخل أطيافنا، ويتوّحدون معنا للحظة، مثلما نمرّ نحن داخل أطياف تركها أشخاص قبلنا، هكذا نتداخل جميعًا فى بعضنا بعضًا دون أن نشعر، لكن، هناك حالات نشعر بها، وبعمق، عندما نمرّ بطيف شخص تربطنا به علاقة خاصة، أو تتشابه روحه مع روحنا، وليس بالضرورة أن تكون بيننا وبينه صلة قرابة، أو حتى رأيناه أبدًا.

ابتسمْتُ ورأيت نفسى داخل شخصيات أحبها، بعضها مات منذ مئات أو آلاف السنين، ربما تداخلْتُ مع لصوص، سفّاحين، ومومسات، لن يُزعجنى هذا، أتمنى ألا يزعجهم، أتداخل أيضًا مع شخصيات تأتى إلى العالم بعد موتى بدقائق، أو مئات السنين، ربما تكون من بينها إحدى حفيداتى البعيدات، هل تشعر بى وقتها؟

تخيّلْتُ ملفاتى وهى تطير فى الهواء، يتنفّسها بشر، تلمس قلوبهم وعقولهم، هل كنت لأتمنّى أجمل من ذلك؟ ليس من العدل الآن أن أرانى وحيدة فى الصحراء، لن أفعل هذا بنفسى.

وقفْتُ بجوار جدّتى، شمَمْتُ منها رائحة الشيكولاتة الخفيفة، سألتُها إن كان من المفروض أن أشترى طعامًا كالآخرين، قالت "ليس مهمًا"، نظرْتُ إلى الميدان، كان خاليًا، لكن جدّتى نظرَتْ إليه بطريقة جعلتنى أعتقد أن شيئًا يحدث هناك ولا أراه، أو أن شيئًا لا بد يحدث حالاً، ظهرَ بعض المتشردين من الشوارع المتفرعة، تجمّعوا بمنتصف الميدان، يرتدون ملابس غريبة، بعضها من الزمن القديم، وبعضها كأنه من المستقبل، فكّرْتُ أنهم جاءوا من أزمنة وعوالم مختلفة، رأيتهم بوضوح فى ضوء القمر، متلألئين، وجديدِيِن، رغم أن كل ما فيهم يُفتَرض به أن يكون قديمًا، ومُستعْمَلاً جدًا، معهم عربات خشبية يدفعونها بأيديهم، أو يسحبونها خلفهم، ألعاب بدائية، بَدَا بعضها لوهلة كأدوات تعذيب، والبعض الآخر مُضحكًا من النظرة الأولى، شعرْتُ بمتعة كبيرة عندما لعبوا بها، أَخرجَ بعضهم من بين ملابسه آلات موسيقية وبدأوا العزف.

 قالت جدّتى "لننزل"

 طلبَتْ أن نترك باب البيت مفتوحًا، بَدَتْ كأنها تنتظر أن أسألها لماذا، لكنى كنت مهتمة بالنزول.

وجدنا الميدان مزدحمًا بالمتشردين، لأول مرة أرى هذا العدد منهم، فى الظروف العاديّة كنت أصادف واحدًا أو اثنين، قليلة هى المرات التى رأيت أحدهم نهارًا، أُفكّر أنهم ربما يختفون خلال النهار، يتحوّلون إلى أثير أو رسوم على الجدران، ويستعيدون طبيعتهم البشرية خلال الليل، الآن، أرى الكثيرين، يلعبون بألعاب بدائية، يعزفون على الآلات الموسيقية، أسمع موسيقا صاخبة، وأخرى هادئة، تصنع معًا لحنًا منسجمًا.

نَزَلَ الكثيرون من بيوتهم، يتفرّجون على المتشردين، موسيقاهم، ألعابهم، وحالتهم المبهجة، لم يهتم متشرد بأىّ منا، كأننا غير موجودين، هل كانوا يحتفلون بالليل الذى امتد كل هذا الوقت، وربما لن يغادر؟ لولا أننا نعرف أنه لا أحد يستطيع أن يأتى بالليل والنهار، أو يمنع ظهورهما، لاعتقدنا أن المتشرّدين اتفقوا مع الليل ألا يغادر، نعرف جميعًا أن بينهما الكثير من الاتفاقات بالفعل، لكن ليس من بينها أن يبقى فى مكانه لوقت أطول من المعتاد.

بالنسبة لى، كان ظهور المتشردين بهذا العدد يعنى أن النهار لن يظهر، ليس فى وقت قريب، أتوقّع أن هذه الفكرة راودت كثيرين غيرى، وكان من الطبيعى أن نسأل المتشرّدين، ولو على سبيل المزاح، "لماذا الليل موجود حتى الآن؟ لماذا تأخّر النهار؟"، ضحكَ بعضهم، حرّكَ البعض الآخر كتفيه بلا مبالاة، لم يتوقفوا عن اللعب والموسيقا، حتى قالت لنا طفلة فوق أرجوحة خشبية "ابحثوا عن النهار".

   لم لا؟ بدأ البعض منا على سبيل المزاح، أو الأمل البعيد، يبحثون عن النهار، مشيتُ معهم، أريد أن أعرف ما سيحدث، سايرَتْنى جدّتى، مشينا فى الشوارع المتفرعة من الميدان، ينادى البعض على النهار بتدليل "نهارووو، نهاريييى"، كأننا فى لعبة، لم تُنادِ عليه جدّتى، يبدو أنها لم تفكر حتى فى ذلك، فقط تستمتع بالمشى، القمر عين كبيرة حالمة، وأنا أتلفّتُ حولى، أراقب الجميع، أراهم يتفرقون فى الشوارع، أصواتهم تبتعد وتقترب، يختفون ويظهرون فجأة، كل شىء هامدًا، السيارات، المطاعم، الكافيهات، لا أسمع صوت موتور، ضغطة زِرّ، رنّة هاتف، وكأن العالم تحوّلَ إلى قطعٍ من الخردة.

 عندما بدأتُ أشعر بالقلق من هذا العالم الخردة، بدأ عالم جديد يطفو، تسرّبَ إلىّ صوت البحر من بعيد، حفيف الأشجار فى الشوارع، جريان النهر داخل الغابة، أنفاس الجبل، كنا مدينة محظوظة، لدينا بحر، نهر، غابة، وجبل، سمِعْتُ أصوات هذه الكائنات تعلو تدريجيًا، كأنها تسترد مكانتها فى العالم، تلفّتُ حولى، شعرْتُ أن الجميع يسمعونهم مثلى، منذ متى لم نسمعهم؟ كأننا نكتشف الآن أن هذه الكائنات تعيش معنا، أدركْتُ أننى أسمع الآن الصوت الحقيقى للعالم، وأن العُطل الذى أصاب الأزرار، الموتورات، والأضواء الصناعية، منح هذا الصوت الفرصة ليظهر.

نظرْتُ إلى جدّتى.

 قلت "صوت العالم، هذا ما كنتِ تسمعينه فى حجرتى"

 "نعم"

 تساءَلْتُ، لماذا لم أتمكّنْ من سماعه معها هناك، وكيف عرفَتْ أنى سأسمعه فيما بعد، تُخفين شيئًا عنى جدّتى؟ سألْتُها بينى وبين نفسى.

ازدادت أعدادنا فى الشوارع، أعتقد أن مَن لم يبحثوا عن النهار من البداية غيّروا رأيهم، توغلنا فى المدينة، بَدَت لى كأنها غير التى كنت أعرفها، الأشياء نفسها لكنها ليست هى، تغيّرات طفيفة لا أعرف إن كانت موجودة بالفعل طوال الوقت ولم ألحَظُها قبل الآن، أم أنها جديدة، أرى التواءً بسيطًا فى شارع أعرف أنه مستقيم، ثلاث شجرات فى مكان أعرف أنه خال من الأشجار، أكتشف فتحة جانبية فى شارع ما، ولا أكون متأكدة أنى رأيتها من قبل، يسكب القمر على مدينتنا ضوءًا غزيرًا، نرى الأشياء بشكل أوضح، لكن بمزيد من الظلال، والأوهام، مرَرْتُ قُرْبَ سينما "الفراشات الثلاث"، المُفضّلة لى.

 قلت "لماذا ليست فراشة واحدة؟"، لا أنتظر إجابة، فقط كنت أداعب السينما بين زيارة وأخرى.

 قالت جدّتى "لماذا لا يكونوا ثلاثًا؟"

 فكّرْتُ أن الأفلام التى شاهدْتُها تطير الآن فى الهواء، مثلما طارت ملفّات حاسوبى، تلفّتُ حولى ربما ألمح ملفًا منها، ابتسمْتُ لنفسى.

 ابتلَعَتنا شوارع المدينة، انفَتَحَتْ على بعضها بعضًا، لا أذكر أن تلك طبيعتها، فى الوقت نفسه لا يمكننى القول أنها على غير طبيعتها، تحوّل بحثنا الهزلىّ عن النهار إلى الجديّة، كأننا بالفعل سنجده فى مكان ما.

 لم يكن الأمر فقط أننا نبحث عنه، لكننا أيضًا نكتشف الروح الجديدة لمدينتنا، نريد أن نقضى وقتًا أطول فى ذلك الوهم الغامض الذى يلفّها، يلفّنا، نعود إلى بيوتنا من وقت لآخر كى نأكل، ونرتاح قليلاً، ثم نعاود البحث.

 

(3)

استيقظَتْ "سيمويا" قبل الشروق بثلاثين دقيقة.

 تحمّمَتْ، تناولَتْ إفطارها وهى تفكر فى "بينورا" وجدّتها، أعجبها رأيها عن أن المَنْح هو أفضل طريقة لزيادة الطعام.

ارتدَتْ قميص أزرق فضوليًا، بنطلونًا من قماش أحمر داكنًا بجيوب كثيرة، وحذاءً قويًا، أدخلَتْ أوراق "الليل" درج المكتب، أخرَجَتْ من الدولاب حقيبة كتف قماش، وضَعَتْ فيها الشاكوش، العدسة المُكَبّرة، الفرشاة، كاميرا، زمزميّة ماء، مُبرّدًا صغيرًا به تفاحة وقطعـة شيكـولاتة، ربَطَتْ حول خصرها حزامها العريض، وضَعَتْ فى جيوبه، هاتفها، أقلامًا بألوان مختلفـة، دفتر ملاحظات، علّقَتْ الحقيبة فى كتفها، التقطَتْ قُبعة، وخرجَتْ.

وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته، على كتفه حقيبة من قماش بّنّى، وحزامه العريض حول خصره.

"صباح الخير سيمويا"

"صباح الخير دوفو"

"نِمْتِ جيدًا؟"

مشَتْ إليه.

"نعم، وأنت؟"

حرّك يده على شكل موجة.

ظهرَ "بيالو" قادمًا باتجاههما، سألَهما عن نومهما وإفطارهما، أخبراه أنهما بخير، ومُستعدان.

ظهرَ بقية طاقم العمل فى أماكن متفرقة.

اتجه الجميع إلى الصحراء الزرقاء، دَخَلها طاقم العمل، توقف "دوفو" و"سيمويا" عند حدوها، ومعهما "بيالو"، تطلّعا إليها، رأيا هياكل سفن وقوارب قديمة، أشجارًا بلا أوراق، تكوينات غير واضحة المعالم، التقطَ "دوفو" حفنة من الرمل الأزرق، تحسّسها بين أصابعه، وجدَ بها بللاً خفيفًا، قرّبها من أنفه، شَمّ رائحة يود، تذوّقَها، شعرَ بملوحة خفيفة.

 أخبرهما "بيالو" أن الرمل لا يجفّ أبدًا رغم الشمس، كان "دوفو" يعرف ذلك.

دخلوا الصحراء الزرقاء.

طلَبَ "دوفو" من "بيالو" أن يتركه و"سيمويا" ليكتشفا الموقع بنفسيهما.

"حسنًا دوفو، أتفهّم طريقة عملكما، يمكنكما أن تخرجا وقت الغداء"

"لا أعتقد ذلك، معى مائى وطعامى"

"أنا أيضًا"، قالت "سيمويا"، وربّتَتْ حقيبتها.

"توقّعْتُ ذلك، حظًا سعيدًا لكما"

ابتعد "دوفو" و"سيمويا" عن الجميع، قابَلا هياكل أسماك كبيرة، أخرى صغيرة، محارات جافة، أصدافًا مُتكسّرة، جُزُرًا مرجانية ميتة، بقايا بيوت خشبية كأن بشرًا كانوا هنا يومًا، ورائحة يود خفيفة فى الهواء، نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

 قال "نحن نضيّع نصف الوقت بهذه الطريقة، ما رأيكِ أن ننفصل؟"، وحرّك يده على شكل موجة.

تلفّتتْ "سيمويا" حولها.

قالت "أمشى فى هذا الاتجاه"، وأشارت إلى صخرة زرقاء كبيرة.

أشار "دوفو" فى اتجاهين مختلفين.

"وأنا هنا، أو هنا"، نظرَ إلى "سيمويا".

"اعثرى على شىء مميز، كالعادة"

"سأحاول"

تجاوزَتْ "سيمويا" الصخرة الزرقاء، وجدَتْ قوارب صغيرة مُحطمة، مَشَتْ مسافة قصيرة، وصَلَتْ إلى سفينة قديمة، تتكوّن من عدة طوابق، بعض أجزائها مُفكّكة، شراعها مُمزّق، يخرج من أحد جوانبها سلّم خشبى مُتداعٍ يصل إلى الأرض، صعَدَتْه بحرص إلى سطحها، شَمّتْ رائحة الغَرَق، عرِفَتْها على الفور رغم أنها تصادفها للمرة الأولى، رأت قشور أسماك ملتصقة بالأرضيّة الخشبية، تحرّكَتْ بحذر، يزوم الخشب مع كل خطوة، كأنما يُهدّدها بالانهيار فى أيّة لحظة.

رأت عنـد الجانب القريب من السفينة هيـاكل عظميـة تستند إلى بعضها بعضًا، كأنهم نائمون، مشَتْ إليهم، نظرَتْ فيهم عن قُرْب.

"أنتم البحّارة، يا أصدقائى؟"

وجدَتْ شروخًا دقيقة فى أذرع البعض منهم، سيقانهم، وجماجمهم.

 "إصابات قديمة، آسفة"

وضعَتْ الكاميرا أمام عينها.

 "تسمحون لى ببعض الصور؟ شكرًا"

 سجّلَتْ لهم ڤيديو قصيرًا.

 انتقلَتْ إلى مقدمة السفينة، وجدَتْ هيكلاً عظميًا طويلاً يقف خلف الدفّة، متشبثًا بها، يُحدّق فى الأفق، فمه مفتوح، وفراغ عينيه واسع بشكل أكبر من المعتاد، كأنه ينظر إلى شىء مُذهل، تأمّلَته، نظرَتْ إلى الأفق حيث ينظر.

"ماذا رأيتَ هناك أيها القبطان المذهول؟"

التقطَتْ له بعض الصور، وسجّلَتْ ڤيديو.

بحثَتْ عن مدخل إلى الطابق السفلى، عثرَتْ على سلّم جانبى بمنتصف السفينة، نزلَتْ ثلاث درجات، رأت ظلامًا عدا أشعة النور التى تتسرّب من بين ألواح السقف، شغّلَتْ الكَشّاف والڤيديو فى هاتفها، انكسَرَتْ درجة السلّم الرابعة تحت قدمها، كادت تسقط، أكملَتْ نزولها، تطلّعَتْ إلى المكان حولها فى ضوء الهاتف، لمحَتْ طيفًا ملونًا يعبر أمامها، تَبِعَتْه، وجدَتْ نفسها فى بداية ممرّ مُضاء بأنوار ملوّنة مجهولة المصدر، عَرْضه مترين ويمتد بطول السفينة، على جانبيه أبواب متهدّمة، مشَتْ إلى الباب الأول، توقفَتْ فى فتحتْه، رأت ما بدا أنه غرفة نوم، غارقة فى نور أحمر ينتهى عند عتبة الباب، سرير كبير مُحطّم بالمواجهة، خلفه نافذة دائرية من زجاج أحمر، ملاءات ممزقة، ستائر بعضها عالق بالجدران، البعض الآخر ملقى على الأرض، كلها حمراء، مرآة مكسورة، لوحات على الحائط ليس فيها غير اللون الأحمر، وهيكل سمكة كبير على الأرض بجوار السرير، وحده لونه أبيض.

دقّقَتْ النظر فى الأحمر الذى يملأ الغرفة، لم تعرف مصدره، أدركَتْ أنه ليس نورًا، ولا لونًا، شعرَتْ به مثل شىء ثقيل، لم تتحمّل النظر إليه طويلاً، كان يمكنها أن تنظر إليه لوقت أطول لو أنه دم، شعرَتْ أنه سيصبغها لو دخلَتْ، ويحبسها هناك إلى الأبد، كان بلا رائحة، لا تشعّ منه أية حرارة أو برودة، لكنه ليس جثة، أدركَتْ "سيمويا" ذلك، الجثة آمنة، مُسالمة، حتى لو أنها تستدعى الرهبة، فى الحقيقة هى تستدعى الاحترام والترفّق، لكن هذا الأحمر، رغم انعدام الحرارة منه والبرودة، فإنه حىّ، وغير آمن.

 التقطَتْ صورًا، سجّلَتْ مقاطع ڤيديو، انتقلَتْ إلى الغرفة التالية، زرقاء، سرير محطّم، خلفه نافذة دائرية، ملاءات وستائر ممزقة، بعضها ملقى على الأرض، مرآة مكسورة، كانت نفسها محتويات الغرفة الحمراء، وبالترتيب نفسه، عدا نجم بحر ميت بدلاً من هيكل السمكة.

التقطَتْ صورًا، وسجّلَتْ فيديو.

 نظرَتْ فى الغرفة المجاورة، صفراء، تحوى الأشياء نفسها، وبالترتيب نفسه، عدا أخطبوط مُتَيبّس على الأرض قُرْب السرير، أذرعه متآكلة، وعينه نقطة بيضاء ميتة.

توقّعَتْ ألا تجد فيما تبقى من الممرّ غير غرف نوم، بالمحتويات نفسها، ولكلٍ منها لون مختلف، وكائن بَحَرىّ يخصّها.

نزَلَتْ طابقًا، كان مُضاءًا بنور برتقالىّ خافت، وجدَتْ فرقة موسيقية مُتيّبسة بمكانها، كل فرد منها فى وضع العزف على آلته الموسيقية، كأنه حفل توقف فجأة، تجوّلَتْ بينهم، ملامحهم هشّة، رائحتهم يود، يرتدون ملابس من عصور مختلفة، شَعرَتْ أن أيًا منهم سيتفَتَتْ أو يبدأ العزف لو أنها لمَسَته، لم تجازف، توقفَتْ عند عازفة كمان شابة، شعرها أحمر مُجعّد، ترتدى زيًا من قطعتين، قميصًا قرمزيًا بلا أكمام، مُطرّزًا بخرز ملوّن، ينتهى فوق السُرّة، وبنطلونًا أحمر بنجوم فضيّة، ينتهى عند منتصف الساقين، سألَتْها "ماذا كنتِ تعزفين، صديقتى؟"

لم تحصل على إجابة.

التقطَتْ صورًا للفرقة الموسيقية، وسجّلَتْ ڤيديو.

انتقلَتْ إلى الطابق السفلى، وجدَتْ نفسها فى قاعة خالية، تندفع أشعة الشمس من انهيار بمنتصف أرضيّتها على شكل دائرة قطرها ثلاثة أمتار، تقدّمتْ بحذر، توقفَتْ عند آخر نقطة آمنة، مدّتْ عنقها ونظرَتْ إلى أسفل، رأت أرضًا بعيدة، كأنها قعر بئر واسعة تلمع فيه آثار الماء، وينعكس عليها نور الشمس من زاوية ما، تراجعَتْ "سيمويا" بخفّة كى لا تزعج الخشب.

غادرَتْ السفينة.

 صوّرَتْها من زوايا مختلفة، حدّدَتْ إحداثيات موقعها على الهاتف.

 مشَتْ باتجاه أشجار عارية، شعرَتْ برغبة فى العودة إلى السفينة، التفتَتْ خلفها، لم تجدها، كانت واثقة أنها لم تبتعد بما يكفى ألا تراها، خاصة مع حجمها الكبير، عادت فى الاتجاه الذى تعتقد أنه يؤدى إليها، لم ترها على مدى البصر، اتصل بها "دوفو" على الهاتف، سألَها إن كانت قد عثرَتْ على شىء مميز.

قالت "أعتقد ذلك"، تلفتّتْ حولها.

 "لكنه ضاع منى"

"ماذا تقصدين؟"

"لدىّ صور وڤيديوهات، تأتى إلىّ أم آتى إليك؟"

"نتقابل فى الطريق"

استخدَمَ كلٌ منهما برنامج الإحداثيات فى هاتفه وحدّدَ موقع الآخر، تقابَلا عند تلّة زرقاء صغيرة، جلسا فى ظلها، حدّثته عن السفينة، شاهدا بعض الصور ومقاطع الڤيديو.

قال دوفو "أريد أن أدخل هذه السفينة"

"لنعثر عليها أولاً"

بَحَثا عنها حتى الغروب ولم يجداها، غادرا "الأرض الزرقاء"، قابلهما "بيالو"، سألهما إن كانا قد عثرا على شىء مميز.

"لا شىء حتى الآن، فقط سفن وقوارب قديمة"، قال "دوفو".

"ربما فى المرة القادمة"، قال "بيالو"، ونقلَ عينيه بينهما.

"أراكما على العشاء؟ يمكننا أن نتحدث قليلاً عن العمل"

"لست متأكدًا"، قال "دوفو"، وحرّك يده على شكل موجة.

قالت سيمويا "لا أعرف، آسفة"

مشيَا إلى خيمتيهما.

 قالت سيمويا "تُفكر فيما أفكر فيه؟"

"العودة إلى الصحراء الزرقاء"

"حسنًا، أتحمّم، أتناول وجبة خفيفة، وأكون مستعدة"

"بعد ساعة من الآن"

تحمّمَتْ "سيمويا"، تناولتْ وجبة خفيفة، نقلَتْ الڤيديوهات والصور إلى ملف "النقطة الزرقاء" فى حاسوبها، التقطَتْ هاتفها، خرجَتْ، وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته.

مشيا إلى "الصحراء الزرقاء"، سَمِعا صوت "بيالو" يناديهما وهما على بُعد خطوات منها، توقّفا حتى وصل إليهما، سألهما.

"تعودان إلى الصحراء الزرقاء؟"

"نعم"، قال "دوفو".

"هناك ما يستدعى ذلك؟"

"لا شىء محدد"

سمِعوا صوت موجة بحريّة قادمة من الصحراء الزرقاء، التفتوا إليها، تلاشى الصوت كأن البحر ألقى إحدى أمواجه على الشاطئ، لكن لم يكن هناك ماء، سمعوا موجة أخرى، ولمسَتْهم نسمة هواء بها رائحة اليود.

قال دوفو "الأمر حقيقى إذن"

قال بيالو "نعم، يمكن أن نسمع الآن غناء بحّارة أيضًا، وصوت ضربات أسماك كبيرة على سطح الماء، لكن الحقيقة أن لا شىء من هذا حقيقى"

"كيف لا يكون؟"، قالت "سيمويا" وهى تُدقّق النظر فى أفق الصحراء الزرقاء.

قال دوفو "برأيى أنّ هناك شىء حقيقى"، تطلّع إلى الصحراء الزرقاء.

"لنكتشف بأنفسنا"

 "توجد بعض كشّافات ضوئية مغروسة هناك، سأشغّلها لكم"، قال "بيالو".

"لا تفعل، دعنا لا نزعج البحر"، قال "دوفو".

دخلَ و"سيمويا" الصحراء الزرقاء، قابلَهما هواء مُحمّل برائحة البحر، تلفتَتْ "سيمويا" حولها.

"ما القصة هنا دوفو؟"

"لو أنكِ قرأتِ الملف الذى أرسله لكِ مركز الأبحاث عن المهمة لعرفت"

أمالت رأسها على كتفها، ابتسمَ "دوفو".

قال "القصة، أن صوت البحر يأتيهم أحيانًا من الصحراء الزرقاء، ومعه غناء بحّارة، نوارس، خفق أشرعة السفن، ضربات الأسماك بذيولها على سطح الماء، وعندما يوجهون كشّافات الضوء إليها، أو يُشغّلون الكشّافات الموجودة فيها، لا يجدون بحرًا ولا بحّارة"  

"جرّبوا أن يدخلوا دون أن يُشغّلوا كشاّفاتهم المزعجة؟"

"ولم يعثروا على شىء"

شغّلَتْ "سيمويا" برنامج الإحداثيات فى هاتفها.

"أُحدّد مكان سفينتنا"، نظرَتْ إلى الأمام.

"هذا الاتجاه"

ارتفع صوت البحر، ازدادت رائحته.

"كأن البحر سيظهر فى أيّة لحظة"، قالت "سيمويا".

توغّلا، القمر قريب، التراب الأزرق يلمع كأنما مرّ البحر منذ لحظات، شعرا برذاذ أمواج على وجهيهما، مسحَتْه "سيمويا" ومَصّتْ أصابعها، لعقَه "دوفو" من شفتيه.

 وصَلا إلى مجموعة قوارب جديدة كأنما صُنعَتْ لتوّها، نظرَتْ "سيمويا" فى هاتفها.

"كدنا نصل"

تجاوزوا القوارب بمسافة قصيرة.

توقفَتْ "سيمويا"، تلفّتَتْ حولها.

"هنا دوفو"

رأيا سفينة كبيرة على بُعْد خطوات كأنها كشفَتْ لهما عن نفسها، سليمة، شراعها يرفرف، يخرج من أحد جوانبها سُلّم خشبى يصل إلى الأرض.

مشيا إليها.

قالت سيمويا "السفينة التى رأيتها نهارًا، لكنها سليمة"، جرَتْ إلى السلّم.

"انتبهى سيمويا"، قال "دوفو".

صعدَتْ درجتين بشىء من الحذر، اطمأنتْ إلى سلامة السُلّم، أسرعَتْ، بمجرد وصولها إلى سطح السفينة أُضيئت فيها مصابيح قوية، شمّتْ "سيمويا" رائحة الإبحار، ظهرَ بحّارة من الجانب القريب بالسفينة، هلّلوا.

"أهلاً سيمويااااااا، دوفووووو"، نظروا إلى مقدمة السفينة، صمتوا، التفَتَ "دوفو" و"سيمويا"، رأيا القبطان واقفًا هناك، طويل، يميل إلى النحافة، له شعر أحمر طويل، شارب ولحية خفيفة بلون الذهب، عيناه زرقاوان جدًا، وكبيرتان بشكل أكبر من المعتاد، تنظران بذهول، وفمه مفتوح قليلاً ليؤكد ذهوله.

قالت سيمويا "أعرفه، القبطان المذهول"

"أنا أيضًا أعرفك، سيمويا"، همسَ القبطان لنفسه، اتجه إليهما، حافيًا، يرتدى ما يشبه چاكيت من قماش أسود خفيف، مفتوح الصدر، مُطرّز برسم أحمر جهة القلب على شكل دفّة سفينة، وبنطلون واسع من القماش نفسه، ويضع حول عنقه عقدًا من أحجار بَحريّة شديدة الزُرقة.

 ضمّ القبطان "سيمويا" و"دوفو" معًا إلى صدره.

"أهلاً سيمويا، دوفو، أنا قبطان السفينة"

شَمّا من فمه رائحة اليود.

قالت سيمويا "ما اسم القبطان؟"

تجاهل سؤالها.

قال "كنت أعرف أنكِ ستعودين"

فهِمَتْ أنه لا يريد أن يذكر اسمه، ربما لديه أسماء كثيرة، أو ليس لديه واحد.

قالت "كيف عرفْتَ أنى كنت هنا؟ لا يُتوقّعْ أن تعرف شيئًا بحالتكَ التى رأيتُكَ عليها"

"توقّعى أىّ شىء، وفى النهاية هذه سفينتى"

"حسنًا، هى سفينتك، وبالنسبة لى، أنت القبطان المذهول"

"لأكن"، فَتَحَ عينيه أكثر ونظرَ فى عينيها عن قُرْب.

قالت "أنا مذهلة لهذا الحد؟"

"أنتِ كذلك"

ابتسمَتْ.

"لماذا لم أعثر على السفينة مرة ثانية خلال النهار؟"

"غير مسموح لأحد أن يزورنى مرتين خلال نهار واحد، أو ليل واحد"، مال قليلاً ناحيتها.

 "ربما أفكر فى تعديل هذا، لأجلك"

نقلَ عينيه بينها وبين "دوفو".

"أعود إلى دفّة القيادة، وأنتما امرحا قليلاً مع البحّارة"

مشى خطوتين باتجاه مُقدمّة السفينة.

قالت سيمويا "بالمناسبة"

التفَتَ إليها، نظرَتْ فى عينيه.

قالت "أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ القبطان بخجل خفيف.

"أنت خجول"، قالت "سيمويا" بفرح.

اقتربَتْ منه، تطلّعَتْ فى عينيـه كأنما تبحث عن سِرّ تركيبة الخجل والجموح، شعرَتْ أنها تطيـر فى ألوان لا نهائية من المشاعر.

قالت "يعجبنى هذا"

وضَعَ يده على قلبها حتى شعرَ بدقّاتِه، جرى إلى مقدمة السفينة، فَتَحَ ذراعيه عن آخرهما، تطلّعَ إلى الأفق، صرخ وأدار الدفّة دورة كاملة.

انتبهَتْ "سيمويا" على صوت أمواج بحريّة، نظرَتْ و"دوفو" من حافـة السفينة، رأيا بحرًا تطفو فوقه قـوارب وسفن بها بحّارة.

قال دوفو "البحر بنفسه"

"كنت أعرف"، قالت "سيمويا".

انطلقَتْ السفينة، هلّلَ البحّارة، تجمّعوا حول حبل غليظ مربوط بحافتها، به عقد كثيرة عدا آخر مترين، أمسكوا بواحد منهم، ربطوا طرف الحبل حول خصره، ألقوه فى البحر، رأى "دوفو" و"سيمويا" البحّارَ يسبح بمحازاة السفينة، بسرعتها نفسها، رفَعَه زملاؤه بعد قليل، تدافعوا أيّهم يُلقىَ به إلى البحر، اختاروا واحدًا فى النهاية وربطوا الحبل حول خصره.

نظرَ أحد البحّارة إلى "سيمويا" و"دوفو".

قال "مَن يشاركنا هنا؟"، وأشار بيديه كأنه يُلقى بأحدهم إلى البحر.

"أنا"، قال "دوفو"، خَلَعَ ملابسه، طيّرَ حذاءه فى الهواء، اندفعَ تجاه البحّارة، قفزَ فى الوضع طائرًا وألقى بنفسه بينهم، ربطوا الحبل حول خصره، أرجحوه على أيديهم للخلف والأمام، ألقوه فى البحر وهم يهتفون "دوفووووووو"، بحثَتْ "سيمويا" عنه بين الأمواج، لم ترَه، ظهرَ بعد لحظات من تحت موجة، نفضَ رأسه، ضربَتْه موجة أخرى، اختفى بين الماء، ظهرَ وهو يسبح بمحازاة السفينة، بسرعتها نفسها، اندهشَ كيف أمكنه ذلك، قابلَتْه موجة كبيرة، ركَبَها، ارتفعَتْ به قُرْب حافة السفينة، وهبطَتْ، هَلّلَ البحارة، فَكّ الحبل من خصره، ظهرَتْ حوله دلافين، سبحَتْ معه وهى تقفز فى الهواء على شكل أقواس، اختفى "دوفو" تحت الماء لحظات، ظهرَ وهو يُمسك بالزعنفة الظهريّة لأحد الدلافين، ناداه البحّارة أنْ يربط الحبل حول خصره كى يرفعوه.

 هتفَتْ له سيمويا "ابْقَ كما تحب، استمتع"

 ابتعدَتْ الدلافين، تركَ "دوفو" دولفينه، توقفَ عن السباحة، ربطَ الحبل حول خصره، رفعه البحّارة، صَفَعوه خفيفًا على كتفيه وظهره.

"أنت أنانى دوفو، طمّاع"

 أفلَتَ منهم، ارتدى ملابسه، اقتربَتْ منه "سيمويا".

قالت "استمتَعْت، ها؟"

 أومأ والماء يقطر منه.

قالت "علينا الآن أن نزور طوابق السفينة، لا بد أن شيئًا قد تغيّر هناك"

مشيا إلى أحد جوانب السفينة، توقفَتْ "سيمويا" عند السُلّم المؤدى إلى أسفل.

"السلّم فى المكان نفسه"

نزلَتْ عدّة درجات، و"دوفو" خلفها.

"الدرجات سليمة هذه المرة"

انتهى السُلّم، وجدَا نفسيهما فى ردهة يغمرها نور هادئ مجهول المصدر، الأرض والجدران من خشب وردىّ، رائحة عِطْر خفيف تسرى فى الهواء.

"طابق غرف النوم"، قالت "سيمويا"، وثبّتَتْ عينيها على نقطة قريبة.

"الممرّ"

مشيَا إليه، توقّفا فى مدخله، نظيف حدّ أنهما نظرا إلى حذائيهما خشية أن يوسخّاه، أبواب الغرف على جانبيه مغلقة، تقدّما إلى الغرفة الأولى، بابها من خشب أحمر، له مقبض من معدن شفاف على شكل كرة صغيرة.

قالت سيمويا "دعنى أفتح الحجرة الأولى، دوفو"

أمسَكَتْ بالمقبض، شعرَتْ ببرودة لطيفة، حرّكَته ببطء، تسرّبَتْ من الداخل رائحة الورد، تركَتْ المقبض، انفتحَ الباب عن آخره، رأيا غرفة كبيرة، بدَتْ مُخصصة لعروسين، يطفو فيها لون أحمر رائق، كل محتوياتها حمراء بدرجات مختلفة، سرير كبير ومُرتّبْ، خلفه نافذة زجاجية على شكل دائرة، بجواره صندوق من خشب لأسرار العروس، ستائر على الجدران، وسجادة قُرْب السرير مرسوم بمنتصفها سمكة كبيرة.

شعرَ "دوفو" و"سيمويا" برغبة فى الدخول، إلا إن أيًا منهما لم يجرؤ، خَشِيَا أن يخدشا روعة الأحمر، كان لديهما شعور أن العروسين فى مكان ما بالغرفة، ربما يختبئان بين درجات الأحمر المتعددة.

التقطا صورًا، وسجّلا ڤيديو.

 أغلقَتْ "سيمويا" الباب بهدوء، انتقلا إلى الغرفة التالية، بابها خشب أزرق، فتحَها "دوفو"، تسرّبتْ منها رائحة ماء مُعَطّر، لها نفس محتويات الغرفة الحمراء لكن بلون أزرق، وبجوار السرير سجادة بها نقش لنجم البحر.

التقطا صورًا، وڤيديو.

أغلقَ "دوفو" الباب، انتقَلا إلى الغرفة المجاورة، بابها أصفر.

قال دوفو "نحتاج بالفعل أن نفتحها؟"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة، هزّت رأسها نفيًا.

نظرَا بطول الممرّ، رأيا أبوابًا بألوان مختلفة، يتخلّلها ما يبدو أنه ممرّات فرعية.

قالت سيمويا "ما رأيك؟"

"إلى الطابق التالى"

نَزلا، سَمِعا موسيقا راقصة، رأيا قاعة مزدحمة بأشخاص يرتدون ملابس من أزمنة مختلفة، رجال، نساء، شباب، وأطفال، يرقصون، يغنّون، والعازفون يتنقلون بينهم، اقتربَتْ منهما عازفة كمان شابة، لها شعر أحمر مُجعّد، ترتدى زيًا من قطعتين، قميصًا قرمزيًا بلا أكمام، مُطرّزًا بخرز ملوّن، ينتهى فوق السُرّة، وبنطلونًا أحمر بنجوم فضيّة، ينتهى عند منتصف ساقيها، عرِفَتْ "سيمويا" أنها الشابة نفسها التى رأتها مُتَيبسة فى الزيارة الأولى، وسألَتْها وقتها عما كانت تعزفه.

 ابتسمَتْ الشابة لهما، دارت حول "سيمويا".

قالت "أعزف مقطوعة اسمها الماء السحرى"

"شكرًا لإجابتك عن سؤالى"

"أنتِ أيضًا يُمكنكِ العزف"، قالت الشابة، ومدّتْ يديها بالكمان والقوس إلى "سيمويا"، أخذتهما بتلقائية، وبدأتْ، وجدَتْ نفسها تعزف المقطوعة نفسها، الماء السحرى، اندفعَ عازف شاب تجاه "دوفو"، ووضَعَ أكورديونه بين يديه.

قال "اِعزف دوفو"

حرّك "دوفو" أصابعه على المفاتيح، انطلقَ عزفه منسجمًا مع عزف "سيمويا"، انتقلا إلى وسط القاعة، صنعَ الجميع دائرة حولهما، غنّوا مقاطع جماعية، كل مقطع بلغة لا يعرفها "دوفو" أو "سيمويا"، حتى سَمِعا كلمة يعرفانها، غَنّيا معهم، وَجَدَا نفسيهما ينتقلان إلى لغات لم يتحدّثا بها من قبل، لم يفهَما ما يُغنّيانه لكنهما شعرا به.

غنّتْ "سيمويا" مقطعًا بمفردها، وغنّى "دوفو".

 استعادت الشابة كمانَها، والشاب أوكورديونه، وابتعدا.

شعرَ "دوفو" و"سيمويا" بالانفصال عن الجميع، كأنهم يغنّون ويرقصون فى بُعدٍ آخر، ولن يتوقفوا أبدًا.  

نزَلا إلى الطابق التالى، شعرا أنهما قطَعَا مسافة طويلة، وَجَدَا نفسيهما وسط شارع أرضه عبارة عن كسرات صغيرة من حجارة ملوّنة، وعلى جانبيه بيوت خشبية من طابق واحد، لكلٍ منها لون يختلف عن الآخر، رأيا شوارع كثيرة، ملتوية بنعومة كأنها مرسومة بفرشاة، انتبهَا أن الوقت ليل، السماء بنفسجيّة، بلا قمر، مُرصّعة بنجوم تومض وتنطفئ بالتناوب مع بعضها بعضًا.

"تعتقد أننا ما زلنا فى السفينة؟"، قالت "سيمويا".

"هل هذا يهم بالأساس؟"

شعرَا بحركة قريبة، تلفّتا حولهما.

"كنجارو"، قالت "سيمويا" بشىء من الدهشة.

توقف كنجارو برتقالى شاب بمنتصف الشارع، على بُعد أمتار منهما، كان فى طريقه إلى الجانب الآخر، تأمّلَهما لحظة، أمال رأسَه يمينًا ويسارًا، كان يُعَلّق على كتفه بشكل عكسى حقيبة من قماش، بحجم كتاب، لونها برتقالى داكن، أخرَج منها كراس رسم وقلم رصاص، رسَمَ "سيمويا" و"دوفو" بسرعة، وقفز إلى الجانب الآخر، جريَا إلى النقطة التى اختفى عندها، انفتحَ بمواجهتهما باب أحد البيوت، ظهرَتْ منه طفلة تبدو فى الثامنة من عمرها، لها ضفيرتان فضيّتان، ترتدى فستانًا أبيض فيه فراشات ملوّنة، أشارت لهما، اقتربا منها، نَفَضَتْ فستانها، طارت منه الفراشات، جَفِلا، ضحكَتْ، أشارت لهما أن يتبعاها إلى داخل البيت، مشيا خلفها لثلاثة أمتار فوق رمل أبيض، توقّفوا عند بابين متجاورين، أحدهما أصفر، والآخر أخضر.

قالت سيمويا "ماذا الآن؟ نختار أحدهما؟"

نقلَتْ الطفلة عينيها بين البابَين عدّة مرات، فتحَتْ الأصفر، ظهرَ حقل من قمح قرمزىّ اللون يمتد إلى ما لا نهاية، ونهار شفّاف يملأ العالم، التفَتَ "دوفو" و"سيمويا" خلفهما، رأيا الليل خارج باب البيت، نظرَا إلى الطفلة، أشارت لهما وعبرَتْ إلى الحقل، لَحِقَا بها، انغلقَ الباب.

تطلّع "دوفو" و"سيمويا" إلى الحقل، أطرافه تلامس السماء، أسراب عصافير فضّية تطير فوق السنابل، أو تحطّ، وبين لحظة وأخرى يدور سرب فى الهواء بحركة بهلوانية ويصنع رَجّة لطيفة، انفكّتْ ضفيرتى الطفلة شَعْرًا طويلاً بلون العصافير، رأى "دوفو" و"سيمويا" الفراشات التى طارت من فستانها أمام البيت تعود إليه ثانية.

 مَشَوا فى الحقل، تدور العصافير حولهم، وبين خطوة وأخرى تطير الفراشات من فستان الطفلة، وتعود إليه.

 قالت سيمويا "ما اسمكِ، صديقتى الصغيرة؟"

ابتسمَتْ الطفلة ولم ترد.

"أين نحن؟ تعرفين شيئًا عن سفينة وقبطان مذهول؟"

تطلّعَتْ الطفلة إلى الفراشات والعصافير، راقبَتْها "سيمويا" قليلاً.

قالت "فهِمْت، أنتِ لا تتكلمين"، نظرَتْ فى اتجاه آخر، رأت الكنجارو واقفًا على مسافة ليست بعيدة وبيديه الكراس والقلم، يرسمهم.

"الكنجارو الرسام".

أنهى الكنجارو ما كان يفعله، أمال رأسه يمينًا ويسارًا، لوّحَ لهم، وقفز مبتعدًا.

وَصَلوا إلى إحدى نهايات الحقل، أرض مفروشة بتراب وردىّ له رائحة النعناع، وبها جبـال ملوّنة، أشارت الطفلة إلى جبل أخضر.

قالت سيمويا "هل أنا مرغمة أن أتبعكِ هنا، صديقتى الصغيرة؟"

أشارت الطفلة إلى الجبل من جديد.

"يمكننى أن أقول اذهبى بمفردك"

هزّتْ الطفلة كتفيها، ومَشَتْ إلى الجبل.

"لم لا؟ لنلعب"، قال "دوفو" ومشى وراء الطفلة.

 لَحِقَتْ به "سيمويا".

"فى الحقيقة أنا مستمتعة، فقط أريد أن أسمع صوتها"

مشيا إلى جوار الطفلة، تأمّلَتها "سيمويا" قليلاً، مدّتْ يدها إليها.

"مسموحٌ أن ألمسك؟"

 ابتعدَتْ الطفلة خطوة، نظرَتْ إلى "سيمويا" بتحذير، وابتسمَتْ.

دارت بهما الطفلة خلف الجبل، وجَدَا بمدى البصر عُشبًا برتقاليًا قصيرًا، ثلاثة خيول بيضاء تأكل من تلّة سُكّر قرمزىّ، كان صوت قرمشة السكر تحت أسنانها مُسليًا، شعرَتْ "سيمويا" معه بدغدغة وأفلتَتْ منها ضحكة قصيرة، اقتربَتْ الطفلة من أحد الخيول، مسحَتْ مقدمة جبهته، حَكّتْ وجهه بجانب وجهها، قال شيئًا لها ما، ابتسمَتْ، همَسَتْ له بكلمة، تعلّقَتْ برقبته وصعَدَتْ إلى ظهره، أشارت إلى "سيمويا" و"دوفو"، امتطى كلٌ منهما أحد الحصانين، وانطلقوا.

انسجمَ "دوفو" و"سيمويا" مع حصانيهما على الفور، أشارت لهما الطفلة لينظرا حولهما، رأيا العالم يتغيّر مع كل قفزة من الخيول، أخذتْهُما إحدى القفزات إلى غابة، نقلتُهما القفزة التالية إلى شارع مزدحم بالناس، شاطئ بحرىّ، سحابة، صحراء، غابة، حتى توقفَتْ الخيول فوق قمّة جبل، الوقت ليل، قمر كبير يضىء السماء، نزلَتْ الطفلة عن حصانها، اتجهَتْ إلى حافة الجبل، تَبِعَها "دوفو" و"سيمويا"، رأيا جسرًا خشبيًا يمتد إلى جبل على الجهة الأخرى، مرّتْ ريح خفيفة أرجحَتْ الجسر، ثبّتَته الطفلة بلمسة من يدها، مشَتْ فوقه، التفتَتْ بعد عدة خطوات إلى "سيمويا" و"دوفو"، أشارت لهما.

تقدّمَ "دوفو"، وبعده "سيمويا"، وَصَلا إلى الجهة الأخرى حيث تنتظرهما الطفلة، يطلّ الجبل على بحر تسبح فيه سفن بعيدة غير واضحة المعالم، أشارت الطفلة إلى إحداها، صارت مرئية بوضوح لهما، كأنما ينظران إليها عبر منظار، رأيا القبطان المذهول عند الدفّة، البحّارة يربطون حبلاً حول خصر واحد منهم ويلقونه إلى البحر، نَظَرَا إلى الطابق العلوى، رأيا أبواب الحجرات الملونة، وفى الطابق الثانى كان الجميع يرقصون ويغنّون، عازفة الكمان الشابة، عازف الأوكورديون، شاهدا فى الطابق الأخير تهويمات من ألوان، نظرَا إلى الطفلة، ما زالت تشير إلى السفينة، ابتسمَتْ لهما، أنزلَتْ يدها، صارت السفينة بعيدة، وغير واضحة المعالم.

"والآن؟"، قالت "سيمويا".

أشارت الطفلة لهما، مشيَا معها إلى الجهة الأخرى من الجبل، توقفوا أمام بيت كبير يميل بزاوية فى الفراغ، لم يعرف "دوفو" و"سيمويا" إن كان قد ظهر لتوّه أم أنهما لم يلاحظاه فى البداية، بدا كأنه مجموعة من نوافذ زرقاء تشكّلَتْ بيتًا، له بوابة كبيرة من زجاج أزرق، دفعَتْها الطفلةُ.

 دخلوا.

 البيت خالٍ عدا سُلّم حلزونى من الخشب لِصْقَ أحد الجدران، وضوء أزرق يتسرّب من النوافذ.

بدأوا يصعدون السُلّم.

 تحوّل النور الأزرق إلى غيوم معتمة.

قالت سيمويا "لا أرى شيئًا؟"

"لا تتوقفى"، قال "دوفو".

تلاشتْ الغيوم، انتهى السُلّم، وجَدَا نفسيهما فى الطابق السفلى بسفينة القبطان المذهول.

"أين الطفلة؟"، قالت "سيمويا".

تلفّتا حولهما، لم يجداها، رأيا الكنجارو يقف بعيدًا وبيده قلمه وكرّاسه، رسمهما بسرعة، أمال رأسه يمينًا ويسارًا، لوّح لهما، ناداه "دوفو".

"انتظر، كنجارو"

اختفى داخل أحد الممرّات.

سَمِعَا موسيقا راقصة تأتى من الطابق التالى، صَعَدَا السُلّم، رأيا عازفة الكمان الشابة، عازف الأوكورديون، وكثيرين يغنّون ويرقصون، شَعُرَا أنهم فى بُعد آخر، أكملا صعودهما، مرّا بطابق الغرف ذات الأبواب الملونة، وَصَلا إلى سطح السفينة، وَجَدَا عددًا من الحبال معقودة حول حافتها، وفى نهاية كل حبل، بحّار يسبح مع زملائه وسط أسراب من وحوش البحر وفراشاته.

انتبها على صوت القبطان يناديهما، أشار لهما من مكانه عند الدفّة، ذَهَبا إليه، توقفَتْ "سيمويا" بمواجهته، قرّبَتْ عينيها من عينيه.

"أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ بلمسة من خجل.

قال "استمتَعْتِ هناك؟"

أومأتْ مرة واحدة قوية.

قالت "افتقدتَنى؟"

أومأ مرة واحدة بطريقتها.

"لديكَ فكرة عما رأيناه؟"، قالت "سيمويا".

"لديكِ فكرة عما لم ترياه؟"

"عندى شغف لأرى"

قرّبَ عينيه من عينيها.

"لا تفقدى شَغَفَك"

أدار الدفّة، انحرَفَتْ السفينة بزاوية كبيرة، دَخَلَتْ إلى منطقة أمواج هادئة، انتقلَ "دوفو" و"سيمويا" إلى أقرب نقطة للبحر، سمِعَا غناء الأسماك يصعد من القاع، خافتًا لكنه واضح، له صدى بعيد كأنه ذكرى حلم، رأيا التماعات ملوّنة تظهر على السطح وتختفى، ذيولاً، زعانفَ، وعيونًا.

جَلَسا قُرْب الغناء.

مرّ وقت طويل قبل أن ينتَبِها لدموعهما، تنهّدا فى اللحظة نفسها، وابتسما لبعضهما بعضًا.

تلاشى غناء الأسماك تدريجيًا، اختفت الالتماعات الملوّنة.

نظرَا إلى القبطان، كان يتطلّع إلى البحر ويده على الدفّة.

قال دوفو "يمكننا العودة الآن، سيمويا"

أومأتْ موافِقة.

قال دوفو "سيكرهنى القبطان على الأقل لو طلبْتُ منه أن يُخرجنا، تحدّثى أنتِ معه"

ابتسمَتْ "سيمويا"، ذهَبَتْ إلى القبطان، وقفَتْ إلى جواره، كتفها يلامس كتفه، وتنظر إلى البحر.

قال القبطان "لماذا لا تقضيا الليلة معنا؟"

"فى النهاية سنغادر"

"بالضبط، لذا، أكْمِلا الليلة، أكمليها هنا"

لم ترد.

"لو أردْتِ النوم قليلاً، لدينا غرف جميلة رأيتِها بنفسك، كلها مخصصة للضيوف"، التفَتَ إليها.

"أنا والبحّارة ننام نهارًا على سطح السفينة، مثلما رأيتنا"

نظرَتْ إليه، وابتسمَتْ.

"تُسمّى هذا نومًا؟"

"نوعًا من النوم"   

تأمّلَتْ عينيه لحظات.

"أعتقد أنك ستعيدنا إلى النقطة التى أخذتنا منها"

"هل تزورانى، تزورينى ثانية؟"

"سأحاول"

"اتفقنا، ستحاولين"

أدار الدفّة فى اتجاهات متعاكسة، دارت السفينة حول نفسها عدّة مرات، انطلقَتْ فوق أمواج عالية، وصلَتْ إلى مياه هادئة، وتوقفَتْ.

 نقلَ القبطان عينيه بين "سيمويا" و"دوفو".

 "نحن فى المكان الذى أخذتكما منه"

نظرَا حولهما إلى البحر.

"لا تقلقا، بمجرد أن تنزلا ستجدان شيئًا آخر"، وأمرَ البحّارة أن يُجهّزوا السُلّم.

أنزَلَ البحّارة طرف السلّم من جانب السفينة إلى البحر، بقى طافيًا هناك.

نظرَتْ "سيمويا" إلى القبطان.

قالت "ليس وداعًا"، قرّبَتْ عينيها من عينيه.

"أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ بطيف من خجل، ضَمّها إليه.

"أعرف أنك ستزورينى ثانية"، نظرَ إلى "دوفو".

"أتمنى أن أراكَ قريبًا"

"أنا أيضًا، قبطان"

نظرَتْ "سيمويا" إلى نهاية السُلّم على سطح البحر.

"عندى شغف، سأنزل أولاً"

نزلَتْ خطوتين، التفتَتْ إلى القبطان.

"لو أننا قضينا ليلة هنا معك، ماذا يحدث لنا فى الصباح؟"

اتَسعَتْ عيناه.

"ربما لا يظهر الصباح بالأساس، ويستمر الليل إلى الأبد"

أمالتْ رأسها على كتفها، فكّرَتْ إن كان يُلمّح إلى أوراق "الليل"، أم أنها جملة عابرة، حاولَتْ أن تفهم من عينيه، كانتا طبيعيتان، مذهولتان.

عاودَتْ النزول، توقفَتْ عند الدرجة الأخيرة، مرّرَتْ عينيها على البحر، نظرَتْ خلفها إلى القبطان، عيناه مذهلتان، سمِعَتْ صوته يهمس لها.

 "أنتِ بأمان"

نزلَتْ عن الدرجة الأخيرة، تحوّل الماء إلى مزيج هادئ من بحر وسماء، طفَتْ فوقه "سيمويا".

نزلَ "دوفو"، تحوّل البحر- سماء إلى صحراء زرقاء، هى نفسها التى جاءا لدراستها.

 عادت السفينة إلى حالتها التى رأتها "سيمويا" عليها نهارًا، قديمة، بعض أجزائها مُفكّكة، شراع مُمزق، سلّم متداعٍ، اختفى القبطان والبحّارة.

نادتْ سيمويا "أنت، قبطان مذهول، أنتَ هناك"

لم يردّ أحد.

نظرَتْ إلى "دوفو"، حرّك يده على شكل موجة، تلفّتا حولهما، رمل أزرق، سفن وقوارب قديمة.

شغّلَ "دوفو" برنامج الإحداثيات فى هاتفه، أشار إلى أحد الاتجاهات.

قال "طريق الخروج"

كانا يلتفتان إلى السفينة من وقت لآخر، لم يتكّلما حتى ظهرَتْ الصحراء البيضاء من بعيد.

قالت سيمويا "هل نذكر ما رأيناه لبيالو وطاقم العمل؟"

 "أُفضّل ألا نفعل"

 غادرا الصحراء الزرقاء.

قابلَهما "بيالو".

سألهما "عثرتما على شىء مميز؟"

 "لا، كل شىء عادى"، قال "دوفو"، وألقى نظرة خلفه إلى الصحراء الزرقاء.

 "ربما فى المرة القادمة"

"كم من الوقت مرّ على وجودنا هناك؟"، قالت "سيمويا" كأنما تسأل نفسها، ونظرَتْ فى ساعتها.

قال بيالو "ساعتان"

"إلا خمس دقائق"، قالت "سيمويا"، ونظرَتْ إلى "دوفو" بشىء من الدهشة، حرّك يده على شكل موجة.

"لا تندهشى، توقّعى أىّ شىء من الوقت"

قال بيالو "أعتقد أنكما فى حاجة إلى الراحة، أراكما صباحًا"

تركهما ومشى خطوتين، استدار إليهما.

"لماذا شعركما مُبلل، وملابسكما؟"

"أمطرَتْ هناك"، قال "دوفو" وأشار خلفه إلى الصحراء الزرقاء.

 ألقى "بيالو" نظرة هناك، مرّرَ عينيه على السماء، وأكمل طريقه.

استدار "دوفو" و"سيمويا" إلى الصحراء الزرقاء، تطلّعا إليها.

قالت سيمويا "أريد أن أُسجّل ما رأيناه بسرعة، كى لا أفقد شيئًا"

"والقبطان المذهول يستحق زيارة أخرى"

 التفتَتْ إليه، فتَحَتْ عينيها عن آخرهما.

قالت "أُحب هذه النظرة"

فى خيمتها، تشَمّمَتْ "سيمويا" خصلات شعرها، ملابسها، وجسمها.

 قالت لنفسها "كأنه حلم"

 تحمّمَتْ، سجّلتْ كل ما رأته فى حاسوبها، نطقَتْ آخر جملة كتبتها "أُحب هذه النظرة"، أغلقَتْ عينيها، استرخَتْ فى مقعدها. انتبهَتْ بعد دقائق.

 أكلَتْ ثلاث ثمرات فراولة، سَبْع حبّات لوز، أَعدّتْ فنجان قهوة، شغّلَتْ من الحاسوب صوتًا طبيعيًا للبحر، جلسَتْ مع أوراق "الليل" فى منتصف السرير، مرّتْ برأسها الطفلة التى صحبَتها و"دوفو" فى الرحلة، قفز الكنجارو الرسّام أمام عينيها، تمنّت لو رأت كيف رسَمَها، ابتسمَتْ، رشفَتْ من القهوة، وفتحَتْ الأوراق.

 

الليل

بعد ما يمكن أن أُقدّره بثلاثة أيام من بداية بحثنا عن النهار لم نكن مضطرين إلى العودة لبيوتنا لأجل الطعام، ترَكَ البعض مطاعمهم ومحلاتهم للآخرين، كى يحصلوا على مواد غذائية، أو يُعدّوا وَجَبَات، هؤلاء أدركوا مبكرًا أن النهار لن يظهر فى وقت قريب، أو أنهم كانوا على استعداد أن يفعلوا ذلك دون سبب، البعض الآخر احتاج وقتًا أطول. 

صرنا نتواصل وجهًا لوجه، دون وسائط الكترونية، نتبادل عددًا أكثر من الكلمات، كأننا نكتشف أن لدينا لغة، وأصواتًا، وبإمكان كل منا أن يتبادل الحديث مع إنسان آخر لوقت أطول، كان غريبًا أن نسمع أصواتنا البشرية فقط، اختفتْ تكّات الأزرار، رنّات الهواتف، كل الأصوات الميكانيكية، الأغرب أننا اعتدنا الأمر سريعًا، ربما كان هذا طبيعيًا جدًا بالأساس. أتذكّر حالتنا قبل الحادثة، كنا نتواصل عبر الأثير والعوالم الافتراضية، يقضى الواحد منّا معظم حياته مُحدّقًا فى شاشة ما، أصوات الآلات والأزرار الإلكترونية أكثر بكثير من الأصوات البشريّة، أبتسم الآن وأنا أرى بيننا لمسات أو احتكاكات جسديّة عفوية، قبل الحادث كان يمكن لواحدة من تلك اللمسات أن تؤدى بأحدهم إلى السجن.

 أمشى بين الجميع، وأُنصِتُ، من الممتع أن أسمع هذا الكّم من الأصوات البشرية الخالصة.

 لم يمرّ وقت طويل حتى صارت كل البيوت متاحة، يمكن لأىّ أحد أن يدخل أىّ بيت ليرتاح بعض الوقت، ثم يخرج ليكمل البحث عن النهار، والمشى فى أحلام المدينة، أو ربما هى أحلام الليل نفسه، حتى جاءت لحظة شعرْتُ فيها أن أيًا منا ربما لن يعود إلى بيته ثانية، عندها، كان علىّ أن أزور بيتى لأحصل على بعض أغراضى، لكلٍ منّا شىء صغير لا يريد أن يتركه خلفه، أو يريد التأكد أنه قد تركه.

سألْتُ جدّتى عمّا تريد أن أُحضره لها من البيت.

 قالت "لماذا لا أذهب معك؟"

"لا تقلقى، أعود سريعًا"، كنت متحمسة لأفعل هذا وحدى، بلا سبب واضح، أظنّها رأت ذلك.

 قالت "حسنًا، حافظة أوراق زرقاء فى الدرج العلوى من مكتبى إلى اليمين" "أعرفها"

 لا أعرف لماذا نطقْتُها بهذه الثقة، ربما لأطمئنها.

 لم أكن أعرف عن الحافظة غير أن بها أوراقًا رأيت جدّتى تقرأها فى حادثتين لا أنساهما.

ترَكْتُ الجدّة عند مسرح "الباب الأزرق".

 قابلْتُ فى طريقى إلى البيت أشخاصًا يمشون فى جماعات صغيرة، أو بمفردهم، بَدَت الشوارع جديدة، قديمة، غريبة، ومألوفة فى الوقت نفسه، وصلْتُ إلى الميدان، وجدْتُ أفرادًا من المتشردين، صعدْتُ إلى البيت، أخرجْتُ المفاتيح من جيبى، تذكّرْتُ أن الباب مفتوح مثلما طلَبَتْ جدّتى أن نتركه قبل أن ننزل، دفعْتُه برفق، دخَلْت، رأيتُ أشخاصًا نائمين بطول الردهة، توقفْتُ، تساءلْتُ وأنا أُمرّر عينىّ عليهم، هل توقّعَتْ جدّتى ما سيحدث، وتركَتْ الباب مفتوحًا كى يدخل هؤلاء، وغيرهم؟ تذكّرْتُ عندما انتظرَتْنى أن أسألها لماذا تريد أن نترك الباب مفتوحًا، لتخبرنى عن هذا؟ ربما الأمر فى النهاية أبسط مما أفكر فيه، ولو أنها بالفعل تركَتْ الباب مفتوحًا لأجل أن يدخله عابرون، فلا بد أن تكون سعيدة الآن.

 أما أنا، انزَعَجْت.

 مشيتُ بينهم بحرص، شموع جديدة موزعة فى البيت، أدركْتُ أنهم من أشعلوها، نظرْتُ فى وجوههم عن قُرب، لم أعرف أيًا منهم، شعرْتُ عند منتصف الردهة بأنفاس تلامس ظهر يدى، توقفْت، كان رجلاً عجوزًا، نائمًا جدًا، مستلقيًا بظهره إلى الحائط، غائصًا فى جيب الكون، هَشًا، وقابلاً للفناء فى أيّة لحظة، اهتزّ شىء بداخلى، وتلاشى غضبى، لم يكن غضبًا، كان انزعاجًا فقط مثلما سمّيته من قبل، تلفّتُ حولى، سمعْتُ تنفسّهم من جديد، كأنى لم أسمعه بمجرد دخولى، شعرْتُ أنى هشّة، كان هذا جميلاً، وجدتُنى متعاطفة، حنونًا، أحببْتُ وجودهم فى بيتى، مرّرْتُ عينىّ عليهم من جديد، ببطء هذه المرة، شكرًا لأنكم هنا، مشيْتُ إلى حجرتى، رأيت "بلوبا"، الروبوت، فى مكانه بعمق الردهة، وبيده قطعة الشيكولاتة، لوّحْتُ له.

 توقفْتُ فى فتحة باب حجرتى، رأيتُ شابة نائمة فى سريرى، لا يمكننى القول إن ما شعرْتُ به كان انزعاجًا أو ترحيبًا، أقول: ارتبَكَتْ مشاعرى، لأنى لا أعرف وصفًا لما شعرْتُ به، كنتُ لأول مرة أرى شخصًا نائمًا فى سريرى، حتى جدّتى لم تفعلها، تجمّدْتُ مكانى وأنا أراقب الفتاة، القمر قريب من النافذة المفتوحة، تجاهلَ كل شىء فى الحجرة وسكَبَ نوره عليها، يمكننى القول أنه لم يسكبه كله، إنما حَبَسَ جزءًا منه بداخله مثلما نحبسُ أنفاسنا، كى لا يزعجها، بدَتْ لى طافية، أو حلمًا رأيته مرة، لم يكن غيرها بالحجرة، أو أنى لم أرَ أحدًا، شعرْتُ بها تتسلل إلى داخلى، أعجبنى هذا.

لم أتوقّع أنّ منظرًا لشخص نائم فى سريرى يكون بهذا الجمال.

جلسْتُ على طرف السرير فى المساحة المظلمة، نظرْتُ إلى فتاتى بحرص، حتى إن بصرى توقّف فى المسافة إليها عدّة مرات كى لا يصدِمَ وجهها، بعض خصلات شعرها تُغطّى جانبًا منه، لون شفتيها أزرق سماوى، بالكاد لاحظْتُ تنفّسها، شمَمْتُ منها رائحة لم أشمّها من قبل، لكنى عرفْتُ أنها نوعًا من فاكهة ما، واحدة من المرات التى تعرف فيها شيئًا ولا تعرف كيف عرفته، فكّرْتُ أنها فاكهة لا وجود لها، فقط رائحتها موجودة فى العالم من خلال هذه الفتاة، تأمّلتُ جسدها الهشّ، شعرْتُ للحظة أنى أنظر إلى نفسى نائمة، أوشكْتُ أن أزيح خصلات شعرها لأرى وجهها، خشيتُ أن أزعجها، حرّكْتُ يدى فى الهواء بطول جسدها كأنى أمسح عليه، لا يفصلنى عنه غير خيط وهمىّ تسبح فيه روحها، ارتعشَتْ أطراف أصابعى. أعرف هذه الرعشة، وأحب كل ما يوصّلُنى إليها.

انتهيتُ من ملامسة روحها، ضمَمْتُ يدىّ بين ركبتىّ، أطبقْتُ عليهما، ظللْتُ أتأمّلُ فتاتى، شعرْتُ أن بينى وبينها رابطة قوية لمجرد أنها نائمة فى سريرى، كان إحساسًا عميقًا جدًا، ليس حبًا أو شيئًا أعرفه.

 يُمكنكَ أن تُشارك الآخرين الطعام آلاف المرات، لكن كم مرة تدخل حجرتك وتجد شخصًا نائمًا فى سريرك، المئات لهم اسمك الأول نفسه، لكن كم مرة تصادف شخصًا يحمل تاريخ ميلادك، ربما تمرض بمرض يُصيب آلافًا غيرك، لكن كم مرة تتبرّع بدمك أو عضوًا من جسدك لشخص ما، هذه التفاصيل قد تفعل بنا أشياء كبيرة.

 فتاة عابرة وجدتُها نائمة فى سريرى، صارت روحًا أخرى لى فى هذا العالم.

 راودَتنى الرغبة ثانية أن أزيح شعرها عن وجهها، لكنى حسمْتُ الأمر، لن أفعل، لستُ فى حاجة لذلك، كنتُ متأكدة أنى سأعرفها لو صادفتها فى أىّ زمان أو مكان، تمنّيتُ أن تحصل على أهنأ نوم يمكن أن يحصل عليه إنسان، ونهضْتُ لأجمع الأغراض التى عدْتُ لأجلها.

انزلَقَ بعض نور القمر من جسد الفتاة لينير لى، يتحرك معى ولا يكشف إلا ما أريد رؤيته، كأنه يعرف ما أفكر فيه، فتحْتُ دولابى، اخترْتُ حقيبة ظهر كبيرة تتّسع لأغراضى وأغراض جدّتى، حتى أحملها وحدى طوال الوقت ولا أُتعِبُها، وضعْتُ فيها خيمة قابلة للطىّ، زِمزميّتَين للماء، هل طلبَتْ جدّتى ذلك أم أنى أفعله بدافع منى؟ لا أذكر، أخذْتُ بعض ملابسى، أوراقًا، أقلامًا، قدّاحة، مشابك للشعر على شكل فراشة، نحلة، كمانًا، وردة، ليس لأستعملها بالضرورة، أحبَبْتُ فقط أن تكون معى، صورة تجمعنى وجدّتى داخل إطار خشبى أحمر داكن، كنت فى بداية دراستى الجامعيّة، وجدْتُ فى الثلاجة ثلاث قطع شيكولاتة، أخذْتُ اثنتين، وتركْتُ الثالثة للفتاة النائمة فى سريرى.

 غادرْتُ وبيدى الحقيبة إلى حجرة جدّتى، نور القمر يدخل من النافذة المفتوحة، الأرض مزدحمة بأشخاص نائمين، تتمدّد فى السرير امرأة تحضن طفلاً من ظهره، دخلْتُ وأنا أبحث عن موضع لقدمىّ، توقفْتُ عند السرير، تأمّلتُ المرأة، أربعينية على ما يبدو، عيناها مغلقتان، يدها تمسح رأس الطفل، صدّقتُ أنها نائمة، فكّرْتُ أن ألمس يدها، لكنّ صوتًا بداخلى قال إن النهار سيظهر لو فعَلْت، وينتهى كل شىء، شعرْتُ أن الأمر جدىّ، الخيار لى، يمكننى الآن أن ألمس الأم أو طفلها فيظهر النهار، يعود كل شىء إلى طبيعته، أستعيد حاسوبى، أو أمتنع عن لمس أىّ أم أو طفل، أضع فى حقيبتى بعض ملابس جدّتى، حافظة أوراقها الزرقاء، ويبقى العالم مثلما هو الآن، لا أعرف عنه شيئًا.

قبل أن أغادر البيت توجهْتُ إلى "بلوبا"، نظرْتُ فى عينيه.

 "أهلاً صديقى، سأغادر"

 فكّرْتُ أن أكتب له رسالة، فضّلتُ ألا أفعل، أتصلُ به إذا عادت الأمور إلى طبيعتها، أين أكون وقتها؟ اعتذرتُ له لأنى لن أتمكن من اصطحابه معى.

 "أتمنّى أن أراك قريبًا، ما زلت أريد قطعة الشيكولاتة"

تركْتُ باب البيت مفتوحًا، تذكّرْتُ فى الشارع أنى نسيت أن أُودّع حجرتى، لم أفعل معها والفتاة النائمة فى سريرى أىّ شىء يتعلّق بالوداع، ربما لأنى لم أحب توديعهما بالأساس، "هذا أفضل"، قلت لنفسى.

وصلْتُ إلى جدّتى عند مسرح "الباب الأزرق"، كِدْتُ أسألها إن كانت قد عرفَتْ مسبقًا، أو حتى خمّنَتْ أن هناك مَن سيدخل البيت فى غيابنا، لهذا تركَتْ الباب مفتوحًا، شعرْتُ أن فى الأمر لعبة، وأنى أنسحب منها أو أُوقفها لو حصلْتُ على إجابة لأسئلتى، فضّلْتُ أن يستمر اللعب.

خلَعَتْ جدّتى الحقيبة من ظهرى.

 قلت "تعمّدْتُ أن أضع أغراضنا فى حقيبة واحدة كى أحملها ولا أُتعبك بها"

 لم تَرُد، وضَعَتْ الحقيبة على ظهرها.

 قلت "نتبادل حَمْلها"

 ابتسَمَتْ، ونظرَتْ إلىّ ثوان.

 قالت "لا أعتقد"

مشينا.

 رائحة الشيكولاتة الخفيفة التى لا تفارق جدّتى.

 شعرْتُ بارتياح كبير وأنا أفكر فى كل الأسلحة التى لا بد تعطّلَتْ، البنادق، القنابل، المسدسات، الطائرات، المدافع، السفن، الغواصات، الصواريخ، كلها صارت مجرد قِطَعًا من الخردة.

لا أحد يستطيع الآن أن يراقبنى، لا أحد فى العالم يمكنه الوصول إلىّ، كما لا يمكننى الوصول إلى أحد، الهواتف، المواقع الإلكتروينة، الطنين، دقّات الأزرار، المربعات الأثيرية، الشاشات، مات كل هذا الضجيج.

 لم أشعر بالحرية فى أىّ وقت مثلما أنا الآن.

 لا أتوقّع أحدًا، ولا أحد يتوقّعنى.

تساءلْتُ مع نفسى، ماذا حدث؟ هل يمكن أن يكون والليل النهار قد مَلاّ حضورهما وانصرافهما فى مواعيد محددة كل يوم، وأرادا أن يفعلا شيئًا جديدًا، أو أن الرغبات البشرية الكثيرة والمتناقضة سبّبَتْ لهما ارتباكًا، وجعلتهما يتصرفان بشكل خاطئ دون قصد، أو أنهما يتعمّدان أن يُعاقِبا البشر على رغباتهم التى لا يتوقفون عن إطلاقها فى العالم، فكّرْتُ، لو أن البشر جميعًا، وفى اللحظة ذاتها، توقفوا عن الرغبة فى أىّ شىء لمدة دقيقة واحدة، ما هى درجة الخفّة التى سيكون عليها العالم خلال هذه الدقيقة؟

استبعَدْتُ أن تكون رغبات البشر سببًا فى الحادث، هم لم يتوقفوا عن إطلاقها طوال الوقت، ولم يظهر فى أداء الليل والنهار ما يدل على غضبهما، إنما يتفهّمان هذه الرغبات وتناقضاتها، ويبدو واضحًا فى أحيان كثيرة أن هذه الأشياء تحديدًا تُسعدهما.

هل يكون ما حدث ردًا من الليل والنهار على تجاهلهما، وعدم تقديرهما، يؤديان عملهما منذ سنوات طويلة، يأتى كلٌ منهما فى موعده ويغادر دون أن يشعر به البشر، أو يهتموا، يمارسون حياتهم بشكل يومى، ينامون ويستيقظون آلاف المرات، يفعلون آلاف الأشياء، ينطقون آلاف الكلمات، ليس من بينها شيئًا يدلّ على الامتنان لوجود الليل أو النهار، وتفانيهما فى الحضور كل يوم، بكل هذا الجمال، مهما كانت الظروف، لا يسمع أىّ منهما كلمة ترحيب واحدة، لا أحد يبتسم للنهار ويقول "أهلاً بك نهار"، أو يداعب الليل "شكرًا ليل لأنك موجود"، ربما قليلون يفعلون ذلك أحيانًا، لكنه يظل غير كاف.

 استبعَدْتُ هذا أيضًا، واضح أن الليل والنهار لا ينتظران أىّ مقابل، لو كانا يفكران بهذه الطريقة لحدث الأمر منذ مدة طويلة، ولو مرة واحدة.

بمرور الوقت، تماهى الجميع مع حالة الليل، حَسْب ما بدا لى، لم نغضب لأن أحدًا لم يأت لمساعدتنا، كأن شيئًا بداخلنا يرغب أن نستمر فى هذه التجربة، هل بإمكان أحد أن يساعد فى مثل هذا الموقف بالأساس، أعتقد أن كل شخص الآن يحتاج إلى مساعدة ما، أُرجّح أن الأمر حدث فى مدن وبلاد أخرى، لا بد أن النهار يغطى الآن جزءًا كبيرًا من العالم، فكّرْتُ أن الوضع فى جانبنا مُمتع للمتشردين، سيحبون أن يستمرّ الليل بلا نهاية، لكن ماذا عن مُتشرّدى الجانب النهارىّ من العالم، ماذا يمكن أن يحدث لهم؟

 تتلألأ أرواح المتشردين فى الليل.

البحر أول ما أذهلنى، وجدْتُ نفسى بمواجهته، كأنه يختبئ لى خلف شجرة، أو فى انعطافة شارع، ابتسمْتُ له، أكون سعيدة لو ظهر لى من تحت ملابسى، كان مهتاجًا، كأن به شهوة غامضة، رأيته يندفع فى موجات متتالية باتجاه السماء، تمتزج كل موجة منه بجزء منها، حتى انتقل كله إلى هناك، إلا أن هذا الهُناك لم يكن فيه بحر أو سماء، إنما مزيج منهما، يمكن تسميته بحر- سماء، أو سماء- بحر، تحوّل سقف الدنيا إلى أمواج سما- بحريّة، زرقاء، تتقلّبُ فيها نجوم وقوارب، يسبح القمر بينها لبعض الوقت بحالته الطبيعية ثم يتحوّل شابًا له جسد زَلِق مثل سمكة، مرة قمرًا، وأخرى شابًا، امتزج صوت البحر بصوت السماء، صَنَعَا معًا، يا للجمال، صوتًا رأيته بعينىّ، تساقطَتْ منه عملات نقدية خفيفة بلون الفضة، منقوش على أحد وجهيها ما بدا لى أنه صوت السماء، وعلى الوجه الآخر صوت البحر، تأمّلْتُ هذا كله وروحى تهدر بداخلى، كان ما أتأمّله قريبًا منى، شعرْتُ أن نصفى سماء ونصفى الآخر بحر، حتى بدأ كل شىء يرتفع تدريجيًا وغاب عن عينىّ، لكنّ رذاذًا أزرق ظَلّ يتساقط وينثر فى الليل نورًا خافتًا.

 لا أعرف متى انتبهْتُ على أصوات تنادينى من الأرض التى تركَها البحر، رأيت بمدى عينىّ رمالاً ملوّنة بدرجات لا نهائية من الأزرق، كانت بمستوى الأرض التى أقف عليها، كأنما صعَدَ قاع البحر، أسماك كبيرة تضرب بذيولها بحثًا عن بحرها، وتنفثُ من خياشيمها دفقات هواء مُبلّل، أسماك صغيرة ترتعد من البرد، سفنًا قديمة، بحّارة يهتفون لى بلُغات لا أفهمها، ويقذفون باتجاهى قِطَعًا من ملابسهم، غرقى من جميع الأعمار ينهضون بأجساد زرقاء جميلة، يقفزون بخفّة فوق صخور ملساء لا يكادون يلمسونها، أشجارًا يسيل بينها زبدٌ دون موج، حيوانات لها فراء، وأخرى بجلود لامعة، طيورًا بأحجام ضخمة، وأخرى صغيرة، تُحلّق ولا تتجاوز حدود أرض البحر، عُمّالاً يبنون بيوتًا من خشب، قطارًا قديمًا راقدًا على جَنْبه ويتنفس، فرقة موسيقية، سيرك، جنازة، حفل زفاف جماعى، بلاد كاملة تمتد أمامى.

 تقدّمْتُ خطوة، قبضَتْ يدٌ على ذراعى، أعرف فيما بعد أنها جدّتى، تحرّرتُ منها، تقدّمْتُ خطوة أخرى، انحنيتُ لألمس الأرض الزرقاء، شعرْتُ أنى لمسْتُ ما تحت جلد البحر، وأنه لمسَ ما تحت جلدى، أغمضْتُ عينىّ لحظة، أو ألف عام، لا أعرف، وعندما فتحتهما رأيت البحر قادمًا من بعيد، لم أستطع أن أُحوّل عينىّ عنه، أزرق، يملأ الدنيا، فتحَتْ الأسماك زعانفها، خياشيمها، أطلقَتْ السفن أبواقها، أشرعتها، هَلّلَ البحارة، اعتدل القطار واقفًا ونفَثَ دفقات من رذاذ الماء، تقافز الغرقى بخفّة أكثر، الطيور، الحيوانات، الكل ينتظره، غمرَهم بسرعة، كنت أنتظره، أريد أن أُجرّب ما يشعرون به، لا بد أن شيئًا جميلاً يحدث لأرواحهم هناك، لكنى لم أتقدّم خطوة واحدة، هو ما يحدث لإنسان يرى جمالاً مُرعبًا، أو رُعبًا جميلاً، لا يستطيع أن يقترب منه أو يبتعد، فقط يبقى فى مكانه، وينتظر.

 البحر قادم باتجاهى، سمعْتُ أجمل ما فىّ يقول له "أنت جميل"، شعرْتُ أنه يملأ الوقت والمكان، لم يكن ضِمْن حدود بصرى، كان بصرى ضِمْن وجوده، مستعدة ليأخذنى، لكنه لم يفعل، رأيته ينتهى عند قدمىّ زبَدًا رهيفًا، لمسْتُه بيدى، بللّتُ شفتىّ به، نظرْتُ إلى السماء، مغسولة، قمرها مكتمل، نجومها لامعة، كأنما خُلِقَ العالم لتوّه.

 

(4)

      استيقظَتْ "سيمويا" عند الرابعة والنصف صباحًا.

شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا جيتار مع مطر خفيف، تحمّمَتْ وهى تفكر فى بحر أوراق "الليل" الذى امتزج بالسماء.

تناولَتْ إفطارها، ارتدَتْ تى- شيرت أصفر مرسوم على صدره وعول، بنطلونًا بُنّيًا أحمر، وضعَتْ الهاتف فى أحد جيوبه الكثيرة، أحاطت خصرها بحزام العمل العريض، علّقَتْ فى كتفها حقيبتها القماش الصغيرة، وخرجَتْ.

وقفَتْ أمام خيمتها، السماء بنفسجية شفّافة، نسمة باردة مُحبّبة تروح وتجىء، ألقَتْ نظرة على خيمة "دوفو"، مَشَتْ إلى الصحراء الزرقاء، توقفَتْ عند حدودها، رأت سفنًا قديمة، قوارب محطمة، هياكل أسماك ضخمة، التقطَتْ حفنة من الرمل، مُبلّل، ليس أكثر ولا أقل مما كان عليه بالأمس، تركَتْه يتسرّب من بين أصابعها، نظرَتْ بامتداد الأزرق، تمنّت لو يُسمِعُها البحر صوتَه، يلمسها برذاذه، كانت تعرف أنه موجود هناك بطريقة ما.

تخيّلَتْ منظرًا البحر وهو يصعد إلى السماء تاركًا قواربه وأسماكه، تساءلَتْ إن كان ما قرأتْه فى أوراق "الليل" قد حدث هنا، لكن ما قرأتْه يقول إنه حدث فى مدينة ما، لا يهم، ربما مرّ وقت كاف لتتحوّل المدينة إلى صحراء أو أىّ شىء آخر، ولو أنّ الأمر حدث هنا بالفعل، أين كانت تقف الفتاة "بينورا"؟ تلفتَتْ "سيمويا" حولها، نظرَتْ بين قدميها، هل كانت "بينورا" تقف هنا، مكانى؟

أغلقَتْ عينيها لحظات، فتَحَتْهما، رأت قوس الشمس البرتقالى يبزغ من بعيد، سمعَتْ صوت "دوفو".

"صباح الخير سيمويا"

التفتَتْ خلفها، رأته على بُعد خطوات.

"صباح النور دوفو"

وقف إلى جوارها، تطلّع إلى الأفق.

قالت سيمويا "شجرة نبَتَتْ اليوم، كم طائرًا يمرّ بها؟"

فكّرَ "دوفو"، حرّكَ يده على شكل موجة.

ظهر "بيالو"، وأفراد من طاقم العمل، تبادلوا تحيّات الصباح، ودخلوا الصحراء الزرقاء.

 ابتعدَ "دوفو" و"سيمويا" عن الجميع.

 "أريد أن أرى القبطان وبحّارته وهم هياكل عظمية"، قال "دوفو".

بحثَتْ "سيمويا" فى هاتفها عن إحداثيات موقع السفينة.

وَصَلا إليها.

توقّفا عند سُلّمها المتهالك.

قالت سيمويا "اسمح لى أن أصعد قبلك، وانتبِه أثناء صعودك"

وصلَتْ إلى ربع السلم تقريبًا، بدأ "دوفو" صعوده، شعرَ بالخشب يزوم تحت قدميه، تحرّكَ بخفّة أكثر وحافظ على المسافة بينه وبين "سيمويا" حتى لا يُمثّلا ضغطًا زائدًا.

 وَصَلا إلى سطح السفينة.

تطلّعا إلى الصحراء الزرقاء ليتأكدا أنها لم تتحوّل بحرًا، اتجهوا إلى الهياكل العظمية، نظروا فيها عن قُرْب.

قالت سيمويا "يبدون لك كنائمين؟"

"أحاول أن أُتعرّف عليهم"، توقفَ عند أحدهم، دقّقَ فيه النظر.

قال "أعتقد أنه مَنْ عَقَدَ الحبل حول خِصرى فى الزيارة السابقة"

انتقلا إلى مقدمة السفينة، دار "دوفو" حول هيكل عظمىّ يتشبّث بدفّة القيادة، وينظر إلى الأفق، تأمّلَ فراغ عينيه الواسع بأكثر من المعتاد، وفمه المفتوح قليلاً.

"البحّار المذهول"، قال "دوفو".

"انتبِه لما تقول، أتوقّع أن يُحدّثنا عن زيارتنا تلك عندما نلتقيه ليلاً"

نظرَ "دوفو" إلى النقطة التى فى تقديره ينظر إليها القبطان.

"أتساءل، ما آخر شىء رآه قبل أن تغرق سفينته"

"تعتبره غريقًا؟ مَنْ أبْحرَ بنا الليلة الماضية؟"

"ومَنْ يُبحِر بنا الليلة؟"

نَزَلا إلى الطابق العلوى فى السفينة.

 رأى "دوفو" حجرات النوم ذات الأبواب المُحطمة، وفى الطابق الثانى الفرقة الموسيقية المُتَيبسة، عازفة الكمان الشابة، عازف الأكورديون، نظرَ من الفراغ الموجود بأرضيّة الطابق الثالث إلى قعر البئر المُبلل بالماء.

عادا إلى السطح.

توقّفا عند مقدمة السفينة، تطلّعا إلى الصحراء الزرقاء.

قالت سيمويا "تعتقد أن البحر كان هنا يومًا وغادر؟"

"كما تعرفين، يمكن اعتبار كل صحراء بحرًا، إما كانت أو ستكون، إلا لو كنت تفكرين فى بحر معين"

انتبهَتْ إلى أنها بالفعل تفكر فى بحر أوراق "الليل"، وتعتبر أنه كان موجودًا هنا تحديدًا.

قالت "أفكر أن البحر الذى كان هنا لم يغادر بطريقة عادية، إنما صعدَ إلى السماء"، ونظرَتْ عاليًا.

أكملَتْ "امتزج بها، وعاد إلى الأرض"

حرّك "دوفو" يده على شكل موجة.

قال "سهل، كل شىء ممكن، لكنّى لا أفكر فى هذا كاحتمال أول، إلا بدليل"

نظرَتْ "سيمويا" إلى الأفق، رأت الكنجارو الرسّام فوق مقدمة سفينة قديمة، يرسمهما، لمعَتْ عيناها.

"الكنجارو الرسام"، وأشارت إليه أن ينتظر.

هتفَتْ "لا تهرب، فقط أريد أن أرى الرسم"

غادرَتْ و"دوفو" سفينة القبطان المذهول، رأيا الكنجارو ما يزال فى مكانه.

"انتظر كنجارو"، هتفَتْ "سيمويا".

راقبهما لحظات وهما يجريان إليه، أمال رأسه على كتفيه يمينًا ويسارًا، أعاد كراسه وقلمه إلى حقيبته، تركَ مكانه، ظهرَ بعد لحظات واقفًا بجوار سفينته كأنه ينتظرهما، توقّفا على بُعْد أمتار قليلة منه.

قالت سيمويا "فقط أريد أن أرى الرسم، لماذا لا نكون أصدقاء؟"

اقتربَتْ خطوتين، ابتسمَتْ.

"صدقنى، أنا بنت لطيفة، اسمى سيمويا، ما رأيك؟"

ابتسمَ الكنجارو.

"أرأيت، أنتَ تبتسم"

أمال رأسه يمينًا ويسارًا، لوّح لها، قفز مُبتعدًا، جَرَيا خلفه، كان يبطئ من سرعته كلما ابتعد عنهما، دخلَ بين مجموعة صخور زرقاء، ظَلّ يظهر ويختفى وهما يتبعانه، وجدَا نفسيهما فى طريق واسع، أرضه مفروشة بكسرات صغيرة من حجارة ملوّنة، تتفرع منه شوارع تراصّتْ على جوانبها بيوت خشبية صغيرة، ألوانها متساقطة، توقفَا، تلفّتَا حولهما، لم يجدَا الكنجارو، تطلّعَا إلى البيوت.

 قالت سيمويا "تُذكركَ بشىء؟"

 "الأرض التى دخلناها فى سفينة القبطان، أحب هذا اللعب"، قال "دوفو" ونَقَلَ عينيه بين البيوت.

 "أيّها فى رأيكِ بيت الطفلة الصامتة؟"

 نظرَا معًا باتجاه بيت به بقايا ألوان برتقاليّة، مشيَا إليه، رأيا فى بابه نقشًا لفراشة زرقاء، دفَعَتْه "سيمويا" بأطراف أصابعها، ظهرَ على بُعد خطوات باب من خشب أخضر، يتسرّب من أسفله قوس قزح، تقدّما إليه، فتحَتْه "سيمويا" على مهل، وجدَا حقلَ ورود مُتفتحة يمتد بلا نهاية، طارت منه فراشات باتجاه سماء بلون الغروب، نظَرا خلفهما، رأيا نور الشمس الفضىّ خارج البيت، ظلّتْ الفراشات تنطلق من الورود بلا انقطاع، وتتزايد، لم يستطيعا دخول الحقل.

جلسا فى فتحة الباب، يتفرّجان على الفراشات الملوّنة وهى تندفع إلى البرتقالىّ.

 مرّ وقت كأنه لحظة أو أيام.

قالت سيمويا "والآن ماذا؟"

"أعتقد أن الفراشات تعود إلى الورود بعد أن نغادر"

عادا إلى داخل البيت، أغلقَتْ "سيمويا" الباب الأخضر، سَمِعَا رفيف أجنحة الفراشات يقترب ويتزاحم كأنما يهبط من مكان مرتفع، ثم يخفْتُ تدريجيًا، حتى سكنَ تمامًا.

"عادت الفراشات إلى الورود"، قال "دوفو".

رأيا بابًا لم يكن موجودًا عند دخولهما، لونه أصفر، يتسرّب من أسفله نور أزرق، اتجها إليه، فتحَتْه "سيمويا"، وجدَا الصحراء الزرقاء، مشيا فيها بشكل عشوائى.

 مرّرَتْ "سيمويا" عينيها على السماء.

"قل لى دوفو، ماذا تفعل لو اختفى النهار؟"

"ماذا تقصدين؟"

 "أقصد أن تنام ليلاً، ولا تجد النهار عندما تستيقظ، يصير العالم، عالمك على الأقل، ليل مستمر" 

تطلّعَ "دوفو" إلى العالم حوله.

قالت سيمويا "ليس هذا فقط، تتوقف أيضًا كل الساعات، تتعطّل الأضواء، السيارات، القطارات، الطائرات، وتفقد حاسوبك وهاتفك"

"لماذا يحدث هذا كله، ولماذا أنتِ بهذه الجدية، كأن الأمر حدثَ فعلاً؟"

ارتبكَتْ "سيمويا" لحظة.

"فقط أخبرنى، ماذا لو أنه حدث؟"

فكّر "دوفو".

"أعتقد أنه سيكون فرصة جيّدة للعب"

"أنت لا تنتظر الفرص كى تلعب دوفو، أنت تلعب فى كل الأحوال"

"وما رأيكِ؟"

ابتسمَتْ.

"تعرف أنى أحب هذا"

"حسنًا، لنجرّب لعبة"

ابتعدَ عنها أمتارًا قليلة، نظرَ فى أحد الاتجاهات، نادى بأعلى صوته.

"سيموياااااا"، ترَدّد صداه عدّة مرات.

 ابتسمَتْ "سيمويا".

"جَرّبى"، قال "دوفو".

تلفّتَتْ حولها لتختار اتجاهًا، فكّرَت لحظة فيمن تنادى.

"أنادى جدّتى"، سحبَتْ نفَسًا عميقًا.

هتفَتْ "فريليااااااا"، أنصتَتْ لصدى صوتها، ضحِكَتْ فى نهايته.

قالت "أنا مرة أخرى"، أخرجَتْ دفقة هواء.

"قبطاااااااان"

فتحَ "دوفو" ذراعيه، ودار حول نفسه.

هتف "كنجارووووووو"

سيمويا "بينوراااااااااا"

دوفو "جَبَااااااااااال"

"بااااااااااحْر"

"سماااااااااااا"

"مطااااااااااااار"

"ألعاااااااااااااب"

"شيكولاتااااااااا"

"موسيقااااااااااا"

نظرَتْ "سيمويا" حولها كأنما تبحث عن اسم تناديه، ارتبكَتْ قليلاً.

"دَوْركِ"، قال "دوفو".

هزّتْ كتفيها.

"حاولى"

هتفَتْ "سأحاوييييييل"، وضحكَتْ.

تحوّلَتْ بشرة الشمس إلى البرتقالى، غادرا الصحراء الزرقاء.

 توقفا عند خيمتيهما.

قال دوفو "أراكِ على العشاء، كونى مستعدة لرحلة القبطان"

تحمّمَتْ "سيمويا"، سجّلَتْ معلومات جديدة فى ملف "النقطة الزرقاء"، استلقَت فى السرير لما يقرُب من ساعة، ارتدت قميصًا بلون موسيقا البحر، وبنطلونًا أخضر داكنًا، التقطَتْ هاتفها، ذهبَتْ إلى خيمة الطعام، وجدَتْ طاقم العمل والطيّاريَن، حَيّتْ الجميع، وجلسَتْ بجوار "دوفو".

تحدثوا عن الصحراء الزرقاء خلال العشاء، واستمرّ حديثهم لما بعده، نظرَتْ "سيمويا" إلى ساعتها، مالت على "دوفو".

قالت "القبطان فى انتظارنا"

استأذن "دوفو" فى الانصراف، قال إنه و"سيمويا" سيزوران الصحراء الزرقاء مرة أخرى.

"حظًا سعيدًا لكما"، قال "بيالو".

فى الصحراء الزرقاء، تطلّعَتْ "سيمويا" إلى القمر.

"ألا يبدو أكبر مما هو عليه بالخارج؟"

"وأقْرَب"، قال "دوفو". 

تتبّعا إحداثيات السفينة فى هاتف "سيمويا"، ظهرَتْ فى مدى رؤيتهما، جريَا حتى توقّفا عند سُلّمها، التقطا أنفاسهما وهما يتطلّعان إليها.

 أشارت "سيمويا" بيد مفتوحة إلى السلّم.

"دورك لتصعد أولاً"

وَصَلا إلى سطح السفينة.

استعادت حياتها.

سمِعَا صوت البحر، ظهَرَ البحّارة وهم يهتفون.

"سيمويااااا، دوفووووو" 

كانوا جديدين، مُبلّلين، يفوح منهم اليود، كأنهم خُلِقوا من البحر للتوّ.

نظرَ "دوفو" و"سيمويا" إلى مقدمة السفينة، رأيا القبطان المذهول ينتظرهما فاتحًا ذراعيه، ذَهَبا إليه، ضمّهما معًا إلى صدره.

"عُدتما سريعًا"

 "ماذا كنتَ تتوقّع، وقعْتُ فى غرام عينيك"، قالت "سيمويا".

ابتسمَ القبطان.

"أُحب هذا الكلام"، نقلَ عينيه بينهما.

"مستعدان؟"

نظرَتْ "سيمويا" إلى البحر، فتحَتْ ذراعيها.

هتفَتْ "أناااا جاااااهزة، ياااا بحر"

ضربَتْها موجة، امتلأ جوفها بروح البحر.

أدار القبطان الدفّة دورة كاملة، طارت السفينة فوق موجة عالية.

"أُمتعكما الليلة"

قالت سيمويا "أَنزل البحر أولاً أنا ودوفو؟"

"ارجِعا بسرعة"

 جَريا إلى البحّارة.

 "أريد حبلين، سننزل البحر"، هتفَتْ "سيمويا".

 خلعَتْ قميصها، ظهرَ سوتيانها الأزرق، هَلّل البحارة، ألقَتْ القميص إلى أحدهم، شمّه وضمّه إلى صدره، خلعَتْ البنطلون، صَفّر البحّارة وهم يُحدّقون فى كيلوتها، هتفوا.

"أزرق، أزرق، أزرق"

 رفعَتْ يدها بالبنطلون، مدّوا لها أيديهم، طيّرته فى الهواء، اندفعوا إليه، تلقّفه أحدهم، قاسَه على نفسه وضَحِك، خلعَتْ حذءاها، نظرَتْ إلى "دوفو"، عاريًا إلا من اللباس الداخلى، ملابسه ملقاة إلى جواره، نظرَ إلى البحّارة.

"لا أعتقد أن أحدًا يريد ملابسى"

اندفع البحّارة إلى "سيمويا"، أمسكوا بها، تعمّدَتْ ألا تجعل الأمر سهلاً، تخيّلتْ نفسها سمكة، انزلقَتْ من أيديهم عدة مرات، ربط "دوفو" حبله حول خصره بنفسه، وقفَ فوق حافة السفينة، كاد يفقد توازنه، سلّمَتْ "سيمويا" نفسها للبحّارة، ربطوا حول خصرها عُقدة غير مؤلمة، رفعوها بجوار "دوفو"، ثبّتوها وهم يمسكون ساقيها، ضربَتْ بأصابعها على أيديهم، كادت تفقد توازنها، تأمّلَتْ البحر لحظات، نظرَتْ إلى "دوفو".

"أنا جاهزة"

 قَفزَا، غاصا عدّة أمتار، رأيا الأزرق صافيًا، تخدّرا لحظات، دَفَعَا بأقدامهما وصعدا إلى السطح، صفّرَ لهما البحّارة، سَبِحَا بمحازاة السفينة، بسرعتها نفسها، ظهرَتْ حولهما دلافين، سبحَتْ معهما لبعض الوقت، وابتعدَت، رأيا قوارب صغيرة فى كلً منها صيّاد بمجدافين، تظهر لهما وتختفى بين الأمواج، دخلَتْ جميعها من فتحة فى جانب السفينة، انقلَبَتْ "سيمويا" على ظهرها، رأت القمر يتحوّل إلى شاب عارٍ، يسبح فى مزيج موجٍ وسحاب، عادَ قمرًا، قفزَتْ إلى صدرها سمكة صغيرة، ملوّنة بالأحمر والذهبى، شعرَتْ بجسمها الرشيق، شمّتْ رائحتها البرّاقة، تقلّبَتْ السمكة مرتين سريعًا، ضربتها بذيلها ضربة خفيفة، وقفزتْ إلى الماء.

عاودَتْ "سيمويا" السباحة على بطنها، لمحَتْ عينى القبطان تنظران إليها من مقدمة السفينة، كبيرتان، تملآن العالم دهشة، شعرَتْ أنهما ابتلَعَتاها لحظة.

هتفَتْ للقبطان "أُحب"، امتلأ فمها بالماء، ابتلَعَته.

"هذه"، اندفعَتْ إلى فمها موجة أخرى، رفَعَتْ صدرها عاليًا.

"النظرة"، قالتها وعيناها فى عينيه، ابتسمَتْ، سمعَتْ صوته يهمس لها "سمعتُكِ"، ورأت ابتسامتَه، نظرَتْ إلى "دوفو"، أشارت برغبتها فى الصعود إلى السفينة، تسلّقَ كلٌ منهما الحبل خاصته، جذبهما البحّارة فى اللحظة نفسها.

أثناء صعودهما، رأيا فى الطابق السفلى للسفينة نوافذ من ضوء، كل نافذة بلون مختلف، وتُعطى انطباعًا بأنها شفافة، لكنها لا تكشف عما خلفها، شاهدا فى الطابق التالى أشخاصًا يرقصون، يغنّون، وفرقة موسيقية تتنقل بينهم، شابة تعزف الكمان، وشابًا يعزف الأكورديون، وفى الطابق العلوى شوارع لكلٍ منها لون مختلف، بيوت من ورق مُقوّى، مرسوم فيه بِحار، أسماك، وقوارب.

وصَلا إلى سطح السفينة، ارتديا ملابسهما، ذَهَبا إلى العينين المُذهلتين، المذهولتين.

قالت سيمويا "تغيّرَ ترتيب طوابق السفينة أيها القبطان، بالأمس كان طابق غرف النوم بالأعلى، الآن هو بالأسفل"

"تغيير، زيارة أخرى وتريان شيئًا آخر"، نقَلَ عينيه بينها وبين "دوفو".

"الآن، أنتما لى"

 أشار لهما ليقفا بجواره، وقفَت "سيمويا" عن يمينه، "دوفو" عن يساره، أدارَ الدفّة ثلاث دورات، انزلقَتْ السفينة فوق موجة، أمسكَتْ "سيمويا" بذراعه، دفَعَها.

 "اتركى نفسكِ للبحر"

 انطلقَتْ السفينة بسرعة كبيرة.

 قابلَهم ضباب برتقالى، دخلوه، قلّلَ القبطان سرعته، سمعوا مع صوت البحر حفيف أوراق أشجار، شمّوا رائحة منعشة كأن ألف شخص يُقشّرون ألف برتقالة فى اللحظة ذاتها، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" برذاذ القشر يلمس وجهيهما مثل نشوة، رأيا البرتقال يتطاير حول السفينة، ويعبر فوقها، كأن أشخاصًا يتبادلونه أو يلعبون به، حاولا أن يُمسكا بواحدة، يراوغهما البرتقال، ويسمعان ضحكات أطفال فى كل محاولة، ترك القبطان الدفّة، راقب البرتقال لحظات، قفز وأمسكَ بواحدة، قشّرها بيديه، اقتسمها مع "سيمويا" و"دوفو"، توقف البرتقال عن الطيران، تلاشى الضباب عدَا طبقة خفيفة على سطح البحر، لم يكن هناك أطفال أو أشجار.

خرجَتْ السفينة إلى الأزرق.

"انظرا خلفكما"، قال القبطان.

رأى "دوفو" و"سيمويا" الضباب البرتقالى يتكوّن من جديد.

"انظرا أمامكما"

رأيا مدينة طافية على مسافة قريبة، تتحرك فى مكانها بخفّة، بيوتها خشب ملوّن، شوارعها خشب بُنّى، تحرّكَتْ السفينة بمحازاتها على مهل، رأى "دوفو" و"سيمويا" ساحات للعب، أطفالاً يلعبون، سوقًا كبيرًا به أسماك وفاكهة، لم يلتفت أحد من داخل المدينة إلى السفينة، كأنها غير موجودة، البحر هادئ هناك، والقمر يُضيئها بشكل خاص.

 تجاوزَتْ السفينةُ المدينة، ظهرَتْ على مرمى البصر أمواج عالية، زُرْقتها لامعة، اتجه القبطان إليها بسرعة، اقتحمها واحدة بعد أخرى وهو يصرخ، رأوا على مسافة قريبة جبال قادمة باتجاههم.

 هتفَتْ سيمويا "جبال، أيها المذهول"، وضحِكَتْ.

"بحروووووو"، هتفَ القبطان، اندفعَ إلى الجبال، بعضها به أعشاب، أشجار، بِرَك مياه، تتحرك فيه غزالات، فهود، ماعز، خيول، وعول، بعضها الآخر به حيوانات، لكن بلا ماء أو عُشب.

 كانت حيوانات الجبال الجرداء تنتظر اللحظة المناسبة لتقفز إلى الجبال الخضراء، يسقط بعضها فى الماء، ويسبح حتى يصل إلى أقرب جبل.

نظرَ القبطان إلى "سيمويا".

هتفَ "عندكِ شغف؟"

"جدًا"، قالت بصوت مرتفع.

نظرَ إلى "دوفو".

"تحب اللعب؟"

"طبعًا"

"استعِدّاااااا"

دخل بين الجبال، أدار الدفّة بقوة، فقدَتْ "سيمويا" توازنها، تعلّقتْ بذراعه، دفَعَها، ضحِكَتْ، سقط حصان صغير من أحد الجبال إلى جوارها، صرخَتْ، راقبته لحظة وهو يحاول النهوض، اقتربَتْ منه.

"أنتَ بخير؟ هيا، انهض؟"

ألقى الحصان عليها نظرة، حاول النهوض، انزلقَتْ أقدامه، كرّر المحاولة.

مدّتْ يدها، أمسَكَتْ بأذنه وجذَبَتها كأنها توقفه.

"انهض"

أحاط "دوفو" رقبة الحصان بيديه وشدّه إلى الأمام.

"هيا، الآن"

وقف الحصان، اقتربَ من حافة السفينة، نظرَ إلى القبطان.

"أعرف ما تريد"، قال القبطان واقترب بالسفينة من جبل به عشب.

هتفَ "اقفز، الآن"

قفزَ الحصان إلى الجبل، أدار القبطان الدفّة فى اتجاه معاكس.

 كانت الجبال تتبادل أماكنها، يتفاداها المذهول بدورات سريعة من الدفّة وصرخات شبه مجنونة، انسجمَ "دوفو" و"سيمويا" مع اللعبة، صَرَخا مع كل انحراف للسفينة، فتحَا أذرعهما للموجات العالية، رأيا فى قاعدة بعض الجبال أهدابًا تساعدها على السباحة، البعض الآخر له زعانف من أصداف، محار، وذيل من ألياف الأشجار، جبال أخرى تسبح دون مساعدة.

 وقفَتْ بعض الحيوانات على حواف الجبال الخضراء، تمضغ العشب وتراقب السفينة، اقتربَ منها "دوفو" و"سيمويا"، شعرا بأنفاسها على وجهيهما، بعضها حار، والبعض بارد.

 لمَسَتْ "سيمويا" ظهر فَهْد، مسح "دوفو" رأس غزالة.

 سَمِعَا الجبال تنادى بعضها بعضًا وتضحك، نظرَتْ "سيمويا" إلى واحد منها ونادَته، التفتَ إليها، اندفعَ تجاه السفينة، هربَ منه القبطان، نادى "دوفو" جبالاً أخرى، اندفعَتْ كلها إليه، نظرَ إلى القبطان.

قال "اِلعب، أرنى مهارتك"

قهقه القبطان.

"أُحب هذا"

أدارَ الدفّة بسرعة كبيرة فى اتجاهات متعاكسة، تفادى الجبال، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "ما رأيك؟"

"أُحب، هذه، النظرة"

ابتسمَ القبطان بلمسة من خجل.

وصلوا إلى أمواج هادئة تلمع فى ضوء القمر، وقف "دوفو" و"سيمويا" عند حافة السفينة، تأمّلا الأفق، سَمِعَا صوت أقدام رشيقة تتقافز على الماء، تلفّتا حولهما، ظهرَ "الكنجارو الرسّام" وهو يجرى قريبًا منهما، لم يبدُ مهتمًا بهما.

 نادَته سيمويا "كنجارو، هنا"

ألقى عليهما نظرة عابرة، مرّ من أمام السفينة، واختفى.

 سَمِعَا رفيف أجنحة رقيقة، ظهَرَ سرب فراشات ملوّنة، اقترَبَ منهما، طار بمحازاتهما، مدّتْ "سيمويا" يدها لإحدى الفراشات.

 هَمَسَتْ "تعالى، تعالى"

 حَطّتْ الفراشة على يدها، رفعَتْها أمام عينيها، رأت أجنحتها مُنقّطة بالأحمر، الأخضر، الذهبى، وبينها فراغات ورديّة، كان لعينيها الألوان نفسها.

"أنا سيمويا"

تأمّلَتْها الفراشة كأنما تعدّ ألوان عينيها، عادت إلى السرب، قالت لهم شيئًا ما، ربما يكون اسم الفتاة الموجودة فى السفينة، وعدد ألوان عينيها، أو شيئًا آخر، اقتربوا جميعًا من الفتاة، نظروا فى عينيها لحظات، وابتعدوا.

انحرف القبطان بالسفينة، قابلَتْه دفعات من أمواج عالية، غَطّتْهم عدّة مرات، تجاوزها إلى مساحة هادئة، قلّلَ من سرعته، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "هذا لأجلكِ"، وأشار إلى الأمام.

وقفَتْ "سيمويا" عند آخر نقطة من مُقدمة السفينة، شمّتْ رائحة شيكولاتة خفيفة، تغيّر لون البحر إلى البُنىّ، نظرَتْ خلفها إلى القبطان، أومأ وابتسم.

قال "نعم سيمويا، شيكولاتة"

رأت الموجات البُنيّة تلمع فى ضوء القمر، سمعَتْها تضرب جوانب السفينة بخفّة، ويصدر عنها صوت عميق، بُنىّ، تطاير الرذاذ، رسَمَ أشكالاً فى الهواء، جلسَتْ على ساقيها، غمسَتْ يدها فى الشيكولاتة، غمَرَها حنان، انطلقَتْ منها آهة قصيرة، أغلقَتْ عينيها، أدخلَتْ رأس إصبعها الوسطى فى فمها، أطبقَتْ عليه بشفتيها، ارتعشَتْ، شعرَتْ ببلل خفيف فى سروالها الداخلى.

 خلعَتْ ملابسها كلها، وألقَتْ بنفسها عارية فى بحر الشيكولاتة.

غاصَتْ فى سبع درجات من اللون البُنّى، وسبع درجات من طعم الشيكولاتة، لها جميعًا الجوهر نفسه، صعدَتْ إلى السطح، سبحَتْ وهى تُحرّكُ ذراعيها على مهل، انزلَقَ جسمها كأنما تغوص فى حضن الشيكولاتة، مسحَتْ بيديها على جسمها كله، ملأتْها الرائحة، شعرَتْ أنها ذابَتْ وأُعيد تجميعها مرات عديدة، بكَتْ، ضحِكَت، غنّتْ، تكلّمَتْ بلغات لم تتكلم بها من قبل.

 انتبهَتْ على صوت القبطان يهمس لها.

"سيمويا، سيمويا"

رأته عند مقدمة السفينة، ابتسمَتْ، مدّ لها ذراعه.

"يكفى"

هزّتْ رأسها نفيًا.

"تعرفين كم من الوقت أمضَيتِه عندك؟"

"لا أريد أن أعرف"

"لأجلى أنا، لأجل هذه النظرة"، وفتَحَ عينيه عن آخرهما.

ابتسمَتْ، تطلّعَتْ حولها بمدى البصر، ملأتْ يدها بالشيكولاتة، رشَفَتْ منها رشفة واحدة صغيرة، أعادت البقية إلى البحر، سبَحَتْ إلى القبطان، أمسك بيدها، انزلقَتْ منه، ضحِكَتْ، أمسكَ بها ثانية، أفلتَتْ، تركَتْ نفسها لتغطس فى الشيكولاتة قليلاً، عادت إلى السطح، أشارت له ليتركها تصعد بنفسها، استندَتْ بيديها إلى حافة السفينة.

صعدَتْ والشيكولاتة تغطيها وتقطر منها.

دارت حول نفسها وهى تتفرّج على جسدها، ضحِكَتْ، نقلَتْ عينيها بين القبطان و"دوفو"، رفعَتْ سبّابتها.

 "لا يفكر أحدكما فى شىء، ولا لحْسَة واحدة"

ابتسمَ "دوفو"، وحرّكَ يده على شكل موجة.

قال القبطان "اتبعينى سيمويا"

مشى أمامها إلى وسط السفينة، توقّفا عند البحّارة، حدّقوا فيها، نقلَتْ عينيها بينهم.

"ماذا بكم؟ أيتها الهياكل العظمية"، قالت "سيمويا" وضحِكَتْ، نثرَتْ يديها على وجوههم، دوّخَهم رذاذ الشيكولاتة.

قال القبطان "نظفّوها"، لم ينظر إليه أحدهم.

 هتَفَ فيهم "بحّارة؟"

 أداروا وجوههم إليه بحركة بطيئة.

"نظّفوها، أيتها الهياكل"

قرّبَتْ "سيمويا" عينيها من عينيه.

"كأنكَ لستَ هيكلاً أنت الآخر"

"ما رأيكِ أنتِ؟"، مسَحَ شفتها السفلى بإصبعه الصغير، مَصّه، ومشى إلى مقدمة السفينة.

اقترَبَ منها البحَارة كأنهم مُنَوَّمين، جرَتْ منهم لتلاعبهم، لاحقوها، أمسكو بها، انزلَقَتْ من أيديهم عدَة مرات وهى تضحك.

 انكشفَتْ أجزاء من جسدها.

قالت "الآن أيتها الهياكل"، تركَتْ نفسها لهم.

وضعوها فى مغْطس خشبى ملىء بالماء. 

غادرَتْ السفينةُ بحر الشيكولاتة.

 عادت "سيمويا" إلى المقدمة، وقفَتْ بجوار "دوفو"، تطلّعَتْ إلى الأفق، حضَنَتْ نفسها بذراعيها، أغلَقَتْ عينيها، ظلّتْ على هذا الوضع لدقيقة، أخرجَتْ نفسًا عميقًا، وفتَحَتْ عينيها.

قال دوفو "أهلاً بعودتِك"

ابتسمَتْ.

"شكرًا دوفو"، نظرَتْ إلى القبطان.

سألَتْه "الآن ماذا؟"

"عندى متعة"، قالها القبطان بطريقتها عندما تقول: عندى شغف.

اندفعَ بالسفينة وسط أمواج قوية، بدأت النجوم تختفى واحدة بعد أخرى، اختفَتْ كلها وبقى القمر وحده، لون الليل أكثر عُمقًا، انحدرَتْ السفينة بين موجتين عاليتين، بدا أنها وصلَتْ إلى قاع البحر، صعدَتْ إلى السطح، لم يعُد هناك قمر، فقط ليل وبحر، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" بالبحر فوقهما وتحتهما، صوته يملأ الكون، يتردّد صداه عدّة مرات، ملح، زَبَد، رذاذ، رائحة بَحريّة، وأمواج زرقاء تَشعّ أحلامًا.

تنقّلَتْ السفينة بين درجات مختلفة من ألوان الليل، توقّفَتْ فى مساحة ساكنة، ليس بها موج، فقط يرتعش الماء بخفّة، صوت البحر بعيد كأنه وشيش، سحَبَ القبطان ذراعًا حديدية زرقاء بجوار الدفّة، بدأت السفينة تغطس ببطء، لم يتبق من جسمها على سطح البحر غير متر واحد، مشى القبطان إلى رأس المقدمة، فتحَ فى جانبها الخارجى بابًا عَرْضيًا، سحَبَ من داخله شريط فلّين، عَرْضُه مترين، طوله ثلاثة أمتار، وسُمْكه نصف متر، ألقاه على سطح البحر، وقفز إليه، أشار إلى "سيمويا" و"دوفو"، قَفَزَا، تمدّدَ القبطان على بطنه، حَدّقَ فى الماء، فَعَلا مثله، رأيا فى عمق البحر طبقات بألوان مختلفة، زرقاء، خضراء، حمراء، برتقالية، ورديّة، ذهبية، صفراء، بيضاء، بنفسجيّة، تكرّرَتْ الألوان بدرجات مختلفة، بدَتْ كأنها لن تنتهى، حتى رأيا طبقة مُعتمة، نفَذَ بصرهما منها إلى قاع مضئ، بَدَا قريبًا، كادا يمدّان أيديهما إليه، خَشِيَا أن يخدشا هذا الجمال، كأن كل شىء خُلِقَ للتوّ، أو أنه موجود منذ أول لحظة فى الوجود، انمحَتْ ذاكرتاهما، نَسيَا كل لحظة حزن وفرح، تلاشى الوقت والمكان.

 كانا ينظران مباشرة إلى سرّ البحر.

عادوا إلى السفينة.

 توقف "دوفو" و"سيمويا" عند المُقدمة، حدّقَا فى البحر، أدار القبطان الدفّة على مهل، دخل بين أمواج كبيرة، هادئة، ظهر القمر والنجوم من جديد، مرّ وقت دون أن يتكلم أحدهم، نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

قال "والآن؟"

تنهّدَتْ.

"لا أعرف، ليس لدىّ مانع أن نخرج لو أنك تسأل"

"نخرج فى النهاية، كما تعرفين"

نظرَتْ إلى القبطان، كان مشغولاً بالبحر.

"لماذا لا نلتقط معه بعض الصور؟"

ذَهَبَا إليه.

قالت سيمويا "هل تسمح أن نلتقط معك بعض الصور، قبطان؟"

أومأ وهو يتطلّع إلى البحر.

 أعطَتْ "سيمويا" هاتفها إلى "دوفو"، التقط صورًا لها مع القبطان فى وضعيّات مختلفة، كانت تقف فى إحداها بمواجهته وتقول "أُحب هذه النظرة".

أخذَتْ الهاتف من "دوفو"، التقطَتْ صورًا له مع القبطان، نادتْ البحّارة، صوّرَها "دوفو" معهم.

 ظهَرَ الكنجارو واقفًا فوق حافة السفينة.

قالت سيمويا "أنت هنا؟ طبعًا"

أمالَ رأسه يمينًا ويسارًا.

"ترغب فى صورة معنا؟"

قفزَ إلى سطح السفينة، وقف بمواجهتها، نظرَ فى عينيها عن قُرْب، لمحَتْ كرّاس الرسم والقلم الرصاص فى حقيبته، ابتسمَ، مدّ يده وأخذ الهاتف من "دوفو"، تراجع عدّة خطوات، أشار بيده لينضموا معًا، التقط لهم صورة، ألقى بالهاتف إلى "سيمويا"، وقفز خارج السفينة.

"انتظر، كنجارو"، هتفَتْ "سيمويا"، جَرَتْ إلى حافة السفينة، رأته يقفز مبتعدًا.

"أريد أن أرى الرسم"

تباطأ قليلاً، نظرَ إليها من فوق كتفه.

"انتظر، يمكننا أن نكون أصدقاء"

ابتسمَ، وابتعد حتى اختفى.

نظرَتْ إلى الصورة التى التقطها لهم، وجدَتُه فيها معهم، واقفًا خلفها، يده على كتفها، وينظر إلى الكاميرا، ابتسمَتْ، نظرَتْ حيث اختفى، رأت موجة ونورَسًا، عادت إلى "دوفو" والقبطان، نقلَتْ عينيها بينهما، كأنها تطلب أن يُعلن أحدهما نهاية الرحلة، لن تفعل هى.

قال القبطان "لماذا أشعر أنها صور نهاية الرحلة؟"

قالت سيمويا "أخشى ذلك، صديقى"

تطلّعَ إلى البحر.

"تزورينى مرة أخرى؟"

أمالت رأسها على كتفها.

"لا أحد يعرف"

"أكون موجودًا لأجلك"

مرّرَتْ عينيها على زوايا السفينة.

قالت "أريد أن أسألكَ عن شىء"

"لا يستطيع أحد أن يرى سفينتى بنفسه، أنا أُظهر نفسى لمن أختار، لستُ متاحًا"

"كيف عرفْتَ أنى سأسألك عن هذا؟"

"للأسف لم أُخمّن، أنا أعرف ما يفكر فيه كل شخص على سفينتى، ولا تعتقدى أن هذا شىء جيد"

"هذا مخيف"

"ليس لديكِ فكرة"

نظرَتْ إلى الهاتف فى يدها.

"تحب أن تشاهد الصور؟"

"كلها هنا"، وأشار إلى عينيه.

"حتى الصور التى التقطتِها لنا خلال النهار، الهياكل، والسفينة نصف المحطمة"

"أحذُفَها لو أنها تزعجك"

ابتسمَ، ربّتَ خدّها، تأمّلها لحظة.

قال "أعرف، ما زالت لديكِ أسئلة"

هزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا.

"لا أريد أن أعرف إجابتها"

ألقى القبطان نظرة على البحر.

"لا تريدين أن تعرفى أين يذهب البحر نهارًا؟"

"أبقِ هذا سرًا"، أمالت رأسها على كتفها.

"تريد أنتَ أن تسألنى؟"

"أنا أعرفكِ، سيمويا"

ابتسمَتْ عيناها.

نظرَ القبطان إلى "دوفو".

"أنتَ تفكر فى سؤال"

"لكنك ستعطينى إجابة واحدة، أنا أتخيّل عدة إجابات، أعتبرها كلها صحيحة، لن أسألك"

عاد القبطان بالسفينة إلى مكانها الأصلى، وقف مع "سيمويا" و"دوفو" عند بداية السلم، نقلَ عينيه بينهما.

"كنتما سببًا لسعادتى"

 قال دوفو "أنت السبب، شكرًا لك"

تأمّلَتْ "سيمويا" عينى القبطان.

"عِدْنى ألا يمحو شىء هذه النظرة من عينيك"

"لا شىء يستطيع"، أمال رأسه على كتفه بطريقتها.

"قوليها سيمويا، أُحبّ أن أسمعها"

"وكلما قلتُها ابتسمْتَ أنت بخجل"

"لا أستطيع منْعَ نفسى، هذا لم يحدث لى من قبل، غريب غريب"

"جميل جميل"، قرّبَتْ عينيها من عينيه.

قالت "أُحب هذه النظرة"

ابتسمَ بخجل خفيف.

"وأُحبّ هذه الابتسامة"

ضَمّها إليه، نظرَ فى عينيها.

"لا تفقدى شغَفَك"

قبّلَتْ خدّه.

وغادرَتْ السفينةَ بعد "دوفو".

مشَتْ دون أن تلتفت إليها.

قالت "لا أريد أن أرى سفينتهم تتفكّك، أُحب أن أحتفظ بهم أحياء فى ذاكرتى"

ابتعدا.

 فتحَتْ "سيمويا" ملفّ الصور فى هاتفها، توقفَتْ عند واحدة لها مع القبطان.

همسَتْ "هذه النظرة"، أغلقَتْ الهاتف، أدخلَتْه جيبها، تطلّعَتْ حولها إلى الصحراء الزرقاء.

قالت "إن لم نكن سنزوره ثانية، أعتقد أن عملنا هنا انتهى، أو ما رأيك، دوفو؟"

"ألا تتوقّعين سفينة مشابهة فى مكان ما، قبطان مذهول آخر، أو شىء مختلف؟"

"ربما، لكنى أشعر أنى اكتفيتُ هنا، لدىّ فضول لأعرف ماذا يوجد فى النقاط الأخرى"

تطلّع "دوفو" حوله.

"حسنًا، أعتقد أننا حصلنا على سرّ هذا الموقع، جهّزى تقريرك، نسافر غدًا صباحًا"

غادرا الصحراء الزرقاء.

 طلبَ منها أن تذهب إلى خيمتها، بينما يذهب إلى "بيالو" والطيّارَين ليخبرهم بسفرهما غدًا.

قال "اختارى الموقع الذى ننتقل إليه"

تحمّمَتْ "سيمويا"، تناولَتْ طعامًا خفيفًا، نقلَتْ نسخة من الصور والڤيديوهات إلى ملف خاص فى حاسوبها أسمته "القبطان المذهول"، جهّزَتْ تقريرها عن "النقطة الزرقاء"، واختارت الموقع الذى تسافر إليها غدًا مع "دوفو".

أعدّتْ فنجان قهوة، شغّلَتْ موسيقا بيانو مع صوت البحر.

أخرجَتْ أوراق "الليل" من درج المكتب.

 

الليل

مشينا من جديد، جدّتى، وأنا، تَقِلّ أعداد البيوت تدريجيًا، نصادف أحدها من وقت لآخر، ويتناقص طعامنا القليل.

 جاءت لحظة لم يظهر بعدها أىّ بيت، وجدْتُ نفسى فى طرقات واسعة، مساحات مفتوحة، لا شىء يشبه مدينتى، فى الوقت نفسه لم أكن متأكدة أنى غادرْتُها، ليس مهمًا، حتى إنى لم أشعر بالقلق عندما نفَدَ طعامنا، فكّرْتُ أننا لا بد سنجد شيئًا نأكله، ومهما كان بسيطًا سيكون كافيًا، لكننا، ولمدة يومين، لم نحصل على هذا البسيط، أو أقل منه.

"أنا جائعة"، قلتُ لجدّتى.

 قالت "تأكلين بعد دقائق"، وحرّكَتْ يدها فى الهواء.

 لم أعرف إن كانت تشير إلى شىء مُحدّد كى أنظر إليه أم أنها حركة عشوائية، تساءلْتُ، كيف عرِفَتْ أنى سآكل بعد دقائق، أم أنها فقط تتمنى؟ رأيتُ على مسافة لم أستطع أن أُقدّر إن كانت قريبة أم بعيدة، مصابيح يدوية ملوّنة تتأرجح فى الهواء، كأنها مُعلّقة بخيوط غير مرئية، وقد تراصّت على شكل دائرة، سمعْتُ موسيقا وشمَمْتُ رائحة طعام تأتيان من هناك، جريتُ باتجاه المصابيح، رأيتُ كثيرين يظهرون فجأة من كل اتجاه، سمعْتُ أحدهم يقول "هل تسمع رائحة الطعام؟"، ردّ صاحبه "هل تشمّ الموسيقا؟"، كأن حواسهم ارتبكَتْ وتبادلَتْ وظائفها فرحًا بالعثور على طعام، ربما هما من ارتبك وليست حواسهما، لا أحد يعرف.

 توقفتُ مع الآخرين عند المصابيح، كانت مُعلّقة بخيوط رفيعة تتدلّى من أشجار تصطف فى دائرة واسعة، لها مدخل عبارة عن قوس من ضوء أحمر، مرسوم فى الهواء على ارتفاع أعلى قليلاً من قامة إنسان، توزّعَتْ داخل الدائرة طاولات فوقها مفارش ملوّنة، وأصناف عديدة من طعام يتصاعد منه البخار، رجال ونساء بملابس جديدة يرقصون فى فوضى جميلة، إلا أنهم وطاولات الطعام يختفون ويظهرون بتناغم مع تأرجح المصابيح، بدا لى أن كل واحد، أو أكثر، يرتبطون بحركة مصباح ما، يظهرون عندما ينعكس ضوءه عليهم، ويختفون عندما يبتعد، لم يكن أيًا منهم ينظر إلينا، كأننا غير موجودين، تلفّتُ حولى بحثًا عن جدّتى، رأيتها قادمة على بُعد خطوات، أفسَحَ الجميع لها مجالاً تمرّ منه، ابتسمْتُ للنجمة الواثقة لوزيّة العينين، هذه جدّتى لو أنكم لا تعرفون، لكنهم على الأرجح لن يعرفوا، لأنها لم تُعرنى أىّ اهتمام، أنا هنا، شكرًا لأنها لم تهتم بأىّ أحد آخر، اتجهَتْ إلى المصابيح، أمسكَتْ بواحدٍ منها وثبّتته، توقفَ رجلان وامرأتان من الموجودين داخل الدائرة عن الاختفاء، ابتسموا لها، تركَتْ المصباح، ظَلّ ثابتًا، جاءت إلىّ، أمسكَتْ بيدى ودخلنا الدائرة.

 فَعَلَ الجميع مثل جدّتى، يُثبّتُ الواحد منهم أحد المصابيح، فيتوقف واحد، أو أكثر من الموجودين داخل الدائرة عن الاختفاء، ويبتسمون له، كأنها دعوة للدخول، وبمجرد دخوله يحصل على ملابس جديدة.

ثبتَتْ جميع المصابيح، امتلأت الدائرة ببشر فى ملابسهم الجديدة، كنت وجدّتى منهم، أكلنا ورقصنا كأننا لم نصادف ألَمًا فى حياتنا، ولا نتوقّع أن نصادفه، أعتقد أن حواسّى وقتها كانت تتبادل وظائفها.

قضينا فى هذا المكان ما يقارب ليلة، ما زال بإمكانى تقدير الوقت ولو بالتقريب، اختفَتْ بعدها طاولات الطعام، تلاشى الأشخاص الذين وجدناهم عند وصولنا، وحدها المصابيح ظلّتْ بأماكنها لتكشف لنا أننا صرنا وحدنا، فى العراء، عادت إلينا ملابسنا القديمة، نظرنا إلى بعضنا بعضًا دون كلام، بحثْتُ بعينىّ عن جدّتى، رأيتها تقف وحدها خارج دائرة الأشجار، وعلى وجهها ابتسامة لم أفهمها، شعرْتُ أنها تقف هناك منذ البداية ولم تدخل بالأساس.

انصرفَ الجميع فى اتجاهات مختلفة، يختفى الواحد منهم بعد خطوات قليلة، كأنما يدخل سردابًا غير مرئى، مشيتُ إلى جدّتى.

 سألَتنى "مستعدة؟"

 قالتها ببساطة كأننا فى رحلة، وهذا ما كنت أشعر به فعلاً، أشرْتُ لها لتتفضّل بالخطوة الأولى.

 "الجدّات أولاً"

 غمزَتْ لى بعينها وهى تمرّ من أمامى وتُعدّل وضع الحقيبة على ظهرها.

 مشيتُ إلى جوارها، كانت تمشى بإيقاع واثق، كأنها تعرف المكان حولنا، على الأقل لديها فكرة عنه، أو ربما هى فقط طريقتها السهلة فى التعامل مع الأشياء، لم أسألها كيف عرِفَتْ أنى سآكل بعد دقائق عندما أخبرتها أنى جائعة، وسِرّ المصابيح، لستُ متأكدة بالأساس أنها تعرف سرّ تلك الأشياء، يمكن للأمر كله أن يكون مصادفة، أو حَدْسًا منها، أُفضّل أن أحصل بنفسى على إجابة، وإذا احتجتُ أن أسألها عن شىء فيما بعد، فهى موجودة، لن تطير، وإنْ كنت لا أستبعد أن تفعل، ليس لأنها خارقة، هى ليست كذلك، أو لأنها تعرف أشياء لا أعرف كيف عرفَتْها، هذا طبيعى، فقط أشعر أن بإمكانها أن تفعل الأشياء، هكذا، ببساطة، حتى إن طيرانها لن يبدو شيئًا غريبًا، أو حتى صعبًا، سيبدو معها مثل شىء عادى، يمكن لأىّ شخص أن يفعله.

تخيّلتُها فى الهواء، بسيطة، عادية، والكثيرون يتطلّعون إليها، يتهامسون "هذا سهل، أستطيع ذلك"، يفتحون أذرعهم، ويطيرون، هكذا، ببساطة.

سألْتُ جدّتى "برأيك إلى متى يمكن أن نبحث عن النهار؟"

قالت "هل تبحثين عنه بالفعل؟"

"ليس تمامًا، أنا فقط أمشى وأكتشف ما يحدث"

"حسنًا، لنفعل ذلك معا"

تأمّلْتُها لحظة.

قلت "لا أعتقد أنك تكتشفين وفقط، علاقتك بما يحدث ليست كعلاقتى به"

"هذا طبيعى"

فكّرْتُ فى إجابتها البسيطة، المفتوحة على كل الاحتمالات، سبقتُها خطوتين، مشيتُ بظهرى وأنا أنظر إليها.

قلت "لو كان لكِ الاختيار، أيهما تُفضّلين، أن تكونى موجودة فى جانب الليل أم النهار؟"

"أُفضّل الجانب الذى تكونين فيه"، قالت، ومرّتْ بجوارى.

لحِقْتُ بها، ابتسمَتْ لى عيناها، طلبْتُ أن أحمل عنها الحقيبة، هزّتْ رأسها نفيًا.

دخلنا طريقًا ملتويًا، تحوّل بعد قليل إلى ممرّ مفروش بحصى أبيض، على جانبيه أشجار عالية لم أستطع أن أرى نهايتها، سألْتُ جدّتى إن كانت تعرف اسمها.

 قالت "أشجار السحاب"

"أنتِ تخترعين اسمًا"

"ليكن، لم لا؟"

 أوصَلَنا الممرّ إلى أرض من رمل برتقالى، سمعْتُ نغمات بيانو، مشينا فى الاتجاه الذى اعتقدنا أنها تأتى منه، مرّ وقت ولم أشعر أننا اقتربنا أو ابتعدنا، هى درجة الصوت نفسها، توقفْتُ، تلفّتُ حولى.

 قلت "بيانو، اكشف عن نفسك، أو ..."

 قالت جدّتى "أنتِ من طلَبْت"

 مشينا خطوة، انقطع صوت البيانو.

 قلت "لم أطلب منه أن يصمت"

"ربما اعتقَدَ أن هذا ما تريدينه"

سمعْتُ صوت ماء يترقرق، تلفّتُ حولى، رأيت من بعيد خَطًا يتلألأ على الأرض، قادم باتجاهنا، تحوّل إلى قناة عرضُها متر، مرّت بجوارنا.

شرِبنا، وملأنا الزمزميّتَين.

قالت جدّتى "لماذا لا نرتاح هنا قليلاً؟"

أقمنا الخيمة.

ذهبَتْ الجدّة تتجوّل فى الجوار.

استلقَيتُ على ظهرى قرب القناة، تأمّلْتُ النجوم، لاحظْتُ اختلافات طفيفة فى حجمها، درجة لمعانها، القليل منها بها مَسّ من ألوان خاصة، أحمر، ذهبى، أو أزرق، صنعْتُ من بعضها أشكالاً، هذا قارب، هذه غزالة، فراشة، سمكة، وما هذا، طفل؟ لا، طفلة، لديها ضفيرتان صغيرتان، تُمسك بيد أمها، تمشيان معًا، كانت مجموعة النجوم التى تمثّلهما تتحرّك إلى الأمام خطوة بعد أخرى، وتزداد لمعانًا، حتى لم يعد بإمكانى النظر إليها، أوشكْتُ أن أُحوّل عينىّ عنهما، لكن الطفلة وأمها تحوّلتا إلى ندف صغيرة تساقطَتْ إلى الأرض، جلَسْتُ فى مكانى وتتبّعتُها بعينىّ، تجمعَتْ فى نقطة بعيدة على حافة قناة المياه، رأيت هناك امرأة تجلس على ساقيها وتُحَمّم طفلة رضيعة، كانت تفاصيل الطفلة واضحة لى بشكل خاص، وجه مدوّر، عينان مفتوحتان على السماء، جسم وردىّ، رأيت يديها عن قُرْب وهما تضربان الماء، سمعْتُ ضحكتَها، مدَدْتُ يدى إليها، كِدْتُ ألمسها، شعرْتُ بيد تحطّ على كتفى، انتفَضْت، كانت جدّتى، تأمّلْتُها لحظة، نظرْتُ حيث كانت الطفلة وأمها، لم أجدهما، رأيت الماء هناك مضطربًا، أغلقْتُ عينىّ لحظة، سمعْتُ ضحكة الطفلة، فتحْتُ عينىّ، رأيت الماء ساكنًا، قالت جدّتى شيئًا ما، حدّقتُ فى عينيها، أوشكْتُ أن أسألها عن أبى وأمى، شعرْتُ بلسانى ثقيلاً، لم أنطق، أو ربما حدث معى شيئًا يشبه ما يحدث لأحدهم فى حلم عندما يتكلم ولا يصدر عنه صوت، ضمّتنى إلى حضنها.

 قالت "أنتِ فى حاجة إلى الراحة"

 دخلَتْ بى الخيمة، وضعَتْنى فى السرير، جلسَتْ إلى جوارى تمسح شعرى.

أغلقْتُ عينىّ.

 فكّرْتُ، جدّتى لم تُحدثنى أبدًا عن أبى أو أمى، حتى إنى لم أر صورة لأىّ منهما فى البيت، ليست لى صورة مع أحدهما، اكتشفْتُ أنى لم أسألها عنهما فى أىّ وقت، أكثر من ذلك، لم أشعر أبدًا برغبة أن يكون لى أب أو أم، أو أكون ابنة، ولا أشعر أن شيئًا ينقصنى عندما أرى أحدهم مع أبيه أو أمه.

 سألْتُ نفسى، لماذا لم أسألها عن أبى وأمى أبدًا؟ لا أذكر أنى عشتُ يومًا معهما، لم أتحدّث عنهما لأحد، أذكر أنى صادفْتُ أشخاصًا لم يروا آبائهم أو أمهاتهم، رغم ذلك يتحدثون عنهم، ويتمّنون لو أنهم قابلوهم أو عاشوا معهم لبعض الوقت، لماذا لم أشعر بمثل هذا أبدًا؟ لم أفكر فى أبى أو أمى ولو لحظة واحدة، لماذا لا أشعر ولو بقليل من الأسف لأنى لم أرهما، والآن، وأنا أتساءل عن هذا كله، ما زلت لا أشعر بأية رغبة أن يكون لى أب أو أم، أو أكون ابنة، ردّدْتُ بينى وبين نفسى "أمى، أبى، أمى، أبى"، لم يتحرك فىّ أىّ شعور لهما، تساءلْتُ، لو أنى بالفعل لم أفكر فيهما أبدًا، لماذا أفعل الآن؟ ربما بسبب الحادث، عدم ظهور النهار، الليل المتواصل، الأم وطفلتها اللتان سقطتا من السماء، أعتقد ذلك، يمكننى أن أتوقع أىّ شىء. 

فتحْتُ عينىّ، ما زالت جدّتى تمسح شعرى.

 قلت وأنا أنظر إلى سقف الخيمة "جدّتى، هل سألتُكِ يومًا عن أبى وأمى؟"، لم أكن أنتظر إجابة، ليس الآن على الأقل.

 توقفَتْ يدها على شعرى لحظة، عاودَتْ الحركة ببطء.

 قلت "حسنًا، ليس الآن"، أغمضْتُ عينىّ، أعتقد أنى نِمْت.

عندما استيقظْتُ لم أجد جدّتى، نظرْتُ من فتحة الخيمة، رأيتها جالسة عند قناة المياه تقرأ فى حزمة أوراق.

 أعرف هذه الجِلْسة، هذه الأوراق، لكنى لا أعرف ما تحويه، رأيت جدّتى فى هذا الوضع مرتين من قبل، أذكرهما جيدًا.

الأولى، كنت قد انتهيتُ للتوّ من تجهيز أول تحقيق صحفى لى، وأردتُ أن تقرأه جدّتى قبل أىّ أحد، ذهبْتُ إلى حجرتها، طرقْتُ الباب وفتحتُه دون أن تأذن لى بالدخول، رأيتها مُتربّعة بمنتصف سريرها مثل طيف، تستند بيدها إلى ذقنها، وتنظر إلى الأوراق، توقفْتُ فى فتحة الباب، رفَعَتْ عينيها إلىّ ببطء، كانت تنظر من حياة أخرى، شعرْتُ بمزيج من الشفقة عليها والخوف منها، تمنّيتُ لو أُربّتُ صدرها وفى الوقت نفسه أردتُ الهَرَبْ، بقيتُ فى مكانى لحظات، انسحبْتُ أخيرًا، وأغلقْتُ الباب.

المرة الثانية، قبل أيام من حادثة الليل والنهار، كنت عائدة من سفر لعدّة أيام خارج المدينة، دخلْتُ البيت عند الثانية صباحًا تقريبًا، رأيت ضوء المطبخ، اعتقدْتُ أن جدّتى هناك، ربما لا، مشيتُ إليه، شعرْتُ بحضور بشرىّ، قلت "أنا هنا"، وقفْتُ فى فتحة الباب، رأيت جدّتى جالسة إلى الطاولة بمنتصف المطبخ، تستند بذقنها إلى يدها، وتنظر فى الأوراق، رفعَتْ عينيها إلىّ، ومثل المرة الأولى شعرْتُ بالشفقة عليها والخوف منها.

تأمّلْتُ جدّتى من داخل الخيمة وهى تقرأ الأوراق، ومثل المرتين الأولى والثانية، شعرْتُ بالشفقة والخوف، لم أنتظر حتى ترفع عينيها إلىّ، عُدْتُ إلى سريرى، دخلَتْ جدّتى بعد لحظات، أغلقْتُ عينىّ، شعرْتُ بها وهى تعيد الأوراق داخل الحقيبة، مسَحَتْ أطراف شعرى، فتحْتُ عينىّ، ابتسمَتْ.

 قالت "تشعرين بتحسّن؟"

 جلَسْتُ.

 "أنا بخير جدّتى"

 مدّتْ يدها لى بزمزميّة الماء.

 "اشربى، واغسلى وجهك"

 أخذْتُها منها.

 "أشرب فقط، لن نهدر الماء"

 "أعدُكِ ألا نموت جوعًا أو عطشًا"

 أنزلْتُ القربة من فمى.

 "كيف عرفتِ جدّتى؟"

 صمتَتْ لحظة.

قالت "لم أعرف"

خرجْتُ وزمزميّة الماء بيدى، نظرْتُ حيث كانت الأم تُحمّم طفلتها، لا شىء، غسَلْتُ وجهى من ماء القناة، ملأتُ الزمزميّة، التفَتُ خلفى، رأيت جدّتى تُدخِلُ الخيمة فى الحقيبة، وضَعَتْها على ظهرها ومشَتْ إلىّ، ابتسمَتْ، أمالت رأسها على كتفها.

 سألتنى "جاهزة؟"

 "لِمَ لا أحمل عنكِ الحقيبة قليلاً؟"

"تفعلين، فيما بعد"

 ومشينا.

فكّرْتُ، أنا لم أشغل نفسى بأوراق جدّتى فى أىّ وقت، ولا بالصور والڤيديوهات التى تحتفظ بها ولم تجعلنى أراها أبدًا، وكلها موجودة فى الحقيبة، لكنى أفكر فيها الآن، أتوقّع أن تُحدثنى عنها فى النهاية، أتمنّى أن تفعل قبل النهاية، أنا لن أتسلل إلى أوراقها لأقرأها، لكنى لا أضمن ألا أسألها عنها فى وقت ما، ربما يكون قريبًا.

 صرْتُ مهتمة بالأوراق، لأنى أشعر بوجود علاقة بينها وبين وما يحدث.

 

(5)

استيقظَتْ "سيمويا" عند السابعة صباحًا، جلسَتْ على طرف السرير، نظرَتْ إلى أوراق "الليل" فوق سطح المكتب، فكّرَتْ فيما قرأته الليلة الماضية عن أن الحفيدة "بينورا" لم تشعر يومًا بأنها تحتاج أبًا أو أمًا، ولم تسأل جدّتها عنهما أبدًا.

همسَتْ لنفسها "أنا أيضًا".

 لم ترَ "سيمويا" أباها أو أمها أبدًا، ولو فى صورة، لم تشعر يومًا بحاجة لأىّ منهما، لا تشعر أن شيئًا ينقصها عندما ترى أحدهم مع أمه أو أبيه، كان غريبًا بالنسبة لها أنها لم تلاحظ ذلك إلا بعد أن قرأت أوراق "الليل".

لم تتذكّر أنها رغبَتْ يومًا أن تكون ابنة، لطالما أحبّتْ أن تكون حفيدة، وأكثر من ذلك، لم تشعر أبدًا برغبة أن تكون أُمًا، اكتشفَتْ أنها طوال الوقت تتمنّى أن تكون جدّة، كان مفهومًا لها إلى حدٍ ما عدم رغبتها أن تكون أُمًا حتى الآن، ربما يتعلّق الأمر بسنّها، لكن ماذا عن أمنيتها بأن تكون جدّة فى هذه السّن الصغيرة نفسها؟

 شعرَتْ أن الأمر لو عُرِضَ عليها من جديد، وكان لها الخيار بين أن تكون ابنة أو حفيدة، أُمًا أو جدّة، لاختارت الحفيدة والجدّة.

 نهضَتْ، تحرّكَتْ بعشوائية وهى تقول "غريب، غريب"، توقّفَتْ.

 قالت لنفسها "اهدأى سيمويا، أنتِ بخير"

 شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا بيانو، دخلَتْ الحمّام، نظرَتْ لنفسها فى المرآة.

 "ما ذنبكِ، هذا ما تشعرين به، كل شىء بخير"

 تحمّمَتْ، أكَلَتْ ثمرة خوخ، خمس حبّات لوز، بدّلَتْ ملابسها، جهزّتْ حقيبتها للسفر، راجَعَتْ تقريرها عن "النقطة الزرقاء"، سمعَتْ صوت "دوفو" أمام الخيمة يناديها.

"سيمويا، صباح الخير"

فتحَتْ له.

يحمل حقيبة الظهر خاصته.

قالت "أنت جاهز"

"وأنتِ؟"

"جاهزة، تفضّل"

عادت إلى مكانها أمام الحاسوب، وَقَفَ "دوفو" بجوارها.

قال "أرسلْتُ تقريرى عن النقطة الزرقاء إلى إيميلك، يمكنكِ الآن أن ترسلى التقارير الثلاثة إلى بيالو ومركز الأبحاث"

كان جزءًا من طريقة عملهما أن يكتبا ثلاثة تقارير عن المواقع

التى يدرسانها، أحدها يكتبه "دوفو"، الآخر تكتبه "سيمويا"، ثم يقومان بكتابة تقرير مشترك.

إلا أنهما فى حالة "النقطة الزرقاء"، سيكون لديهما تقرير سرّى عن رحلتهما مع القبطان المذهول، وسفينته، يحوى الصور والڤيديوهات، لن يكشفا عنه حتى ينتهيا من دراسة كل النقاط الأخرى، أو ربما يبقى سرًا بينهما، لا أحد يعرف.

أرسلَتْ "سيمويا" نسخة من التقارير الثلاثة إلى مركز الأبحاث، وأخرى إلى "بيالو"، فتحَتْ الملفّ الذى يحوى جميع نقاط المهمة، توقفَتْ بمؤشر الفأرة عند إحداها.

"اخترتُ الموقع الذى نذهب إليه"

نظرَ "دوفو" إلى شاشة الحاسوب.

قال "جبل النور، لسبب محدّد؟"

"أعجبنى الاسم"

نظرَ إليها.

"مُقنِع جدًا، أعنى ذلك"

ظلّتْ عينا "سيمويا" على "جبل النور"، لكنها لم تكن تنظر إليه بالفعل.

سألها دوفو "أنتِ بخير؟"

نظرَتْ إليه.

"نعم، أنا بخير"

تأمّلَها لحظة.

قال "حسنًا، يمكننا أن نتحرك"

ودّعَهُما "بيالو" عند الطائرة.

 طلبَتْ "سيمويا" من الطيّار أن يطير فوق الصحراء الزرقاء ببطء، وعلى ارتفاع منخفض، علّقَتْ الكاميرا خاصّتها على صدرها، فتحَتْ باب الهليكوبتر، وقف "دوفو" بجوارها، بَحَثَا عن سفينة القبطان المذهول.

"هناك"، هتفَتْ "سيمويا" وهى تشير إلى السفينة.

 طلبَتْ من الطيّار أن يدور حولها، رأيا تفاصيلها بوضوح، هيكلاً عظميًا متشبّثًا بالدفّة، شراعًا ممزقًا، هياكل عظمية تستند لبعضها بعضًا.

صوّرَتْ "سيمويا" السفينة من زوايا مختلفة، ابتعدَتْ الطائرة عنها، ظلّتْ "سيمويا" تنقل عينيها فى الصحراء الزرقاء كأنما تبحث عن شىء ما، رأت الكنجارو قادمًا باتجاهها وهو يتطلّع إليها، هتفتْ.

"الكنجارو"

جرى مع الهليكويتر، قلّلَ الطيّار من سرعته وارتفاعه حتى صار على بُعد أمتار قليلة منه، فتحَ الكنجارو فمه بابتسامة كبيرة، التقطَتْ له "سيمويا" صورًا قريبة، قفز لأعلى قدْر استطاعته وهو يمدّ يده إليها، وحقيبته البرتقالية تطير تحت ذراعه، أعطَتْ الكاميرا إلى "دوفو"، مدّتْ يدها إلى الكنجارو، كان يقترب منها أكثر مع كل قفزة، و"دوفو" يصوّرهما، لَمَسَتْ "سيمويا" رأس الكنجارو فى إحدى قفزاته، توقّف بعدها فى مكانه، وابتسمَ لها.

قال الطيّار "يمكننا أن نلتقطه"

تعرف "سيمويا" أن "الكنجارو" لن يحب ذلك.

 ارتفعَتْ الطائرة، ظلّت "سيمويا" تنظر إلى الكنجارو، وينظر إليها، حتى تلاشى كلٌ منهما من عينى الآخر.

"لا تنسنى"، همسَتْ "سيمويا".

أغلقَ "دوفو" باب الطائرة، عاد و"سيمويا" إلى مكانيهما، بدأتْ تتفرّج على الصور التى التقطَتْها للسفينة، وصورها مع الكنجارو وهو يقفز إليها بينما تقف فى فتح باب الهليكوبتر وتمدّ يدها إليه، شهقَتْ وهى تُحدّق فى صورة ظهر فيها الكنجارو قريبًا جدًا من الطائرة، يبتسم ابتسامة كبيرة، حقيبته مُعلّقة فى كتفه وتطير إلى جواره، بينما تُمسك بإحدى يديها مقبضًا فى فتحة باب الهليكوبتر، جسمها كله تقريًبا فى الهواء، ويدها الأخرى ممدودة إلى أسفل تلامس رأس الكنجارو.

تأمّلَتْ الصورة قليلاً، نظرَتْ إلى "دوفو".

"كيف التقطتَ هذه؟"، قرّبتْ الكاميرا منه، مال "دوفو" ونظر إلى الصورة، ابتسمَ، وحرّكَ يده على شكل موجة.

قالت سيمويا "يدى تلمس رأس الكنجارو، أمسكْتَ باللحظة، شكرًا دوفو"

"أهلاً بكِ، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

سمِعا صوت قائد الطائرة يقول "أمامنا11 ساعة إلى "جبل النور"، حسب فروق التوقيت نصل قبل منتصف الليل بقليل، استرخوا أو العَبوا، عن نفسى أبدأ بالصراخ، ياهااااااااااااااا"

هتفَتْ له سيمويا "عندى شغف، ياهياااااااااااا"

ضحِكَ "دوفو" ضحكة قصيرة، شغّل فى فيديو المقعد فيلمًا وثائقيًا عن "الكنجارو"، نظرَتْ "سيمويا" عبْرَ زجاج النافذة، أسندَتْ رأسها إلى مقعدها، ابتسمَتْ ابتسامة خفيفة، أغمضَتْ عينيها، رأت سطور أوراق "الليل" الزرقاء، فكّرَتْ فى الحفيدة "بينورا"، والأشياء المشتركة بينهما، كلٌ منهما بلا أب أو أم، لديها جدّة، بيتها يطلّ على ميدان، وتعشق الشيكولاتة.

فكّرَت فى الجدّة صاحبة العينين اللوزيتين، هل تعرف شيئًا مُسبقًا عن رحلتها مع حفيدتها؟ نظرَتْ إلى حقيبتها، تحسّستْ حافظة أوراق "الليل"، فكّرَتْ أن تقرأ منها، تراجعَتْ، ربما يلاحظها "دوفو"، كما أن العالم ما يزال نهارًا، أعجبها أن تقرأ ليلاً فقط.

بعد أن تناولا الغداء، قرأ "دوفو" فى رواية، شغّلَتْ "سيمويا" فيلم رومانسى قديم، وعندما تلوّنَتْ السماء بالبرتقالى، استدارت بجسمها كله إلى النافذة، نظرَتْ عبْرَ زجاجها، انتظرَتْ اللحظة التى تنتقل فيها الطائرة من النهار إلى الليل، لكنها، عند لحظة ما، وجدَتْ نفسها داخل ليل كامل.

 سَمِعَتْ قائد الطائرة يقول "آسف سيمويا"

 "لا عليك، أنا أيضًا لم أستطع الإمساك بها"، قالت "سيمويا"، ونظرَتْ إلى "دوفو".

"أنتقل إلى الخلف، لبعض الوقت"

أومأ بابتسامة.

 انتقلَتْ بحقيبتها إلى المقعد الأخير، نظرَتْ عبْرَ زجاج النافذة، رأت نجومًا وسحابًا بنفسجيًا.

 أخرجَتْ أوراق "الليل" من الحقيبة.

وبدأتْ تقرأ.

 

الليل

أثناء مشينا، نرى على البُعد أشكالاً مختلفة، بيوتًا، أشجارًا، وغيرها، لكنها تتلاشى عندما نقترب منها، كأنها سراب ليلىّ.

رأيت خطًا من نور ناصع البياض يمتد فى الأفق، لم أعرف إن كان يهبط من السماء أم يصعد من الأرض، بدا لوهلة كأنه نهار، تمنّيتُ ألا يكون. سألْتُ جدّتى "هذا نهار؟"

كانت تنتظر اكتمال المشهد، قلت لنفسى "هى مثلى لا تعرف".

 تقلّصَ خط النور، ارتفع بقمّة مُدَببة، انطلقَتْ منه كُرات تطير عاليًا وتنفجر لتنثر نورًا لا يسقط إلى الأرض، إنما يظل هناك، يحجب فى كل مرة جزءًا من الليل، قلتُ لنفسى إن النهار الذى أعرفه لم يكن يفعل ذلك، لكنها ربما تكون لعبة جديدة، فأنا لا أعرف كل شىء عنه بالأساس، رأيت أشخاصًا يظهرون من كل اتجاه ويتابعون المنظر، ارتفعَ خط النور كثيرًا عن الأرض، تشكّلَ على هيئة مثلث كبير، توقّفَ عن إطلاق كرات النور، أدركْتُ أنه ليس نهارًا، يبدو كأنه جبل من نور، توقفنا، نتطلّع إليه وننتظر إشارة.

الإشارة كانت جدّتى.

 مَشَتْ إلى الجبل، مشينا معها، اقتربنا منه، رأيت قنوات من النور تسيل باتجاهنا مُحمّلة بكسرات صخور منوّرة، راقبوها بحذر، نظرَتْ جدّتى إليها باطمئنان، جلسَتْ على حافة إحدى القنوات، غمسَتْ أصابعها فى النور، بلّلتْ به شفتيها، ابتسمَتْ لنا ورذاذه يقطر من أصابعها، جلس بعضهم إلى القنوات، جرى البعض الآخر إلى الجبل، جلسْتُ بجوار الجدَة، لمَسْتُ النور، دافئ، نظرْتُ إليها.

قالت "لنصعد الجبل؟"

صخوره من نور صلب، تسبح بداخلها ندف بيضاء هشّة، تضطرب مع كل خطوة، تتحرك فى اتجاهات مختلفة، وتعود بالتدريج لحركتها العادية، بَدَتْ وضعيّات الصخور كأنها فى نظام يُكوّن مجموعات من السلالم، تتخلّلها ممرّات تؤدى إلى بعضها بعضًا، صادفْتُ شلالات صغيرة من نور، لها صوت متلألئ يرنّ فى صدرى، شرِبْتُ منها، أوقفتنى جدّتى معها تحت واحدٍ منها، تحمّمْنا نورًا، ظلّتْ قطراته عالقة بى لبعض الوقت، شعرْتُ بها تسيل فى خطوط جسمى، كنتُ منتشية.

اقترحَتْ جدّتى أن أنطلق وأكتشف المكان وحدى، طلبْتُ أن أحمل عنها الحقيبة, هزّتْ رأسها نفيًا وأدارت لى ظهرها.

قفزْتُ فوق قنوات متجاورة، تطلّعْتُ حولى، رأيت وعولاً وغزالات من نور تمشى على حافة الجبل، تتوقف بين خطوة وأخرى لتنظر إلىّ، تميل برأسها يمينًا ويسارًا، فعلْتُ مثلها، لوّحْتُ لها، تناطَحَتْ برفق كأنما تداعب بعضها بعضًا، لمحْتُ رذاذ النور يتناثر من بين رؤوسها، رأيت فى جانب آخر فهودًا مُرقّطة برسومات من نور أحمر وأبيض، وفى مساحة مُنبسطة كان قطيع ماعز يأكل عشبًا من نور ملوّن، راقبْتُ إحدى العنزات وهى تُرضع أطفالها من ضرع كأنه كتلة نور فى حالة بين السيولة والصلابة، كلما توقّف أحد الصغار ليلتقط أنفاسه، انفلَتَ من جانب فمه خيط نور حليبىّ.

  عثرْتُ على كهف يشعّ منه النور، دخلْتُه، كلما توغلْتُ صار نوره أكثر رقّة، وصفاء، فكّرْتُ أن وجودى ربما يُعكّره، أو يؤلمه، شعرْتُ به على شعرى وأصابعى كأنما يقول لى "أهلاً بك".

 خرجْتُ من الجهة الأخرى للكهف، وجدْتُ مساحة تغطيها أشجار قصيرة من نور، لا يزيد ارتفاعها عن ذراع واحدة، تحمل ثمارًا صغيرة من نور أبيض مُتكثّف، ومُغلّفة بأخضر شفاف، بَدَت كحالة بين الورد والفاكهة، قطفْتُ ثمرة، سقط عنها الغلاف الأخضر، استقرّتْ الكتلة البيضاء فى يدى، كانت مُغوية بالأكل، كأنما حياتها أن تؤكل، وضعْتُها فى فمى، لها طعم خبز هشّ مُحلّى بالسكر، مُشبِعَة وفى الوقت نفسه مُحرّضة على تناول المزيد، احترْتُ هل أتوقف أم آكل أكثر، كلما قطفْتُ ثمرة ظهرَتْ فى الحال واحدة أخرى ناضجة.

صعدْتُ إلى قمة الجبل، وجدْتُ زهورًا من نور تتمايل برفق مع الهواء، بِرَك مياه صغيرة تسبح فيها أسماك، وفى الهواء عصافير، وفراشات تطير على مهل، أحاطنى سرب منها لدقائق، تفرّق فراشة بعد أخرى، جلسْتُ عند حافة إحدى البرَك، تأمّلْتُ فيها السمك الصغير، رأيت أحشاءه خيوطًا من نور، مدَدْتُ يدى، ظلّتْ الأسماك هادئة، مسحْتُ على بطنها بأطراف أصابعى، لم أستطع أن أقاوم فضولى، أخرجْتُ سمكة من الماء، انفجرَتْ مثل فقاعة رهيفة وتحوّلتْ إلى رذاذ من نور، تلفّتُ حولى، رأيتُ البعض يقطفون الأزهار، فتتحوّل على الفور إلى رذاذ وتتلاشى، توقّعْتُ أن شيئًا مثل هذا يحدث مع الفهود، الوعول، الفراشات، وبقية كائنات الجبل.

بحثتُ بعينىّ عن جدّتى، رأيتها على مسافة قريبة، تمشى بخفّة كأنها لا تحمل على ظهرها حقيبة بها كل أغراضنا، ازداد حبى لها فجأة، كثيرًا ما يحدث لى دون مناسبة أن أنظر إلى شخص أحبه، فأشعر بدفقة قوية من المشاعر تجاهه، وأنى صِرْتُ أحبه أكثر.

 همَسْتُ وأنا أنظر إلى جدّتى "أحبّك"

 توقفَتْ ونظرَتْ إلىّ، فكّرْتُ أنها سمِعَتْنى، أعرف أن قلبها مَن سمعنى، ذهبْتُ إليها، سألَتْنى إن كنت استمْتَعْت.

 قلت "جدًا، وأنتِ؟"

 قالت بحماس أقلّ "نعم"

مشينا إلى زاوية فى قمّة الجبل على شكل قوس كبير، لها حافة بارتفاع متر، بَدَتْ كأنها شُرْفة، تطلّعنا إلى الليل، مرّت نسمة هواء، تطاير شعر جدّتى مثل موجة من حرير أبيض.

 سألتُها "ماذا تعتقدين أنه يحدث الآن فى جانب النهار؟"

 "يمشون مثلنا"

 "وهل هناك مَن يقف الآن على جبل غير عادى، مثلما نقف؟"

 "ماذا تتوقّعين أنت؟"

 لمسَتْنى دفقة هواء باردة، أسندْتُ ذراعىّ على حافة الشرفة، أغمضْتُ عينىّ، رأيت عينين مدوّرَتَين، فى كلٍ منهما دوّامة مياه، عرفْتُ أنهما عينا النوم، أراهما للمرة الأولى، لكنى عرفتهما، حدّقْتُ فيها، أو حدّقَتَا فىّ حتى نِمْت، حسْب ما أظن.

فتَحْتُ عينىّ، شعرْتُ بطعم العسل فى فمى، لمَسْتُ شفتىّ بطرف لسانى، كان هناك أيضًا، تلفّتُ حولى، وجدْتُ نفسى مُمدّدَة فى سريرى بالخيمة، جدّتى جالسة بمواجهتى على طرف سريرها، ابتسمَتْ لى، حاولْتُ أن أتذكر متى عُدْتُ إلى الخيمة.

 قلت "آخر ما أذكره وقوفنا فى الشرفة، فوق الجبل"

 قالت "تحدثنا هناك عمّا يمكن أن يكون عليه الحال فى جانب النهار، ثم أغمضْتِ عينيك، وتخيّلْتِ بعض أشياء"

 "أشياء مثل ماذا؟"، واعتدلْتُ جالسة.

"بحيرات عسل، مطر، وسيرك، نزلنا بعدها من الجبل، مشينا بعض الوقت، قابَلَنَا شاب، وخَمّنى ماذا سألنا؟"، صَمَتَتْ لحظة.

رأيت آثار عسل بأطراف أصابعى.

قالت "سألَنا عن السيرك، إنْ كنا صادفناه، أجبْتُه بأنى لم أره، لكنكِ أشَرْتِ له تجاه نقطة ورديّة فى السماء، وقلتِ أنه سيجده تحتها، شَكَركِ الشاب، وخمّنى ثانية ماذا أعطاكِ؟"

 أشارت إلى نقطة فى الأرض قريبة منى.

 قالت "قرص عسل ورغيف خبز"

القرص ذهبىّ اللون، الرغيف أحمر، وكبير.

"بعد أن انصرف الشاب سألتُكِ إن كنتِ تعرفينه، قلتِ لا، سألتُكِ كيف عرفْتِ بوجود السيرك، قلتِ أنك رأيتِه عندما كنتِ فوق الجبل، قبل وقوفنا فى الشرفة"

 قلت "لا أذكر شيئًا من هذا كله، لكنى حلمتُ بالعسل، الشاب، النهار، وكنتِ معى"

 ابتسمَتْ.

 "ماذا رأيتِ؟ احكِ لى"

 نظرْتُ بعيدًا، كنت أريد تجميع مقاطع الحلم، شعرْتُ أنى أحتاج لرؤيته ثانية، انتقلَتْ جدّتى إلى جوارى.

قالت "حاولى، فقط استلقى على ظهرِك وأغلقى عينيك"، وضعَتْ إحدى يديها على صدرى والأخرى على ظهرى، وأعادتنى إلى وضعى مُستلقية.

"يمكنكِ أن ترى حلمكِ من جديد"

 لمسْتُ شفتىّ بطرف لسانى، وابتلعْتُ ريقى العَسَلى.

 بدأ الحلم يتشكلّ فى عقلى.

 قلتُ كأنى أقرأ من كتاب "الوقت نهار، الشمس ساطعة، أنا وأنتِ مع ناس لا أعرفهم، كنا جوعى وعطشى، نمشى فى صحراء لونها بُنّى، سمعنا صوتًا شابًا يأتينا من كل الجهات، يهتف "تعالوا، العرض مجانى"، توقّفنا وتلفّتنا حولنا، رأينا لون الصحراء فى أبعد نقطة يتحوّل إلى الوردىّ ويتقدّم باتجاهنا، يزداد معه الصوت وضوحًا "العرض مجانى"، توقّفَ اللون الوردىّ عند أقدامنا، بَدَا لى مثل تراب ناعم، تحسّسته بقدمى الحافية، به بلل خفيف، "تعالوا، هنا"، قال الصوت، رأينا شخصًا يقف على مسافة ليست بعيدة، لم تكن ملامحه واضحة، جرينا إليه، عندما وصلنا شعرْتُ أنى قطعْتُ مسافة أطول بكثير مما توقّعْت، كان شابًا حافيًا، يرتدى بنطلونًا من قماش أبيض، ونصف جسده العلوى عار، على صدره وشم أخضر لباب بدرفتين مفتوحتين، وتظهر خلفه بمدى البصر حيوانات متنوعة، أفيال، أُسود، دِببة،، كلاب، وخيول، أيضًا سَحَرَة، بهلوانات، ومهرّجون، يؤدون ألعابهم جميعًا، كأنه سيرك مفتوح، قال لنا "ادخلوا بملابسكم الرثّة، وأقدامكم الوَسِخة، لا مشكلة"، لم يُبدِ أحدنا اهتمامًا بدخول السيرك، هتفَ فينا "ادخلوا، انسوا جوعكم، أنسى معكم جوعى"، تحمّسنا للدخول، اقتربنا منه، أشار بيده لنتوقف، غرسَ أصابعه بمنتصف صدره وفَتَحَه لنا بمساحة باب كبير، تراجعْتُ خطوة، أنتِ جدّتى بقيتِ فى مكانِك، رأيتُ داخل صدر الشاب كل الحيوانات التى كانت خلفه، السحرة، والمُهرّجين، شعرْتُ أن هذه الكائنات كانت هناك منذ البداية، سمعْتُ موسيقا مرحة تتصاعد من داخله، قال وهو يشير بيديه إلى صدره المفتوح "ادخلوا"، ارتفع صوت الموسيقا، اندفعَ الأطفال ودخلوا صدره، تدافع الكبار للدخول وهم يتعثرون ببعضهم بعضًا، يضحكون، يطلقون شتائم بذيئة مرحة، لم يتبق غيرنا جدّتى، نظرْتُ إليكِ، أومأتِ لى ودخلنا، وقفنا فوق تراب وردىّ، يُظلّلنا سحاب قريب، سمعْتُ أصواتًا تهتف كى يبدأ الشاب عرْضَه، بدأ السحرة والمهرجون والحيوانات، كلٌ منها يؤدى العرض الخاص به، بدا الجميع كأنهم يشتركون بالأساس فى عرض واحد كبير، تنقّلنا بين الألعاب، هطلَ مطر وردىّ، خفيفًا فى البداية وسرعان ما اشتد، تراكمَتْ المياه، ملأتْ الأرض كأنها نهر يُغطى الدنيا، سَبحنا لوقت طويل دون تعب، حملتنا موجة كبيرة، ألقتْ بنا إلى جزيرة، نهضنا على الفور، تحسّستُ ملابسى، وجدْتُها جافة، مشينا جميعًا فى الجزيرة، أرضها مُغَطّاة بطبقة من عسل أبيض مُتَجمّد شَمَمْتُ رائحته اللطيفة فى الهواء، صادفنا بعد قليل بحيرات صغيرة من العسل، تتراصّ على حوافها أرغفة خبز طازج، جلسنا حولها جميعًا، نغمس قطع الخبز بالعسل، كنتِ عن يمينى جدّتى، نظرْتُ عن يسارى، وجدْتُ الشاب الذى دخلنا صدره يبتسم لى".

انتهى الحلم.

 أَبقيْتُ عينىّ مُغلقتين للحظات، فتَحتُهما.

 قلت لجدّتى "هذا كل شىء"

 "هل كان الشاب الذى رأيتِه فى الحلم هو نفسه مَنْ سألَنا عن مكان السيرك؟"

"أخبرتك جدّتى أنى لا أذكر شيئًا منذ أن كنا فى شرفة الجبل، حتى إنى لا أذكر بالأساس أنى غادرتها"، تذوقْتُ العسل من شفتىّ بطرف لسانى، نظرْتُ إلى آثاره فى أصابعى.

 "لماذا طعم العسل فى فمى وعلى أصابعى، هل أكلْتُ من القرص؟"، نظرْتُ إلى قرص العسل وأنا أعرف أنه سليم.

 قالت جدّتى "لم تأكلى، لكنك أمسكتِه، ربما تركَ أثره فى أصابعك، ولمستِ بها شفتيك"

"أو ربما أكلتُ العسل من جزيرة رأيتها فى حلمى"

 ابتسمَتْ.

 قالت "يمكنكِ أن تأكليه الآن أيضًا"

 التقطَتْ قرص العسل، مدّت يدها به إلىّ.

 قلت "لستُ جائعة"

"لم تأكلى منذ نزولنا من الجبل"

 نظرْتُ إلى أصابعى.

 "من أين إذن حصلْتُ على طعم العسل فى فمى، وأثره على يدىّ، أُرجّح أنى أكلت فى جزيرة حلمى"

"كنتُ معك فى الحلم، لماذا لا أشعر بطعم العسل فى فمى؟"

 "أنا لم أركِ تأكلين فى حلمى، فقط كنتِ جالسة إلى جوارى"

 تأمّلَتنى لحظة.

 قالت "تقولين إن الطعم فى فمك، والأثر على يديكِ بسبب أنكِ أكلتِ عسلاً فى الحلم، وليس لأن شابًا قابلنا فى الطريق وأعطاكِ قرص عسل؟"

 أومأتُ.

أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "يعجبنى، أُفضّل أن يكون هذا ما حدث"، أعادت قرص العسل إلى مكانه بجوار رغيف الخبز.

قالت "أنا أيضًا لستُ جائعة"

سمعْتُ نقرات المطر على الخيمة.

 قلت "المطر، أتمنى أن يكون ورديًا"

 خرَجْتُ.

 رأيت أرضًا يُغطيها عشب فضىّ قصير، اشتد المطر، حاولْتُ أن أعرف لونه فى ضوء القمر، جمَعْتُ بعضًا منه فى يدىّ، لم يكن ورديًا، فتحْتُ ذراعىّ، نظرْتُ إلى السماء، دُرْتُ حول نفسى عدّة دورات، جاءت جدّتى فاتحة ذراعيها للمطر وتنظر إلى السماء، توقّفَتْ بجوارى، دارت حول نفسها عكس اتجاه دورانى.

قالت "مطر مطر مطر"

 سألتُها بصوت مرتفع "هل يمكن أن تقولى لى شيئًا عن أمى وأبى؟"

انتظرَتْ حتى أكملَتْ دورة.

قالت "تمنّيتُ ألا تسألينى أبدًا"

 "لماذا؟"

"لأن حفيدتكِ ستسألك هذا السؤال يومًا ما؟"

 "كيف عرفتِ؟"

 أسرعَتْ فى دورانها.

"لأنكِ سألتِنى، أنا أيضًا سألْتُ جدّتى عن أبى وأمى، وقالت إن حفيدتى ستسألنى لأنى سألتها"

 توقّفْتُ عن الدوران.

 "وماذا قالت لكِ؟"

توقفَتْ جدّتى، نظرَتْ فى عينىّ.

"قالت إنها لا تعرف شيئًا عنهما، لأنها بالأساس لم تكن أُمًا يومًا، ولم ترغب أن تكون، مثلما لم يكن لها أب ولا أم، ولم تشعر أبدًا برغبة أن تكون إبنة"

"إذن كيف تكون جدّة لكِ، لا بد أنها حصلَتْ عليكِ بطريقة ما غير أن تكون.."

 قاطَعَتنى.

 "أعرف أنها جدّتى"

 "كيف يمكنك أن تكونى متأكدة؟"

"مثلما أنا متأكدة أنى جدّتك"

 تأمّلْتُها صامتة للحظة.

 قلت "يمكننى أن أُخمّن أنكِ مثل جدّتكِ، بلا أب أو أم، بلا ابن أو ابنة، ولم تشعرى يومًا برغبة أن تكونى ابنة أو أُمًا، وأنكِ لا تعرفين شيئًا عن أبى أو أمى، إن وُجِدا يومًا بالأساس"

 "يجعلكِ هذا تشكّين أنى جدّتك؟"

"ليس بهذه السهولة"

مرّرَتْ أصابعها على جانب شعرى.

قالت "أعرف أنكِ أيضًا لم تشعرى أبدًا برغبة أن تكونى ابنة، أو أُمًا"

"كيف عرفتِ؟"

"يمكننى أن أعرف هذا، كما أنك سألتِنى عن أمك وأبيك، وهذا يجعلكِ امتدادًا للسلالة "

"سلالة نساء بلا أب أو أم ولا أبناء، تعيش الواحدة منهن حفيدة لبعض الوقت، ثم تصير جدّة"

أومأتْ بشىء من تعاطف.

قلت "إذا كان هذا صحيحًا، وأنا الآن حفيدة، متى وكيف أكون جدّة؟" "تعرفين عندما يأتى وقتك"، قالت بهدوء، وربّتَتْ خدّى.

سألْتها "كيف حصلْتِ أنتِ علىّ، ومتى؟"

"ما أذكره أنى جدّتك طوال عمرى"

"هذه إجابتكِ؟ وتكون إجابتى لحفيدتى؟"

"لا أحد يعرف ما قد تقولينه لحفيدتك"

تأمّلْتُها قليلاً، ما زال المطر يهطل.

"أنتِ متأكدة أنكِ جدّتى؟"

أمالت رأسها على كتفها.

قالت "بِمَ تشعرين أنت تجاهى؟"

صمَتُ لحظات.

احتضَنْتُها.

"أنتِ جدّتى"

أمسَكَتْ بيدىّ، رقَصْنا معًا، كنت أنظر فى عينيها مباشرة، لم أشعر يومًا أنى حفيدتها أكثر مما شعرْتُ فى هذه اللحظة.

 رقصنا حتى انقطع المطر.

 عدنا إلى الخيمة، جفّفَتْ لى جسمى، ألبَستنى ملابس جديدة، أكلنا العسل والخبز.

مشينا.

العشب الفضّى يلمع فى نور القمر، العالم مُبلّل كأنما تحمّمَ لتوه، شَمَمْتُ فى جسمه رائحة المطر.

 سألْتُ جدّتى "برأيكِ، فى أىّ يوم نحن؟"

فكّرَتْ لحظة، هَزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا.

 قالت "مرّ وقت طويل منذ رؤيتنا آخر نهار"

 "ماذا لو لم يكن للأيام اسم أبدًا، هل كانت لتبدو مثل وقت ممتد، ليس فيه غد أو أمس، هل كان هذا ليريح البشر أم يتعبهم؟"

 "لا أعرف، لكن، أُفكر أن العالم يُرتّب أوراقه بتسمية الأشياء، تخيّلى، هى مجرد أسماء، لكنها تساعد جدًا فى ترتيب العالم، يبدو أنها ليست مجرد أسماء فى النهاية"

"لكن أسماء الأيام تبدو كأنها وهْم، حتى التوقيتات، مثلاً، ماذا كان ليتغيّر لو أن الساعة سبعون دقيقة أو خمسون، وليست ستين، أو كان اليوم ثلاثين ساعة أو أربعين، حتى إن أسماء الأيام يمكن أن تتغيّر فى أىّ وقت"

"ربما الساعات، الدقائق، والأيام، ليست إلا علامات على الوقت، الزمن، كأننا نحاول محاصرته، لكنه يستغلّ كل علامة، لينوّع أساليب هروبه، المفارقة أنه يُداهم الجميع، يهرب منّا لأنه يداهمنا، أو يداهمنا لأنه يهرب منّا"

 تطلّعْتُ إلى الليل.

قلت "لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك الآن"

 "لمجرد أن النهار لم يظهر؟ تعتقدين ذلك؟"

هزَزْتُ كتفى.

 قالت "لم تفكرى أنها ربما تكون طريقة جديدة للهرب أو المداهمة، أو ليفعل شيئًا آخر؟"

 فكّرْتُ لحظة.

 قلت "مخادع هو، الزمن؟"

"لا أراه كذلك"

"فهمْتُ من كلامك أنك ترينه غامضًا ومراوغًا"

"هذا لا يجعله مخادعًا، حتى إنه واضح بقدْر غموضه، لم يمنح سرّه لأحد، حتى الآن على الأقل، لا وعود، لا صداقات، ولا اسثتناءات، هذا بحدّ ذاته وضوح"

تأمّلْتُها لحظة، تطلّعْتُ إلى الأفق المفتوح.

 فكّرْتُ أنى حتى الآن لم أكتب شيئًا مما صادفناه، تساءلْتُ إن كانت هناك فرصة للكتابة، كنتُ مُتلهفة لأرى، وأكتشف ما يأتى، اختبرْتُ ذاكرتى، مرّتْ الأحداث كلها أمام عينىّ، حتى إنى رأيت حلم الشاب الذى فتح صدره لنا، اندهشْتُ من قدرتى على تذكّر كل التفاصيل، فكّرْتُ أنها من يتذكّرنى.

لكنى لم أتذكّر الشاب الذى قالت جدّتى إنه قابلَنا بعد نزولنا من "جبل النور"، وأنى أرشدْتُه عن مكان السيرك.

 

(6)

توقفَتْ "سيمويا" عن القرءاة بعد أن سَمِعَتْ قائد الطائرة يقول "عشرون دقيقة ونصل إلى جبل النور"

 أعادت أوراق "الليل" إلى حقيبتها، فكّرَتْ فى حوار الحفيدة وجدّتها.

 هى أيضًا لا ينقصها غير أن تسأل جدّتها عن أبيها وأمها كى تؤكد انتماءها لهذه السلالة من النساء، لكنها لم تشعر بالحزن لما هى عليه، كان الأمر طبيعيًا بالنسبة لها، ما شغَلَها بالفعل هو تلك الرابطة التى تجمعها بهذه الشابة "بينورا"، وجدّتها، كلما تقدّمَتْ فى القراءة، تساءلَتْ، ماذا بعد؟

عادت بحقيبتها إلى مقعدها.

قال دوفو "أهلاً، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

 نظرَتْ عبْرَ زجاج نافذتها، رأت قمة جبليّة مُسطحة يشعّ منها النور، تتوزّع فيها بِرَك صغيرة من نور سائل.

 همسَتْ لنفسها "جبل النور".

 حلّقَتْ الطائرة حول الجبل لدقائق، وحَطّتْ بالقرب منه فى مكان مُخصص.

استقبلَتْهم شابة عشرينية، قدّمَتْ نفسها باسم "ليارو".

تطلّعْت "سيمويا" إلى الجبل.

قالت "نصعده الليلة، صحيح دوفو؟"

"نعم"

قالت ليارو "لن ترتاحا قليلاً أو تأكُلا شيئًا؟"

"شكرًا، أكلنا فى الطائرة، مرتين"، قالت "سيمويا".

"وقضينا أكثر من عشر ساعات فى مقاعد مريحة"، قال "دوفو".

نقَلَتْ "ليارو" عينيها بينهما.

"طبعًا، سيمويا ودوفو، ماذا أتوقّع؟"، ابتسمَتْ وحرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

"لم نتقابل من قبل بشكل رسمى، لكنى أعرفكما جيدًا"

ابتسمَ "دوفو" و"سيمويا" لعزفها الوهمى.

صحبَتْهما إلى خيمتين متجاورتين، أشارت إلى واحدة برتقالية مُنقّطة بالأزرق.

 "خيمتكِ سيمويا"، أشارت إلى البنفسجية المنقطة بالأبيض.

"أنت هنا دوفو"، ونظرَتْ إلى نقطة قريبة.

"سأكون فى، أو عند خيمتى الصفراء، هناك، عندما تكونان مستعدين"

تَحمّمتْ "سيمويا" سريعًا، ارتدَتْ تى-شيرت بنفسجيًا، مرسوم على صدره جبال حمراء لها قمم بيضاء، بنطلونًا مموّه بالأزرق والأخضر الداكن، وحذاءً قويًا، علّقَتْ الكاميرا على صدرها، هاتفها فى جيبها، أخرجَتْ قطعة شيكولاتة من ثلاجة زجاجية، قضمَتْ زاويتها الصغيرة بأطراف أسنانها، وأعادتها مكانَها.

خرجَتْ.

 وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته، مشيا إلى خيمة "ليارو"، خرَجَتْ إليهما قبل أن يصلا بخطوات، اقترحَتْ أن يروا "بحيرات العسل" قبل أن يصعدوا الجبل.

خرجوا من الخيام، مشوا خمسين مترًا تقريبًا، ظهرَتْ ثلاث بحيرات متجاورات، صغيرة الحجم، وملأى بعسل أبيض، الأولى أكبر من زميلتيها، الثانية أكبر من الثالثة، وقريبات من الجبل.

قالت ليارو "نسمّيها فراشات العسل لأن كلاً منها على شكل فراشة"

توقفوا عند البحيرة الكبيرة، العسل شفاف، يلمع فى نور القمر، وتتحرك فيه موجات وهميّة، جلسَتْ "سيمويا" على ساقيها، مدّتْ إصبعها إليه، علّقت يدها فى الهواء، نظرَت إلى "ليارو".

 "هل يمكننى؟"

"أخشى أن هذا غير مسموح"

نهضَتْ "سيمويا".

"لو أننى لم أسأل"

"هناك بالفعل من يأكل من البحيرات، لكنهم ليسوا ضمن فريق العمل"

"يوجد أحد غيركم هنا؟"

نظرَتْ "ليارو" إلى "جبل النور".

"نعم، فرقة سيرك تأتى من الجبل مرة كل ثلاثة أيام، عند منتصف الليل تمامًا، معهم أرغفة خبز ساخن، يجلسون حول إحدى البحيرات ويغمسون خبزهم بالعسل، منعناهم فى البداية، لم يقاوموا وعادوا إلى الجبل، لكن البحيرات الثلاث تحوّلَتْ إلى كتل من الملح حتى موعد نزولهم التالى، لم نمنعهم ثانية"، نقلَتْ عينيها بين "سيمويا" و"دوفو".

"الليلة القادمة يصادف موعد نزولهم"

تجوّل الثلاثة بين البحيرات، نظرَتْ "ليارو" إلى "سيمويا".

 "تتجمّد البحيرات مع شروق الشمس، وتتفكّكْ مع الغروب، لدينا ڤيديوهات لذلك"

اتجهوا إلى "جبل النور".

قالت ليارو "يتحوّل الجبل عند الشروق إلى صخور عاديّة، ويبقى طوال النهار مثل أىّ جبل، ومع بداية الغروب يعود ثانية ويكون صخورًا مضيئة طوال الليل، لدينا ڤيديوهات أيضًا"

قالت سيمويا "شكرًا ليارو، أعرف أنك تذكرين هذه المعلومات لأجلى"

"لا عليكِ، تعجبنى طريقتك فى العمل، ليس مُهمًا أن نقرأ المعلومات المتوفرة عن المواقع قبل دراستها، ليس كثيرًا على الأقل" 

بدأوا صعود الجبل، الصخور عبارة عن كتل من نور شفاف، بداخل كل منها كتلة أقلّ شفافية كأنها قلب لها، فكّرَتْ "سيمويا" فى جبل أوراق "الليل"، تلفّتتْ حولها.

قالت "وجدتم أىّ حيوانات، نباتات، طيور، أو كائنات أخرى فى الجبل، ليارو؟"

"لا، ليس إلا الصخور المضيئة"

قال دوفو "كأن الجبل ماسة من نور صعدَتْ لتوّها من الأرض"

"أو هبطت من السماء"، قالت "ليارو" وحرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

نظرَتْ "سيمويا" بين زوايا الجبل.

"أتمنى أن نرى فرقة السيرك الليلة؟"

قالت ليارو "لا أحد يعرف من أين يظهرون، حدْسى يقول إنهم لا يغادرون الجبل إلا ليأكلوا من بحيرات العسل"

حاولَتْ "ليارو" وفريق العمل فى إحدى المرات أن يصعدوا الجبل مع فرقة السيرك، لكنّ قائد الفرقة الشاب منعهم، تعقّبَتْهم مع اثنين من زملائها، تفرّقَتْ الفرقة بين سلالم الجبل، واختفوا فى لحظة ما دون أن يُعثَر لهم على أثر، تكرّرَ الأمر ثلاث مرات، وامتنعَتْ "ليارو" عن تعقّبهم.

 تنقّلَتْ "سيمويا" بين الصخور بقفزات واسعة، توقفَتْ عند نقطة مرتفعة، نظرَتْ حولها.

هتفَتْ "مرحبًا، هل من سيرك هنا؟"

تردّدَ صدى صوتها عدة مرات، نظرَتْ إلى "ليارو".

"لم تجدوا شيئًا مميزًا على قمة الجبل؟"

"المميز أنه ليس له قمة، فى كل مرة نصل فيها، نضع علامة عند أعلى نقطة منه، وفى الليلة التالية نجده قد ارتفع عدّة سنتيمترات، كأنه يُحوّل بعض نور النهار إلى صخور مضيئة، الجبل ينمو كل يوم"

"ربما يتوقف لو توقف النهار عن الظهور"

"كأن هذا ممكن بالأساس"

"كل شىء ممكن، مثلما يقول دوفو"، خطفَتْ نظرة إليه، وقفزَتْ على السلّم صعودًا.

"لكنى لا أريد للجبل أن يتوقّف"، قالت "سيمويا" واختفَتْ بين الصخور.

هتفَتْ لها ليارو "لا تبتعدى"

ردّتْ "سيمويا" بضحكة.

جلس "دوفو" على ساقيه يفحص إحدى الصخور، جلسَتْ "ليارو" بجواره.

 "تعرف دوفو، أنت وسيمويا تُشكّلان ثنائيًا رائعًا"، حرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

 نظرَ إليها يطلب توضيحًا.

"أقصد فى العمل، ربما تكون طريقة عملكما مختلفة، أنت تعمل بطريقة بها بعض الرومانسية، وسيمويا لها أسلوب عملى إلى حد كبير، بهذا يُكمل كلٌ منكما الآخر"

 "سيمويا لم تكتشف بَعد جانبها الرومانسى، أرى لمسة رومانسية فى كل ما تفعل"

"أنتما الأفضل على أيّة حال"

سَمِعَا صوت "سيمويا" ينادى.

"بينورااااا، بينورااااااا"

رفع "دوفو" سبّابته فى الهواء.

"تنادى أشخاصًا غير موجودين، هذه رومانسية"

سمِعَا صوت "سيمويا" ينادى.

"سيرك، مرحباااااا، هيااااااا، أعرف أنكم هنااااااا"

قال دوفو "الآن تنادى أشخاصًا وجودهم مُحتَمَل، هذه سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ "ليارو".

"أشعر أن العالم يفتح لكما أبوابه السريّة، أو أنكما تعرفان طريقة الوصول إليها"

 "أو أن العالم يلعب معنا، ونلعب معه"

"اللعب، أحب هذه الكلمة منك بشكل خاص"

"شكرًا، هذا إطراء أحبه"، قال "دوفو" ونهض، تنقّلَ بين الصخور، مَشَتْ معه "ليارو".

سَمِعَا "سيمويا" تنادى.

"فريلياااااا، بينورااااا"

وَصَلا إلى قمة الجبل، نظرَتْ "ليارو" حولها.

 قالت بشىء من الدهشة "قمة الجبل؟"

"ما المشكلة؟"

"لم يحدث أن وصَلْتُ بهذه السرعة، كأن الجبل كشَفَ لنا عن سُلّم مختصر"

سَمِعَا صوت "سيمويا" خلفهما.

 "لماذا تأخرتما؟"

استدارا إليها، نَظَرَ "دوفو" إلى "ليارو".

قال "كشف لها الجبل عن سُلّم أسرع"

"قلتُ لك، العالم يكشف لكما أسراره"

"أنتِ تُصدقين هذا جدًا"

"نعم، أحب أن أُصدقه"، حرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

نظرَ فى عينيها لحظة، تلفّتَ حوله.

"ماذا يوجد هنا على أيّة حال؟"

"لا جديد، صخور، لكنها مُتعة الوقوف على قمة الجبل"

قال سيمويا "كنتما تتحدثان عنى منذ لحظات؟"

قال دوفو "نعم، تعتقد ليارو أن العالم يكشف لكِ أسراره"

تجوّلوا فى المكان.

 قمة الجبل عبارة عن مساحة كبيرة، خالية، يَشعّ منها النور، القمر كبير وقريب.

 توقّفوا قُرْبَ الحافة، تطلّعوا إلى الليل، مرّت بهم نسمة خفيفة، سَمِعوا حركة السحاب، همْسَ النجوم، وتنفّسَ القمر، حتى صمتَتْ كل الأصوات تدريجيًا، السحاب أولاً، النجوم، والقمر، بدأوا يسمعون الجبل، يُعبئهم بصوته قطرة بعد أخرى، امتلأوا به، نسوا كل شىء، شعرَ كلٌ منهم بأنه نقطة صغيرة فى الكون، لكنها تحوى كل شىء، نقطة فانية وفى الوقت نفسه أبديّة.

 صَمَتَ الجبل.

 شعرَ كلٌ منهم أنه يتحلّل على مهل، تطير كل ذرة منه إلى الكون، وتدور إلى الأبد.

 انتبهوا على صوت عميق صَعَدَ من تحتهم إلى قلوبهم مباشرة، نظروا بين أقدامهم، التفتوا إلى بعضهم بعضًا.

 قال دوفو "ربما يريدنا الجبل أن ننزل الآن"

نزلوا.

قالت ليارو "أعتقد أننا استعملنا سُلّمًا سريًا أيضًا فى النزول"

مشوا باتجاه الخيام، اقتربوا من البحيرات الثلاث، قابلَتْهم نسمة هواء مُحَمّلة برائحة عسل خفيف، أغلقَتْ "سيمويا" عينيها لحظة، وسحَبَتْ نفسًا عميقًا.

قالت "فراشات العسل، أُحب هذا الاسم"، فتحَتْ عينيها.

 ابتسمَ لها "دوفو".

قال "ألن تناديها مرة أخيرة؟"

نظرَتْ إليه متساءلة.

 قال "بينورا"

 "آها، صديقتى"، فكّرَتْ لحظة.

 "ربما تنتظرنى الآن فى خيمتى"

فى خيمتها، أثناء استحمامها، فكّرَتْ "سيمويا" فى "جبل النور"، وأنه يشبه إلى حد كبير الجبل الذى قرأتْ عنه فى أوراق "الليل"، شعرَتْ أن الأمر لن يتوقف هنا.

 ابتسمَتْ وهى تتساءل عمّا كانت تفكر فيه وهى تنادى "بينورا"، صديقتها كما قالت عنها.

خرجَتْ من الحمام، شعرَتْ بجوع، أكلَتْ خوخة، وخمس حبات لوز، أنشأَتْ فى حاسوبها مَلفًا أسمته "جبل النور"، كتبَتْ فيه ملاحظاتها عن الجبل وبحيرات العسل.

أخرجَتْ أوراق "الليل" من حقيبتها.

"الآن، صديقتى بينورا، وجدّتها".

 

الليل

خرجنا، جدّتى وأنا، من أرض العشب الفضىّ، دخلنا إلى شوارع متقاطعة، ليس فيها بيوت أو أشجار، فقط أشخاص متناثرين، أو مجموعات صغيرة، رأيت فتاتين وصبىّ يقفون حول بقعة نار يتدفأون بها، مجموعة صغيرة يجلسون على شكل دائرة، يغنّون، وفى المنتصف شابة ترقص، فى شارع آخر كان البعض يُحدّقُون بالسماء، ربما ينتظرون ظهور النهار، أو يعدّون النجوم، لديهم كل الوقت ليفعلوا، آخرون يتبادلون حكايات أو لُقَيمات صغيرة.

رأيت امرأة مُمددة على جانب أحد الشوارع، تمسحُ بيدها رأس طفل نائم فى حضنها، لَمَعَتْ فى ذاكرتى المرأة الأربعينية التى رأيتها نائمة مع طفلها فى سرير جدّتى، اقتربْتُ منها، كانت مغمضة العينين، مدَدْتُ يدى إليها، كِدْتُ ألمسها، تراجَعْتُ، ربما لو لمستها يظهر النهار ويعود كل شىء إلى طبيعته.

لفتَ انتباهى رجل لم أتبيّن ملامحه، فقط رأيتُ فى عينيه شحوبًا لامعًا، تطير أطراف شعره الأبيض مع الهواء، يرتدى ملابس ملوّنة شفافة، يتحرك بين النائمين بخطوات خفيفة، لا يكاد يلمس الأرض، لم أعرف إن كان حريصًا على عدم إزعاجهم أم تلك طبيعته، مشيْتُ خلفه، حرصْتُ على مسافة بيننا، سايرتنى جدّتى، تساءلْتُ لماذا ليست به مهتمة مثلى، هل تعرف ما يفعله، أم أنها فقط غير مهتمة؟

وصلَ الرجل إلى شارع هادئ، فيه رجال، نساء، وأطفال، كلهم مّمددون على الأرض، نظرَ فى وجوههم عن قُرْب بحنوّ، مسحَ رؤوسهم، توقّفَ عند شابة نائمة فى وضع الجنين، فتحَ فمه قليلاً، أَدخلَ فيه طرَفَى سبّابته وإبهامه، أَخرجَهُما وهو يُمسكُ شريطًا شفافًا كأنه حالة بين النور والماء، وصدَرَ عنه صوت مزيج من رقرقة الماء وانسكاب النور، لم أرَ روحًا من قبل، لكنى عرفْتُ أنها روح الرجل، سحبَها كاملة من داخله، ازدادت طولاً وعرْضًا، كانت نسخة شفافة عنه، أَمسكَ طرفيها العلويين بأطراف أصابعه، رفعَها بمواجهته مثلما يتفرّجُ شخص على ملابسه قبل أن يرتديها، رأيت فى نور القمر أصابعه الرقيقة والأظافر النظيفة.

 شَقّ الرجل روحَه نصفَين، سمعتُها تشهق بنشوة، رفرف كل نصف كأنما دبّتْ فيه حياة إضافية، وضَعَ أحدهما على ذراعه، غطّى بالآخر الشابة النائمة، ربّتَ خدّها، مشى عدّة خطوات، توقفَ عند عجوز نائم، غطّاه بالنصف المُتبقى من روحه، نظرَ إلى النائمين، ازدادت عيناه شحوبًا ولمعانًا، مشى فى عمق الشارع، أردتُ أن ألحَقَ به كى أنظر فى عينيه عن قُرْب، أو أتحدث إليه ولو بكلمة، فكّرْتُ أنه إذا كان لا يريد إزعاج الآخرين حتى بخطواته، لن أزعجه بخطواتى، ظللْتُ أرقبه، يزداد وضوحًا كلما ابتعد، صار فوق حدود رؤيتى.

انتبهْتُ وجدّتى تقف إلى جوارى، ابتسمْتُ لها، تلفّتُ حولى، الشوارع متقاطعة حولنا، كل واحدٍ منها بلون مختلف، بدَا الأمر مثل متاهة كبيرة، كنت سعيدة بما يحدث.

 قالت جدّتى "الآن، إلى أين؟"

 أشرْتُ إلى شارع قريب، أرضه من رمل أبيض يكاد يضىء بنور القمر، وبه حصى صغير ملوّن كأنه كنز مبعثر.

 "ما رأيكِ فى هذا الشارع؟"

 "لِمَ لا؟"

مشينا إليه.

 لم يكن فيه أحد، بعد عدّة أمتار صار الشارع وحيدًا دون تقاطعات، تحوّل إلى ممر عرْضه مترين، قابَلَنا إطار خشبىّ فارغ بحجم باب حجرة عادية، توقفنا عنده، رأينا من خلاله أرضًا ممتدة من تراب بُنىّ، اعتقدْتُ لوهلة أنه شيكولاتة مذابة، نظرْتُ إلى جدّتى وأنا أشير بيد مفتوحة تجاه الإطار.

 "الجدّات أولاً"

 ابتسمَتْ عيناها اللوزيتان وعبرَتْ الإطار، تَبِعتُها، سمعْتُ صوت باب ينغلق خلفى، التفَتُ، وجدْتُ بابًا خشبيًا بلا مقبض، كان بإمكانى أن أمرّ بجواره لو أردت العودة، لكنى فهمْتُ الرسالة.

 سمعْتُ نغمات بيانو هادئة، داعبَ الهواء أطراف شعرى، شمَمْتُ رائحة شيكولاتة خفيفة.

 قلت "هل تشمّين رائحة شيكولاتة، جدّتى، أقصد غير رائحتكِ أنتِ؟"

 "نعم، جميلة، وناعمة"

 جلسنا على ساقينا، تحسّسنا التراب، ناعم، تفوح منه رائحة شيكولاتة، كأنه مادة خام لصناعتها، تذوّقْتُه بطرف لسانى، فعلَتْ جدّتى الشىء نفسه، نظرْتُ حولى.

 همَسْتُ "أرض الشيكولاتة"

 قالت جدّتى "لا يمكننى أن أمشى هنا بحذائى"

 خلَعْنا حذائينا، وضعناهما فى جيب بالحقيبة.

يدغدغ الترابُ باطن قدمىّ، وبين خطوة وأخرى أَنزلقُ انزلاقة خفيفة مُحبّبة، تتغيّر درجة حرارته من مكان لآخر، يكون دافئًا، أفكر فى شيكولاتة دافئة غير متماسكة، يكون باردًا، أفكر فى قطعة باردة صلبة، سحبَتْ جدّتى نفسًا عميقًا وهى تنظر حولها.

 قالت "يمكننى أن أمشى هنا للأبد"

 "وأنا معك"

لا زلتُ أسمع البيانو، يأتينا من كل اتجاه، خافت مثل رائحة الشيكولاتة، كأنه يهمس، لكن، أو ربما بسبب ذلك، كانت كل نغمة مسموعة بوضوح، رأيت فى التراب تموّجات كأنها بحر صغير من الشيكولاتة، قابَلَتْنا تلال صغيرة كأنها كتل منها، تطلعَتْ جدّتى حولها.

همسَتْ "موسيقا وشيكولاتة"

 ابتسمْتُ لها، تأمّلْتُ عينيها، كانت منتشية، رائقة، وجدْتُنى أعترض طريقها بخفّة وحسم.

 قلت "حدّثينى عن قصة حبك؟"

كنت أعرف أن لجدّتى قصة حب كبيرة، أخبرتنى بنفسها، لكنها لم تذكر عنها إلا أشياء قليلة، حتى إنى لا أعرف اسم حبيبها، ربما تعمّدَتْ ذلك، كانت تقول جملة أو اثنتين فى أوقات خاصة، أو تفاجئنى بها، بهما، خلال حوار عادىّ، لم يكن ما تقوله خارج سياق الحديث، بالعكس، كان يعجبنى اختيارها لتوقيت الجملة، وعلاقتها السريّة بما نتحدث عنه، كنت أصمت وأنتظر أن تُكمل، لكنها تعود لحديثنا العادى بسلاسة.

 مُغرَمةٌ أنا بذكائها وسرعة بديهتها.

عرفْتُ منها أن حبيبها مات فى سِن مبكرة، دون تفاصيل، وعلى فترات متباعدة كانت تقول جملة أفهم منها أنها لم تُحب بعده، كأنها تُبلّغنى، هل أعرف عن قصتها أكثر من ذلك؟ ليس بالفعل، لم أسألها، وبقَدْر ما كانت لدىّ رغبة لأعرف، أعجبتنى لعبة الجُمَل العابرة.

لكنى أسألها الآن، أعتقد أن رائحة الشيكولاتة وموسيقا البيانو أغويانى لأفعل، وربما يُغويانها لتحكى.

  توقّفَتْ جدّتى، نظرَتْ فى عينىّ قليلاً، أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "تؤمنين بالحب من أول نظرة؟"، ومرّتْ بجوارى.

بقيتُ فى مكانى لحظات، لم تسألنى هذا السؤال بشكل مباشر من قبل، اعتبرْتُ أنه بداية لتحكى لى قصة حبها، لحقْتُ بها.

 قلت "الحب من أول نظرة، لم أُفكر فيه من قبل، أتمنّى أن يكون موجودًا"

 قالت "حتى من لا يؤمنون بوجوده ويسخرون منه، أو على الأقل يقولون أنه غير موجود يتمنّون أن يكون موجودًا، ويعيشوه"

 "كنتِ منهم جدّتى؟"

 هزّتْ رأسها نفيًا، نظرَتْ إلىّ.

 "لم أفكر فى وجوده من عدمه حتى وجدْتُه، أو وجدَنى"، تأمّلَتْنى لحظة.

قالت "تعتقدينه شيئًا جميلاً، أن تُحبى من أول نظرة؟"

 فكّرْتُ لحظة.

 "اممم، نعم، لا أتوقع أن يكون سيئًا"

"ولا ساذجًا؟"

"لا، كيف يكون الشعور بالحب ساذجًا"

اندهشْتُ لأنى أدافع عن الحب من أول نظرة بهذه الطريقة رغم أنى لم أفكر فيه من قبل، لمحْتُ فى عينى جدّتى إعجابًا باندفاعى، حتى إنها توقفَتْ لحظة، ونظرَتْ فى عينىّ لتتأكد أنى لا أسايرها.

 ما زالت أنغام البيانو حولنا.

 قالت "تعرفين ما هو أجمل من الحب من أول نظرة؟"

 لم أتنفّس.

نظرَتْ بعيدًا.

 قالت "الحب حتى آخر لحظة، أن تُحب حبيبك حتى بعد أن تفقده، وبعدما لا يكون لديك ما تنظر به، هذا هو الاختبار الحقيقى"

 توقفْتُ أُفكّرُ فى كلامها، سبقتنى بعدّة خطوات، التفتَتْ إلىّ.

 "لماذا توقفْتِ؟"

 مشيتُ إليها، نظرْتُ فى عينيها عن قُرْب، تأكدْتُ أنها ترى نظرتى بوضوح كى تعرف أنى سأسألها سؤالاً مباشرًا.

 "ما اسمه جدّتى؟ حبيبك"

 كنت أخشى أن تتوقف المحادثة لأىّ سبب، ولا تأتى فرصة لتُكمل لى القصة، فكّرْتُ أنها لو ذكرَتْ لى اسم حبيبها، يكون من السهل أن تُكملها.

قالت "تريدين أن تعرفى اسمه كى تضمنى أن أستمر فى الحكى، هذا ما تفكرين فيه؟"

 "نعم، ولأنك عرفْتِ ذلك، أطلب منكِ وعدًا بأن تُكملى القصة، أنا أستحق ذلك، حسب ما أعتقد"

 ابتسمَتْ عيناها.

 "اسم حبيبك جدّتى"

 صوت البيانو ورائحة الشيكولاتة يُرقّقان اللحظة أكثر.

 أمالت جدّتى رأسها على كتفها، ابتسمَتْ عيناها.

 قالت "دوفو، حبيبى اسمه دوفو".

 

(7)

استيقظَتْ "سيمويا" عند الخامسة والنصف صباحًا.

وضعَتْ أوراق "الليل" فى درج المكتب.

 فكّرَتْ فى حوار "بينورا" وجدّتها عن الحب من أول نظرة، ابتسمَتْ لأن حبيب الجدّة، وشريكها فى العمل، لهما الاسم نفسه، "دوفو".

لمعَتْ فى عقلها صورة الرجل الذى يَشقّ روحه نصفين، ويُغطّى بهما النائمين فى الشوارع، رأته شفّافًا، شاحبًا، وبه بريق غامض.

 تساءلَتْ، هل يمكن أن تعثر على أرض للشيكولاتة فى "جبل النور" لأنها قرأتْ عنها فى أوراق "الليل"، يمكنها أن تتوقّع ذلك؟

تحمّمَتْ، تناولَتْ إفطارها، ارتدَتْ قميصًا أبيض مُجَعّدًا، بخطوط طوليّة برتقالية متباعدة، وبنطلونًا أزرق داكنًا، ربطَتْ حول خصرها حزامها، وبه الشاكوش، الفرشاة، العدسة المكبّرة، أقلام، مُفكّرة، وضعَتْ فى حقيبتها القماش، كاميرا، برتقالة، أوراق، زمزميّة ماء، الهاتف فى جيبها، التقطتْ قُبعة، وخرَجَتْ.

رأت "دوفو" يخرج من خيمته.

"صباح الخير دوفو"

"صباح الخير سيمويا"

التقيَا "ليارو" أمام خيمتها، مشوا إلى بحيرات العسل، توزّعَ بقية أفراد فريق العمل فى نقاط مختلفة من الموقع.

 فحَصَ "دوفو" و"سيمويا" البحيرات، كلها متجمّدة، سطحها ناعم، صلب، تنعكس عليه أشعة الشمس الصباحية، يبدو شفافًا بطريقة ما، لكنه لا يكشف ما تحته، وتفوح منها جميعًا رائحة عسل خفيف.

تطلّعَتْ "سيمويا" إلى "جبل النور".

قالت "هذا الجبل يثير فضولى"

مشوا إليه، توقفوا أمامه.

 أحجار حمراء مع رتوش من الأخضر والأزرق، صعدوا، لم تكن هناك سلالم، إنما منحدرات وممرّات، لا شىء غير الصخور.

 قضى "دوفو" و"سيمويا" معظم النهار وهما يتنقّلان بين البحيرات والجبل، التقطوا لهما صورًا، مقاطع ڤيديو، وأخذوا عيّنات.

عند الغروب، وقَفَا مع "ليارو" وبعض أفراد طاقم العمل بين البحيرات الثلاث ينتظرون تفكّكها.

غابت الشمس، مرّتْ نسمة هواء.

قالت ليارو "تشمّان رائحة العسل؟"

أومأتْ "سيمويا".

"استعِدّا"

مَرّ فوق الجبل برْق لامع، التفتوا إليه.

"الآن"، قالت "ليارو" وعزفَتْ على البيانو الوهمى خاصّتها.

بدأتْ البحيرات تتفكّك، تصاعدَتْ منها رائحة العسل، رفّتْ حوافها كأنها فراشات دبّتْ فيها الحياة، فى الوقت نفسه بدأ الجبل يَشعّ نورًا من أماكن متفرقة دون أن يصدر عنه صوت، حتى تحوّلَ إلى كتلة من نور.

 قام "دوفو" بتصوير الجبل، وصوّرَتْ "سيمويا" البحيرات.

صعد الثلاثة إلى الجبل.

بحثوا عن فرقة السيرك.

 تهتف "سيمويا" من وقت لآخر "سيرك، أين أنتم، نعرف أنكم هنااااا، هيااااااا"

قالت ليارو "إنْ لم يظهروا، ننتظرهم بجوار البحيرات عند منتصف الليل، لا يتأخرون أبدًا"

تساءلَتْ "سيمويا" مع نفسها، هل يكون لقائد السيرك الشاب علاقة بالشاب الذى رأته "بينورا" فى أحلامها، ودخلَتْ صدرَه مع جدّتها؟

مشوا إلى زاوية فى قمّة الجبل على شكل قوس كبير، لها حافة بارتفاع متر، بَدَتْ مثل شُرْفة، تطلّعوا إلى النجوم وزوايا الليل، مرّتْ بهم نسمة باردة، سحبَتْ "سيمويا" نفسًا عميقًا وسريعًا، نظرَتْ إلى "ليارو".

"قلتِ إن طريقتى فى العمل تعجبك، ماذا يعجبكِ فيها؟"

"حسنًا، أعتقد أنى أفهم فكرتك، أنت تريدين أن تكتشفى الموقع الذى تذهبين إليه دون تصوّرات مُسْبقة عنه، تتعرّفين إليه بنفسك دون وساطة، حتى لو كانت معلومات من مراكز بحثيّة متخصصة، برأيى أن هذه الطريقة تتضمّن جزءًا من متعتك الشخصية بالعمل"

"هذا صحيح، ولو أن المعلومات عن المواقع بهذه الوفرة، لماذا نذهب إليها وندرسها؟"

قال دوفو "لأنها مجرد معلومات، ليست أكثر من حد أدنى نبدأ منه"

"لا أتحمّس لهذا النوع من البدايات، بالعكس، أشعر معه بالملل، والتقليدية"

ابتسمَ "دوفو".

"لن أعارضك، أنا بالأساس أُحب طريقتك"

"لا أُنكر أنى أنزعج أحيانًا عندما أَسأل عن أشياء بسيطة، لكنى أقول لنفسى، هذه إجابات أو معلومات الكل يعرفها، أنتِ لا تسألين عن سرّ، كما أنى، وفى أغلب المرّات، لا أحب أن يذكر لى أحد أية معلومات عن الموقع، لكنى لا أستطيع أن أقول لأحدهم توقف، لا أريد أن أسمعك"، نظرَتْ إلى "ليارو".

"لم أقصدكِ بهذا، كنتِ رائعة معى اليوم، شكرًا لك"

"كنت لأعرف لو أنكِ لا تريدين أن تسمعينى"

"شكرًا مرة أخرى"

قال دوفو "أرأيتِ ليارو؟ كل تفاصيل طريقتها رومانسية، قلت لك، سيمويا فتاة رومانسية لم تكتشف نفسها بعد"

ابتسمَتْ "سيمويا".

"تعرف دوفو أنى أحب رأيكَ فىّ، أتمنّى أن يحدث قريبًا ما يجعلنى أكتشف رومانسيتى"

قالت ليارو "أنت أيضًا رومانسى دوفو، وعندى دليل"، عزفَتْ على بيانو تراه وحدها.

نظرَ إليها بتساؤل.

قالت "رأيتكَ فى أحد المواقع، وأنت تلتقط بإصبعيك النمل الذى يزحف من الأرض إلى ملابسك، وتعيده إليها برفق، حتى لم تكن تنفضه، رغم أن هذا لم يكن ليؤذيه، أعجبنى ما كنت تفعله"

"هذه ليست رومانسية"

"هكذا رأيتها، وما زِلْت"

قالت سيمويا "لماذا تنفى الرومانسية عن نفسك دوفو، كأنها عَيب؟"

"لا أنفيها"

"تفعل الآن"

"أبدًا، رأيى أن جوهر العالم رومانسى، كيف أنزع عن نفسى جوهر العالم؟"

ابتسمَتْ عينا "سيمويا".

"أصدقك دوفو"

ضحكَتْ ضحكة قصيرة وهى تهزّ رأسها كأنما تذكّرَتْ شيئًا.

"ما زلت أندهش كلما طلبنى أحد مراكز الأبحاث فى مهمة، مع طريقتى الرومانسية تلك، مثلما تسميها"

قال دوفو "لابد أنها تعجبهم، وما يُهِم بالأساس هو ما تتوصلين إليه فى المواقع التى تدرسينها"، صمَتَ لحظة، ابتسمَ كأنه سيقول شيئًا مشاغبًا.

"ما كنت لأختارك للعمل معى فى كل مهمة، لو لم تكونى بالمهارة التى أنتِ عليها"

"أنتَ من تختارنى؟ أنا من أختارك"، قالت "سيمويا" بكبرياء طفولى.

دوفو "أنا أختارك"

سيمويا "أنا"

"أنا"

"أنا"

قال دوفو "حسنًا، فى الحقيقة هم يختاروننا معًا"

هدأتْ "سيمويا"، أومأت برأسها.

"نعم، هذا مقبول"

التفتَتْ إليه بسرعة.

"لا، أنا مَن يختارهم"

ضحكوا، ربما.

ظهرَتْ فرقة السيرك عند منتصف الليل.

كان "دوفو"، "سيمويا"، "ليارو"، وبعض أفراد فريق العمل جالسين بجوار البحيرات، سمِعوا موسيقا مرحة قادمة من الجبل.

"السيرك"، قالت "ليارو".

 ظهرَ بين حجارة الجبل مجموعة من رجال، نساء، شباب، فتيات، يرتدون ملابس ملوّنة، بعضهم يعزف على آلات موسيقية، يقودهم شاب يرتدى قميصًا مفتوح الأزرار، يكشف عن صدره الموشوم برسم ما، كانوا واضحين فى نور الصخور، تقافزوا على درجات السلالم نزولاً، وهم يصرخون بمرح بين لحظة وأخرى.

 وصلوا إلى سفحَ الجبل، توقفوا عن العزف، مشوا إلى البحيرات.

وقف الشاب قائد الفرقة عند "سيمويا" و"دوفو"، نقَلَ عينيه بينهما، ثبّتهما على "سيمويا"، رأت على صدره وَشْمًا أخضر عبارة عن باب بدرفتين مفتوحتين، هو نفسه الموجود على صدر شاب أوراق "الليل"، مثلما قرأتْ.

اقتربَ منها خطوة.

"أهلاً سيمويا"

"أهلاً، تعرفنى؟"

"نعم، حلمْتُ بكِ"

أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

"وكيف كنتُ فى حلمك؟"

 "رائعة، وتعزفين على كمان"

 "الكمان من آلاتى الموسيقية المُفضّلة"

"قلت لكِ إنى أعرفكِ؟"

"هذا ليس كافيًا"

فتحَ الشاب ذراعيه.

"لدينا الوقت لأُقدم لك أفضل"، ألقى نظرة على بحيرات العسل.

"ما أراه عسل؟"

نظرَتْ "سيمويا" إلى البحيرات.

"يقولون أنكَ وفرقتك فقط تأكلون منها، لماذا؟"

"لهذا حكاية تعرفينها فيما بعد، أمّا الآن، آكُلُ أنا وفرقتى، بعدها أصحبكِ فى رحلة داخل الجبل، أعرف أنك ترغبين فى ذلك"

"لن آتى وحدى"

"أعرف، أنتِ ودوفو معًا، هذا مفهوم"

قال "دوفو" للشاب "حلمْتَ بى أيضًا؟"

"لا، هناك طرق كثيرة لأعرفك بها"، قال الشاب ونظرَ إلى "سيمويا".

"بيننا اتفاق؟"

"ليس قبل أن أعرف اسمَك"

"أفهم من هذا أنكِ لم تحلمى بى؟"

"وقلبى يتقطّع"

ابتسمَ الشاب، نظر فى عينيها عن قُرْب.

"اسمى، كاريسكا"

أشار إلى فرقته، أخرجَ كلٌ منهم رغيف خبز من بين ملابسه، أحمر، له رائحة دافئة، كأنما خرج لتوّه من الفرن، مشوا إلى البحيرة الكبيرة، أخرجَ "كاريسكا" رغيفه، نظرَ إلى "سيمويا".

"أُحب أن تشاركينى"

 "ربما مرة أخرى"

جلسَتْ الفرقة حول البحيرة، يقطع كلٌ منهم لقمة من رغيفه ويغمسها فى العسل، طارت رائحة الخبز والعسل فى الهواء.

 همسَتْ سيمويا "أُحب هذه الرائحة"، رأت "كاريسكا" يرفع رغيفه لأعلى كأنما سمعَها ويدعوها لتأكل معه، ابتسمَتْ وهزّت رأسها نفيًا.

انتهوا من وجبَتهم.

صعدَ "دوفو" و"سيمويا" الجبل مع "كاريسكا" وفرقته.

تلفّتَتْ "سيمويا" حولها كأنما تبحث عن شىء ما.

قالت "ألا توجد فى الجبال كائنات أخرى؟"

"مثل ماذا؟"، سأل "كاريسكا".

"حيوانات، أشجار، أسماك، ربما تكون هى أيضًا من نور"

فكّرَ "كاريسكا" لحظة، بدَا متردّدًا أن يقول شيئًا ما.

"أحكى لكِ فيما بعد"

"أنت تؤجل كل الحكايات"

وصلوا إلى مساحة مُسطّحة دائرية الشكل، قطرها لا يتجاوز عشرة أمتار، أرضها رمل أبيض متماسك، وفى منتصفها شجرة طويلة، تتدلّى من أغصانها نُسَغٌ رفيعة، فى نهاية كل واحد منها ثمرة دائرية بيضاء لها شكل رغيف الخبز، تهتز مع حركة الهواء العادية، تحتكّ ببعضها بعضًا ويصدر عنها صوت جاف.

"شجرة الخبز"، قال "كاريسكا".

اقتربوا منها، تحسّسَتْ "سيمويا" إحدى الثمار، ناعمة، ودافئة.

قال كاريسكا "اقطفيها"

قَطَفَتْها، انتفخَتْ وصارت رغيفًا ساخنًا بدرجة محتملة.

 "اقضمى منه"

 قضمَتْ قضمة صغيرة، نظرَتْ إلى "دوفو".

 "لذيذ"

 "طبعًا"، قال "دوفو" ونظر إلى "كاريسكا".

"هل يمكننى أن ..."

"طبعًا، تفضّلْ"

 قطَفَ "دوفو" رغيفًا، وقضمَ منه.

قال كاريسكا "هذا خُبزنا، نأكل مرة واحدة كل ثلاثة أيام عندما ننزل إلى بحيرات العسل، يزعجنى أن زملاءكم بالخارج لا يأكلون منها"

قالت سيمويا "غير مسموح لهم، هم يدرسون المكان"

"وأين المشكلة؟"، هَزّ كتفيه، وأشار بيده كى يمشيا معه.

"هيا، لدينا متعة لنلحق بها"

نزلوا فوق أحد السلالم ومعهم فرقة السيرك.

 انتهى "دوفو" و"سيمويا" من أكل الخبز.

توقف "كاريسكا" أمام صخرة كبيرة يمرّ بمنتصفها خطّ متعرج، أدّى حركة بهلوانية من إيقاع واحد، انشقّتْ الصخرة عند الخطّ المتعرج إلى نصفين، انزاحَ كل نصف جانبًا.

 دخلوا.

 نزلوا فوق سلّم من صخور مضيئة، الوقت ليل، سماء بلا نجوم، تتناثر فيها أقمار ملوّنة.

قالت سيمويا "ما زلنا داخل الجبل، كاريسكا؟"

"لا، نحن تحت الأرض، وفوقنا سماء، يُمكن لأىّ منكما أن يمشى فى أىّ اتجاه، وسيظهر له سلّم"

 نظر "دوفو" و"سيمويا" حولهما، رأيا بعض أفراد الفرقة يتحركون فى اتجاهات مختلفة، فيظهر سلّم على الفور فى الاتجاه الذى يختاره أحدهم.

 غيّرَتْ "سيمويا" اتجاهها، ظهرَتْ درجة سُلّم تحت قدمها، أعجبتها اللعبة، تحركّتْ فى اتجاهات متعاكسة مرات متتالية، ظهر السُلّم تحت قدمها، نظرَتْ إلى "كاريسكا".

 "إلى أين تأخذنا؟"

 "أريكِ شيئًا يُعجبكِ، فقط نتوقف فى الطريق لنؤدى عرضًا مُهمًا"

"ليس من السهل أن تُثير إعجابى"

"سأحاول"، وابتسمَ.

"هذه كلمتى"

غمزَ لها بعينه.

مرّرَتْ عينيها على أفراد السيرك.

"أتساءل لماذا لا يوجد حيوانات فى فرقتك؟"

انتهتْ السلالم عند أرض مفروشة بخرز ملون، تتوزّع فيها بيوت من طين بألوان مختلفة، بدأ بعض أفراد الفرقة العزف على آلاتهم الموسيقية، خرَجَ أطفال من البيوت، جروا إلى "كاريسكا" وهم يهتفون باسمه بشكل إيقاعى، تجمّع بعضهم حوله، يرقصون رقصاتٍ خفيفة، مشى البعض الآخر بجوار العازفين.

  توقف "كاريسكا" عند امرأة عجوز تجلس أمام بيتها، قَرّبَ وجهه من وجهها، ابتسم لها.

"جئتُ فى موعدى"

رفعَتْ عينيها إليه.

"نعم كاريسكا"، ونقلَتْ عينيها بين "سيمويا" و"دوفو"، ثبّتتهما على "سيمويا".

 "اقتربى"

 مالت "سيمويا" إليها، تأمّلَتْ المرأة عينيها.

 "أنتِ ستعرفين شيئًا عن مستقبلك"

 "كيف عرفْتِ؟"

"أنا أوشك على الموت، لذا، ربما أعرف عنكِ شيئًا لا تعرفينه، أو تعرفينه فيما بعد"، نظرَتْ إلى "دوفو".

"أنت"

قرّبَ وجهه منها، تأمّلَتْ عينيه، مسحَتْ رأسه، ونظرَتْ إلى "كاريسكا".

"أين العرض الخاص بى؟"

سـألَها دوفو "لماذا لم تقولى شيئًا لى؟"

تأمّلَته لحظات بتعاطف غامض، التفتَتْ إلى "كاريسكا" ثانية.

"وقتى ينفد"

نظرَ "كاريسكا" إلى الفرقة.

 هتفَ "الوحش الحنون"

 خرجَتْ من بين أفراد الفرقة امرأة أربعينية، ضخمة، خفيفة الحركة، لها صدر قوى، عينان واسعتان، يدان ممتلئتان، فم كبير، شفتان ملوّنتان بالأحمر، ترتدى ثوبًا واسعًا من طبقات بألوان عديدة، مرسوم فيه حيوانات، نمور، أُسود، أفيال، دببة، قرود، كلاب بحر، ورسومًا أخرى لفاكهة، قِطَع لحم، وأسماك، وقفَتْ فى مقدمة الفرقة، لها حضور طاغ، تحيط بها هالة من الدفء.

شعرَتْ "سيمويا" بطاقة حنان كبيرة داخل "الوحش الحنون"، حتى كادت تندفع إليها وتحضنها.

نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

قال "سألنى أحدهم عن حيوانات فرقتى؟"

صنَع أفراد الفرقة قوسًا كبيرًا حول الوحش الحنون"، فتحَتْ ذراعيها جانبًا، حرّكَتْ أصابعها برعشة سريعة وهى تدور بعينيها فى الأفق، صاحَبَتْها دقّات طبول تصاعديّة، دارت حول نفسها، زادت سرعة دورانها، انفتحَتْ طبقات ثوبها، طارت منه الرسوم مُتحوّلة إلى كائنات حقيقية، نمور، دببة، أسود، أفيال، سحبَتْ من تحت ملابسها سوطًا طويلاً خيوطه من أضواء ملوّنة، فرقَعَتْ به مرة واحدة، تناثر منه رذاذ ملوّن، اصطفّتْ الحيوانات حولها، فرقعَتْ مرة أخرى.

 هتفَتْ "هيااااااا"

 صوتها وحشىّ وحنون معًا.

 تحرّكَتْ الحيوانات وهى تؤدى عرضًا متناغمًا، تلتقط "الوحش الحنون" بين لحظة وأخرى رسمًا من ثوبها، يتحوّل إلى طعام حقيقى، مرة يكون موزة تُلقيها إلى قرد، أو قطعة لحم تعطيها لأسد، أو سمكة لدُب، وكلما هتفَتْ فيهم "هيااااا"، ازداد حماسهم.

بالكاد منعَتْ "سيمويا" نفسها أكثر من مرة أن تندفع إلى المرأة وتحضنها.

 هتفَتْ الوحش الحنون "هياااااا"

 فرقَعَتْ بسوطها فى الهواء، قفزَتْ الحيوانات إليها فى وقت واحد وتحوّلَتْ إلى رسوم فى ثوبها، نظرَتْ إلى الأفق، صدرها يعلو ويهبط بأنفاسها مثل هضبتين صلبتين، رائحة الدفء تنطلق منها، تكاد تشعل الهواء حولها، حرّكَتْ السوط فى الهواء على شكل موجة كبيرة، أعادته تحت ملابسها، نظرَتْ إلى "سيمويا"، دقّ قلبها بقوة، أماءت لها المرأة كأنما تمنحها الإذن، وفتحَتْ أحد ذراعيها، اقتربَتْ منها "سيمويا"، شعرَتْ بنفسها وهى تخترق تلك الهالة الدافئة، ضمّتْها "الوحش الحنون" إلى حضنها.

"هيا، وقتى ينفد"، هتفَتْ المرأة العجوز.

عادت "الوحش الحنون" إلى مكانها بالفرقة.

"هايوووووو"، هتفَ "كاريسكا"، ودخلَ ساحة العرض بحركات بهلوانية، انضمّ إليه بعض أفراد فرقته بحركات مختلفة، لكنها منسجمة، البعض الآخر يعزف الموسيقا المصاحبة، عزفَتْ "الوحش الحنون" على آلة نفخ، يصْدر عنها ذلك الصوت الشجىّ بين بقية الأصوات المرحة.

 انتهى العرض، صفقَتْ العجوز، اقتربَ منها "كاريسكا".

 "سعيدة الآن؟"

 ابتسمَتْ.

 "الآن يمكننى أن أموت"، نهضَتْ، وقفَتْ فى فتحة باب بيتها، نَقَلَتْ عينيها بين "كاريسكا"، "سيمويا"، و"دوفو".

"أكملوا رحلتكم"، دخلَتْ بيتها، واختفَتْ.

 نظرَتْ "سيمويا" إلى "كاريسكا".

 قالت "ستموت المرأة فعلاً؟"

 "نعم"

 "ونتركها ونمضى، هكذا؟"

"لا شىء يمكننا أن نفعله"، ألقى نظرة تجاه باب البيت.

"اسمعى سيمويا، هذا المرأة وحيدة، لم تبتسم منذ مدة طويلة، أخبرتنى أنها ستموت اليوم، وطلبَتْ أن أمنحها بعض السعادة، الآن تموت سعيدة، وبعد موتها يعتنى بها آخرون، لا تقلقى"

مشى "كاريسكا"، ظلّتْ "سيمويا" فى مكانها، نظرَتْ إلى عمق البيت، بدَا كأنه بُعدًا آخر، انتبهَتْ على صوت "دوفو".

"امشى سيمويا"

خرجوا من أرض الخرز الملوّن.

 نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا" و"دوفو".

 "يمكنكما الجرى؟"

 لم ينتظر إجابتهما وجرى، جرَتْ معه الفرقة، ربتَتْ "الوحش الحنون" كتف "سيمويا"، وهتفتْ بطريقتها "هياااااا".

عبروا نهرًا، شوارع من ذهب وفضة، غابة، صحراء رمالها ورديّة، مساحات ممتدة من عشب طويل، مرّوا قُربَ بركان يقذف الحِمَم، أرض تغطيها الثلوج، لم يشعر "دوفو" أو "سيمويا" بأىّ تعب، رأيا من وقت لآخر حيوانات "الوحش الحنون" تجرى معهم، سمِعَا فرقعة السوط الملوّن فى الهواء، والصوت الوحشىّ الحنون يهتف "هيااااا".

 توقفوا عند حدود أرض من تراب بُنّى، بها أكواخ صغيرة من أغصان أشجار بنيّة، نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

 "هذا لأجلِك"

 نظرَتْ إلى التراب، بدَا كأنه شيكولاتة مُذابة، تذكّرَتْ "أرض الشيكولاتة" التى قرأتْها فى أوراق "الليل".

 قال كاريسكا "نخلع أحذيتنا قبل أن ندخل حتى لا نُغضب أحدًا"

دخلوا وأحذيتهم بأيديهم، توقفَتْ "سيمويا" بعد خطوتين، تلفّتتْ حولها.

 "أُحِب هذه الرائحة"، جلَسَتْ على ساقيها، التقطَتْ حفنة من التراب، تحسّسَتْه، شَمّتْه، وتذوّقته بطرف لسانها.

همسَتْ "أرض الشيكولاتة، لا يمكننى أن أمشى هنا بحذائى"

 انتبهَتْ إلى أنها الجملة نفسها التى قالتها جدّة "بينورا"، أعادت التراب بهدوء.

مشَتْ مع "كاريسكا" و"دوفو"، رأت على مسافة قريبة امرأة أربعينية تحمل على رأسها دلوًا تطير من فمه رائحة زهرة غامضة، أومأتْ كلٌ منهما للأخرى وابتسمَتْ، ظهرَتْ بعد لحظات أربعينية أخرى تمسك تحت ذراعها حزمة أغصان بُنيّة، ظلّت تبتسم فى عينى "سيمويا" حتى اختفَتْ بين الأكواخ، مرّتْ أربعينية ثالثة تحمل طبقًا من فاكهة متنوعة على يدها، وابتسامة على شفتيها.

 لاحظ "دوفو" و"سيمويا" أن كل مَن فى القرية نساء أربعينيات، حافيات، لهن بشرة بُنّى فاتح، كل شىء هنا له إحدى درجات اللون البُنّى، لم يسألا "كاريسكا"، فضّلا أن يكتشفا بنفسيهما، أو ربما عَرِفا السرّ، ظَلا يتطلّعان حولهما.

 المزيد من الأربعينيات المُبتسمات.

توقف "كاريسكا" عند كوخ مفتوح، نظرَ إلى "سيمويا".

 "هنا جائزتكِ"

شمّتْ رائحة تحبها تأتيها من داخل الكوخ، دقّ قلبها.

سألَتْ "ندخل؟"

"تعرفين ما هذا المكان؟"

انتظرَتْ إجابته.

"داخل هذا الكوخ صُنعَتْ أول قطعة شيكولاتة فى العالم"

 لم تشعر "سيمويا" بشىء لبرهة، ثم اندفعَتْ مشاعرها كلها دفعة واحدة، غرقَتْ فيها لحظات، تلاشى بعدها كل شىء، وبقى معها شجن جميل.

 تركوا أحذيتهم خارج الكوخ، ودخلوا.

 تطلّعَتْ "سيمويا" حولها، لا تريد أن تُبعِدَ عينيها عن أىّ شىء، أحبّتْ أن تنظر أولاً إلى كل قطعة على حِدة، ثم إلى القطع مجتمعة فى نظرة واحدة، شمّتْ رائحة شيكولاتة، بَدَتْ لها حاضرة منذ مئات السنين دون انقطاع، عتيقة وجديدة معًا، رأت فى أحد الزوايا طاولة خشبية صغيرة مستطيلة، فوقها كوب خشبى به ماء، ثلاثة أطباق صغيرة من الخشب، أحدها به حفنة سُكّر بُنىّ، الثانى به أوراق وردة بنفسجيّة، الثالث به بودرة كاكاو، وبجواره أداة طَحْن يدويّة صغيرة.

 هَمَسَ كاريسكا "غير مسموح بلمس أىّ شىء، أو الكلام بصوت مرتفع"

 وقفَتْ "سيمويا" بمواجهة ورقة مُعلّقة على الجدار داخل إطار من أوراق الشجر، مرسوم فيها بحِبْر بُنىّ وجه امرأة أربعينية، لها عينان واسعتان، شعر غزير مفرود فى حزمتين على صدرها، رفعَتْ "سيمويا" يدها ومرّرَتها ببطء فى الهواء كأنما تلمس وجه المرأة.

همسَتْ "أنا أعرفك"

انتقلَتْ إلى زاوية أخرى، رأت صندوقًا صغيرًا من الخشب، منقوشًا بزخارف لطيور وأوراق أشجار.

همَسَتْ "صندوق ملابسها"

 مرّرَتْ يدها فى الهواء كأنها تتحسّسه، ابتسمَتْ، رأت بجواره بساطًا من قطن برتقالى، يَسع شخصًا واحدًا، به رسوم بُنيّة لطيور ترفرف، وحوريّات.

همَسَتْ "مكان نومها"

 رأت نافذة صغيرة مفتوحة، وبجوارها مقعد خشبىّ هزّاز، ألقَتْ نظرة عبْر النافذة، وبالكاد منعَتْ نفسها من الجلوس على المقعد.

 وقفَتْ فى منتصف الكوخ، تطلّعَتْ إلى كل قطعة على حِدَة، أغلقَتْ عينيها، سحبَتْ نفسًا عميقًا، حبسَتْه لوقت طويل، شعرَ "كاريسكا" بالقلق عليها، مدّ يده إليها، منعَه "دوفو".

قال "لا تقلق"

 فتحَتْ "سيمويا" عينيها، أطلقَتْ نَفَسَها، نظرَتْ إلى "كاريسكا"، أومأت بما يُفيد أنها يُمكن أن تغادر.

 خرجَ "كاريسكا" "ودوفو".

 توقفَتْ "سيمويا" فى فتحة الكوخ، قبّلَتْ باطن يدها ولوّحَتْ للمرأة المرسومة فى الورقة، صانعة أول قطعة شيكولاتة فى العالم.

التقطوا أحذيتهم، ابتعدوا عن الكوخ.

 قالت سيمويا "تعرفان، الشيكولاتة البُنيّة هى الشيكولاتة الحقيقية، لا يمكنكَ القول أنك أكلْتَ شيكولاتة لو لم يكن لونها بُنّى"، تطلّعَتْ حولها إلى الأكواخ، والمزيد من الأربعينيّات المُبتسمات.

قالت "البُنىّ ليس من الألوان ذات الشعبيّة الكبيرة، لكنه يُعوّض ذلك بكونه لون الشيكولاتة، لو أنه موجود فقط لأجلها فهذا يكفيه ليكون رائع جدًا، ومحبوب جدًا"، تنهدّت.

"البُنّى دم الشيكولاتة"

وصلوا إلى سُلّم خشبى يتفرّع من جانب أحد الشوارع ويؤدى إلى الأسفل.

 قال كاريسكا "يمكنكما أن ترتديا حذائيكما"

 بدأوا ينزلون السُلّم.

 حلزونى الشكل، مُعلّقًا فى الهواء، حوله تهويمات من نور يتغيّر لونه بين لحظة وأخرى، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" أنهما داخل جنين حلم.

وجدا عند نهايته أرضًا عبارة عن سبعة دوائر داخل بعضها بعضًا، تفصل بينها مسافات متساوية، ولكل واحدة منها لون مختلف.

الدائرة الخارجية زرقاء، الثانية بنفسجيّة، الثالثة بيضاء، الرابعة حمراء، الخامسة برتقالية، السادسة صفراء، السابعة خضراء، وفى المركز نقطة صغيرة تنبض.

 نظرَ "كاريسكا" إلى "دوفو".

 قال "سيعجبك هذا"

دخلوا الدائرة الزرقاء.

شعروا أنهم  يمشون فى المساحات الحالمة من العالم، حيث المطر، الموسيقا، والمشاعر العميقة، فيه حجرة نوم السماء وأسرار قلبها، الأزرق أكثر مكان تحدث فيه قصص الحب من النظرة الأولى.

قالت سيمويا "الأزرق، أحلام البحر"

دخلوا الدائرة البنفسجيّة.

يمشون فى الأماكن الهشّة، الرقيقة، يتواجد عشّاق السهر، المتشردون، ومَن ضلّوا الطريق إلى البيت، فيه تجمّعات الندى، مساحات الشجن، الأغنيات الهادئة، وأجمل شوارع العالم المخصصة للمشى.

قال دوفو " البنفسجى، أحلام الليل"

الدائرة البيضاء.

المساحات المجهولة من العالم، لا يمكنهم توقّع ما يحدث، يمكن أن يتشكّل من الأبيض أىّ شىء فى أيّة لحظة، الأخطر ألا يتشكّل منه شىء، انتَبِه، أنت فى أكثر الأماكن خطورة.

قال كاريسكا "الأبيض، حِبْر الأسئلة"

الدائرة الحمراء.

أكثر الأماكن التى تتكرر فيها اللحظات العاطفية، والحوادث المرعبة، هنا يتم اختراع أوضاع الحب، آلات التعذيب، العطور ذات الأصل الحيوانى، والسكاكين المُخصصة للتعامل مع الأجساد الحيّة، يستطيع الأحمر أن يصنع مزيجًا مدهشًا من الألم واللذّة، أو يُلخّص أيًا منهما فى لحظة واحدة عميقة، يحمل ذلك الوعد الذى لا نُكذّبه أبدًا، والإغواء الغامض للتهوّر، كل ما يقوله هو: إفْعَل، استمرّ، الأحمر موجود كى يمنعنا عن التوقف.

قال دوفو "الأحمر، وعْد الغواية"

الدائرة البرتقالية.

أكثر الأماكن التى تحبها الشمس، وتكون معها فى أرقّ حالاتها، البرتقالى رسّام الشروق والغروب، أحد أكبر صُنّاع البهجة، تتجمّع فيه سنوات شباب جميع الكائنات، وأشخاص يتبادلون الابتسامات والأحضان بسهولة، أفضل مكان لإعداد جميع أنواع الكيك، خاصة كيك البرتقال.

قالت سيمويا "البرتقالى، محبوب الشمس"

الدائرة الصفراء.

مناطق العالم التى تتجمّع بها سنوات المراهقة لجميع الكائنات، تلك الأوقات المحبوبة برعونتها، ولأنها أكثر فترة من العمر تحدث فيها الأشياء للمرة الأولى، به كل أنواع الألعاب، مباريات سرعة البديهة، الحوارات الذكية، والنِكَات، تتواجد قصص الحب العابرة التى لا تُنسى، حتى لو كانت نظرة عَبْر نافذة قطار، الأصفر أرض اللعب، الابتكارات، والعجائب.

قال دوفو "الأصفر، طائر اللعب"

الدائرة الخضراء.

أفضل الأماكن التى يمكنهم الحصول فيها على أصدقاء، الكل يساعد الكل، اطمئن، هنا، لن يقسو عليك أحد، أنت فى الأكثر أمانًا ورحمة.

قال كاريسكا "الأخضر، دم الطبيعة"

وصلوا إلى النقطة المركزية داخل الدوائر السبع، قطعة من طين نقىّ، لها حجم قلب الإنسان وشكله، وتنبض بالطريقة نفسها، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" بالحنين إليها، وأن قلبيهما ينبضان مع نبضها.

 قال كاريسكا "قلب الأرض"

لم يكن أىّ منهما فى حاجة ليسأله إن كان بإمكانه أن يلمس هذا القلب، جلسا على سيقانهما، أحنىَ كلٌ منهما رأسه قليلاً للحظة، مدّت "سيمويا" يدها، وضعَتْها على القلب، دافئ، مُطْمَئن، شعرَتْ بنبضه فى قلبها وروحها، أغمضَتْ عينيها، تخيّلَتْه داخل صدرها، ابتسمَتْ، تنهدّتْ، ورفعَتْ يديها عنه.

وضَعَ "دوفو" يده على قلب الأرض، ظلّ يتأمّلَه، تخيّلَه داخل قلبه.

همسَ لنفسه" "قلب الأرض، قلب الأرض"

عادوا إلى "جبل النور".

 لم يعرف "دوفو" و"سيمويا" إن كانا قد أمضيا تحت الأرض عدّة سنوات أم لحظة واحدة، ليس مُهمًا، صعدوا أكثر من سُلّم، وصلوا إلى السحاب.

سألَتْ سيمويا "إلى أين تأخذنا كاريسكا؟"

 "القمر"

 تنقّلوا بين طبقات ملوّنة فى السحاب، تتوقّف "سيمويا" بين لحظة وأخرى، تلمس سحابة، تَحُكّ وجهها بها، أو تتذوّقها بطرف لسانها.

انتهى السلّم عند حافة القمر.

 دخلوه.

 توقفوا بعد خطوتين، الأرض رماد فضّى، التقطَتْ "سيمويا" حفنة منه، بارد، وناعم، همَسَ لها بأنه رماد الأحلام، ابتسمَتْ له، شَمّتْ فيه رائحة السّهَر، عرِفَتْها رغم أنها تشمّها للمرة الأولى، أو أن الرائحة عرّفَتْها بنفسها، تركَتْ حفنة الرماد، تلاشَتْ فى الهواء مثل دُخان فضّى.

 تطلّعَتْ "سيمويا" حولها، رأت أرنبًا بنفسجيًا على مسافة قريبة، يحفر الرماد بفأس من ورق أبيض، تذكّرَتْ الأرنب الذى كانت تراه فى طفولتها كلما نظرَتْ إلى القمر، كان يفعل شيئًا مختلفًا فى كل مرة، يحمل دلوًا، يحفر بفأس، أو يقفز فى الهواء، الآن تراه عن قُرْب يحفر بفأسه، نظرَ إليها، رأت فى عينيه الخضراوَين دهشة كأنه يقول لها "أنتِ؟"، لم ينقصه غير أن ينطقها.

 همَسَتْ له "أنا سيمويا"

 مشَتْ إليه، صارت على بُعد خطوات منه، تركَ فأسه وقفز مبتعدًا، لاحقَتْه، يتناثر رماد الأحلام من أقدامهما ويتلاشى فى الهواء، يتوقف الأرنب بين لحظة وأخرى حتى لا تفقده، بدَا أنه يُلاعبها، أو يقودها إلى مكان ما، توقّفَ عند بركة ماء على شكل فراشة، مساحتها لا تتجاوز مترًا واحدًا، جلسَتْ بمواجهته عند حافتها، نظرَ فى عينيها، مدّ فمه ليشرب، تأمّلَته، رفعَ عينيه إليها بتحريض كأنما يقول لها "اشربى"، لم ينقصه غير أن ينطقها، تمدّدَتْ على بطنها، بدأتْ تشرب، سمعَتْ صوتًا يهمس فى أذنها، يخبرها عن سِرّ لعبة القمر الأثيرة: كيف يمكنه أن يمشى مع الجميع فى وقت واحد، ابتسمَتْ روحها.

انتبهَتْ عندما انتهَتْ بركة المياه، جلسَتْ على ساقيها، ابتسمَتْ للأرنب، ابتسمَ لها، مدّتْ يدها إليه، قرّبَ رأسه منها، مسَحَتْها برفق، أغلقَ عينيه ونام قليلاً، استيقَظ، سحَبَ رأسه من يدها ببطء، قفزَ مبتعدًا، تبِعَتْه، توقّف عند فأسه، نظرَ إلى الزائرة لوزيّة العينين، توقّفَتْ على بُعد خطوات، حرّكَ فمه الوردىّ بسرعة، ابتسمَتْ، التقط الفأس وعاود الحفر.

 عادت "سيمويا" إلى "دوفو" و"كاريسكا" عند حافة القمر، وقفَتْ بجوارهما، تأمّلَتْ الأرنب، أمالت رأسها على كتفها، نادَته.

"أرنب، أنت، يا بنفسجى، أخضر العينين"

لم يلتفت إليها كأنه لم يكن معها منذ لحظات، ابتسمَتْ، خرجَتْ من القمر إلى السلّم الذى ينتظر، لَحِقَ بها "دوفو" و"كاريسكا"، لم تسألهما عما رأياه هناك، تساءلَتْ مع نفسها إن كانت قد رأت شيئًا فى القمر عدا الأرنب البنفسجى.

صعدوا فى السحاب.

 دخلوا غيمة داكنة الزُرقة، شعروا بلمسة برد خفيفة، خرجوا منها إلى نور الشمس، غطّوا عيونهم بأيديهم لحظات، كشفوا عنها ببطء، رأوا سحابًا أبيض به رتوش برتقالية، وشمس منتصف النهار تلمع على مسافة قريبة، كانوا يقفون على آخر درجة من السُلّم، انحرفَ "كاريسكا" خطوة إلى اليمين، ظهرَتْ تحت قدمه درجة سُلّم جديدة، طلَبَ من "سيمويا" و"دوفو" أن يقفا إلى جواره.

"انظرا إلى الشمس"

رأياها بلون برتقالىّ تغطس فى البحر، انتقلَ "كاريسكا" خطوة إلى أعلى، أشار إليهما، وقَفَا بجواره، رأيا الشمس بلون زَهرىّ تهبط خلف أشجار عالية، تحرّكوا خطوة إلى اليمين، رأوا شمسًا ذهبية تُشرق خلف جبل، خطوة إلى اليسار، رأوا شمسًا فضيّة تُشرق على طريق ملىء بالبشر، نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

"ما رأيكِ؟"

"كأنها شمس أخرى فى كل مرة، أعجبنى هذا"

ابتعدوا عن الشمس.

 دخلوا سحابة ملأى بالنور بحيث لم يستطع أىّ منهم أن يرى شيئًا.

 "استمرّا، لا تقلقا"، قال "كاريسكا".

قالت سيمويا "لم يَشْتَكِ لك أحد؟"

ضحكَ ضحكة قصيرة.

"ستشعران متى عليكما أن تتوقفا"

بعد لحظات، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" أنهما اخترقا حاجزًا ما، توقّفا، رأيا أمامها ما شعرَا أنه نهاية العالم، مساحة لا نهائية من فراغ، ليس بها نور أو ظلام، مسّهما خوف غامض.

قال كاريسكا "هذا ما تُطلقون عليه مكان خارج العالم"

قالت سيمويا "ماذا تقصد؟"

 "أنتم، هناك، خارج الجبل، يحدث أن تقولوا عن شىء ما إنه من خارج العالم، هذا هو"

"لكنه مجرد توصيف، نستعمله عندما نصف شيئًا بأنه جميل جدًا، المُفْتَرَض أن كل الأشياء والأماكن موجودة داخل العالم"

قال دوفو "يبدو أننا كرّرنا جملة: خارج العالم، عددًا كافيًا من المرات حتى نشأ مكان مثل هذا بالفعل، وصار حقيقة"

رأوا بيانو يسبح أمامهم فى الفراغ، كمان، كُتُب، أشجار، أقلام، وبيوت.

 قال كاريسكا "كل مَن يدخل هذا المكان يتحوّل إلى شىء ما، ما ترونه كانوا بشرًا دخلوا إلى هنا برغبتهم أو بطريق الخطأ، وتحوّلوا"

قالت سيمويا "هل يمكن أن يعود أىّ منهم إلى حالته الأصلية"

 "لا أعرف"

راقبَتْ "سيمويا" الأشياء لحظات.

"ماذا يحدث لو مدَدْتُ يدى هناك؟"

رفعَتْ يدها، أمسكَها "كاريسكا".

 "لا تفعلى، ربما يكون هذا كافيًا لتتحوّلى"

 نظرَتْ إلى "دوفو".

 قالت "إلى ماذا يمكن أن أتحوّل برأيك؟"

 "سهل جدًا، قالب شيكولاتة، أو كمان"

 ابتسمَتْ.

سألَها دوفو "ماذا تتوقّعين لى؟"

"أنت بيانو، أو حفنة دقيق"

صعدوا أحد السلالم.

قال كاريسكا "بالمناسبة لا يعجبنى أن تصفوا شيئًا جميلاً بأنه من خارج العالم"

"لماذا؟"، سألَتْ "سيمويا"

"أشعر فى هذا بإهانة للعالم، كأنه ليس جميلاً كفاية لنحصل منه على شىء رائع"

تنقّلوا بين السحاب.

توقفوا عند أرض عبارة عن ممرّات، بعضها مفروش بطبقة من تراب بُنّى، والبعض بحصوات صفراء، تتوّزع بينها بيوت صغيرة من خشب ملوّن، كل بيت بلون مختلف.

"غير مسموح بالمشى فى الممرّات البُنيّة، يُمكن لمْسُها باليد"، قال "كاريسكا".

دخلوا أحد الممرّات الصفراء، سمعوا نغمات بيانو هادئة تأتى من مكان مجهول، شَمّوا رائحة شيكولاتة خفيفة، تذكّرَتْ "سيمويا" صوت البيانو الذى سمِعَتْه "بينورا" وجدّتها فى "أرض الشيكولاتة"، التقطَتْ حفنة تراب من ممرّ بُنىّ، وجدَتْ به خشونة لطيفة، شمّتْ فيه رائحة شيكولاتة توأم التى شمّتْها فى أرض الأربعينيات المُبتسمات، تذوّقَتْه بطرف لسانها، الطعم أيضًا توأم، أعادت التراب إلى المَمرّ، وربّتَتْه مرتين.

مشوا، لم تتغيّر درجة صوت البيانو، مرّت بجوار "سيمويا" شابة عشرينية تحمل حزمة سحاب ملوّن تحت ذراعها، وضحكَتْ لها بمَوَدّة، بعد قليل نظرَتْ إليها شابة من نافذة بيتها، وضحكَتْ الضحكة الودود نفسها، انعطفوا إلى شارع جديد، عبَرَتْ أمامهم شابة عشرينية، وضحكَتْ بموّدة.

لاحظ "دوفو" و"سيمويا" أن كل مَن فى القرية شابات عشرينيّات، يضحكن بمودّة، لهُنّ شعر بُنّى طويل، وعيونًا بُنيّة.

أشار "كاريسكا" إلى بيت من خشب بُنّى شيكولاتى.

 توقفوا عند بابه المفتوح، ما زالوا يسمعون موسيقا البيانو دون أن تتغيّر درجة الصوت الخافتة.

قالت سيمويا "أشعر أن الموسيقا تصدر من جسم البيت نفسه، وليس مِن بيانو يعزف عليه أحدهم"

قال كاريسكا "داخل هذا البيت صُنِعَتْ أول قطعة شيكولاتة فى العالم"

 ابتسمَتْ "سيمويا" كأنها توقّعَتْ أن يقول شيئًا كهذا.

 "قُلْتَ هذا عن الكوخ تحت الأرض، عند الأربعينيات المبتسمات"

 "لكل شىء أكثر من حكاية"

 قال دوفو "وكلها صحيحة"

خلعَتْ "سيمويا" حذاءها عند فتحة الباب، نظرَتْ إلى "دوفو" و"كاريسكا".

"الأحذية من فضلِكما"

دخلوا البيت، انقطعَتْ موسيقا البيانو.

قال كاريسكا "تتوقف الموسيقا عندما يدخل أحدهم البيت، كى تعرف البلدة أن ثمّة زائرًا"

 قال دوفو "نتوقّع أن يأتى أحد ويطردنا؟"

 "لا، فقط هى طريقة البيت، وبالمناسبة، غير مسموح هنا أيضًا بلمس أىّ شىء، أو الكلام بصوت مرتفع"

 البيت حجرة واحدة متوسطة الحجم، شمّتْ "سيمويا" رائحة شيكولاتة توأم التى شمّتها فى الكوخ الأرضى، رأت على طاولة خشبية مستطيلة كأسًا بها ماء، ثلاثة أطباق زجاجية، أحدها به حفنة سُكّر بُنّى، الثانى به ورَقَتى شجر، إحداهما حمراء، والأخرى زرقاء، الثالث به ثلاث ثمرات كاكاو، بجواره أداة طحن يدويّة صغيرة، وبإحدى الزوايا ثلاثة أرفف خشبية، فى كلٍ منها قطعة ملابس مَطويّة.

اقتربَتْ "سيمويا" من الملابس.

همَسَتْ "ملابسها"

 شَمّتْ فيها رائحة شيكولاتة، مرّرَتْ يدها فى الهواء بمحازاة الأرفف، رأت على الأرض سحابة يتداخل فيها الأزرق والأبيض، جلسَتْ على ساقيها تتأمّلها.

همَسَتْ "سريرها"

 أغلقَتْ عينيها، حاولَتْ أن تشمّ رائحة جسد صانعة الشيكولاتة، رأت بحرًا بُنّيًا يموج، فتحَتْ عينيها، حدّقَتْ فى السحابة لبرهة، نهضَتْ، أشار لها "دوفو" تجاه نقطة بالجدار، اتجهَتْ إليها، رأت رسمًا بالحبر الأسود داخل إطار من خشب بُنّى لوجه شابة عشرينية، ينساب جانب من شعرها على صدرها، والآخر خلف ظهرها، بجوار الإطار قلادة على شكل قلب بُنّى صغير، ونافذة صغيرة مفتوحة، أسفلها مقعد هزّاز من سحابة بنفسجيّة.

وقفَتْ "سيمويا" فى منتصف البيت، أغلقَتْ عينيها، سحبَتْ نفَسًا عميقًا، حبسَتْه لوقت طويل، لم يقلق عليها أحد هذه المرة، فتحَتْ عينيها، أطلقَتْ الهواء، نظرَتْ إلى "كاريسكا"، أومأتْ برأسها، خرَجَ و"دوفو"، وقفَتْ هى فى فتحة الباب، قبّلَتْ باطن يدها ولوّحَتْ لصانعة أول قطعة شيكولاتة فى العالم.

وقَفَ الثلاثة أمام البيت، سمعوا موسيقا البيانو، نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا".

سألَها "أيهما تعتبرينها صانعة أول قطعة شيكولاتة فى العالم، صاحبة هذا البيت، أم صاحبة الكوخ؟"

أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "لكل شىء أكثر من حكاية، وكلها صحيحة"

عادوا إلى قمة "جبل النور".

 وجدوا فرقة السيرك بانتظارهم، بعضهم يعزف على آلته الموسيقية، البعض الآخر يتمرّن على حركات بهلوانيّة، "وحش حنون" تُمسك بسوطها وحولها أسدَين، دُب، وأربعة قرود، أشار "كاريسكا" لهم، توقّفوا عن العزف والتمرين.

قالت سيمويا "والآن كاريسكا، هل تحكى لى حكايتك، أنت، الفرقة، وجبل النور؟"

جلسَ الجميع فى دائرة، اختارت "سيمويا" أن تجلس بجوار "وحش حنون"، القمر الكبير فوقهم مباشرة، نور الجبل يشعّ حولهم، نظرَ "كاريسكا" إلى "سيمويا"، ظلّ صامتًا لحظات.

قال "يُحكى أنه لم يكن ثمّة جبل نور ولا بحيرات عسل، حتى وصلت إلى المكان مجموعة مسافرين يعانون الجوع والعطش"

تخيّلَتْ "سيمويا" مجموعة من المسافرين بينهم "بينورا" وجدّتها.

قال كاريسكا "كانت معهم طفلة صغيرة، ماتت جوعًا، وعندما ضمّتها أمها إليها، خرجَتْ من فمها ثلاث فراشات حطّتْ على الأرض، وظلّتْ تُفرز عسلاً حتى تكوّنَتْ بحيرات العسل الثلاث، فى الوقت نفسه ظهر جبل النور"

تخيّلَتْ "سيمويا" منظر "بينورا" وجدّتها وهما تراقبان صعود الجبل من الأرض، وكُرات النور تطير منه وتنفجر فى الهواء.

"كانت تعيش فى الجبل حيوانات، فراشات، وأشجار مثمرة، كلها من نور"

تخيّلَتْ "سيمويا" النمور، الماعز، الوعول، الفراشات، الزهور، بِرَك المياه، والأسماك، التى قرأتْها فى أوراق "الليل".

"لم تكن شجرة الخبز موجودة فى البداية، لا أحد يعرف من زرعها بعد ذلك، أو جاء بها، هى الوحيدة من نوعها فى الجبل"، صمَتْ لحظة، نظرَ بعيدًا.

"عسل البحيرات كان مُتاحًا ليلاً ونهارًا، الجبل كان نورًا طوال الوقت، فقط يتحوّل نوره أثناء النهار إلى ألوان أخرى، أحمر، أزرق، أصفر، أخضر، حتى كانت الحادثة"

 صدرَتْ همهمات غاضبة من أفراد فرقته، انتظرَ حتى صمتوا.

قال "قام أشخاص مجهولين بأعمال تخريب فى الجبل، كسروا بعض صخوره، اقتلعوا بعض أشجاره، لوّثوا مياهه، وجرحوا حيواناته بلا سبب، عندها هربَتْ بقية الحيوانات والطيور، أو أن الجبل أخفاها، مثلما أخفى الأجزاء التى كسروها منه، زادَ على ذلك أن يتحوّل إلى صخر صلد نهارًا، وشاركَتْه البحيرات غضبه، بأن تتجمّد خلال النهار"، مرّرَ عينيه على إحدى زوايا الجبل.

 "يُحكى أن الطفلة التى خرجَتْ من فمها الفراشات الثلاث موجودة فى قاع إحدى البحيرات، أو أنها محفوظة داخل إحدى صخور الجبل، صخرة واحدة تظلّ منوّرة ليلاً ونهارًا، لا تتحوّل، ولا أحد يعرف مكانها"، صمَتَ لحظة، نظر إلى أفراد الفرقة بترقّب، كأنه سيقول شيئًا يستفزّهم.

قال "بالمناسبة، هى جدّتى"

همهمَ أفراد الفرقة معترضين.

"مَن جدّتك تقصد؟"، سألَتْ "سيمويا".

"طفلة الفراشات الثلاث"

قال أفراد الفرقة "جدّتى أنا، لا، جدّتى أنا، جدّتى"

قالت وحش حنون "كاريسكا يقول إنها جدّته لأنه مَن يحكى الحكاية"

ابتسم "كاريسكا"، نقلَ عينيه بين "سيمويا" و"دوفو".

قال "هذا ما قصدتُه، حكايتى ليست الحكاية الوحيدة، لكل واحد من أفراد الفرقة حكاية مختلفة، شىء واحد فقط ثابت فى كل الحكايات"

قال دوفو "أنّ الطفلة جدّة كل واحد منكم"

"ولا تَعْتَبر هذا ثغرة فى الحكاية، أولاً، لأن هذه النقطة هى الشىء الوحيد الثابت فى كل الحكايات، ثانيًا، لأنه من السهل لأىّ أحد أن يراها، ويعتبرها ثغرة، كلنا يعرف ذلك، وكان يمكننا أن نتخلّص منها لتبدو حكايتنا مُحكَمَة، لكننا نُصرّ عليها، لماذا؟ لأننا نشعر أنها حقيقية، كيف؟ لا نعرف"

قال أفراد الفرقة "حقيقية، نعم، طبعًا"

نظرَ كاريسكا إلى "سيمويا".

"ألديكِ شَكّ أن طفلة الفراشات جدّتى؟"

"كيف تكون جدّة أىّ منكم وقد ماتت طفلة، وليس..."، قطعَتْ "سيمويا" كلامها.

"أكملى، أعرف ما تقولينه، ليس بينى وبينها أُم ولا أب"

فكّرَتْ "سيمويا" مع نفسها، أنا حفيدة بلا أُم، "بينورا" بلا أُم، جدّتها بلا أُم، هل جدّتى أيضًا بلا أُم؟

انتبهَتْ على صوت "كاريسكا" يهمس باسمها، نظرَتْ إليه.

قال "هى جدّتى، تصدقيننى؟"

تأمّلَتْه لحظة.

"أُصدقك كاريسكا"

"شكرًا سيمويا، كنت أعرف أنك ستفهميننى"

 فكّرَتْ "سيمويا" إن كان "كاريسكا" يعرف شيئًا عنها، وأوراق "الليل"، ويُلمّح لذلك، أم أنه فقط يثق بها لسبب لا تعرفه، أو بلا سبب.

قال "كاريسكا" وهو ينهى الحكاية "ربما فى حياة أخرى كَبُرَتْ طفلة الفراشات وصارت جدّتى، ليس بالضرورة أن تكون جدّتى المباشرة، الجدّة العاشرة مثلاً، أو الخامسة، لا أحد يعرف"

قال دوفو "حسنًا، قُلتَ أن لكل واحد من الفرقة حكاية عن جبل النور والبحيرات الثلاث، هل يمكن أن نسمعها؟"، ونظرَ إلى "سيمويا".

"ما رأيكِ؟"

"طبعًا، أظن أن هذا يستغرق الليل كله، يمكننا عندها أن نرى الجبل وهو ينطفئ ويتحوّل الى صخور عادية"

قال كاريسكا "لكن لا بد لى والفرقة أن نغادر قبل انتهاء الليل ولو بدقيقة واحدة، أعدكما أن تسمعا كل الحكايات"

عدّتْ "سيمويا" أفراد الفرقة، كانوا ستة عشر، إضافة إلى "كاريسكا".

حَكَى كل عضو فى فرقة السيرك حكايته عن "جبل النور" و"البحيرات الثلاث"، حكاياتهم متشابهة ومختلفة فى الوقت نفسه، الشىء الوحيد الثابت فيها أن طفلة الفراشات الثلاث جدّة كل واحدٍ منهم.

 تطلّعَ "كاريسكا" إلى السماء.

قال "أَوشكَ الليل على الانتهاء"

 قالت سيمويا "كل هذه الحكايات ولم نسمع واحدة عنك بشكل خاص، أو أىّ واحد من فرقتك"

"اخترعى لنا حكاية، أو ربما ترينى فى حُلمك، أو أراكِ فى حلمى ثانية، وأحكى لك"

"وكيف أعرف عندما ترانى فى حلمك؟"

"ثقى بى"

 ابتسمَتْ، تأمّلَها لحظة، نظرَ إلى فرقته.

 "أين تنين متجول؟"

 ظهَرَ شاب نحيف، قادمًا من أسفل يحمل على يديه رغيفين من "شجرة الخبز".

 "أنا هنا"

 أعطاه الرغيفين، سحبَتْ "وحش حنون" من ثوبها حقيبة مصنوعة من أوراق الشجر، وضعَ "كاريسكا" فيها الرغيفين، وقدّمهما إلى "سيمويا".

 "هذا الخبز يبقى دافئًا وطريًا طوال الوقت، لا يَفسَد أبدًا"، نقلَ عينيه بينها وبين "دوفو".

 "أؤكد لكما أن بحيرات العسل يُسعدها أن تأكُلا وزملاؤكما منها"

تأمّلتْه "سيمويا" لحظة.

"أين تذهب وفرقتك؟"

 "اممم، ربما ننزل تحت الأرض، نصعد إلى السحاب، أو نبقى فى مكان ما بالجبل، تخيّلى أنت"

تبادلا النظرات لحظات، ابتسمَ "كاريسكا".

"الآن ننصرف"

نهضَ الجميع.

 قالت سيمويا "هل نراك ثانية، كاريسكا؟"

 "لا أعرف، لن أظهر وفرقتى قبل يومين، أعتقد أنكما ستكونان قد رحلتما"

نظرَتْ "سيمويا" إلى "دوفو" لتعرف إن كانا سيبقيان حتى هذا الوقت، حرّكَ يده على شكل موجة، نظرَتْ إلى "كاريسكا".

"أريد أن أشكرك على كل شىء"

 "لا تشكرينى"

ابتسمَ لها و"دوفو".

قال "إلى اللقاء"

 مشى خطوة، نادَته "سيمويا"، التفتَ إليها.

قالت "هل تعرف فتاة اسمها بينورا، أو ربما قابلتَها فى مكان ما؟"

 فكّرَ لحظة، هزّ رأسه نفيًا.

 اتجه وفرقته إلى سُلّم، بحثَتْ "سيمويا" بعينيها عن "وحش حنون"، هروَلَتْ إليها، لمسَتْ كتفها من الخلف، التفتَتْ إليها.

 قالت سيمويا "إلى اللقاء وحش حنون"

 ابتسمَتْ المرأة ابتسامة كبيرة، وحضَنَتْها.

اختفى "كاريسكا" وفرقته بين صخور النور.

نظرَ "دوفو" و"سيمويا" إلى السماء، رأيا أول الشروق، بدأ الجبل ينطفئ ويتحوّل إلى صخور حمراء مع رتوش زرقاء وخضراء، دون أن يصدُرْ عنه أىّ صوت.

 اكتمل الشروق، اكتملَ انطفاء الجبل، وتحَجّر.

يوم جديد، معجزة جديدة.

نزلَ "دوفو" و"سيمويا" الجبل، قابَلا "ليارو" قُرْب بحيرات العسل.

سألَتْهما "هل من جديد؟"

 كَشَفَتْ "سيمويا" عن رغيفى الخبز.

قالت ليارو "هذا كل شىء؟"

أمالت "سيمويا" رأسها على كتفها، حرّك "دوفو" يده على شكل موجة، ابتسمَتْ "ليارو".

قالت "لا أعتقد هذا"، ومشَتْ إلى أصغر بحيرة عسل.

مشى "دوفو" و"سيمويا" باتجاه خيمتيهما.

 "أقترح أن نغادر اليوم إلى نقطة جديدة"، قال "دوفو".

 "لن نأكل من العسل؟"

"سهل، يمكننا أن نبقى حتى تتفكّك البحيرات مع الغروب، أثناء ذلك نُجهّز حقائبنا، نُعدّ تقاريرنا عن الموقع، ونختار النقطة التى ننتقل إليها"

"اخترْها أنت، دوفو ماليمورا"

جهّزَ كلٌ منهما تقريره، اشتركا فى تقرير ثالث، أرسلوا نسخة من التقارير الثلاثة إلى مركز الأبحاث، وأخرى إلى "ليارو"، واحتفظا بتقرير سرىّ أسمَياه "جبل النور وفراشات العسل".

تجوّلا فى الموقع خلال الوقت المتبقى من النهار، مشيَا حول البحيرات، صَعَدا الجبل، جلسا فوق نتوء صخرى يكشف لهما فراشات العسل، وتدَلّتْ سيقانهما فى الهواء.

 قالت سيمويا "لا يعجبنى أن تكون الطفلة التى حكى عنها كاريسكا راقدة فى قاع بحيرة، حتى لو كانت من عسل، ولا محبوسة داخل صخرة، ولو كانت من نور"

أومأ "دوفو".

قال "أعجبنى أن كل واحد منهم يعتبرها جدّته"

نظرَتْ إليه "سيمويا".

"رغم أنها لم يكن لها أبناء بالأساس؟"، سألَتْه وكأن إجابته يتوقف عليها شىء يخصّها.

"لم لا؟ كل شىء ممكن"، قال "دوفو" وهو يتابع خطًا برتقاليًا فى الأفق.

كادت تقول شيئًا لكنها تراجَعَتْ، ابتسمَتْ. 

"تُحب أن أُحدّثك عن بينورا؟ صديقتى"

تابعَتْ يده وهو يحرّكها على شكل موجة.

"أعتبرها موافَقَة، حسنًا، بينورا لديها جدّة، والجدّة لها حبيب"

أمالت رأسها على كتفها.

"اسمه دوفو"

ابتسمَ.

أرجَحَتْ ساقيها فى الهواء.

"الجدّة رومانسية، تؤمن بالحب من أول نظرة، هذا ما حدث لها مع حبيبها"

داعبَ "دوفو" بإصبعه خطّ نور أحمر برتقالى يمرّ أمام وجهيهما.

قال "فى رأيى أنها واقعيّة جدًا"

حرّكَتْ يدها فى الهواء إشارة أنها تطلب توضيحًا.

"الحب من أول نظرة موجود طوال الوقت، يحدث كل يوم تقريبًا، حتى من يَشكّون فى وجوده، أو لا يؤمنون به، يتمنّون أن يكون موجودًا، وأكثر من ذلك، يتمنّون أن يعيشوه يومًا ما"

 "هذا رأى الجدّة تقريبًا"

"ولا بد أنه رأى أشخاصًا آخرين، إذن، الحب من أول نظرة واقعى جدًا"، صمَتَ لحظة.

"وكأن هناك تعارضًا بين أن يكون الشخص واقعيًا ورومانسيًا فى الوقت نفسه"

"أليس الحال كذلك؟"

 مرّرَ "دوفو" عينيه على البحيرات وخط الأفق، نظرَ إلى سيمويا".

قال "العالم رومانسى فى جوهره"

بقيَا فى مكانيهما حتى الغروب، شاهدا الجبل يتحوّل إلى صخور من نور، والبحيرات تتفكّك إلى فراشات من العسل.

 نَزَلا الجبل.

 قابَلا "ليارو" فى طريقهما إلى خيمتيهما، طلَبَ منها "دوفو" أن تلقاه بعد دقائق عند بحيرات العسل.

جَلَبَ كلٌ من "سيمويا" و"دوفو" رغيف الخبز خاصّته، ذَهَبَا إلى بحيرات العسل، وَجَدَا "ليارو" وبعض أفراد فريق العمل. 

قال دوفو "ليس هناك سبب يمنعكم أن تأكلوا من عسل البحيرات، أبدأ أنا وسيمويا"

جلَسا على سيقانهما عند البحيرة الصغيرة، قطع كلٌ منهما لُقْمة من الرغيف، غمَسَها فى العسل، وأَكَلها على مهل. 

نظرَتْ "سيمويا" إلى "ليارو".

"يفوتكِ الكثير"، وأعطَتْها بقية الرغيف.

أعطى "دوفو" بقية رغيفه إلى شاب من فريق العمل.

 قسموا الخبز بينهم، وجلسوا حول العسل. 

عاد "دوفو" و"سيمويا" إلى خيمتيهما، أحضر كلٌ منهما حقيبة السفر خاصّته واتجها إلى الطائرة.

 كانت "ليارو" فى انتظارهما.

قالت "أسعدنى وجودكما هنا"، حرّكَتْ أصابعها كأنها تعزف على بيانو.

ابتَسَما.

قالت سيمويا "أنا أيضًا استمتَعْتُ بعزفك"، قلّدَتْ حركة أصابعها فى الهواء.

ضحكَ الثلاثة.

قالت ليارو "أعرف أنك تسمعان ما أعزفه بطريقة ما"، صمَتَتْ قليلاً، نقَلَتْ عينيها بينهما، بدا أنها ستقول شيئًا مهمًا.

"أرجوكما، ابقَيَا معًا"

طلبَتْ "سيمويا" من الطيّار أن يُحلّق فوق "جبل النور" لبعض الوقت، نظرَتْ عبر زجاج نافذتها بحثًا عن "كاريسكا" وفرقته، لم تجد غير صخور شفافة، مضيئة.

ابتعدَتْ الطائرة.

قال الطيّار "أمامنا أربع ساعات حتى نصل إلى موقع "بيوت المشاعر"، وبالمناسبة، أو بدون مناسبة، معى عسل"، رفَعَ يده ببرطمان زجاجى  ملىء بالعسل.

 قالت سيمويا "ينقصكَ الخبز"

 رفَعَ يده برغيف من "شجرة الخبز"

 صفّقَتْ له.

قال الطيار "العسل متاح لكل مَنْ فى الطائرة، أهلاً بكم"

 أسنَدَتْ "سيمويا" رأسها بجوار النافذة، نظرَتْ عبر زجاجها، رأت النجوم تنظر إليها، فكّرَتْ فى أوراق "الليل"، شعرَتْ بلهفة لقراءتها، التقطَتْ حقيبتها من الأرض، نهضَتْ، نظرَتْ إلى "دوفو"، نظرَ إليها فى اللحظة نفسها.

قالت "فقط سأنتقل إلى الخلف"

أومأ، بدَا وكأنه تراجع عن شىء كان سيقوله.

قالت سيمويا "أردتَ أن تقول شيئًا"

"ليس مُهمًا"

جلسَتْ فى مقعدها، أسندَتْ ذقنها إلى يدها ونظرَتْ إليه.

تأمّلَها لحظة.

قال "حسنًا، المرأة العجوز التى قابلناها مع كاريسكا تحت الأرض، قالت لكِ أنكِ ستقرأين مستقبلك، واكتفت معى بأن مسحَتْ رأسى، تَرينَ الفارق؟"

"ربما لم يكن لديها ما تقوله لك"

"أو لم تحب أن تقوله، ما زلت أذكر نظرَتَها عندما سألْتُها لماذا لم تقل لى شيئًا"

"أعتقد أنك تُبالغ، اِعْتَبرْ ما حدث لعبة"

"أعرف الألعاب جيدًا، وهذه لم تكن واحدة"

"لا تنسَ أن المرأة كانت على وشك الموت"

"لم أنْسَها لأنها كانت على وشك الموت"

لم ترد "سيمويا"، لاحظ "دوفو" بعض القلق فى عينيها.

 ابتسمَ وقال بطريقتها "عندى شغف".

ابتسمَتْ.

"جعَلْتَ عندى قلق"

"حسنًا، سأحاول أن أعتبرها لعبة"، قال "دوفو" وأشار بحركة خفيفة من رأسه تجاه مؤخرة الطائرة.

"إلى مقعدكِ الأخير"

"يمكننى أن أبقى"

  هزّ "دوفو" رأسه نفيًا.

 انتقلَتْ "سيمويا" إلى المقعد الأخير فى الطائرة، أخرجَتْ حافظة أوراق "الليل"، وضعَتْها على ركبتها، فكّرَتْ فى علاقة ما تقرأه بالأماكن التى تنتقل إليها، وما قالته لها المرأة العجوز، شعرَتْ بقلق غامض لطريقة تصرّفها مع "دوفو"، أية لعبة كانت هناك؟

أخرجتْ الأوراق من الحافظة.

لم يعد لديها شك أن ما تقرأه سيكون موجودًا بطريقة ما حيث هى ذاهبة.

 

الليل

ردّدْتُ بعد جدّتى اسم حبيبها "دوفو، دوفو".

أردْتُ أن أسألها أشياء أخرى عن قصة حبها، لكنى فضّلْتُ أن أتوقف قليلاً بعد ما عرِفْتُ اسم حبيبها، وأستمتع بهذا لبعض الوقت.  

مشينا.

 رأيت على مسافة قريبة البيانو الذى أسمعُ نغماته منذ دخولنا "أرض الشيكولاتة"، صمَتَ بمجرد رؤيتى له.

وصلنا إليه، قرمزىّ، يلمع فى نور القمر، دُرْتُ حوله على مهل، مرّرْتُ أطراف أصابعى على جسمه، له ملمس الحلم، انسيابى، كأنه تشكّلَ من موسيقاه نفسها، أصابعه باللونين الأسود والأبيض، أُحب أن أُسمّيها أصابع وليس مفاتيح، له رائحة رقيقة مثل زهرة نادرة، نهايات قوائمه الثلاث غائصة فى تراب أرض الشيكولاتة، مِقعد للعازف مستطيل الشكل، بلا مسند للظهر، يتّسع لاثنين أو ثلاثة، له إطار خشبى أحمر، ومُبَطّن بجلد أخضر داكن.

أعتبِر البيانو رجلاً أربعينيًا، رومانسيًا، كلما انفردْتُ بواحد، مرّرْتُ أصابعى على جسمه، وضغطْتُ أصابعه برفق واحدًا بعد الآخر، كى أسمع كل نغمة على حِدَة، ثم أُمرّر يدى بسرعة على أصابعه كلها، من اليمين إلى اليسار، وبالعكس، فأسمع تلك النغمات المتسارعة.

لن أنسى حفلاً حضرْتُه لعازفة بيانو، كانت تُمرّر أصابعها برقّة على أصابعه، وتسحبها، تميل بصدرها عليه مُغمّضة العينين، كان هناك شىء حسّى جدًا بينهما، تفتّحَتْ مسام جلدى، وتورّدَ دمى، تقلّبَ جسدى فى ذلك الحسّى بين العازفة والبيانو، وحلّقَتْ روحى مع الموسيقا.

 توقّعْتُ أن تخلع العازفة ملابسها فى أيّة لحظة وتمارس الحب مع البيانو.

 جلسْتُ على مقعد العازف، لمسْتُ أحد أصابع البيانو بسبّابتى، صدرَتْ عنه نغمة أضاءت نقطة بداخلى، لمسْتُ إصبعًا آخر، أصدرَ نغمة تُشبه الأولى، أضاءت نقطة جديدة فى روحى، علّقْتُ يدىّ فى الهواء لحظات، مرّتْ على وجهى دفقة هواء مُحمّلة بموسيقا، وضعْتُ أصابعى العشرة كلها على أصابع البيانو، وجدتُنى أعزف كأنه يُحرّك أصابعى بنفسه، ارتعشَ قلبى، شعرْتُ بماء بارد ينهمر من قمة صدرى ويرتطم بكل عظمة فىّ، أغمضتُ عينىّ، رأيت أشجارًا تنبت بداخلى، طِرْتُ بين سحاب، جريتُ فى شوارع ملوّنة، وبلادًا مُخصّصة للبيانو، رأيت نفسى غزالة، وردة، أرجوحة، ومطرًا، بكيتُ، ضحكْتُ، وملأنى شجن حبيب.

 فتحْتُ عينىّ، وجدْتُ أشخاصًا كثيرين يتزاحمون حول البيانو، بعضهم يُمسكُ بيديه خبزًا ساخنًا، وآخرين كأنهم ينتظرون دورهم، واصلْتُ العزف، بحثْتُ بعينىّ عن جدّتى، رأيتها جالسة على الأرض بجوار البيانو، تلتقط أرغفة الخبز التى تخرج من أحد جوانبه وتُعطى مَن عليه الدور، أغمضْتُ عينىّ، رأيتُ نجمة تتحوّل إلى عصفورة خضراء وتندفع إلى نقطة فى الأرض، كنتُ هذه النقطة، التقطَتَنى العصفورة بمنقارها، ارتفعَتْ بى، دخلنا سحابًا بنفسجيًا، تركتنى هناك، تهاويتُ عدة أمتار، تماسَكْتُ، وبدأتُ أسبح فى البنفسج.

انتبَهْتُ، لم يكن هناك أحد عدا جدّتى، جالسة على الأرض تتطلّع إلىّ، وبجوارها حقيبة السفر، رأيت رغيف خبز على سطح البيانو، يتصاعد منه خيط دخان فضّى، شعرْتُ بدفئه الرهيف فى الهواء، تباطأ عزفى رغمًا عنى حتى توقفْت.

 سألْتُ جدّتى "كم مرّ من الوقت؟"

 "دقيقة، ساعة، أو ليلة، لا أحد يعرف"

 "أين ذهب الجميع؟"

 "انصرفوا بعد أن أكلوا واستمعوا إلى البيانو، أحَبّوا عزفك"

 ابتسمْتُ، شعرْتُ برعشة فى أصابعى، نظرْتُ إليها، شاحبة كأنى نزفْتُ دمى، وداهمنى جوع شديد.

 "كُلى خُبزكِ بينورا"، قالت جدّتى وهى تنظر إلى الرغيف فوق البيانو.

أمسكْتُه بيدىّ الاثنتين وأكَلْتُه، اختفَتْ الرعشة من أصابعى، وعاد إليها لونها الطبيعى.

 قالت جدّتى "لا بد أنك فى حاجة إلى النوم، سأقيم الخيمة"

 "لا جدّتى، فقط أُريح رأسى قليلاً"

وضعْتُ جانب وجهى على سطح البيانو، سمعْتُ صوت أحشائه، كانت أجمل موسيقا سمعتُها فى حياتى، كأنها تأتى من أبعد نقطة فى الكون، وتنبع من قلبى فى الوقت نفسه، أغمضْتُ عينىّ، شعرْتُ أنى أدخل فى حلم.

انتبهْتُ بعد أن أفلَتَ ظِلّ الطائر من يدى.

 أدركْتُ أنى نِمتُ نصف دقيقة، أو أقلّ، لكنى أشعر براحة كأنى نمْتُ ليلة كاملة، نظرْتُ إلى جدّتى، ما زالت فى مكانها على الأرض، ابتسمَتْ لى، نهضَتْ ووقفَتْ بجوارى، مَسَحَتْ شعرى، لم أرفع وجهى عن البيانو، سألَتْنى إن كنت حلمْتِ بالنهار، أومأتُ، وتساءلَتُ مع نفسى كيف خطر ببالها أنى حلمْتُ بالنهار؟ سألَتْنى إن كانت قد ظهرَتْ فى الحلم، هل خمّنَتْ هذا أيضًا؟

جلسَتْ بجوارى.

 قالت "احْكى لى، فقط أَغلقى عينيك، واحَكى"

 وضعَتْ يدها على عينىّ مثلما فعلَتْ فى الحلم السابق.

تنفّسْتُ بعمق.

تَشكّلَ الحلم أمامى.

 بدأتُ أحكى "وقت الغروب، أنا وأنتِ جدّتى ندخل مدينة شوارعها ضيّقة، بيوتها من طابق واحد، بدَتْ خالية من أىّ أحد، شعرْتُ بحزن غريب لا سبب له، ازداد حزنى مع توغلنا فى المدينة، نظرْتُ إليكِ، رأيتُكِ حزينة، صار حزنى أكبر مما يمكن أن أتحمّله، حاولْتُ أن أُفكر فى شىء آخر ولم أستطع، كأن الأفكار والمشاعر انتهَتْ ولم يتبق غير الحزن، حاولْتُ أن أبكى لأتخلص من بعض حزنى، لم أستطع، قلتُ لك: جدّتى أنا حزينة، قلتِ لى: أنا أيضًا، قلتُ: أخرجينى من هنا، انتقلنا إلى مدينة أخرى، شعرْتُ بالسعادة بلا سبب، كلما توغلنا ازدادت سعادتى، صارت أكبر من احتمالى، حاولْتُ التخلص منها، أو التفكير فى شىء آخر، لم أستطع، قلتُ لك: أخرجينى من هنا، انتقلنا إلى مدينة شعرْتُ فيها بالخوف، وأخرى ملأتنى فيها الوحدة، قلتِ أنتِ لى: أخرجينى من هنا، وجدنا أنفسنا فى قرية صغيرة، أرضها تراب أصفر، شمسها قويّة، ليس فيها ظِلّ، دخلنا تحت شجرة، ازدادت الحرارة، كأن أوراق الشجرة تُكثّف أشعة الشمس وتعكسها على الأرض، بحثنا عن مخرج من القرية الساخنة، سَمِعْتُ وقْعَ حيوانات تجرى، تلفّتُ حولى، رأيتُ قطيعًا متنوعًا من أفيال، غزلان، أُسود، زرافات، نمور، جاموس وحشىّ، ذئاب، خيول، كلها تجرى معًا دون أن تهاجم بعضها بعضًا، كأنها لن تتوقف أبدًا، لم أتحرّكْ، نظروا جميعًا فى عينىّ مباشرة، توجّهوا إلىّ، تعالَتْ أصواتهم، لم أشعر بخوف، دخل القطيع صدرى، شاهدْتُ الحيوانات وهى تدخلنى، سمِعْتُ وقع أقدامها بداخلى، شعرْتُ بها تتفرّق فى كل مكان من جسمى وروحى، بدأتْ خطواتها تخفُتْ حتى تلاشت، وجدْتُ نفسى معكِ جدّتى فى أرض يُغطيها عشب أخضر قصير، مشينا وسط عدد كبير من الناس، كنتُ جائعة وعطشانة، الشمس برتقالة فى زاوية من السماء، كنا نعرف أنها ستظل على وضعها، لن تغيب، لأننا فى الجانب من العالم الذى يغطيه الغروب، ظهرَتْ من بعيد سحابة رماديّة كبيرة، تقدّمَتْ باتجاهنا، بدأتْ تحجب نور الشمس تدريجيًا، سمعْتُ البعض يقول: الليل الليل، اقتربَتْ السحابة بدرجة كافية لنكتشف أنها سرب طيور، عندما وصل إلينا حَجَبَ الشمس، وغطّانا بظلٍ رطب، رأيت الطيور كأنها طائر واحد متوسط الحجم يتكرّر إلى ما لا نهاية، له جناحان رماديّان، وبطن داكنة الزُرقة، ألقى السربُ إلينا أشياءَ اعتقدنا أنها حجارة صغيرة، غطّينا رؤوسنا بأيدينا، أنتِ لم تُغطى رأسك جدّتى، اكتشفنا أنها حَبّات من الذرة، القمح، والتوت، أكلناها، شعرْتُ بالمرح والحبّات تتساقط علىّ كالمطر، استمرّ هطول الطعام حتى شبِعْنا، تبقّى الكثير منه مُبعثرًا على الأرض، نظرْتُ إلى الطيور، ما زالت تمرّ فوقنا كأنها لن تنتهى، ألقَتْ علينا فضلاتها الملوّنة، حاولنا أن نتفاداها، لم نستطع، وجدناها تتحوّل إلى ملابس جديدة بمجرد أن تلمس أحدنا، البُقعة التى تسقط على رأس الواحد منا تتحوّل إلى قُبّعة، تسقط على الكتف تتحوّل إلى قميص أو فستان، تلمس الساق تصير سروالاً أو تنّورة، حصلنا جميعًا على ملابس جديدة، حصلْتُ على قميص أبيض وبنطلون مزركش بالورود، وأنت جدّتى حصلتِ على فستان برتقالى، نظرْتُ إلى الطيور، شعرْتُ أن اللون الأزرق فى بطونها يدفعنى برفق فوق زلاّجة من ماء، نِمْت، رأيت نفسى داخل حلمى نائمة فى حضنك، نام الجميع بملابسهم الجديدة، حولهم حَبّات الذرة، القمح، والتوت، رأيت نفسى أستيقظ، بدأ البعض منّا يمسك بظلال الطيور التى تعبر فوق جسمه، كلما أمسكَ أحدهم بظِلّ توقّف أحد الطيور بمكانه فى الهواء وهو يرفرف مُرتبكًا، أمسكْتُ بظلّ ونظرْتُ إلى السرب، رأيت طائرًا يتخبّط فى مكانه، قلّبْتُ الظِلّ بين يدى، تقلّبَ الطائر، بعد لحظات نقرَ الظلّ إصبعى، وأفلَتَ منى".

فتحْتُ عينىّ، رأيت جدّتى تستند بيدها إلى سطح البيانو، رأسها تميل على كتفها، وعيناها اللوزيتان تلمعان فى نور القمر، ابتسَمَتْ.

 قالت "أحبَبْتُ هذا"

 فكّرْتُ أن أسألها لماذا لم تُغطّى رأسها فى الحلم مثل الجميع عندما اعتقدنا أن الطيور تلقى علينا حجارة، لكن، كيف أسألها عن شىء فعَلَتْه فى حلم، حلمى أنا، لم يكن هذا بإرادتها، تساءلْتُ وأنا أنظر فى عينيها، لم يكن بإرادتها فعلاً؟ هى لم تُغطّى رأسها فى الحلم لأنى لا أتوقّع أن تفعل ذلك فى الواقع، أعطتنى هذا التصوّر عنها، إذن، كان لها إرادة داخل الحلم، حلمى أنا.

قلت "الآن، احكى لى عن قصة حُبك"

 ابتسمَتْ عيناها، استدرتُ إليها بجسدى كله، نظرَتْ إلى أصابع البيانو بخجل مثل طفلة تنتظر أن يسألها شخص كبير لتبدأ الحكى عن شىء تحبه، أعجبنى منظرها، راقبْتُها قليلاً.

 سألْتُها "كيف يكون شعور الحب من أول نظرة؟"

"مثل أن يصدمك قطار"، ونظرَتْ بعيدًا كأنما تشاهد القطار يُطيح بها.

 "أنا لم يصدمنى قطار من قبل، ولا أتمنى، كيف أعرف ما تقولين؟"

نظرَتْ إلىّ.

 "عليكِ إذَن أن تُجرّبى الحب من أول نظرة، الفارق أن صدمة الحب للنجاة"

 "كل مَن أَحب نجا؟"

 لمَسَتْ أحد أصابع البيانو، صدرَتْ عنه نغمة هادئة.

قالت "بطريقة ما"، لمسَتْ إصبعًا آخر.

 "نعم"، مرّرَتْ يدها على سطح البيانو.

 "مَنْ أَحب نجا"

تأمّلْتُ عينيها لحظات.

"أين قابلتِ دوفو لأول مرة؟"

 "لا أذكر"

 "تقولين أنكِ أحببتِه من أول نظرة ولا تذكرين أين قابلتيه؟"

 "كنا زملاء مهنة، هو أيضًا باحث چيولوچى حُرّ، اشتركنا فى مهام كثيرة، يمكننى القول أن صداقة نشأت بيننا، استمرّ هذا لعدّة سنوات قبل أن أُحبه من أول نظرة"

 "لا أفهمكِ جدّتى، كيف أحببتِه من أول نظرة، وأنتما مثلما قُلتِ كنتما زملاء، أو أصدقاء لعدّة سنوات؟"

 عزفَتْ نغَمَات ارتجاليّة قصيرة.

 قالت "الحب من أول نظرة ليس فقط أن تُحبى شخصًا ترينه للمرة الأولى، عندما تتعاملين مع أحدهم لسنوات وتعتبرينه صديقًا، وتتراكم بينكما الكثير من التفاصيل، ثم تشعرين تجاهه بالحب عند لحظة ما، فهذا حب من أول نظرة، هناك حالات كثيرة، وما حدث بينى وبين "دوفو" واحدة منها، لكن تبقى حالة يمكن أن تُسمّيها الشكل الكلاسيكى، هى التى تحدث بين شخصين يرى كلٌ منهما الآخر للمرة الأولى"، صمتَتْ لحظة، ابتسمَتْ.

 "وفى أىّ من هذه الحالات أضمن لكِ أن تشعرى كما لو أن قطارًا صدمك"

 قلت "بشرط أن أنجو"

"تنجين، بطريقة ما"

لمسْتُ إصبعين من البيانو.

 قلت "تتذكرين على الأقل اليوم الذى صدمكِ فيه القطار"

ابتسمَتْ عيناها.

 قالت "يُمكنكِ أن تعتبريها حكاية قصيرة"

"أُحب أن أسمعها"

تنهّدَتْ، نظرَتْ بعيدًا.

قالت كأنها تصف مشهدًا تراه "كنت ودوفو فى مُهمة تتضمّن دراسة غابة مُتحجّرَة، بدأنا العمل معًا على شجرة طويلة مُمَدّدة على الأرض، دوفو عند أحد طرفيها، وأنا عند الطرف الآخر، أُنظّفُ جسمها بفرشاتى وأُدَقّقُ فى تفاصيلها، لم أرفع عينىّ عنها لحظة، ولم أنطق بكلمة، أظن أن هذا ما فعله دوفو أيضًا، كنا بعيدَين عن بقية فريق العمل، نقترب من الغروب، والغابة صامتة، ليس إلا صوت فرشاتى يملأ العالم حولى، وعند لحظة، شعرْتُ أنى دخلْتُ المجال الحيوى لشخص ما، أو أنه دخلَ مجالى، تذكّرْتُ دوفو، وأنه يعمل معى على الشجرة نفسها، كان غريبًا أن أشعر بهذا، فقد تقاربنا من قبل مرات كثيرة، ولم أشعر بشىء، واصلْتُ عملى، حتى تلاقينا فى نقطة، كان جانب ركبتى يلامس جانب ركبته بخفّة، شىء عادى، إنه "دوفو"، زميلى، وصديقى بطريقة ما، لم أرفع عينىّ إليه، أظنّه لم يفعل، تابَعْتُ عملى، ثم خَطَرَ لى أن أسأله عن شىء يخصّ الشجرة، نظرْتُ إليه، نظرَ إلىّ فى اللحظة نفسها، عينىّ فى عينيه مباشرة من تلك المسافة القريبة"، صمَتَتَ لحظة.

"شعرْتُ أنى أراه للمرة الأولى، وأحبَبْته، أحبَبْتُ دوفو"، نظرَتْ إلىّ، رأيتُ فى عينيها فرحًا تمنّيتُ أن أصادفه يومًا.

 قالت "أحبَبْتُ ونَجَوت"

تأمّلْتُها قليلاً لا أفكّر فى أىّ شىء، شعرْتُ بدفقة بَرْد خاطفة، انتبَهْت.

سألتُها "ماذا قلتِ له وقتها، وماذا قال لك؟"

ابتسمَتْ.

"لا يمكنكِ أن تسمعى أو تقولى شيئًا عندما يصدمك قطار، أو تُحبّين من أول نظرة"، مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها.

"لكن، بعد أن انتهى يوم العمل قال لنا زملاؤنا أن الغابة استعادت حياتها، اخضرّتْ الأشجار، وقفَتْ فى مكانها لمدة دقيقة كاملة، وكان هذا وقتًا كافيًا ليتأكدوا أن ما يرونه حقيقى، كنتُ متأكدة أن هذا قد حدث عندما شعرْتُ بالحب تجاه دوفو"

 "أنا أيضًا متأكدة"

أمالتْ رأسها على كتفها وابتسمَتْ.

 قلت "لكن ماذا عن دوفو، هل أَحبكِ؟"

 نظرَتْ إلى القمر، مرّرَتْ يدها على أصابع البيانو كلها.

 قالت "أعتقد أنكِ وأنا فى حاجة إلى رسّام يرسمنا"

 فهِمْتُ أنها تريد أن تتوقف هنا عن الحكى.

 قلتُ "الرسّام مَن يحتاج إلى منظرنا كى يرسمه"

 رأيتُ فى عينيها رِضا لأنى تفّهَمْتُ رغبتها.

 قالت "ما رأيكِ لو أقَمْنا خيمتنا بجوار البيانو، وقضينا بعض الوقت هنا فى أرض الشيكولاتة؟"

 "أُحب ذلك، لكن لدىّ فضول لأعرف ما ينتظرنا فى أماكن أخرى"

وضعَتْ جدّتى الحقيبة على ظهرها ومشَتْ، تأخرْتُ عنها لحظات، مرّرْتُ أصابعى على أصابع البيانو كلها، مرة من اليمين إلى اليسار، وبالعكس.

 لحقْتُ بالجدّة.

كنت أنظرُ خلفى إلى البيانو كل عدّة خطوات، أراه ولا أسمع صوتَه، وعندما سمعْتُه لم أرَه.

بدَتْ "أرض الشيكولاتة" بلا نهاية، لم يتغيّر لونها، بُنىّ مخلوط بنور القمر، شعرْتُ أن شيئًا يتعمّد أن يُضيّعنا كى لا نخرج، رأيتُ البيانو من بعيد، انقطعَتْ الموسيقا، تأكدّتُ أننا ندور فى المكان نفسه رغمًا عنّا، نظرْتُ إلى جدّتى.

 قالت "أعيدى حفنة التراب إلى الأرض"

 كنت قد أخذْتُ حفنة من تراب الشيكولاتة قبل أن أبتعد عن البيانو، أخرَجْتُها من جيبى، جلَسْتُ على ساقىّ، وسكبتُها على الأرض.

قالت جدّتى "الآن يمكننا أن نخرج"، أدارتْ ظهرها للبيانو، ألقيْتُ عليه نظرة أخيرة ولحقْتُ بها.

تساءلْتُ، كيف عرِفَتْ جدّتى بحفنة التراب فى جيبى، أُرجّح أنها لم ترنى حين أخذتُها، ربما عرفَتْ بحدْسِها أنّ هناك علاقة بين ضياعنا وأن يأخذ أحدنا شيئًا، ولا يوجد هنا غير التراب لنأخذه، لماذا لم تطلب أن أعيده فى بداية ضياعنا؟

انقطعَتْ رائحة الشيكولاتة بمجرد أن غادرنا الأرض البُنيّة.

 دخلنا أرضًا من تراب أبيض.

 شمَمْتُ رائحة بسكويت طازج، خفيفة كأنها تهمس.

 قلت "تشمّين رائحة بسكويت، جدّتى؟"

"إنها رائحة التراب"

 جلسْتُ على ساقىّ، التقطْتُ حفنة، تحسّسته، دافئ، به درجة خشونة لطيفة، قرّبْتُه من أنفى، تسرّبَتْ إلىّ بهجة طفولية، تذوّقتُه بطرف لسانى، يمكننى أن أصنع بهذه الحفنة أطيب قطعة بسكويت.

توغّلنا، لم تتغيّر درجة رائحة البسكويت، ظلّتْ ثابتة عند تلك الحالة من الخفّة، بسكويتة واحدة لها حضور ألف، ورائحة آلاف البسكويتات تظلّ بخفّة بسكويتة واحدة.

 رأيتُ فى الأفق سحابة من غبار أبيض، أشخاصًا كأنهم يحفرون الأرض بأيديهم، وقنوات مياه تتلألأ حولهم، مشينا إليهم، كلما اقتربنا اتضحَتْ تفاصيل المشهد، توقفنا على بُعد أمتار منهم، كانوا بشرًا من كل الأعمار، حُفاة، أيديهم تعمل بتناغم ومهارة، كأنهم يحفرون منذ مئات السنين دون توقّف، يطاوعهم التراب، لا يؤذى عيونهم أو يمنع الرؤية، كل قناة عرضُها متر، وعمقها متر، حَسب ما أرى، وكلما تقدّموا فى الحفر ظهرَ الماء خلف أصابعهم، رأيت متاهة بلا نهاية من القنوات.

 شعرْتُ أن كل البشر تجمّعوا هنا ليحفروا.

 قلتُ "أريد أن أحفر معهم"

 أشارت جدّتى بيد مفتوحة إلى متاهة المياه.

 "تفضّلى، الحفيدات أولاً"

انضمَمْتُ إليهم، لم يلتفت إلىّ أحد، تناغمْتُ معهم على الفور، رأيتُ يدىّ تعملان بمهارة، كأنى أحفر منذ مئات السنين، ضحِكْتُ ضحكات قصيرة، سمعْتُ جدّتى تغنّى من بعيد، رفعْتُ رأسى، رأيتُها تتجوّل بينهم وهى تُغنّى لهم أغنيات حماسيّة، تذكّرْتُ أنى سمعتُها تُغنيها فى البيت من وقت لآخر، كنت أشعر وقتها أنها تخترع هذه الأغنيات، لم أسمعها من أحد غيرها، والآن يراودنى الشعور نفسه، أغنيات من اختراع جدّتى.

  عاودْتُ الحفر بحماس، لم أعرف كم مرّ من الوقت، شعرْتُ بأصابع  تطرق كتفى، نظرْتُ خلفى، رأيتُ جدّتى، وقفْتُ بمواجهتها، لم تكن جدّتى، إنما شابة فى مثلى عمرى، تصلح بملامحها هذه، خاصة عيناها اللوزيتان، أن تكون جدّتى فى شبابها، لم أكن قد رأيت صورة للجدّة فى مرحلة الشباب، لكنى عرفْتُها.

 قالت لى الفتاة "يُمكنكِ أن ترتاحى قليلاً، تفضّلى بسكويت"

 نظرْتُ إلى يدها الممدودة بطبق ملىء بقطع البسكويت.

 "تفضّلى بينورا"

 لم أندهش لأنها تعرف اسمى، أخذْتُ قطعة، دافئة كأنها خرجَتْ من النار منذ لحظات، قضمْتُ منها، ارتفعَ صوت جدّتى بالغناء، تلفّتُ حولى، لم أرَها، نظرْتُ إلى الشابة سألتُها عن اسمها.

قالت "ليس مهمًا"، نظرَتْ حولها.

 "لا أحد هنا يعرف اسم الآخر، ليس مهتمًا بالأساس أن يعرف"

قلت "خبَزْتِ البسكويت بنفسك؟"

"أَعجبَكِ؟"

 "نعم"

 "يمكنكِ أن تأخذى بعضًا منه عندما تغادرين"

"اعتقدْتُ أن هذا غير مسموح به"

"حفَرْتِ معنا، هذا أقل ما نُقدّمه لكِ"

أَكَلْتُ آخر قطعة من البسكويتة.

قلت "لا أعرف، جدّتى وعدتنى أنى لن أموت جوعًا، شكرًا لك على أيّة حال"

"على الأقل، خذى قطعة أخرى"

 تأمّلْتُ عينيها لحظة.

 قلت "أحببْتُ عينيك"

 أمالت رأسها على كتفها.

 "وأنا أُحبك"

 ابتسمْتُ.

 "أنا متأكدة من ذلك"، تلفّتُ حولى، لم أرَ جدّتى، ما زلتُ أسمع غناءها، نظرْتُ إلى الفتاة.

 "أعتقد أنى سأغادر الآن، شكرًا على البسكويت"

 "يمكنكِ أن تشربى من مياه القنوات، لو أنكِ عطشانة"، قالت الفتاة وانصرفَتْ، تابَعتُها حتى اختفَتْ، أدرْتُ وجهى، وجدْتُ جدّتى تقف على بُعد خطوتين منّى.

 قالت "يمكنكِ أن تشربى من القنوات قبل أن نغادر؟"

 التفَتُ حيث ذهبَتْ الشابة، لم أرَهَا، نظرْتُ إلى جدّتى، تأمّلتُها لحظة، جلسْتُ على ساقىّ عند حافة القناة، شربْتُ، تطلّعْتُ إلى جدّتى من مكانى، أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

بحثنا عن طريق للخروج من متاهة المياه، خرجنا بعد وقت قصير، اعتقدْتُ أن جدّتى كانت تعرف هذا الطريق المُختصَر، انتبَهْتُ إلى أننى كنت أمشى أمامها طوال الوقت، توقفْتُ فى مكانى مندهشة من نفسى، أنا مَنْ عثرْتُ على طريق الخروج، نظرْتُ خلفى، رأيتها قادمة على بُعد خطوات وهى تبتسم ابتسامة غامضة، مرّتْ من أمامى.

 قالت "شكرًا بينورا"

 لحقْتُ بها، لن ألومها لو اعتقدَتْ أنى كنت أعرف طريقًا للخروج، انتظرْتُ أن تسألنى عن ذلك، لم تفعل، نظرْتُ إلى متاهة المياه وهى تبتعد خلفنا، انتبهْتُ أنى لم أرَ أحدهم يشرب أو يأكل، حتى جدّتى، أنا وحدى أكلْتُ وشربْتُ، سألتُها إن كانت قد أَكَلَتْ بسكويت.

 قالت "لا، لم أكن جائعة"

"لم ترى الفتاة التى تُقدّم البسكويت؟ كانت تشبهك"

"فتاة تشبهنى؟"

"أقصد أنها تُشبهكِ فى شبابك، تُشبهكِ جدًا"

"رغم أنكِ لم ترى صورة لى فى شبابى"

"يمكننى أن أتخيّل"

هزّتْ كتفيها، وابتسمَتْ.

قلت "غَنّى لى ما غنّيتِه هناك، من فضلِك"

ابتسَمَتْ.

قلت "دعينى أحمل عنكِ الحقيبة كى تكونى مرتاحة وأنتِ تغنّين"

"غنّيتُ هناك وأنا أحملها، ألم يكن صوتى جميلاً؟"

"نعم، كان جميلاً"

توقفَتْ، اقتربَتْ منى أكثر، مسحَتْ شعرى، بدأتْ تدندن كأنها تهدهدنى، مشَتْ، ارتفع صوتها كأنها تغنّى للكون كله.

تردّدَ صوتها حولى، مرّتْ بذاكرتى كل تفاصيلى، الشوارع، أصدقائى، درج الشيكولاتة، أغنيات، أفلام، قصص، روايات، قصائد، النهر، البحر، والحاسوب طبعًا.

 شعرْتُ بحنين، وشجن.

 لكنى لا زلتُ أريد أن أُكملَ هنا، فى الليل المتواصل.

ظهرَتْ من بعيد أرض ملوّنة.

 خَفَتَ صوت جدّتى تدريجيًا مع اقترابنا منها، توقفَتْ عن الغناء عند حدودها، تطلّعنا إليها، مفروشة بتراب من ألوان عديدة، أشارت جدّتى بيد مفتوحة كى أدخل.

 "الحفيدات أولاً"

سمعْتُ بمجرد دخولى، ومن كل اتجاه، غناءً جماعيًا لرجال ونساء، يشبه ما غنّته جدّتى فى "أرض البسكويت"، كان بعيدًا، لكنه واضح وحماسىّ، كأنهم يشجعون بعضهم بعضًا فى عمل ما، تلفّتُ حولى، لم أرَ أحدًا، عدا جدّتى وهى تهزّ رأسها مع إيقاع الغناء، ابتسمَتْ لى.

قلت "حسنًا جدّتى، إنها أغنيتك"

"أغنيتنا"، وحرّكَتْ يدها فى الهواء كأنها تقصد الرجال والنساء الموجودين فى مكان ما حولنا.

مشينا.

 شمَمْتُ رائحة ملابس جديدة، يمكننى أن أُخمّنَ مصدرها، التراب الملوّن، جلسْتُ على ساقىّ، تأمّلْته فى نور القمر الكامل، ذرّات مدوّرة، صغيرة جدًا، حمراء، زرقاء، صفراء، خضراء، التقطْتُ حفنة، تحسّستها، ناعم، هَشّ، نظرْتُ إلى جدّتى.

 قلت "أريد أن أراهم، مَن يُغنّون"

 "لنبحث عنهم"

 أعدْتُ التراب مكانَه، نهَضْت.

 قلت "لماذا لا أحمل الحقيبة عنكِ قليلاً؟"

 هزّتْ رأسها نفيًا، نظرْتُ إليها صامتة، تأكّدْتُ أنها لن تعطينى إياها، ليس الآن على الأقل، تلفّتُ حولى.

قلت "أىّ اتجاه؟ الغناء يأتى من كل ناحية"

"اختارى"

 أَشَرْتُ إلى الأمام.

مشينا.

فكّرْتُ، هل ترفض جدّتى أن أحمل الحقيبة كى لا ترهقنى، أم تخشى أن أتسلّل إلى أوراقها وأقرأها؟ استبْعَدْتُ الاحتمال الأخير، لن تُفكر فىّ بهذه الطريقة، مرّ بخاطرى أن الأوراق مكتوب فيها كل ما نمرّ به الآن، بدَتْ لى فكرة مقبولة، ألم يختفِ النهار نفسه، والليل بلا نهاية؟ كما أن هناك تفاصيل صغيرة  منذ خروجنا من البيت يمكن أن أعتبرها علامات، تذكّرْتُ نظرة جدّتى فى المرتين اللتين رأيتهما فيها وهى تقرأ هذه الأوراق.

لم تتغيّر رائحة الملابس الجديدة فى تراب الأرض.

 ظلّت على حالتها من الخفّة، قطعة ملابس واحدة لها حضور ألف منها، والألف تظلّ بخفّة قطعة واحدة، شعرْتُ أننا اقتربنا من المُغَنّيين، رغم أنى لا زلت أسمع صوتهم بالدرجة نفسها، ومن كل الجهات.

 رأيتُ على مسافة قريبة، بيوتًا صغيرة ملوّنة، وأشخاصًا يبنون بيوتًا أخرى، قنوات مياه تتلألأ، وسحابة من غبار ملوّن كأنها خلفية المشهد.

توقّفنا على بُعد خطوات من المشهد، البيوت بمدى البصر، كلها بالحجم نفسه، كأنها حجرة مُربّعَة، لها باب ونافذة، يعملون فى مجموعات منفصلة، متصلة، بعضهم يصنع مُعجنات طينيّة من تراب الأرض ومياه القنوات، وآخرون يقومون بالبناء، دون أن يتوقف أىّ منهم عن الغناء.

 شعرْتُ أن البشر جميعًا تجمّعوا هنا ليبنوا بيوتًا.

مشيتُ وجدّتى بينهم، بحثْتُ عن أحد أعرفه، الطين الملوّن يُغطّى أذرعهم، سيقانهم، ملابسهم، وجوههم، وتفوح منهم رائحة الملابس الجديدة، كأنهم جزء من البيوت، أو كأنها جزء منهم.

قلتُ لجدّتى "سأبنى معهم"

 انضمَمْتُ إلى إحدى مجموعات العمل، أحمل الطين من المعجنة بين يدىّ، وأُسلّمه لمَن يقف بجوارى، يُسلّمه بدوره إلى آخر، حتى يصل إلى البَنّاء.

 شعرْتُ برغبة أن أضع بنفسى قطعة من الطين فى أحد البيوت، حملْتُها، مَشيتُ إلى بيت يوشك أن يكتمل بناؤه، كِدْتُ أقع عدّة مرات، وصَلْت، اكتملَ البيت، ألصقْتُ قطعتى بجوار فتحة الباب، وسوّيتُها كى لا تُشكّل نتوءًا، أردُتُ أن أُميّز البيت الذى شاركْتُ فى بناءه بعلامة، لم يكن فى جيبى شىء، تلفّتُ حولى، رأيت جدّتى على بُعد خطوات تُغنّى معهم، جرَيتُ إليها، فتحْتُ جيبَ الحقيبة الخارجى، أخذْتُ منه مشبك شعر على شكل فراشة كبيرة حمراء، غرَسْتُها فى قطعة الطين التى ألصقتُها بجوار الباب.

 شعرْتُ أنى ربما أعود يومًا لهذا البيت.

 سمعْتُ جدّتى خلفى تقول "لا تعتقدى أنه مِلك لك"

 استدرْتُ إليها، ملامحها جادة حتى إنى لم أعُد أعرف إن كنت امتلكْتُ شيئًا يومًا ما.

 "لا جدّتى، فقط أحبَبتُ أن أترك له ذكرى منّى"، نقَلْتُ عينىّ بين البَنّائين. قلت "أنا أغادر بعد قليل، أَمّا هم، أعتقد أنهم يبنون البيوت إلى الأبد"

غسلْتُ يدىّ فى مياه إحدى القنوات، وجدْتُ شابة تقف خلفى بانتظارى، كأنها جدّتى وقت شبابها، رغم أن ملامحها تختلف عن الشابة التى رأيتها فى "أرض البسكويت".

وضعَتْ الشابة فى يدى شيئًا صغيرًا ملوّنًا.

 قالت "هذه الفراشة لكِ، بينورا"

 كانت مشبك شَعْر على شكل فراشة مصنوعًا من ذرات التراب الملوّنة.

قلت "لن تقولى لى اسمكِ؟"

 ابتسمَتْ وأمالت رأسها على كتفها.

 قلت "تقابلنا من قبل؟"

ربّتَتْ خدّى، وانصرفَتْ، نظرْتُ إلى الفراشة فى يدى، تحرّكَ الهواء أمامى، رفعْتُ عينىّ، لم أجد الفتاة، نظرْتُ حولى.

 سمعْتُ جدّتى تقول "أنا هنا"

 رأيتُها على بُعد خطوات، مشيتُ إليها، فتحْتُ يدى لها عن الفراشة.

 تأمّلَتْها لحظة.

 قالت "جميلة"

 "أعطتنى إياها شابة لها عينان جميلتان"

 لم أقل إنهما لوزيّتان مثل عينيها.

خرجنا من بين البيوت الملوّنة، لا زلتُ أسمعُ غناء البَنّاءين والبَنّاءات بالدرجة نفسها، ومن كل الجهات، رائحة الملابس الجديدة حولى، خفيفة ومُبهجة، أنظر خلفى على فترات متقاربة، وفى إحدى النظَرَات رأيت البيوت ذرات ملوّنة تلمع بعيدًا.

 تخيّلْتُ مشبَك شَعرى بجوار باب أحدها، تساءلْتُ، مَنْ يسكنه يومًا؟ وهل يَسألُ عن صاحبة الفراشة، مشبَك الشَعر؟

 

(8)

توقّفَتْ "سيمويا" عن قراءة أوراق "الليل" عندما لمَعَ بَرْق قوى خارج نافذة الطائرة، راقبَتْه وهو يظهر بين لحظة وأخرى بألوان مختلفة، أخضر فوسفورى، أحمر لهيبى، أزرق، أصفر ذهبى، بَدَا لها مثل مجموعة من الصِبية الأشقياء، تابَعَتْهم قليلاً وتركَتْهم يلهون بالخارج.

 فكّرَتْ فى جدّة "بينورا" وحبيبها، ابتسمَتْ لأنهما يعملان فى المهنة نفسها التى تمارسها و"دوفو"، أبحاث الچيولوچيا، تساءلَتْ، هل يكون اسم الجدة أيضًا "سيمويا"؟ يمكنها أن تتصفّح الأوراق وتعثر عليه، لا بد أنه موجود فى مكان ما، لكنها شعرَتْ أنّ ذلك يُضيّع متعتها، ويُفْسِد كل شىء، من الأفضل أن تعرف فى الموعد والمكان الصحيحين.

أعادت أوراق "الليل" إلى الحقيبة، عادت إلى مقعدها بمحازاة "دوفو"، كان يتابع البَرْق.

قالت "أنا هنا"

التفَتَ إليها.

"أهلاً سيمويا"

استدارت إليه بجسمها كله.

قالت "اسمع، حبيب الجدّة لم يكتفِ بأن يكون اسمه باسمك، هو أيضًا يعمل باحث چيولوچى حُرّ، مثلك"

"تقصدين حبيب جدّة صديقتك"

"نعم، وماذا أيضًا؟ الجدّة هى الأخرى تعمل باحثة چيولوچية"

"أتساءل إنْ كان اسمها سيمويا"

حرّكَتْ يديها فى الهواء.

"أَترُكْ هذه لك"

استدار "دوفو" إليها بجسده كله.

"لماذا أنتِ مهتمة بهذه الجدّة، وكيف تعرفين عنها كل هذه الأشياء؟"

ألقَتْ نظرة على البَرْق خارج نافذته، رأت واحدًا أخضر.

 قالت "بينورا، صديقتى، حفيدة الجدّة، تتصل بى أحيانًا، وتكتب لى على الإيميل"

"وتنادينها فى المواقع التى نزورها"

خطفَتْ نظرة خلفها عبْرَ نافذتها، لمحَتْ برقًا أحمر، نظرَتْ إلى "دوفو".  

قالت "البرق، هى، لأنها، طلبَتْ منى أن أهتف باسمها فى الأماكن التى تعجبنى"

تأمّلَها "دوفو".

"هذا جديد عليكِ سيمويا"، قال بنبرة فيها لوم.

"امممم، أعتقد أنى بدأتُ أُزعجك بكلامى عن صديقتى وجدّتها، ودوفو الجدّة"

"تعرفين أنك لا تزعجيننى"، صمَتَ لحظة، ابتسمَ.

"يعجبنى أن تُسمّيه دوفو الجدّة، أتساءل، سأكون دوفو مَن؟"

ابتسمَتْ، تبادلا النظرات، اعتدَلَتْ فى جِلسَتِها، أسندَتْ ظهرها إلى مقعدها، ونظرَتْ عبْرَ النافذة.

فكّرَتْ "سيمويا" أنّ ما تفعله جديد عليها بالفعل، كيف يمكنها أن تنادى على صديقة بهذه الطريقة، هذا على اعتبار أن هناك صديقة بالفعل اسمها "بينورا"، هل يُصدّقها "دوفو"؟

نظرَتْ إليه بجانب عينيها، تساءلَتْ: فعلاً، ستكون دوفو مَن؟

"15 دقيقة ونصل إلى بيوت المشاعر"، قال قائد الطائرة، نظرَ خلفه إلى "سيمويا" و"دوفو"، وابتسمَ ابتسامة كبيرة.

قال "أتوقّع أن أجد فى هذه البيوت شيئًا يُبهجنى"

"غير مسموح لك بالدخول، كما تعرف"، قالت "سيمويا" وقلّدَتْ ابتسامته.

"إذن أَخرجى لى شيئًا من هناك"

"ولا هذا أيضًا"، قال "دوفو".

"14 دقيقة على الوصول"، قال الطيّار.

نظر "دوفو" إلى "سيمويا".

قال "متشرّد، وبيت خالٍ، أيّهما يعانى البرد أكثر؟"

فكّرَتْ "سيمويا"، أمالت رأسها على كتفها.

هبطَتْ الطائر عند الحادية عشر مساءً قُرْب بحيرة صغيرة، استقبلَهم شاب عشرينى، قدّمَ نفسه إلى "سيمويا" و"دوفو" باسم "وايدو".

تطلّعَا إلى البحيرة، طولها لا يتجاوز واحد كيلو متر، وعرضها نصف كيلو، على ضفّتها الأخرى بيت من معدن برّاق على شكل صندوق مُربّع، مُحكَم الغلق، بلا نافذة، ينعكس على سطح البحيرة بكاملها، كأنها لوحة مُكَبّرة له.

"أشعر بالخوف"، قالت "سيمويا" وهى تنظر إلى البيت.

قال وايدو "أنتِ ترين الخوف نفسه، ما على الضفّة الأخرى ليس بيتًا"

نظرَتْ "سيمويا" إلى "دوفو".

 "صحيح"، قال وهو ينظر إلى الخوف.

قال وايدو "نرى على الضفة الأخرى كل يوم ما يبدو أنه بيت جديد، لكنه ليس بيتًا فى الحقيقة، إنما المعنى نفسه، أو الشعور، وقد تشكّلَ بيتًا، مرة يكون سعادة، أو حزنًا، حُبًا، وِحْدة، أو شيئًا آخر"، صمَتَ لحظة وهو يتطلّع إلى البيت.

"اليوم كان الخوف، لكنه لن يكون موجودًا عند منتصف نهار الغد، سيمرّ فوقه سرب طيور فى هذا الموعد، ويُغطّيه بظلّ كبير يُخفيه عنّا، وبعد أن يمرّ نرى بيتًا جديدًا، أو بالأحرى شعورًا جديدًا"

نظرَتْ "سيمويا" إلى "دوفو".

قالت "ما رأيك أن نجرّب بيت الخوف قبل أن يختفى؟"

نظرَ "دوفو" إلى "وايدو".

قال "من فضلك، نريد أن ندخل وحدنا، سيمويا وأنا"

"كما تُحبّان، دخَلْتُه وطاقم العمل على أيّة حال"

مشوا إلى الخيام.

تحمَمّتْ "سيمويا"، أكلَتْ برتقالة، خمس حبّات لوز، ارتدَتْ قميصًا أخضر تفاحى، وبنطلونًا بلون حَبْ الرمان، غادرَتْ خيمتها، مشَتْ مع "دوفو" و"وايدو" إلى "بيت الخوف"، توقفوا أمامه.

قال وايدو "تجدان بالداخل شابة، تظهر لنا داخل كل بيت، حاولنا معها، لكنها لم تتحدّث لأىّ من فريق العمل، هى غير مؤذية"، تطلّعَ إلى البيت.

"أول بيت بلا نافذة أراه فى حياتى، حتى الوِحْدة كان بها أكثر من واحدة"، نَقَلَ عينيه بينهما.

"فقط، ليدفع أحدكما الباب، حظًا سعيدًا"

دخلَ "دوفو" و"سيمويا" البيت.

وجدا بمواجهتهما شوارع بلا نهاية، فارغة، ومُحدّدة بخطوط مُدَببة، بدَتْ كأنها شارع واحد يتكرر آلاف المرات، مشيا فى أحدها عدّة خطوات، لمَسَتْهما دفقة هواء حارة، دَحرَجَتْ إليهما أشكالاً ملوّنة صغيرة، وشفافة، تتلوّى ببطء كأنها تتألم، انضغطَتْ الأشكال بعد ثوان كما يضغط أحدهم ورقة داخل يده، سَحَبَها الهواء وأخفاها، لم يعرفا طبيعتها، تساءلا كيف توجد هذه الأشكال الجميلة فى بيت الخوف، مشيا، دحرَج الهواء أشكالاً جديدة، تألمَتْ، انضغطَتْ، وانسحبَتْ، تكرر الأمر ثلاث مرات، جلَسا على سيقانهما ينتظران ظهورها، دحرَجَ لهما الهواء الساخن دفعة جديدة، التقطَتْ "سيمويا" إحداها، نظرَتْ إليها، أعادتها إلى الأرض بسرعة ورفق، تراجَعَتْ وهى تبكى.

"إنها روح، روح"

أعاد "دوفو" الروح التى كان يمسكها إلى الأرض بهدوء، وضمّ "سيمويا" إلى صدره.

لم يكن أىّ منهما قد رأى روحًا من قبل، لكنهما عرفاها فى الحال.

نظرَتْ "سيمويا" إلى المساحة التى يأتى منها الهواء الساخن، توقعَتْ أن يدفع لهما أجساد هذه الأرواح، لكنه لم يفعل.

  فقط أرواح.

انتقَلا إلى شارع آخر.

رأيا شابة تجلس على الأرض، صدرها مشقوق شقًا صغيرًا جهة اليسار، قلبها النابض فى حجرها، تخيطه بتأن، تلمع بين أصابعها النظيفة إبرة فضيّة صغيرة، مشبوك بها خيط أزرق من النايلون يمتد خلفها إلى ما لا نهاية، لم يكن قلبها ينزف، فقط تفوح منه رائحة كأنها مزيج من كل زهور العالم، وتظهر فى قمته فقاعة صغيرة ينبض منها الدم ويعود إليه، لا يسيل حتى على جدرانه.

رفعَتْ الشابة عينيها إلى "سيمويا" و"دوفو".

أعادت قلبها إلى صدرها، خاطت عليه الشقّ، قطعَتْ خيط النايلون الأزرق بأسنانها، غرسَتْ الإبرة فى طرف ثوبها، التقطَتْ من جوارها كتابًا، نهضَتْ، مشَتْ إليهما، تأمّلَتْ "سيمويا" لحظة.

قالت "أنتِ سيمويا"، نظرَتْ إلى "دوفو".

 "أنتَ دوفو"

قالت سيمويا "كيف عَرفْتِنا؟"

 فتَحَتْ الشابةُ الكتابَ على الصفحة الأخيرة، قرّبتْه منهما، رأيا رسْمًا بسيطًا لهما، لا يُظهر ملامحهما بشكل جيد، لكنه كافٍ ليعرفا أنه يخصّهما، خاصة مع وجود عينى "سيمويا" اللوزيتين.

قال دوفو "مَن رسمَه؟"

 "كاريسكا"

"تعرفينه؟"

"نعم"

"وأنتِ، ما اسمكِ؟"

"الفتاة التى تخيط قلبها، اعتبر هذا اسمى"، أغلقَتْ الكتاب، نظرَتْ إلى "سيمويا".

قالت "ستُحدّقين بصدرى طوال الليل؟"

رفَعَتْ "سيمويا" عينيها إليها.

"كُنتِ تخيطين قلبكِ، هناك؟"

"نعم، لهذا حكاية صغيرة، تحبين أن تسمعيها؟"

أومأتْ "سيمويا".

أخرَجَتْ الفتاة نفَسًا عميقًا.

قالت "حصلْتُ على الجرح فى صدرى بسبب قصة حب، أنا من سلالة عندما تُجرَح أرواحنا، تُجرَح قلوبنا فى اللحظة نفسها، منّا مَنْ يخيط جروحه بنفسه، وأحيانًا نخيطها لبعضنا بعضًا، أنا لم أُحب أن يرى أحدهم جرحى، لكنى لم أستطع حتى الآن أن أخيطه بشكل كامل، يتوقّف الأمر معى دومًا عند العقدة الأخيرة، وينفتح الجرح كله فى نهاية اليوم، فأبدأ من جديد، قابلْتُ الشاب كاريسكا، ودَلّنى على هذا المكان، ومنذ أن جئتُ تتغيّر البيوت كل يوم، وأحاول مع جرحى كل يوم، ولا أنجح مع العقدة الأخيرة"

قالت سيمويا "هذا مؤلم"

"ليس لديكِ فكرة"

سألها دوفو "منذ متى وأنتِ هنا؟"

 "عام كامل"

"لماذا لم تغادرى إذا لم يساعدك المكان فى خياطة عقدة قلبك الأخيرة؟"

"بحثْتُ فى الخارج بما يكفى، ولم أنجح"، نظرَتْ إلى "سيمويا".

"أشعر أن خلاصى هنا"، صمتَتْ لحظة، تلفّتَتْ حولها.

"ما رأيكما أن نغادر بيت الخوف إلى بيوت أخرى، أقصد مشاعر أخرى"

قالت سيمويا "ألا يجب أن يمرّ سرب الطيور أولاً كى يتغيّر البيت؟"

"هذا خاص بأصدقائكما فى الخارج، أما أنا، فأعرف ممرّات سريّة بين كل البيوت، حتى التى لم يروها بَعْد"، رفعَتْ يدها بالكتاب أمام وجهها.

"عرفْتُها من هنا"

تنقّلَتْ بهما الفتاة بين بيوت، مشاعر كثيرة.

 كلما تَوَغّلَ "دوفو" و"سيمويا" فى شعور ما، فهِمَاه أكثر، بالقلب، لم يكن أيًا منهما قادرًا على شرح ما فَهِمَه.

الإحساس أعلى درجات الفهم.

وصلوا إلى بيت كأنه خطوط مرسومة بالحِبْر على ورقة، كل شىء فيه بالأبيض والأسود.

قالت الفتاة "يمكنكما الآن أن تختارا"، أشارت إلى خط يُمثّل ممرًا يتفرّع من البيت.

"إمّا أن نُكملَ من هنا وندخل بيوتًا جديدة، مشاعر جديدة"، نظرَتْ إلى خط آخر.

"أو ندخل إلى أرض البسكويت، وأرض الملابس الجديدة"

 نظرَتْ "سيمويا" إلى "دوفو".

قالت "أفكر فى البسكويت والملابس الجديدة"

"كما تحبين، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

قالت الفتاة "أحسنْتِ سيمويا، هناك شىء لأجلك"

عَبَروا ممرًا ملتويًا، وخرجوا من البيت.

وجَدَ "دوفو" و"سيمويا" نفسيهما بمواجهة الليل والنهار معًا.

الليل والنهار متقابلان فى السماء، أحدهما يُغطّى جانبًا من العالم، وصديقه يُغطّى الجانب الآخر، ومن خَطّ التقائهما ينعكس على الأرض شريط أثيرىّ شفّاف، ليس نورًا ولا لونًا، إنما مزيج من روحَى الليل والنهار، عَرْضُه خطوة واحدة، ويمتد إلى ما لا نهاية، يبدو ساكنًا على الأرض وفى الوقت نفسه طافٍ فى الهواء، كأنه أَصْلٌ وصدى.

أرض الليل عن يمينهما، تراب أبيض، تتوزع فيها بيوت طينيّة بيضاء، لها الشكل نفسه، والحجم، طابق واحد يبدو كحجرة واحدة، كأنها بيت واحد يتكرر مئات المرات، يطلّ عليها قمر مكتمل، ونجوم كبيرة.

أرض النهار عن يسارهما، تراب مُتعدّد الألوان، بها بيوت من طين ملوّن، لها الشكل نفسه، والحجم، طابق واحد يبدو كحجرة واحدة كبيرة، كأنها بيت واحد يتكرّر، تتلوّى بينها قنوات مياه، وفى السماء شمس منتصف النهار، سحاب أزرق وأبيض.

تذكّرَتْ "سيمويا" ما قرأته فى أوراق "الليل" عن "أرض البسكويت" و"أرض الملابس الجديدة".

مَشَتْ و"دوفو" على الشريط الشفاف الفاصل بين الأرضَين، نصف جسدها فى الليل والنصف الآخر فى النهار، شعرَتْ للحظة أن إحدى عينيها رأت الشمس، والأخرى رأت القمر، دارتْ حول نفسها، قفزَتْ على جانبى الشريط الشفاف، تبادلَتْ الدخول بين الليل والنهار، تحسّسَتْ الشريط الفاصل، ارتعشَتْ روحها، انفلَتَتْ منها ضحكات ومقاطع من أغنيات إنسانية لا تعرف كيف خطرَتْ ببالها، أو إن كان لها وجود قبل هذه اللحظة.

وقفَتْ بين الليل والنهار، قلبها وعقلها صافيان، فى عينيها نور العالم وظلامه، لا تفكر فى شىء، يحتويها سلام تام، شعرَتْ بدائرة صغيرة تنفتح فى صدرها، دخلَ منها الكون على مهل، صارت هى الكون كله، وضعَتْ يدها على قلبها، أغلقَتْ عينيها، نامت لحظة واحدة، نظرَتْ خلفها، رأت "دوفو" يرفع يده عن قلبه ويفتح عينيه، وعلى بُعد خطوتين تنتظرهما الفتاة التى تَخيط قلبها.

 قالت الفتاة "بِمَ تُحبّان أن نبدأ، أرض البسكويت، النهار، أَمْ أرض الملابس الجديدة، الليل؟"

دخلوا إلى النهار، "أرض الملابس الجديدة".

 لمَسَتْ "سيمويا" التراب الملوّن، دافئ، به خشونة لطيفة، وفيه رائحة الملابس الجديدة، تذكّرَتْ "أرض الملابس الجديدة" فى أوراق "الليل"، جلَسَتْ و"دوفو" على حافة إحدى قنوات المياه.

قالت الفتاة "يمكنكما أن تشربا منها، لو أردتما"

شَرِبَا.

 قالت سيمويا "الماء بارد رغم الشمس"

"الشمس لا تؤثر فى المياه، أو التراب، تظلّ المياه بالدرجة نفسها من البرودة، ويظل التراب على دفئه الهادئ"

تابعوا المشى، رأوا بعض سكان "أرض الملابس الجديدة".

مرّتْ بالقرب منهم شابة، بَدَتْ هَشّة، ربما تتفَتّتْ لو غَمَسَها أحدهم فى فنجان من الشاى، ابتسمَتْ للفتاة التى تخيط قلبها، نظرَتْ إلى "سيمويا" و"دوفو"، ابتسمَتْ لهما، ابتَسمَا.

قالت التى تخيط قلبها "هنا، فى أرض الملابس الجديدة، يصنعون ملابسهم بمزيج من تراب الأرض والماء، ونور الشمس الذى يجمعونه فى آنية مخصوصة من الخشب، على الجانب الآخر فى أرض الليل، يصنعون البسكويت بمزيج من التراب والماء، وضوء القمر الذى يجمعونه أيضًا آنية فى خاصة، ويبادل كلٌ منهما الآخر بما لديه، الجميع لا يأكلون غير البسكويت، ويلبسون مما يُصنع هنا"

كان أهل "أرض الملابس الجديدة" يصنعون الملابس بألوان وتصميمات مختلفة، يستعملون فى ذلك نور الشمس وقت الشروق، الغروب، منتصف النهار، أو مزيجًا من هذا كله، يومهم نهار بلا ليل، يبدأ مع شروق الشمس وينتهى مع غروبها، لا يستمر الغروب غير دقائق، وبدلاً من الليل تُشرق الشمس ثانية، ويبدأ النهار، لليوم هنا عدد ساعات اليوم الذى يعرفه "دوفو" و"سيمويا".

على الجانب الآخر، كان أهل "أرض البسكويت" يُعدّون البسكويت بأشكال وطُعوم مختلفة، يستعملون فى ذلك ضوء القمر عند أوقات مختلفة من الليل، يومهم ليل بلا نهار، يبدأ بعد الغروب وينتهى مع الشروق، لا يستمر الشروق غير دقائق، وبدلاً من النهار يظهر الغروب من جديد، ويبدأ الليل.  

قالت الفتاة "رغم أن البيوت كلها متشابهة، فإنّ كل بيت به إجابة عن لغز موجود بالخارج، من حيث جئتما"

"هذا المكان لغز بحد ذاته"، قال "دوفو".

"وإجابته فى مكان آخر"

مشوا عدّة أمتار أخرى، أشارت الفتاة إلى بيت قريب.

"هناك"

توقفوا عند بيت من طين ملوّن، بابه خشب أصفر، مزخرف برسم لطيور ملونة، تعلّقَتْ عينا "سيمويا" بنقطة إلى جوار الباب، عبارة عن مشبك شعر على شكل فراشة حمراء مغروسة فى جسم البيت، تذكّرَتْ البيت الذى بَنَتْه "بينورا" فى أوراق "الليل"، وغرَسَتْ فيه مشبك شعرها، وتساؤلها وقتها عَمّن يسكن هذا البيت، وإن كان سيسأل عن صاحبة مشبك الشعر، ابتسمَتْ "سيمويا"، قالت مع نفسها "أعرف بينورا أنكِ صاحبة الفراشة مشبك الشعر"، انتبهَتْ على يد تلمس كتفها، التفتَتْ، رأت الفتاة تبتسم لها وتشير إلى البيت.

"هذا لأجلكِ"

تساءلَتْ "سيمويا" مع نفسها إن كانت الفتاة تريد أن تُنبّهها إلى مشبك الشعر كى تعرف العلاقة بين البيت وأوراق "الليل"، أم تقصد أنّ هذا البيت لأجلها، أو ربما شىء أبسط من ذلك، نقلَتْ عينيها بين الفتاة والبيت.

"ماذا سيمويا؟ كأنك تريدين أن تسألى عن شىء؟"، قالت الفتاة.

تأمّلتها "سيمويا" دون رد، نقلَتْ الفتاة عينيها بينها وبين "دوفو".

قالت "دائمًا هناك بيت متوفر فى أرض البسكويت، وأرض الملابس الجديدة لأجل عابر أو زائر، تُحبّان أن تدخلا هذا البيت؟"

"نعم"، قال "دوفو".

أومأتْ "سيمويا"، ونظرَتْ إلى الفراشة مشبك الشعر.

"حسنًا، عليكما أولاً أن تبنيا بيتًا"

قال دوفو "قُلتِ إن هناك دومًا بيتًا متوفرًا"

"لذا يجب أن تبنيا بيتًا قبل أن تحصلا على بيت الفراشة هذا، كى نضمن أن يتوفر بيت طوال الوقت"

نظرَتْ "سيمويا" إلى الفتاة، فكّرَتْ لوهلة أن كلمة "بيت الفراشة" ربما تكون تلميحًا ما، لكن نظرة الفتاة كانت عادية، وطريقة كلامها أيضًا، ببساطة يمكن تمييز البيت فعلاً بهذه الفراشة.

"لا تقلقا، البناء سهل، كما أننا نساعدكما"

ظهرَ من خلف البيت رجل وامرأة، بدآ يحفران تفريعًا من إحدى قنوات المياه القريبة، ويتجهان به إلى "سيمويا" و"دوفو".

قالت الفتاة "ماذا تنتظران؟"

شَمّرَ الثلاثة عن أذرعهم وسيقانهم، انضموا إلى الرجل والمرأة، وبين لحظة وأخرى كان ينضم إليهم أحد سكان "أرض الملابس الجديدة".

صنعوا مُعجّنة من الطين، وانتهوا خلال دقائق من بناء البيت.

 اختفى مَن ساعدوهم فى البناء فجأة مثلما ظهروا، غَسَلَ "دوفو"، "سيمويا"، والفتاة، أذرعهم وسيقانهم فى إحدى القنوات، وتوقفوا أمام البيت يتأمّلونه.

قالت الفتاة "يمكنكما أن تضعا فيه علامة تخصّكما"

فتشَتْ "سيمويا" فى جيوبها، وجدَتْ غلاف قطعة شيكولاتة مَنْسىّ، غرسَتْه فى الطين إلى جوار الباب، وغرَسَ "دوفو" قلم رصاص به خطوط طوليّة ملوّنة.

قالت الفتاة "لا يظن أىّ منكما أنه يملك البيت، أنتما حتى لن تسكناه فى أىّ وقت"، نظرَتْ إلى البيت الفراشة.

 "الآن يمكنكما أن تدخُلا"  

البيت أكثر اتساعًا مما بدا عليه من الخارج، أرضه مفروشة ببللّورات دقيقة من تراب ملوّن، وبعد الباب ممرّ قصير، مُحدّد بقطع صغيرة من حجارة سوداء ملساء، مَشوا فيه حتى توقفوا عند باب أزرق.

قالت الفتاة "يوجد باب مثل هذا فى كل بيت بأرض البسكويت، وأرض والملابس الجديدة"

قالت سيمويا "حتى البيت الذى بنَيتْه أنا ودوفو؟"

"نعم، جاء أحدهم وثبّته هناك دون أن تنتبِها إليه"

مرّرَ "دوفو" يده على الباب.

قال "نتوقّع شيئًا خاصًا خلفه؟"

"عندما يفتح أحدٌ هذا الباب يرى خلفه مشهدًا من مستقبله، يُمثّلُ حادثًا سعيدًا فى حياته، حتى لو لم يفهمه الآن، أو لم يكن واضحًا له"

قالت سيمويا "تحب أن تبدأ دوفو؟"

"ابدأى أنت، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

قالت الفتاة "شىء أخير، لكلٍ منكما مرة واحدة، ولن يستطيع أن يفتح الباب ثانية قبل مرور عام، لا يمكن لأحدكما أن يعبره إلى الجهة الأخرى، وإلا وجدَ نفسه حيث لا يمكنه أن يجد نفسه أبدًا"

استدارت "سيمويا" بجسمها كله إلى الباب، وضَعَتْ يدها عليه، أغمضَتْ عينيها، سحبَتْ نفسًا عميقًا، فتحَتْه على مهل، مَرّ على وجهها هواء رقيق، سمعَتْ وقع خطوات حصان يمشى على أرض صلبة، وضحكات خافتة، فتحَتْ عينيها، رأت نفسها جالسة مع "دوفو" على رصيف شارع لم تره من قبل، على أحد جانبيه أشجار عالية، نهر على الجانب الآخر، وفى زاوية من الشارع شاب وشابة يتهامسان مثل عاشقين، مرّ بالقرب منهما حصان أبيض يجرّ عربة على شكل صندوق من خشب أحمر، يتّسع لاثنين، مزخرف برسوم لآلات موسيقية، له نافذة زجاجية تُغطيها ستارة بيضاء، ويقودها صبى يرتدى ملابس مزركشة برسوم وألوان كثيرة، السماء بلا شمس، وملوّنة بالبرتقالى، بدا المكان مُخصصًا للعُشّاق.

أغلقتْ "سيمويا" الباب، نظرَتْ إلى "دوفو"، تأمّلَتْه لحظات.

 سألَتْه "ما رأيك؟"

"لم أرَ غير لونًا أزرق يملأ الأفق، أعتقد أنكِ رأيتِ شيئًا آخر"

حَكَتْ "سيمويا" ما رأته.

 قالت "وهذا غريب، من العادى أن نكون معًا، أنا وأنت، لكن المكان هناك مُخصصٌ للعشّاق، أنا وأنت كنا.."، قطَعَتْ كلامها، نظرَتْ بعيدًا.

أكملَتْ "كان غريبًا ما شعرْتُ به وأنا أنظر إلينا هناك"

"دَوركَ دوفو"، قالت الفتاة.

تركَتْ "سيمويا" مكانها له.

 فتَحَ الباب.

رأى نفسه واقفًا مع "سيمويا" بجوار شجرة كبيرة داخل غابة، تتدلى من الشجرة ثمار برتقالية، بحجم قبضة اليد، لها شكل القنديل، كانت "سيمويا" تُمسك بقطعة شيكولاتة، تأكلها معه بالتبادل، قضمة له، وأخرى لها.

حكى "دوفو" ما رآه.

قال "منظر حبيبَين، غريب"

قالت سيمويا "ليس بعد ما رأيته أنا"

انتقل الثلاثة إلى جانب الليل، "أرض البسكويت"، قمر مكتمل، نجوم كثيرة، طبقة رقيقة من تراب أبيض تُغطّى الأرض، بيوت بيضاء لها الشكل نفسه، والحجم، تلمع فى نور القمر، تتلوىّ بينها قنوات مياه، عرضُها متر، وعمقها لا يتجاوز مترًا، لمسَتْ "سيمويا" التراب، ناعم، شَمّتْ فيه رائحة البسكويت الطازج، فكّرَتْ فى أوراق "الليل".

كانوا يرون بين لحظة وأخرى أحد سكان أرض البسكويت، لهم جميعًا تركيبة هشّة مُحبّبة، وابتسامة لطيفة.

مرّرَ "دوفو" عينيه على الأفق.

قال "أين تنتهى حدود هذا المكان؟"

قالت الفتاة "عند غابتين، إحداهما لأرض البسكويت، والأخرى لأرض الملابس الجديدة، لا يمكن للزوّار أو العابرين أن يروهما، فقط مَن يقضى هنا عامًا كاملاً يمكنه ذلك"

"يحصلون على الأخشاب والأبواب الزرقاء من الغابَتَين؟"

"يقولون إن الأبواب المسحورة فى الأصل خشب عادى، لكن توجد بئر فى أرض الليل ملأى بماء أزرق يغمسون فيها الباب، فيسكنه السحر، ولأهل النهار أيضًا بئرهم، هناك أشخاص مُخصصون لجلب الأخشاب من الغابة، وآخرون لتغطيسها فى البئر الزرقاء"

مرّ صبىّ وصبيّة يتقافزان فى لعبة ما، امرأة تحمل طفلاً على كتفها، ورجل يأكل قطعة بسكويت.

"إلى أين نحن ذاهبون؟"، سألَتْ "سيمويا".

أشارت الفتاة إلى بيت قريب.

 "إلى هذا البيت، لتُجرّبا الأبواب الزرقاء"

توقفوا أمام البيت.

قال دوفو "أعتقد أننا لا بد أن نبنى بيتًا إذا أردنا أن ندخل"

 "هذا صحيح، شكرًا دوفو"، قالت الفتاة.

بنوا بيتًا جديدًا بمساعدة بعض سكان "أرض البسكويت".

ضغطَتْ "سيمويا" بأصابعها فى جسم البيت بجوار الباب كأثرٍ لها، وترك "دوفو" أصابعه إلى جوارها.

عادوا إلى البيت الذى اختارته لهما الفتاة، دخلوه، أرضه مفروشة بطبقة خفيفة من تراب أبيض، وخلف الباب ممرّ قصير، مُحدّد بقطع صغيرة من صخور خضراء لامعة، كأنها بيض طائر ما، مشوا فيه، توقفوا عند الباب الأزرق.

قالت سيمويا "ماذا الآن؟"

قالت الفتاة "يُمكنكِ عن طريق هذا الباب أن تذهبى إلى أىّ مكان تريدينه، كل ما عليكِ أن تذكرى اسم المدينة أو المكان، وعندما تفتحين تجدين ما طلبتِه، وأينما ذهبتِ يظل الباب الأزرق على بُعد خطوات منك، لن يراه غيرك، كى تستطيعى العودة إلى هنا، لكن عليكِ ألا تقضى فى المكان الذى تنتقلين إليه أكثر من ليلة، وإذا أخذتِ شيئًا من هنا لا يمكنك أن تتركيه هناك، ولا تأتى بشىء من هناك إلى هنا، وإلا لن يمكنك استعمال الباب مرة أخرى"

نظَرَتْ "سيمويا" إلى "دوفو".

"تبدأ؟"

"ابدأى لو أنكِ جاهزة، أحتاج دقيقة لأفكر فى مكان أذهب إليه"

"أعرف أين أذهب، يمكننى أن أنتهى خلال ساعتين، أو .."

"ساعتان مدة كافية، أزور خلالهما عدّة أماكن، اتفقنا"

وضعَتْ "سيمويا" يدها على الباب، تنفسّتْ بعمق، ذكرَتْ اسم مدينتها، فَتَحَتْ الأزرق، وجدَتْ نفسها فى الميدان الصغير الذى يُطلّ عليه بيتها، الوقت ليل، تلفّتَتْ حولها، كل شىء عادى مثلما كان قبل سفرها.

فى البيت، جلَسَتْ مع جدّتها إلى طاولة المطبخ، وفوقها بقايا طعام خفيف.

 قالت سيمويا "جدّتى، أنت لم تُحدّثينى أبدًا عن أمى أو أبى"

لمعَتْ عينا الجدّة، ابتسمَتْ كأنما حدَثَ شىء كانت تتوقّع حدوثه منذ مدة.

قالت "إذن حانَ الوقت"

"وقت ماذا؟"

"أن تسألينى السؤال التى سألْتُه أنا لجدّتى"

"أخبرينى، ما السرّ؟"

"لم يعد سرًا طالما سألتِنى، إنها سلالة، أنا سألْتُ جدّتى عن أمى وأبى فى وقت ما، وأخبَرَتنى أن حفيدتى ستسألنى لأنى سألتُها، والآن أقول لكِ إن حفيدتكِ ستسألك السؤال نفسه يومًا ما"

"والإجابة؟"

صمتَتْ الجدّة لحظات.

قالت "أعتقد أنك ستفهميننى رغم غرابة ما أقول"

فتحَتْ "سيمويا" يدها تطلب منها أن تحكى.

قالت الجدّة "أنا لم يكن لى أب أو أُم فى أىّ وقت، ولم أشعر برغبة أن أكون ابنة، أحبَبْتُ أن أكون حفيدة، أيضًا لم يكن لى أبناء، ولم أشعر برغبة أن أكون أُمًا، أحبَبْتُ أن أكون جدّة"

"وحصلْتِ على ما أردتِ"، قالت "سيمويا" بشىء من دهشة وعتاب.

"أنتِ أيضًا ستحصلين على ما تريدين"

"تقصدين حفيدة دون وساطة من أبناء"

تأمّلَتْها الجدّة لحظة.

قالت "سيمويا، أنتِ لم تسألينى عن أمك أو أبيك قبل الآن لأنكِ مثلى، أعرف ذلك، ولا بد أنك مرَرْتِ بموقف ما، ربما يكون بسيطًا، لكنه حرّكَ فيكِ شيئًا جعلكِ تسأليننى عنهما"

"لكنى أحمل اسم عائلة، من أين حصلْتُ عليه؟"

"أنا أحمل اسم العائلة نفسه، كذلك كانت جدّتى، والسلالة كلها"

فكّرَتْ "سيمويا"، كيف لم تلاحظ هذا، أدركَتْ أنها لم تهتم فى أىّ وقت أن تعرف اسم والد جدّتها وعائلتها، لماذا تفعل؟ وعلى الأرجح، حرصَتْ الجدّة أن تخفيهما عنها حتى لا تتساءل عن هذا التشابه.

قالت سيمويا "تبقى الجدّة الأولى، أو الحفيدة الأولى فى السلالة، كيف حصلَتْ على اسم أبيها وعائلتها؟"

"بطريقة ما، هذا سهل جدًا، ربما اخترعته"

فكّرَتْ "سيمويا" لحظة.

"على الأقل يمكنكِ أن تتذكّرى متى صِرْتِ جدّة؟"

ابتسمَتْ الجدّة، داعبَتْ شعر "سيمويا".

"نعم أذكر، أنا جدّتكِ طوال حياتى، لا أذكر يومًا لم نكن فيه جدّة وحفيدة"

"هذا مستحيل"

"هذا ما أذكره، أو ما أشعر به على الأقل"

تنهّدَت "سيمويا"، مسحَتْ بإصبعها على جانب رأسها.

"متى أحصل على حفيدتى، وكيف؟"، ضحكَتْ ضحكة مُنْدَهِشة.

"هل يُعقل أن أسأل هذا السؤال؟"

قالت الجدّة وكأن الأمر لا بد أن يحدث "لا أعرف كيف تحصلين على حفيدتك، لكل واحدة من السلالة تجربتها، لكن ليس قبل أن تموت جدّتك"

"لا أريدكِ أن تموتى"

ابتسَمَتْ الجدّة.

قالت "وتحصلين على قصة حب، قبل أو بعد أن تكونى جدّة، لكنها لن تفوتك"

"أتوقّع أن تكون قصة غريبة"

نظرَتْ الجدّة فى عينيها ولم ترد.

ألقَتْ "سيمويا" نظرة على القمر خارج النافذة المفتوحة.

قالت "ما الحادثة التى جعَلَتكِ تسألين جدّتكِ عن أمك وأبيك؟"

"حادث بسيط، ليس مُهمًا"، صمَتَتْ لحظات، ربتَتْ خدّ "سيمويا".

"تعرفين أنى لا أريد أن أتسبّب لكِ فى حيرة"

تأمّلْتها "سيمويا" قليلاً، وأومأتْ.

قالت الجدّة "وأنّى أُحبك"

ابتسمَتْ عينا "سيمويا".

"وأنّى جدّتك"

أمسكَتْ "سيمويا" يد جدّتها وقبّلَتْ أصابعها.

"وأنا حفيدتك"

مسحَتْ الجدّة شعر "سيمويا".

قالت "سيعجبكِ ما أقوله لكِ الآن"، صمتَتْ لحظة.

"الشيكولاتة، ستكون هى رائحتك الطبيعية مع بداية قصة الحب أو عندما تكونى جدّة، أيهما أقرب"

ابتسمَتْ "سيمويا".

قالت "شىء آخر يجب أن أعرفه؟"

"ولن أخبرك عنه، ستعرفينه بنفسك فى وقت ما"

عادت "سيمويا" إلى البيت الطينى فى "أرض البسكويت"، وجدَتْ "دوفو" واقفًا خلف الباب الأزرق، والفتاة جالسة فى إحدى الزوايا، قلبها على صدرها، تحاول خياطة نقطة معينة فيه.

قالت لها سيمويا "ما زلتِ تحاولين؟"

أعادت الفتاة قلبها داخل صدرها.

"العُقدَة الأخيرة"، نهضَتْ ومشَتْ إلى "سيمويا".

"كيف جدّتك؟"

"بخير"، ونظرَتْ إلى "دوفو".

"أين أمضيتَ وقتك؟"

"30 دقيقة مع القبطان صاحب العينين المذهلتين، 30 دقيقة مع كاريسكا، 30 دقيقة فى غاب استوائية ممطرة، 29 دقيقة فوق أعلى نقطة معروفة فى العالم"

"كيف القبطان؟"

"يقول لكِ لا تفقدى شغفك"

ابتسمَتْ.

"أُحب هذه  النظرة"، ونظرَتْ بعيدًا للحظات كأنها تتفرّج على القبطان، ثم التفتَتْ إلى الفتاة.

"ماذا الآن؟"

"يمكننا أن نتجوّل بالخارج فى أرض البسكويت، أو نعود من حيث أتينا، بيت الخوف"

عادوا إلى "بيت الخوف"، أو أنه الخوف على هيئة بيت.

قالت الفتاة "تخرجان إلى زملائكما بالخارج أم تقترحان شيئًا؟"

قال دوفو "علينا أن نغادر، تنتظرنا بالخارج أشياء لنفعلها، خاصة وأننا رأينا كل البيوت الموجودة هنا، بفَضْل كتابك"

"تزورانى ثانية؟"

"ربما"، قال "دوفو".

نظَرَتْ "سيمويا" إلى موضع القلب فى صدر الفتاة، بدَتْ كأنها تفكر فى شىء.

قالت لها الفتاة "لا تقلقى سيمويا، سأجد طريقة أُنهى بها العقدة الأخيرة"، ورفَعَتْ كتاب المشاعر بجانب وجهها.

"أعرف أن الحل هنا، وسأعثر عليه"

"حظًا سعيدًا"، همسَتْ "سيمويا" وما زالت تفكر.

مشى الثلاثة إلى الباب.

فكّرَتْ "سيمويا"، لماذا هى و"دوفو" موجودان فى كتاب الفتاة؟ لمجرد أن "كاريسكا" رسمهما؟ وهل رسمهما لمجرد أن يكونا فى الكتاب؟

توقفَتْ.

"لا بد أن لهذا قصة"

استدارت إلى الفتاة.

قالت "أَخرجى لى قلبك"

تطلعَتْ إليها الفتاة لحظة، سحبَتْ الإبرة من طرف ثوبها، غرَسَتْ رأسها الفضّى فى الجانب الأيسر من صدرها، فتَحَتْ الشقّ الصغير، مدّتْ أصابعها داخله، أخرجَتْ قلبها، وضعَتْه على راحة يدها، أخذَتْ "سيمويا" الإبرة منها.

قالت "الخيط"

مدّتْ الفتاة يدها الأخرى خلفها، سحبَتْ من الفراغ نايلون أزرق، لضَمَتْه "سيمويا" فى ثقب الإبرة، بدأت تخيط العُقَد الناقصة فى القلب، رفرَفَتْ منه رائحة هى مزيج من زهور العالم.

وصلَتْ إلى العقدة الأخيرة، توقفَتْ.

قالت الفتاة "أعرف أنك ستفعلينها"

نظرَتْ إليها "سيمويا"، ابتسمَتا.

مرّرَتْ "سيمويا" الإبرة برفق فى جِفْنَى الجرح، وخاطَتْ العقدة الأخيرة.

تنهّدَ القلب بارتياح.

ضحكَتْ الفتاة.

أعادت قلبها إلى صدرها.

مدّتْ يدها بالكتاب إلى "سيمويا".

"هو لكِ، قال لى كاريسكا أن أعطيه لمن يخيط قلبى، كان يعرف أنك ستفعلين"

نظرَتْ "سيمويا" إلى الكتاب، مَسَحَتْ غلافه، وربّتَتْه.

"لا أحتاجه، انتهى دورى فيه"

ابتسمَتْ الفتاة.

"أخبرنى كاريسكا أنكِ لن تأخذيه، لكن كان لا بد أن أعرضه عليكِ"، ونظرَتْ إلى الكتاب.

"أعتقد أن لى معه قصة لم أعرفها بعد"

غادر "دوفو" و"سيمويا" بيت الخوف.

 تطلّعا إليه.

قال دوفو "غدًا نراه يتحوّل إلى بيت آخر، شعور آخر"

نظرَتْ "سيمويا" فى ساعتها.

"أمضينا هناك ساعتين وخمس دقائق، لن نخبرهم عما رأيناه، صحيح؟"

"نتحدث عن الفتاة، ليس عن أرض البسكويت والملابس الجديدة"، صمَتَ لحظة.

"لماذا أشعر أن هناك حكاية أخرى وراء هذا كله"

فكّرَتْ "سيمويا" أن جزءًا من الحكاية فى أوراق "الليل".

عادا إلى خيمتيهما.

تحمّمَتْ "سيمويا"، أكلَتْ تفاحة، زاوية صغيرة من قطعة شيكولاتة، سجّلَتْ ملاحظاتها عن الموقع فى ملفّ أسمَتْه "بيت المشاعر"، فتحَتْ ملفًا آخر أسمته "بيت المشاعر- الفتاة التى تخيط قلبها"، كتبَتْ فيه عن "أرض البسكويت"، و"أرض الملابس الجديدة".

أخرجَتْ حافظة أوراق "الليل" من حقيبتها، جلسَتْ بها إلى المكتب، أخرجَتْ الأوراق، تأمّلَتْ الكلمة الزرقاء بمنتصف الصفحة الأولى، هَمَسَتْ "الليل"، حاولَتْ، لكنها لم تستطع تجاهل إرهاقها، أعادت الأوراق إلى الحافظة.

 ونامت.  

 عند منتصف نهار اليوم التالى كان "دوفو"، "سيمويا"، "وايدو"، وبقية فريق العمل يقفون عند ضفّة البحيرة يتطلّعون إلى "بيت الخوف" على الضفّة الأخرى، وينتظرون مرور سرب الطيور.

 نظرَ "وايدو" إلى ساعته.

 قال "تبقّتْ دقيقة، لن يتأخّروا"، نظرَ إلى "سيمويا".

"لو أننا داخل البيت يعمّ الظلام علينا، ولا نرى شيئًا، يتعطّل الضوء الذى نحمله معنا أيضًا، أيًا كان نوعه، فقط نسمع خفق أجنحة الطيور، وبعد أن تمرّ نجد أنفسنا داخل بيت جديد، شعور جديد"

مرّت دقيقة.

ظهرَ سرب طيور متوهّج قادمًا من الشمس بسرعة كبيرة، انطفأ بعد لحظات وتحوّل إلى الرمادى، بدأ يحجب النور تدريجيًا مع اقترابه من البيت، عندما صار فوقه غَطّاه بظلّ قاتم.

 لم يتمكنوا من رؤية ما يحدث.

تجاوز السربُ البيتَ بعد لحظات، مرّ فوق البحيرة، وفوقهم، دون أن يكون له ظلّ.

"الأمَل"، قال "وايدو" وهو يتأمّل البيت الجديد على الضفّة الأخرى، نظرَ إلى "سيمويا" و"دوفو" كأنما يتأكد أنهما شعرا بما شعرَ به.

أومأ "دوفو" برأسه وهو ينظر إلى الأمل.

همسَتْ سيمويا "الأمل"

سألَهما وايدو "تدخلانه؟"

قال دوفو "دخلناه بالأمس مع الفتاة التى تخيط قلبها، رأينا كل البيوت"

"طبعًا، كان لا بد أن تتحدّث إلى أحدهم فى النهاية، كانت تنتظركما"

عاد "دوفو" و"سيمويا" إلى خيمتيهما.

 جهّزَا التقارير الثلاثة حول الموقع، أرسلا نسخة إلى إيميل "وايدو"، وأخرى إلى مركز الأبحاث.

 احتفظا لنفسيهما بنسخة سريّة.

عند الغروب، ودّعهما "وايدو" قبل أن يغادرا إلى النقطة التالية فى مهمتهما.

طارت بهما الهليكوبتر.

مع الليل، انتقلَتْ "سيمويا" بحقيبتها إلى المقعد الأخير.

فتَحَتْ أوراق "الليل".

 

الليل

نظرْتُ إلى جدّتى، كانت تُدندن مع صوت البنّاءين والبناءات، التفَتَتْ إلىّ، واصلَتْ الدندنة لحظات، صمتَتْ وأمالت رأسها على كتفها.

 قالت "أنا أنتظر"

 ابتسَمْت.

 "حسنًا جدّتى، هل أَحبّكِ دوفو أيضًا، أم كان حُبًا من طرف واحد؟" نقلَتْ عينيها بين عدّة نجمات.

 "لم يكن حبًا من طرف واحد، أَحبّنى دوفو فى اللحظة التى أحببتُه فيها، الغابة المُتحجرة لو تذكرين"

 "نعم، أذكر"

 "عرِفْتُ فيما بعد أنه أيضًا لم يرَ ما تحدّثَ عنه طاقم العمل من أن الغابة استعادت حياتها لدقيقة كاملة، لو أنه رآها لعرفْتُ أنه لم يُحبّنى، ليس بقدْر ما أحببته على الأقل، كنت سعيدة لأن قِطارى أطاحَ به مثلما أطاحَ قِطاره بى، فلم يرَ أحدنا شيئًا مما حدث حولنا"

 "هل أعتبر ما حدث بينكما صداقة تحوّلَتْ إلى حب؟"

"لا، علاقتى مع دوفو كانت مزيجًا من صداقة وزمالة عمل، لم أفكر فى تصنيفها بشكل محدد، كنا نقضى معًا أوقاتًا طويلة بحكم طبيعة عملنا، ونشأتْ بيننا تفاصيل كثيرة، ربما شكّلَتْ هذه التفاصيل مشاعرنا تجاه بعضنا بعضًا دون أن ننتبه، أو أنها كانت حُبًا متنكّرًا، حتى جاءت لحظة الغابة المُتحجرة، وصدمنى القطار"

 "أتساءل كيف ظهرَتْ مشاعركما دفعة واحدة، ما الذى جعلها تظهر بهذه الطريقة؟"

"فكّرْتُ فى هذا كثيرًا"، قالت ونظرَتْ بعيدًا كأنما تحاول أن ترى شيئًا لا  تفهمه بشكل كامل منذ حادثة الغابة.

"فى رأيى أن أشياءً عديدة فى الكون تجمّعَتْ بشكل خاص لتصنع لحظتى مع دوفو، مثلما لا بد أن أشياءً تجمّعَتْ وبسببها اختفى النهار"، صمتَتْ لحظة، ونظرَتْ إلىّ.

 "بداية كل قصة حب هى لحظة استثنائية، وحسب ما أتوقّع، وأتمنّى، تنشأ قصص حب كثيرة كل لحظة، لذا، الكون استثنائى طوال الوقت"

 أعجبتنى الفكرة.

 لكن كان علىّ أن أقول "رغم ذلك، هناك قصص حب كثيرة تنتهى"

 "هذه أيضًا لحظات استثنائية، وتظلّ قصص حب"

تأمّلْتُها لحظة.

 "جدّتى، ماذا لو أن دوفو لم يبادلكِ الحب؟"

 "حب من طرف واحد، تقصدين؟"

 "نعم"

 كادتْ تقول شيئًا لكنها تراجَعَتْ، فكّرَتْ.

 سألَتْنى "ماذا كنتِ لتفعلى أنتِ؟"

 نظرْتُ إلى نجمة حمراء.

 "أعتقد أن الحب من طرف واحد بلاهة، إمممم، وخيبة أمل"

 "الحب لم يكن أبدًا بلاهة أو خيبة أمل"

 "كيف يمكننى أن أُحب شخصًا لا يحبنى؟"

 "لأن الحب ليس تجارة، أو مقايضة، تُحبّنى فأُحبك، لا تحبنى فلا أحبك، ما هذا؟ لا أحد يختار أن يُحب، لذا، لا أحد يمكنه أن يختار ألا يُحب" دُرْتُ حول نفسى دورة واحدة.

 "أشعر أن الأمر مُهين"

توقفَتْ جدّتى.

"لأنك تُحبين؟"

دُرْتُ حول نفسى ثانية وأنا أقول بصوت مرتفع "لأنه لم يحبنى"

 "المُهين هو أن تشعرى بالكره أو الحقد"

 "لكنه مؤلم بالتأكيد، أن أُحب من طرف واحد، ألم"

 "صحيح، ربما، لكن، فى الوقت نفسه، لا أحد يمكنه أن يمنحك إحساسًا بالسعادة مثلما يفعل شخص تُحبّينه، مُجرّد أن تَريه أو تسمعى صوته، حتى لو ذَكَرَ أحدهم اسمه أمامك بشكل عابر"، صمتَتْ لحظة.

 "لن أبالغ لو قلت أنك ستشعرين بالامتنان لمَن تُحبّينه ولا يحبك"

 "أو أشعر بالرغبة فى أن أفقأ إحدى عينيه"

 تجاهَلَتْ ردّى.

"الامتنان، لأن شخصًا حرّكَ فيكِ هذا الشعور، الحب، شكرًا لأن هذا الشخص موجود لأجلك"

 ضحِكْتُ بصوت مرتفع.

 "لأجلى؟ أرجوكِ جدّتى"

تأمّلَتنى لحظة، اقتربَتْ منى أكثر.

"اسمعى، هناك شعورَان عليكِ أن تختارى أحدهما لتتعاملى به مع شخص لم يبادلكِ الحب، إما أن تملأى نفسكِ ضدّه بالغلّ والحقد، وتفقأى إحدى عينيه كما قُلتِ، أو تُشفقى عليه وتسامحيه"

ابتعدْتُ عنها عدّة خطوات وعُدْتُ لأقف بمواجهتها.

"أفهمُ رغبتى فى فقأ عينه، لكن، أُشفق عليه؟ لماذا؟"

 "لأنه لم يُحبك، ولن يعرف أبدًا كم تُحبّينه، يمكنكِ كلما رأيتِه أن تقولى بينك وبين نفسك أنا أكرهك، وتنظرى له بغضب، أو أن تقولى له مرة واحدة وإلى الأبد: أنا أسامحك"

 فكّرْتُ قليلاً.

 قلت "لا أعرف"

نظرَتْ فى عينىّ.

سألَتْنى "تُفضّلين ألا تعيشى قصة حب أبدًا، أم أن تُحبى من طرف واحد؟"

"لماذا تطلبين منى أن أختار بين أَلَمَيْن؟"

"لأن هذا يحدث، هناك أشخاص لا يعيشون الحب أبدًا، وآخرون يحبون من طرف واحد"

"أُفضّل ألا أختار حتى لا أجلِبَ أحدهما لنفسى"

 تأمّلَتْنى لحظة.

قالت "سألْتِنى ماذا كنت لأفعل لو أن دوفو لم يبادلنى الحب"

 انتظرْتُ إجابتها.

 أنا واثقة أنى ما كنت لأحقد عليه، وبالطبع لم أكن لأكرهه، تذكرين ما قلتُه لكِ من قبل؟ مَن أَحَبّ نجا"

مشينا.

 رأيت نهاية "أرض الملابس الجديدة"، انقطعَ غناء البَنّاءين والبَنّاءات بمجرد خروجنا منها.

 دخلنا أرضًا مُغَطاة بطبقة سميكة، متماسكة، من إسفنج ملوّن، يتلوّى بينها شريط أبيض من ورق مُقوّى، عرْضُه متر، وبه رسوم متنوعة، لمَسْتُه، ضغَطْتُه، كان قويًا، بدا مثل متاهة بلا نهاية.

أقمت وجدّتى الخيمة فى طبقة الإسفنج.

جلسنا على سيقاننا نتتبع الرسوم فى شريط الورق، بعضها بخطوط سوداء، والبعض الآخر ملوّن، جبال، أشجار، بيوت، شوارع، بحار، حيوانات، طيور، بشر، كلها واضحة، تكاد تنهض حولنا، رأينا ما بدا أنه توقيعات لأشخاص، بعضها كان جُمَلاً قصيرة بلُغات لا أعرفها.

قضينا وقتًا طويلاً مع الرسوم، حتى وجدنا أنفسنا أمام الخيمة، أحضَرْتُ قلمَين من الحقيبة، أعطيتُ الأزرق لجدّتى، واستعملْتُ الأحمر، تركَتْ كلٌ منّا توقيعها فى شريط الورق.

دخلنا الخيمة.

 تَمدّدْتُ فى سريرى، سألَتنى الجدّة إن كنت جائعة، فكّرْتُ لحظة كأنى أسألُ جسمى.

 "لا جدّتى، شكرًا"

 "معى رغيف من خبز البيانو على أيّة حال، سأحتفظ به"

 تمدّدَتْ فى سريرها.

 قالت "أُغلق عينىّ قليلاً"

 أغمضْتُ عينىّ أنا أيضًا، ليس لأنام، إنما لأحلم بما يحدث فى جانب النهار.

 لكنّى حَلمْتُ بشىء يحدث فى جانب الليل.

وفى اللحظة التى بدأ فيها الحلم شعرْتُ أنى أحكيه.

 سمعْتُ صوتى من بُعد آخر "أُم أربعينية معها طفل وطفلة لم يتجاوزا السابعة من العمر، تفوح منهم رائحة الجوع، تحمل الأم ابنتها لبعض الوقت، تضعها وتحمل الولد، تحملهما معًا أحيانًا، رأت بقعة نار هادئة على مسافة ليست بعيدة، جَرَت بهما إليها، وجدَتْ فوقها قِدْرًا كبيرًا من الفخار يستند إلى حجرين، كان مليئًا بالماء، تبرز منه ذراع ملعقة خشبية، وحوله طبقَين فارغين، بداخل كلٍ منهما ملعقة، وعلى مقربة منه كومة خشب صغيرة، أمسكَتْ الأم ملعقة القِدْر، حرّكَتْها فى الماء بهدوء كأنما تخشى أن تُزعج الطعام، أو تريد أن تُفاجئ نفسها به، إلا إنها لم تجد ما تزعجه أو تتفاجأ به، تلفتّتْ حولها، رأت أرضًا خالية، قالت لطفليها "انتظرانى هنا، سأُحضر لكما طعامًا"، وضعَتْ يديها على كتفيهما، جلس كلٌ منهما إلى أحد الطبقَين، مسحَتْ رأسيهما، تجوّلَتْ فى الجوار بحثًا عن صاحب القِدْر والنار، لم تعثر على أحد، نظرَتْ إلى طفليها، يرتعشان، ابتسمَتْ لهما، بدأتْ تغنّى أغنية هادئة وهى تتحرك على مهل حتى لا تختفى عنهما دفعة واحدة، سَحَبَتْ من فمها ما يشبه هواءً ملوّنًا، تركَته طافيًا على سطح الأرض، ظَلّ يتمايل فى مكانه دون أن يتوقف عن الغناء، أدركْتُ أنا أنه أغنيتها، أشارت الأم إلى الأغنية أن تبقى فى مكانها لأجل طفلَيها حتى تعود، ومَشَتْ تبحث عن طعام، وَصَلتْ إلى أرض مُغطّاة بعشب أصفر ذهبى قصير يمتد بمدى البصر، بَدَا ناعمًا وهو يتمايل خفيفًا مع الهواء، حاولَتْ أن تقتلع بعضًا منه، جَرحَ يديها ولم تحصل منه على شىء، حاولَتْ أكثر، المزيد من جروح عميقة لا تنزف، يَئِسَتْ منه، مَشَت حتى نهايته، جرّبَتْ مرة أخيرة أن تقتلع ولو حزمة واحدة، جروح جديدة، تلفّتتْ حولها، رأت جبلاً لم تعرف إن كان قريبًا أم بعيدًا، مشَتْ إليه، ازداد الهواء قوة، طيّرَ شعرها، شعرَتْ بالأرض رملاً متماسكًا، صادفها طريق ضيّق مُغطّى بحصى أصفر فوسفورى، مَشَتْ فيه، كلما اقتربَتْ من الجبل ازداد ارتفاعًا، وصلَتْ إليه، نظرَتْ فى يديها، لم تجد أثرًا للجروح، بدأتْ تصعد وهى تتلفّت حولها، لم تعثر على شىء تعود به لطفليها، وصلَتْ إلى القمة، وجدَتْ نفسها وسط سلسلة جبليّة بلا نهاية، لم تَر حولها نبْتَة، طائرًا، لا شىء عدا الصخر الصافى، تطلّعَتْ إلى الأفق من جميع الجهات ربما تلمح النهار، لم ترَ حتى أحدًا من أهل الليل المُفتَرَض وجودهم فى مكان ما حولها، تمنّيتُ فى الحلم أن ترانى، رأيتُها تدور حول نفسها هناك، لم تمرّ عيناها علىّ، ناديتُها لكنّ صوتى لم يخرج منى، حاولْتُ أن ألوّح لها لكنّى لم أستطع تحريك يدى، دقّقَتْ النظر فى اتجاه بعيد عنى، رأيت من خلال عينيها الولد والبنت فى مكانيهما، يتلفّتان بحثًا عنها، وأغنيتها الملوّنة تتمايل على مقربة منهما، قالت البنت "أمى"، ارتفعَتْ نبرة الأغنية قليلاً واقتربَتْ منها وأخيها خطوتين، قالت البنت "أنتِ هنا أمى؟"، وأنصتَتْ إلى الأغنية، ضَمّتْ أخاها إليها بينما يعبث بالملعقة فى طبقه الفارغ، سمعَتْ الأم على الجبل حركة الملعقة الجافة فى الطبق وتألّمَتْ، سمعْتُها وهى تسمع صوت بحر يأتيها من كل اتجاه، دارت حول نفسها تبحث عنه، اصطدَمَتْ عيناها بموجة هائلة قادمة باتجاهها، عرِفْتُ أنها لم تعرف إن كانت هذه الموجة قد صعدَتْ إليها لتصحبها إلى السماء، أم هبطَتْ عليها لتأخذها إلى الأرض، شهقَتْ الأم، وانشقّ قلبها عن بحر".

فتحْتُ عينىّ.

 وجدْتُ جدّتى جالسة بجوارى تتأمّلُنى، ورأسها تميل على كتفها، كانت هذه إحدى عاداتها معى، أستيقظ فأجدها بجوارى، وفى عينيها نظرة شجن مُحبّبة وابتسامة لطيفة، أشعر معهما بالحب والحماية، هى ملاكى المُحِب الحارس.

 سألْتُها إنْ كنت تحدّثْتُ أثناء نومى.

قالت "كنتِ تَحكين"

 "سمعتِنى من البداية؟"

 "نادَيتِنى بنفسك قبل أن تبدأى الحكى"

 جلسْتُ فى مكانى.

 قلت "فعَلْتُ هذا؟"

 ابتسمَتْ.

 "نعم، فَعَلْتِ"

 فكّرْتُ فيما حلمْتُ به.

 "كنت أشعر بما تشعر به الأم وطفليها، ليس أنى أشعر بالجوع مثلهم، لكنى عرفْتُ أنهم جوعى، رأيت نفسى داخل عقولهم وقلوبهم، لماذا؟ لأنى مَن رأيت الحلم؟"

"لا يمكننا أن نعرف كيف تعمل الأحلام، هذا جمالها ورُعبها"، مسَحَتْ جبهتى بأطراف أصابعها.

 تنفّسْتُ بعمق.

"هل يمكن أن نتحرك جدّتى؟"

 "كما تحبين"

خرَجْنا من الخيمة، وجدْتُ أرضًا يُغطّيها عشب ذهبىّ كالذى رأيته فى الحلم، وجبلاً على مسافة قريبة يشبه الذى صعدَتْه أم الطفلين.

"كأنكِ فى حلمكِ، صحيح؟"، قالت جدّتى بعاديّة، لم تكن متفاجئة.

تطلّعْتُ حولى.

انتبهْتُ بعد قليل وجدّتى تقف إلى جوارى، تحمل الحقيبة على ظهرها ومستعدة للتحرك، نظرْتُ خلفنا إلى مكان الخيمة، كان خاليًا، بالطبع.

"لماذا لا نمشى إلى الجبل؟"، قالت جدّتى وهى تنظر إليه.

مشينا.

 حاولْتُ بعد عدّة خطوات أن أقتلع حزمة من العشب، لم أستطع، ولم يجرحنى، شكرًا، رأيت فى المسافة بينى وبين الجبل مجموعة من ألوان تتمايل فى الهواء، تشبه الأغنية التى أخرجَتْها الأم الأربعينية من صدرها وتركتها لطفليها كى تؤنسهما، غير أن حِزمتى هنا بلا صوت، وكانت تبتعد المسافة نفسها التى نمشيها إليها، بدأتْ تصعد الجبل، وصلَتْ إلى قمّته، أَطلّتْ علينا للحظات، تراجعَتْ وهى تختفى تدريجيًا كأنما تهبط إلى الجهة الأخرى.

توقفنا عند الجبل.

 سمعْتُ أصواتًا تأتى من خلفه لأشخاص يتحدثون، كان صوتهم عاديًا، لكننا سمعناه، يغنّون أيضًا غناءً مُتقطعًا، مشينا إلى مصدر الصوت، وجدنا أشخاصًا يجلسون فى تجمّعات قليلة العدد، يتحدثون جميعًا عن الأم التى رأيتها فى حلمى وطفليها، كأنهم تجمّعوا هنا ليحكوا عنهم، لم يذكر أحدهم أكثر مما رأيته فى الحلم، توقّفْتُ وجدّتى نستمع إلى مجموعة من ثلاث رجال وثلاث نساء، حكى كلٌ منهم جزءًا من حلمى عن المرأة، سألتهم "كيف عرفتم  حكاية هذه المرأة؟"، نظروا إلىّ صامتين، تبادلوا النظرات فيما بينهم، بدا أنّ كلاً منهم ينتظر الإجابة من الآخر، سألتهم "رآها أحدكم؟"، تعلّقَتْ عيونهم بى، نقلْتُ عينىّ بينهم، سألتُ كل واحد منهم على حِدَة، "رأيتَها؟"، لم يرد أحد، سألتهم "كيف عرفتم عنها؟"، لا ردّ، "عرفتم شيئًا عنها بعد أن أخذها البحر؟"، صَمْتْ، فكّرْتُ أن أتوقف عن الأسئلة، لكنّى أحببْتُ أن أُرضى فضولى، قلت "رآها أحدكم فى حلمه مثلاً؟"، هزّ بعضهم رأسه نفيًا، همهمَ البعض "أتمنّى"، مرّرْتُ عينىّ عليهم، مشيتُ، سمعْتُ أحدهم يسألنى "رأيتِها أنتِ بأيّة طريقة؟"، لم ألتفِتْ، سألنى آخر "تعرفين عنها شيئًا لا نعرفه؟"، لم أَرُد، رأيتُ الرجل الذى يشقّ روحه نصفين يتنقّل بين النائمين، تَبِعتُه وأنا أحافظ على مسافة بينى وبينه، توقفَ عند صبىّ وصبيّة ينامان متجاورَين، سحَبَ روحه من فمه، شقّها نصفَين، غطّاهما بأحدهما، وغطّى بالآخر كلبًا وقطة، ابتعدَ بهدوء، راقبْتُه من مكانى حتى اختفى فى أحد جيوب الليل.

مشيتُ وجدّتى.

 تساءلْتُ، كيف كانوا يحكون عن الأم وطفليها دون أن يراها أحدهم، أو يتذكّر متى سمع عنها، وبالطبع لم يحلموا بها، ليس بينهم شخص واحد يعرف كيف وصَلَتْه حكاية المرأة، كنتُ لأرضى بهذا الواحد، فكّرْتُ، كيف لم يهتموا بالسؤال عن النهار؟ هل أنا مهتمة؟ إذن لماذا أندهش لأنهم لم يتحدثوا عنه؟ قطعَتْ جدّتى علىّ أفكارى.

 قالت "يبدو أن أحدًا لن يعرف شيئًا عن الأم وطفليها إلا إذا رأيتِهم أنتِ فى أحلامكِ أولاً"

"ومنَ يضمن أن أراهم ثانية؟"

"سترينهم"

"كيف تكونين متأكدة؟"

 "لستُ متأكدة، فقط أتوقّع، وأُحب أن أعرف ما حدث للأم وطفليها"

 "بواسطة أحلامى؟"

"أخشى ألا يكون لهم وجود فى العالم إلا إذا رأيتِهم فى أحلامك"

توقفْتُ.

 "تقصدين أنى بعد أن أراهم فى أحلامى يصير لهم وجود حقيقى؟" أومأتْ دون أن تتوقف، لحقْتُ بها.

قلت "لو أن هذا صحيحًا بطريقة ما، سأكون مسئولة عما يحدث لهم، ليس هذا فقط، وإنما إبقائهم على قيد الحياة أيضًا"

"لماذا تكونين مسئولة؟ أنتِ تحلمين، لا يمكنكِ أن تتحكّمى فى أحلامك"

"لكنى أُسرّبُ لها أفكارى، أعتقد أننا نشارك فى تشكيل أحلامنا بطريقة ما، لا يمكننى القول أنى غير مسئولة كُليًا، خاصة فى حالة الأم وطفليها"

"ما زالت هناك طريقة واحدة لمعرفة ما يحدث لهم"

 "أن أنام وأحلم بهم"

"لو كنتِ مهتمة أن تعرفى"

كان لدىّ فضول لأعرف ما حدث للأم بعد أن أخذها البحر، خاصة بعد ما سمعتُهم يتحدثون عنها عند الجبل، وما قالته جدّتى عن أن وجودها بشكل حقيقى فى العالم ربما يكون متوقفًا على وجودها فى أحلامى، هل يمكن أن يكون هذا حقيقيًا؟ خشيتُ أن أؤذيها فى حلمى، أن أراها تغرق أو تموت بطريقة ما، أو ربما لا تعثر على طعام أبدًا، فى المقابل، يُمكنُ أن تجد الطعام، وأن ينقذها البحر.

 لكنى لن أعرف أيًا من هذا أو غيره إلا إذا رأيتها فى أحلامى.

شعرْتُ أنى مسئولة عن الأم وطفليها، وإنْ لم أرها فى أحلامى فأنا بهذا  أُضيّعها فى الفراغ، لا بد أن أنام قريبًا حتى لا تضيع منى، يمكننى أن أحاول الآن.

 أغمَضْتُ عينىّ لحظات واستدعيْتُ النوم، انتبَهْتُ بزيادة، طَمْأنْتُ نفسى بأنى لا بد سأراها فى أول نوم طبيعى.

 

(9)

هبطَتْ طائرة "سيمويا" و"دوفو" عند الساعة العاشرة مساءً فى أرض مُغطّاة بندف صغيرة من إسفنج ملوّن، استقبلهم شاب قدّمَ نفسه باسم "ساهر".

 مشوا باتجاه الخيام، نظرَ "دوفو" و"سيمويا" إلى شريط أبيض من ورق مقوىّ، يتلوّى بين الإسفنج مثل متاهة أو لعبة ما.

قال ساهر "شريط من ورق مقوّى، عرضه متر، لا نعرف بدايته من نهايته، يبدو لى أنه يتمدّد كل يوم"

"ربما يتوقف عندما يتوقّف جبل النور عن الارتفاع"، قال "دوفو" وهو يتابع الشريط.

وصلوا إلى الخيام.

عرّفَهُما "ساهر" خيمتيهما، قال له "دوفو" إنه و"سيمويا" سيكونان جاهزَين خلال ساعة ليُلقيا نظرة على شريط الورق.

"سأكون عند خيمتى"، قال "ساهر" وأشار إلى واحدة على بُعد أمتار مُخطّطة بالأزرق والأصفر.

قبل أن تدخل "سيمويا" خيمتها قال لها دوفو "ستحتاجين أن تُحضرى معكِ عدسة مكبرة"

رتّبَ كلٌ منهما حاجياته، تحمّمَا، بدّلا ملابسهما، عادا مع "ساهر" إلى شريط الورق، وبدآ يتفحّصانه.

قال ساهر "أعتقد أن الشريط جزء من أرض قديمة تآكَلَتْ، أو دليل على أرض ربما نكتشفها"

"أو بداية لأرض ما زالت تتكون"، قال "دوفو". 

تحسّسَتْ "سيمويا" الشريط، قوىّ، ملىء برسوم صغيرة لوجوه بشرية، أشجار، حيوانات، كلمات بلغات مختلفة، وتوقيعات لبشر مرّوا به، تذكّرَتْ الشريط الورقى الذى قابَلَتْه "بينورا" وجَدّتها فى أوراق "الليل"، وتركا فيه توقيعيهما، شعرَتْ أن الشريط ليس إلا امتدادًا لتلك الأرض، أو جزء منها، وأنها ستعثر على التوقيعَين.

تفرّقَ الثلاثة حول الشريط.

 جلسَتْ "سيمويا" على ساقيها بجوار الشريط، دَقّقتْ فيه النظر، مرة بعينها المُجرّدة، وأخرى من خلال عدستها المُكَبّرة، رأت رسومات بخطوط سوداء، وأخرى ملوّنة، كانت مشغولة بالعثور على توقيع "بينورا"، وعند لحظة ما احتلّ توقيع الجدّة تفكيرها، شعرَتْ أن اسمها أحد مفاتيح أوراق "الليل"، وربما تعثر عليه هنا قبل أن تقرأه فى الأوراق، لكن كيف تعرف توقيعها لو أنها لا تعرف اسمها، أحَبّتْ أن تتبَع حدْسها، دائمًا ما تفعل، كما أن توقيع الجدّة سيكون على الأرجح بجوار توقيع حفيدتها.

بحثَتْ لوقت طويل، لم تعثر على توقيع "بينورا"، ولم تشعر بشىء خاص تجاه أىّ توقيع يجعلها تفكر أنه للجدّة، فكّرَتْ أنهما ربما لم تُوقّعا باسميهما، وإنما برسم قد يكون فراشة، غزالة، كنجارو، سمكة، أو أىّ شىء آخر، ربما رسَمَتْ كلٌ منهما تخطيطًا بسيطًا لوجه الأخرى.

توقّفَتْ عند رسم بالأزرق، عبارة عن ثلاث فراشات تصطفّ فى وضْع رأسى، الأولى كبيرة، الثانية صغيرة، والثالثة أصغر منهما، الرسم جميل، واضح، كأنما نُفّذَ لتوّه، شعرَتْ أنه توقيع الجدّة، دقّقَتْ النظر فى الفراشات، نظرَتْ إليها من خلال عدستها المكبرة، رأت أجنحتها ترفّ، أبعدَتْ العدسة، ثبتَتْ الأجنحة، نظرَتْ عَبْر العدسة من جديد، رفّتْ الفراشات، تكَرّر الأمر عدّة مرات، ابتسمَتْ.

 همسَتْ لنفسها "أنتِ الجدّة، أعرف ذلك"

 رأت بجوار الفراشات رسمًا بالأحمر لغزالة تقفز فى الهواء، خمّنَتْ أنه توقيع "بينورا".

 قالت وهى تنقل عينيها بين التوقيعَين "الفراشات الثلاث، وقفزة الغزالة"

 استلقَتْ على ظهرها بجوار الشريط الورقىّ، تأمّلَتْ النجوم.

سمعَتْ صوتًا يقول "غير مسموح بالنوم هنا"

 اعتقدَتْ أن النجوم تُحدّثها، اندهشَتْ، ليس لأن نجمة أو أكثر تتحدّثُ إليها، ولكن لأنها تقول "غير مسموح"، هذا ما لم تفعله النجمات مع أحد من قبل، بالعكس، تُرحّب دومًا بالجميع، وفى أىّ وقت.

مَرّت الفكرة داخل عقل "سيمويا" فى أقل من ثانية، أدركَتْ بعدها أن "دوفو" مَن يتحدّث إليها، ابتسمَتْ.

"اعتبرنى أحد الرسوم الموجودة فى شريط الورق"، قالت دون أن تُبعِد عينيها عن النجمات.

جلسَ إلى جوارها.

"وجدْتِ ما تبحثين عنه؟"

"أنتَ أيضًا كنت تبحث"

"لكنكِ تبحثين عن شىء خاص بك، كنتُ أراقبك"

اعتدلَتْ جالسة، أشارت إلى الفراشات الثلاث فى الشريط الورقى.

"انظر"

تأمّلَ "دوفو" الفراشات.

قالت "تُذكّركَ بشىء؟"

"بحيرات العسل الثلاث"

"والفراشة فى بيت أرض البسكويت"

نظرَ "دوفو" إلى الفراشات من خلال عدسته المُكبّرة، رأى أجنحتها ترفّ، أَبعَدَ العدسة، ثبتَتْ الأجنحة، كرّر الأمر مرتين، نظرَ إلى "سيمويا".

قال "هذا حقيقى"

"مثل كل ما صادفناه حتى الآن"

"هذا ما كنتِ تبحثين عنه؟"

"ربما"

"لو أنكِ تبحثين عن شىء فأنتِ تعرفين بوجوده"

"أو أتوقّع وجوده"، صمتَتْ لحظة.

 قالت وهى تربط التفاصيل ببعضها بعضًا "وجدنا مشبك شعر على شكل فراشة فى بيت أرض البسكويت، وبحيرات العسل كانت على شكل فراشات، لماذا لا تكون هنا أيضًا، بشكل ما"

"منطقى جدًا"

مرّتْ نسمة هواء باردة، شعرَتْ "سيمويا" بدغدغة خفيفة، ضحِكَتْ ضحكة قصيرة، ضَمّتْ ذراعيها حول جسدها لحظة.

"أحب هذا"، وتنفّسَتْ بعمق كأنما تريد أن تحتفظ بلمسة البرد داخلها، نظرَتْ إلى "دوفو"، أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "هل يمكن أن أسألكَ سؤالاً فى الحب؟"

ابتسمَ.

"الحب؟ طبعًا، رغم أن لدىّ أسئلة وليس إجابات"

"فقط لنتكلم عنه"، مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها.

"ما رأيكَ فى الحب من طرف واحد، أقصد ماذا لو أحبَبْتَ فتاة لا تحبك، هل كنت لتشعر تجاهها بالحقد، الرغبة فى الانتقام، أو تتخلّص من حبها؟"

فكّرَ لحظة.

"لو أنى أُحبها كيف يمكننى أن أحقد عليها أو أرغب فى الانتقام منها؟ لو أحببتُها لن يكون لها عندى غير الحب، ولا يمكننى أن أمنع نفسى عن حبها، لأنى لم أختره من البداية، الأمر ليس بيدى"

"أيمكن للحب من طرف واحد أن يكون علاقة ناجحة؟"

"الحب ليس صفقة تستلزم وجود طرفين، أنت تُحبّين لأنك تُحبّين، ليس لأن من تُحبّينه يبادلكِ الحب"

"لا بد أنه مؤلم، حب من طرف واحد، أتساءلُ إن كنت أستطيع أن أتحمّله"

حرّكَ "دوفو" يده على شكل موجة.

نظرَتْ بعيدًا.

قالت "هل يمكن أن أستمر فى حب شخص لم يبادلنى الحب؟ ألن تراودنى عنه أفكار مجنونة، مثل أن أطعن قلبه مرة، أضرب رأسه بمطرقة، أصفعه حتى، أو أشتمه ولو فى سرّى"، نظرَتْ إلى "دوفو".

"كيف يمكننى أن أستمر فى حب كهذا؟"، قالت كما لو أنها بالفعل تحب من طرف واحد.

قال دوفو "يكفى أن هذا الشخص كان سببًا لتشعرى بالحب"

تذكّرَتْ ما قالته جدّة "بينورا"، وانتظرَتْ أن يقول لها "مَنْ أَحَب نجا"، لكنه لم يقُلْها، ظلّ ينظر فى عينيها.

قالت "تعرف؟ حتى القصص التى يتبادل طرفاها الحب، كثير منها ينتهى"

"القصة تنتهى، لكن الحب الموجود فيها يستمرّ، يظلّ حيًا فى مكان ما من العالم، برأيى أن أيّة قصة لا تنتهى طالما بدأتْ، تبقى موجودة، وتُكمل حياتها بعيدًا عن أشخاصها بطريقة ما"

"فى حياة أخرى مثلاً؟"، ردّتْ "سيمويا" بسرعة، تأمّلها "دوفو" لحظة كأنما يتساءل عن حماسها المفاجئ.

قال "هل تتوقّعين أن يكون الحب مجرد اثنين يتبادلان المشاعر، تلك الطريقة الكلاسيكية، السهلة؟"

"تقصد التى تجلب السعادة للطرفين؟"

"أنتِ متأكدة من فكرة السعادة هذه؟"

"هل هناك بين قصص الحب أجمل من اثنين يتبادلان الحب؟"

"هذه حالة شائعة جدًا، حتى إنها ربما لا تكشف عن جوهر الحب، لن تبهرنى، أو تجعلنى أتوقف عندها، أُفكّر فى حالات أخرى نادرة يمكنها أن تكشف جوهر الحب، وتُلهِمَ الآخرين"

"هناك قصص يتبادل طرفاها الحب، ولروعتها تكون نادرة، ومُلهِمة"

"لكنها تظلّ تقليدية، وشائعة، لو كان مطلوبًا من الحب قصة تُعبّر عن جوهره، لا أتوقع أن يُقدّم قصة شخصين يتبادلان الحب"

"تتوقّع قصّة حب من طرف واحد؟"

"أو ثلاثة أطراف، ربما أكثر، أعنى قصة غير آمنة، قصة تنزف"

"أليس الشعور بالأمان شىء أساسى فى الحب، دوفو؟"

"الحب بطبيعته فِعْل غير آمن، وهذا شىء رائع فيه، لكنه قد يمنحكِ الأمان، النار بطبيعتها غير آمنة، ويمكنها أن تمنحكِ الدفء، ثمّ، ما هو الأمان سيمويا؟ اذكرى شيئًا واحدًا لا يحمل خطرًا بداخله، حتى عندما تلعبين لعبة بسيطة أنت مُعرّضة لخطر ما، أعتقد أن كل الأشياء الجميلة بها نسبة من الخطر والمغامرة، وكلما ارتفعَتْ هذه النسبة زادت مُتعتكِ وشعوركِ بالحياة"، صمَتَ لحظة، راقب نجمة تعبرُ جانبًا من السماء.

قال "قصص الحب الآمنة مثل أن تولَد لأسرة توفّر لك كل شىء، مُمِلّ وغير ممتع، القصص غير الآمنة مثل أن تولد مُشرّدًا، تعيش الخطر والمتعة"

 "أشعر فى كلامك بمزيج غريب من الرومانسية والساديّة"

"لا سيمويا، فقط أبحث عن قطرة الحب المُصَفّاة، كأنكِ أمسكتِ بروح الحب ومرّرْتيها عَبْر ألف أنبوب تقطير، وحصلْتِ على قطرة واحدة، نهائية، بعد أن تخلّصْتِ من مشاعر الفرح، الحزن، الأمان، الخطر، الرومانسية، الساديّة، المازوخية، وكل ما يخطر ببالك من مشاعر وأفكار، تبقّتْ لك هذه القطرة النقيّة، جوهر الحب"

"ماذا تتوقّع أن تكون عليه هذه القطرة؟"

"ليس لدىّ فكرة، لكنى لا أتوقّع الحصول عليها من قصة تقليدية، إنما من قصة نادرة، قصة تنزف"

فكّرَتْ "سيمويا" قليلاً.

قالت "لا أعرف"

"أنا أيضًا لا أعرف"

نظرَتْ "سيمويا" بعيدًا، وابتسمَتْ.

قالت "مَن أَحَب نجا"، شعرَتْ أن الجملة نابعة منها، ليس أنها تُكرّر ما قالته جدّة "بينورا" فى أوراق "الليل".

"أحبَبْتُ هذه الجملة، مَنْ أَحَب نجا"، قال "دوفو".

عاد كلٌ منهما إلى خيمته.

فكّرَتْ "سيمويا" فيما قاله "دوفو" عن الحب من طرف واحد، وقبل ذلك الحب من أول نظرة، وكيف يشبه إلى حد كبير ما قالته جدّة "بينورا"، تساءلَتْ، لماذا احتلّتْ الجدّة المساحة الأكبر من تفكيرها، هل كانت مهتمة بها من البداية دون أن تنتبه، لماذا يزداد شعورها أنّ اسمها الذى لم تعرفه حتى الآن، مفتاح أساسى لأوراق "الليل".

انتبهَتْ إلى أنها عندما تُحدّث "دوفو" عن "بينورا" فإنها فى الحقيقة تحكى عن الجدّة وحبيبها.

أعَدّتْ قهوتها، قضمَتْ زاوية صغيرة من قطعة شيكولاتة، جلسَتْ إلى المكتب مع أوراق "الليل".

 

الليل

دخلنا أرضًا يغطيها عشب قصير ملوّن، أحمر، أصفر، برتقالى، أخضر، وفضىّ، مرّرْتُ يدى عليه لعدة أمتار، نظرْتُ إلى جدّتى، كانت تنقل عينيها بين النجوم كأنها ترسم بها أشكالاً.

"هذه عصفورة، قلب، بَطْريق، وهذا كنجارو"

نظرَتْ إلىّ، تأمّلَتنى لحظة.

"كان عمرى 23 سنة وستة أشهر وثلاثة أيام عندما أحبَبْتُ دوفو، يوم الغابة المتحجرة"

 ابتسمْتُ لأنها تحكى عن قصة حُبها دون أن أسألها، نظرَتْ بعيدًا كأنما تختار إحدى لحظاتها الحلوة.

"جعلنى دوفو أتقدّم فى العمر دون خوف، قبل أن أعرف حبى له فكّرْتُ فى استخدام عقار منع ظهور علامات التقدّم فى العمر، وأنْ أُثبّت ملامحى عند عمر الرابعة والعشرين لسنوات طويلة، لم أكن قد قرّرْتُ ذلك بشكل نهائى، لكن بعد الذى شعرْتُ به فى الغابة المُتحجرة تخلّيتُ عن الفكرة إلى الأبد"

"أقنعكِ دوفو؟"

"لم يتحدّث معى فى هذا أبدًا، لكنى رأيت العالم بشكل مختلف بعد أن أحبَبْت، لم أَعُد خائفة من أىّ شىء"

"أليس من الجميل أن نحتفظ بشبابنا لأطول فترة ممكنة، أعتقد أن الأمر يتعلّق هنا بالجمال، لا بالخوف"

"فيما يخصّ الجمال، ليس أجمل من وجه حقيقى، بهذه البساطة، ولا يُمكنكِ أن تفصلى بين رغبة شخص ما فى أن يظلّ شابًا، وقلقه من الموت، كما أنى أعتبر أن هذا الشخص يخدع نفسه، والآخرين"

"كيف؟"

"كل كائنات الكون، جبال، نباتات، حيوانات، نجوم، بحار، طيور، كل ما يخطر ببالك، لديها فى جسمها وملامحها علامات تدلّ على عمرها، وتحرص هذه الكائنات، حتى بعد موتها، على بقاء العلامات، وحده الإنسان يريد أن يمحو علاماته، وأقلّ ما يترتب على ذلك، أنه يمحو معها جزءًا من وجوده، وذكرياته"

"الذكريات داخل عقولنا، جدّتى، صحيح؟"

"ذكرياتكِ فى كل نقطة منكِ بينورا، والشخص الذى يمحو علامات الوقت من وجهه يرتبك عندما ينظر إلى هذا الوجه ويقرأ شيئًا مختلفًا عما هو مُسَجّل فى قلبه وعقله"، أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

قالت "أنا لم أكن لأقبل أن أظل شابة وأُفَوّتُ على نفسى أن أبدو كامرأة أربعينية، لا يمكننى التفريط فى الأربعين الغالى، أيضًا لم أكن لأفَوّت هذا الشعر الأبيض"، مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها.

لمَسْتُ أطراف شعرها.

"وأنا أُحب شعركِ جدّتى"

 تأمّلَتْنى لحظة.

"ماذا لو عُرِضَ عليكِ أن تبقى شابة، مثلما أنتِ الآن، ليس لمائة عام، ولا ألف، إنما للأبد"

 لم أُفكّر من قبل إنْ كنتُ سأستعمل عقارًا يمنع ظهور علامات التقدّم فى العمر، والآن أحصل على هذا العرض الكبير.

 قلت "تعرضين علىّ أن أعيش شابة إلى الأبد؟"

"فَكّرى قبل أن تُجيبى"

"هل أحصل على اختيارى بالفعل؟"

 "ربما، لا أحد يعرف"

 "إذن، أُفكّر فى هذا لاحقًا"، رفعْتُ يدى كأنى أضع نهاية لهذا الجزء من الحوار.

قلت "هل يمكن أن نعود إلى دوفو؟"

 "لم نبتعد عنه بالأساس"، فكّرَتْ لحظة.

 "سأحكى لك شيئًا يعجبك"

"كل ما تحكينه يعجبنى"

ابتسمَتْ عيناها، ظهرَتْ فى هذه اللحظة على مسافة قريبة، وكأنها خرَجَتْ لتوّها من الأرض أو هبطَتْ من السماء، شجرة برتقاليّة اللون، تتدلّى من أغصانها قناديل صغيرة، تشعّ ضوءًا برتقاليًا خافتًا، يمنح إحساسًا بالدفء. قالت جدّتى "يبدو أننى سأؤجل الحكاية لبعض الوقت"

 قلت "يُمكنكِ أن تحكى فى طريقنا إليها"

 هزّتْ رأسها نفيًا، ارتَحْتُ لهذا، كنتُ سأنشغلُ عن الاستماع إليها بالنظر إلى الشجرة، وأنشغلُ عن النظر إلى الشجرة بالاستماع إليها.

مشينا إلى الشجرة، توقفنا عند حدود أغصانها.

 رأيتُ زَغبًا برتقاليًا يغطى جسدها ويتمايل بخفّة مثل وهْم، اكتشفتُ أن القناديل ليست إلا ثمارًا عبارة عن انتفاخ شفّاف بحجم قبضة اليد، له قاعدة تبرز منها زهرة مُقسّمة إلى فصوص صغيرة متلاحمة، تتوهّج بالبرتقالى الذى لم يكن لونًا ولا ضوءًا، إنما مزيج من روحيهما معًا.

 قالت جدّتى "أنتِ أولاً"، كان صوتها برتقاليًا.

 نظرْتُ إليها، أشارت بعينيها إلى ثمرة قريبة منّى، فهمْتُ أنها تريدنى أن آكلها، كانت قريبة إلى حدّ جعلنى أشعر بالخجل، تأمّلتُها وأنا أُفكّر أنها أجمل من أن تؤكل، وأجمل من أن تُهمَل، على الأقل يمكننى أن ألمسها، مدَدْتُ يدى، لمَسْتُ بإصبعى الانتفاخ الشفاف، انفتحَ للداخل بهدوء مثل باب بدرفتين، ارتفعَتْ الزهرة البرتقالية قليلاً وهى تدور حول نفسها كأنما تُقدّم لى حياتها، رفرفَتْ منها رائحة تشبه تَفتّح أحد  أسرار الكون، أدخلْتُ يدى من باب القنديل، لمَسْتُ الزهرة، ارتجفَتْ أصابعى وهى تحضن روح الضوء واللون معًا، ظللتُ أتحسُسها دون أن أعرف ما يجب علىّ فعله، قَطَفَتْ الزهرةُ نفسها لأصابعى، سحبْتُ يدى بها، انغلَقَ باب القنديل، تأمّلتُها وسألْتُ نفسى من جديد إن كان لى أن آكل كل هذا الجمال، نظرْتُ إلى جدّتى، شجّعتنى بنظرتها، عُدْتُ إلى زهرتى، شعرْتُ أن روحى هى من ترغب فى تناولها لا جسدى، وأنى حين أضعها فى فمى فإنما أُناولها إلى روحى، وأن الزهرة عندما تدخل جوفى ستجد طريقها إليها، وضعْتُها فوق لسانى، ضغطتُها برفق إلى سقف فمى، شعرْتُ بها تتفَتَت، تذوب، تسيل، وتتبخّر فى وقت بَدَا لى كأنه سنوات اُختُصِرَتْ فى لحظة، شعرْتُ بروحى تجرى فى حدائق ورود بريّة، وصلَتْ إلى نهر بين قمم جبال شاهقة، طارت على سطحه مسافات، هبطَتْ معه على هيئة شلال يرتكز على جانبيه قوس قزح، تفرّقَتْ مع الشلال إلى جداول تشرب منها غزالات ونباتات ملوّنة، تجمّعَتْ روحًا واحدة من جديد، ارتفعَتْ فى الهواء، ونبتَتْ لها أجنحة شفافة.

قطفَتْ جدّتى زهرة لنفسها.

 دخلنا تحت الشجرة، غَمَرَنا لون، ضوء، برتقالىّ دافئ، استطعْتُ أن أُمسك به للحظات بين أصابعى، تمدّدَتْ الأغصان فى كل اتجاه، حجبَتْ السماء، ملأ البرتقالىُّ العالمَ، ابتهجَ به وجهى، رأيت وجه جدّتى كذلك، نظرْتُ إلى سمائنا.

 "سأصعد جدّتى"

تنقّلْتُ بين الأغصان بسهولة، أتفادى بعض القناديل وأصطدم بأخرى، كلما صعدْتُ تفرّعَتْ غصون جديدة، حتى لحظة نظرْتُ فيها إلى أسفل ولم أرَ الأرض، إنما سحابًا برتقاليًا يتداخل، جلسْتُ فوق أحد الغصون، أشمّ رائحة الدفء، أدفعُ القناديل بطرف إصبعى، تتأرجح حولى وتُبعثر برتقالها، يلفّنى دُوَارُ المُتعة، وبين لحظة وأخرى تحضننى سحابة، فتفرح روحى.

كان علىّ أن أنزل فى النهاية، تنقّلتُ بين الأغصان، يتداخل حولى السحاب البرتقالى مثل مقطوعات من الوهم، راودتنى رغبة فى النوم ربما، أو أن أُلقى بنفسى وسط السحاب، لا أعرف أيّهما حدثَ، فقط شعرْتُ أنى أسقط سقوطًا آمِنًا، سمعْتُ صوت البحر قادمًا من بعيد، ثم رأيت البحر نفسه، والمرأة أم الطفلين، واصلْتُ سقوطى الجميل.

 سمعْتُ صوتى من مكان فى البحر أو السحاب، لا أعرف، كان ناعسًا، ربما كنتُ نائمة، أو شيئًا آخر.

سمِعتُه يحكى "تمشى الأم على سطح البحر، القمر قريب منها، تَحْتَكّ رأسها به كلما رفَعَتْها إحدى الموجات قليلاً، لم يكن لديه مانع، أَحَبّ ذلك، رأت زبَدَ بعض الأمواج يتحوّل إلى نوارس، تُحلّق حولها لحظات، تصدْرُ عنها أصوات كالتماعات الضوء، وتبتعد، ظهرَتْ على مسافة قريبة قوارب ليس بها صيادون أو مجاديف، بعضها جديد، لكنه فارغ، بعضها قديم وملىء بأسماك تلمع فى نور القمر، مشَتْ إليها، كلما اقتربَتْ من أحدها تحوّل إلى سمكة تغوص فى البحر، أو نورس يطير فى الهواء، مشَتْ بمفردها لعدّة أميال، رأت حديقة مرجان تطفو على مسافة ليست بعيدة، تنعكس ألوانها على الماء، جَرَتْ إليها، لم تجد غير مزيج من ألوان فوسفورية تتراقص، نظرَتْ تحت قدميها، رأت الحديقة تُضىء بعيدًا بالأسفل، فكّرَتْ أن ما تراه ربما يكون طيفًا آخر للحديقة الأصليّة التى تقبع فى مكان لا تعرفه، ابتعدَتْ وهى تتمنّى ألا تتوقف أغنيتها التى تركتها لطفليها، لمحَتْ بجانب عينيها سرب أسماك تتبادل السباحة والغطس بمحازاتها، لم تهتم إلا عندما سمعَتْ مواءً، توقّفَتْ ونظرَتْ إلى السرب، توقّفَ بدوره ونظر إليها، كان عبارة عن مجموعة من أسماك تشبه قطط البَرّ، جسمها مَرِن، عيونها لامعة، لكنها بلا فرو، إنما جلد مُرقّط بألوان برّاقة، وزعنفة طويلة بدلاً من الذيل، مشقوقة فى نهايتها، كل "قطط البحر" هناك كانت ترقبها، تموء، وتتلوّى زعانفها فى الهواء، اقتربَتْ إحداهن من الأم وهى تتبادل الجرى والغطس، خرجَتْ من بين قدميها، دارت حولها، لامسَتْ ساقيها بزعنفتها، مسحَتْ الأم ظهر القطة، لاحظَتْ مخالبها البيضاء الطريّة، شقّين صغيريَن خلف أذُنَيها، لهما لون وردىّ، ويُغطيهما زَغَب خفيف ذهبىّ خفيف، تقَوّس ظهْر القطة تحت يد الأم وماءَتْ مثل ضحكة صغيرة، عادت إلى السرب، نظرَتْ الأم إلى كل قطة على حِدَة، رأتهن يغطسن فى الماء واحدة بعد أخرى حتى اختفيَن، سمعَتْ مواءهن يصعد إليها من الأسفل مُبللاً، ظلّ يخفْتُ تدريجيًا حتى تلاشى، هدأ كل شىء للحظات، انتبهَتْ الأم على صوت جسد ينتفض فى الماء، رأت على بُعد خطوات سمكة كبيرة، يلمع جسمها الفضّى الرمادى فى ضوء القمر، كانت تتلوّى وتئن، أسرعَتْ الأم إليها، لكنها تسمّرَتْ على بُعد خطوة واحدة منها عندما رأت أنيابها الكبيرة، أغلقَتْ السمكة فمها، طَفَتْ بجسمها كله على سطح الماء كى تكشف شيئًا، لمحَتْ الأم جنينًا يطلّ مما يمكن أن يكون رحم السمكة، اقتربَتْ منها وهى تُدقّق النظر، انتفضَتْ السمكة وانفلَتَ منها صراخ، جلسَتْ الأم على ساقيها عند الجنين الذى بَدَا عالقًا هناك، مسحَتْ ظهر أمه، قالت "استرخى"، أمسكَتْ رأس الجنين برفق، بدأت تسحَب على مهل، السمكة تئن، همسَتْ لها الأم "اهدأى، هشششش"، مسحَتْ جَنْبَها، مدّتْ يدها داخل رحمها بهدوء، لامسَتْ جسم الجنين بأطراف أصابعها، ظهَرَ منه جزء آخر، صرخَتْ السمكة، شجّعتْها المرأة على المزيد، صرخَتْ بأعلى صوتها، ابتسمَتْ الأم وسحبَتْ الجنين قليلاً، السمكة تلهث، تبكى، تركَتْ القابلةُ الجنين، جلسَتْ عند رأس أمه، مسحَتْ وجهها حتى هدأتْ، سكنَ البحر لأجلهما، أطلقَتْ السمكة نَفَسًا عميقًا ونظرَتْ إلى الأم كأنما تقول "أنا جاهزة"، عادت صديقتها إلى الجنين، التقطَتْ قطرات من البحر وداعبَتْه بها "لا تُعذّب أمك"، بدأتْ تسحبه برقّة، حبسَتْ السمكة أنفاسها، دفعَتْ ماء قلبها كله تجاه جنينها كى تساعده على الخروج، شجّعتْها الأم "هاااااا، هااااااا"، امتزجَ صوتها بصراخ السمكة التى تعصر نفسها، "هااااا، اصرخى، هاااااااا"، مدّتْ السمكة عنقها عن آخره، انقبضَ جسمها، "اصرخى أختى، اصرخى"، نظرَتْ السمكة إلى الأم كأنها تقول "ألم يخرج بعد؟"، فتحَتْ الأم يديها للجنين، هتفَتْ "هااااا، أختى، مرة أخيرة"، دفعَتْ السمكة قلبها كله إلى هناك، انزلَقَ جنينها إلى صدر الأم، ضحِكَتْ وحاولَتْ الإمساك بالطفل الفضىّ الزَلِق، عندما تمكّنَتْ منه قبضَتْ على ذيله، رفعَتْ يدها به وجعلَتْ رأسه إلى أسفل، تأمّلَته وهو يلمع فى ضوء القمر، ماء أمه يسيل على جسمه، ضربَتْ رأسه بأطراف أصابعها مرة واحدة، اندفعَتْ من خياشيمه خيوط هواء وماء، تنفّسَ البحرُ الصُعَداء، أخرجَ من قلبه موجات احتفاليّة، تحوّل زبدها إلى نوارس، فَتَحَ الطفل عينيه فى عينى المرأة، ظلّ ينظر إليها من وضعه المقلوب وهى تمسك بذيله، وقبل أن يعتقد أنها أُمه وضَعَتْه فى حضن السمكة، ضمّته إليها، لامَسَته بخدّها، نظرَتْ إلى الأم بامتنان، أطالت النظر إليها، قالت الأم "لا، لن أختار اسمه"، نظرَتْ السمكة إلى طفلها، داعبَتْ ملامحه بعينيها، وعندما حرّكَ زعانفه دارت به حول الأم بحركات راقصة، "لا عليكِ، ليس ضروريًا"، قالت المرأة، أصرّتْ السمكة أن تُكمل رقصتها، وبعد أن أنهَتْها نظرَتْ إلى الأم، قالت بعينيها شيئًا ما، وابتعدَتْ بابنها، ظلّتْ أم الطفلين تتابع الزعنفة الفضيّة الصغيرة وهى تبرز من سطح الماء حتى اختفَتْ، عندها تذكّرَتْ ابنتها وابنها، عاودَتْ المشى بحثًا عن طعام، وامتزجَتْ بموج البحر".

 فتحْتُ عينىّ.

 وجدْتُ نفسى مُمدّدة على الأرض فى وضع الجنين، جدّتى جالسة بمواجهتى تتأمّلنى، ونور برتقالىّ هادئ ينعكس على وجهها، تلفّتُ حولى، لم أعرف إن كنت أبحث عن الشجرة البرتقالية والسحاب، أم عن المرأة والسمكة، لم أجد غير واحدة من ثمار الشجرة موضوعة بالقرب منّى، كانت أشبه بقنديل صغير يشعّ نورًا برتقاليًا.

 اعتدَلْتُ جالسة.

سألتُ جدتى "أين الشجرة؟"

 ظلّتْ صامتة للحظات.

سألَتْنى "حلمتِ بأُم الطفلين؟"

 أوشكْتُ أن أسألها ثانية عن الشجرة.

 قلت "نعم جدّتى، حلمْتُ بأُم الطفلين"

حكَيْتُ لها ما رأيت، لم أكن واثقة إن كان حُلمًا أم واقعًا.

 حملَتْ جدّتى الحقيبة على ظهرها وابتعدْنا عن الثمرة القنديل، سمعْتُ صوت طائر يتردّد فى السماء، فكّرْتُ فى الطيور الموجودة هنا على جانب الليل، هل ما زالت الليليّة منها تُحلّقُ منذ بداية الحادث حتى الآن، وتنتظر الشروق كى تعود إلى بيوتها؟ وما زالت النهاريّة قابعة فى بيوتها تنتظر الصباح كى تخرج؟

فكّرْتُ فى الطيور الموجودة على جانب النهار، هل ما زالت النهاريّة منها تُحلّق وتنتظر الغروب كى تعود إلى بيوتها؟ وما زالت الليليّة كامنة فى بيوتها تنتظر قدوم الليل كى تنطلق؟

لدىّ شعور أن الطيور فى جانب الليل لن تصل إلى النهار مهما سافرَتْ بحثًا عنه، وأن الطيور فى جانب النهار لن تصل إلى الليل، كلها ستظلّ تطير، أو قابعة فى عالمها حتى يحدث شىء جديد، فكّرْتُ أن حال الحيوانات لن يختلف عن الطيور، الأسماك أيضًا، وبقيّة الكائنات، كلها لن تكون بعيدة عن هذا.

انتبهْتُ على ما بدا أنه وقْع أقدام حيوانات تجرى فى السحاب، سمِعْتُ لهاثها، توقفْتُ ونظرْتُ إلى أعلى، يأتينى الصوت من كل زاوية هناك، تتبّعتُه بعينىّ حتى تجمّعَ فوقى وجدّتى للحظات، تردّدَ صداه فى كل مكان، ثم ابتعدَ وتلاشى فى ركن من السماء.

قلت "أتساءل، إلى متى يجرون؟"

"إلى متى تَمشين أنت؟"

فكّرْتُ لحظة.

"ما يتطلبه الأمر"

ربّتَتْ خدّى.

قلت "كنتِ ستحكين شيئًا لى عنك ودوفو قبل الشجرة البرتقالية"

ابتسمَتْ عيناها، أشارت لأمشى معها.

قالت "كان دوفو يهوى صناعة أفلام الرسوم المتحركة، درسَ هذا الفن بشكل مُكثّف لستّة أشهر، كانت أفلامه كلها عن المواقع التى نعمل عليها، يرسم مناظر منها على الحاسوب بمساعدة برامج خاصة، ويحوّلها إلى فيلم يعرضه لطاقم العمل والأصدقاء ولأىّ شخص يطلبه، كان يحلم بأن يجعل هذه الأفلام فيلمًا واحدًا طويلاً، يُمثّل تَصوّرًا عن نشأة العالم، والأحداث التى لم يشهدها الإنسان، ثم ينشره بشكل أوسع"، صمتَتْ لحظة، وابتسَمَتْ.

 "كنت أنا بطلة هذه الأفلام، وحدى وسط الغابات، الطيور، الحيوانات، الصحارى، والمياه"

 سألتُها "لماذا لم يظهر فيها دوفو؟"

 "لم أعرف السبب إلا بعد حادثة الغابة المُتحجرة، الغريب، أنى اعتقدْتُ فى البداية أنه يسخر منّى بهذه الأفلام، كان يجعل الأفيال تدهسنى، الديناصورات تأكلنى، يُسقطنى من جبل بشكل مُضحك، أشياء مثل هذه، ألبسنى تى_ شيرت أحمر لا يتغيّر، مرسوم على صدره قلب أبيض كبير، وبنطلونًا مُمزّقًا، أبدو فيهما مثل طفلة خرقاء، وضَعَ حول خصرى حزامًا به فرشاة أسنان، شاكوش بلاستيك، وعدسة مُكبّرة مشروخة، وأحيانًا كان يضع فى يدى قطعة شيكولاتة ويجعل ديناصوراته، أفياله، وطيوره الخرافية تطاردنى وتنادينى: سيمويا أعطنى قطعة شيكولاتة، وأنا أجرى وأقضم منها بسرعة حتى أنهيها، هذا طبعًا لأنى حتى ذلك الوقت كنت أرفض أن أعطيه شيكولاتة"

"ربما فعلَ ذلك على سبيل المرح، أو لأنه لم يكن قد أَحبّكِ بعد"

 "لم يكن عدم حبه لى ليجعله يُظهرنى بهذا الشكل، لأن علاقتنا كانت جيّدة جدًا بالأساس، لكن بعد حادثة الغابة المُتحجرة، أدركنا، هو وأنا، أنّ كلاً منّا كان يحب الآخر طوال الوقت دون أن نعرف، وأنه صوّرَنى فى أفلامه بهذا الشكل لأنه كان يُحبنى دون أن يعرف"

 توقفْتُ فى مكانى.

"لحظة، أحتاج توضيحًا"، ومشيْت.

"حسنًا، بعد حادثة الغابة المتُحجرة، رأيت هذه الأفلام بإحساس مختلف، كل تفاصيلها التى أزعجتنى كانت علامات على حبّه لى، أحبَبْتُ تى- شيرت الأحمر بعد أن رأيت نفسى فيه طفلة مشاغبة، لا خرقاء، أدرَكْتُ أن القلب الأبيض المرسوم على صدره، يرمز للنقاء، لا للسذاجة، كيف أنزعجُ من قلب أبيض؟ البنطلون الممزّق لمسة فنيّة، الحيوانات التى تطاردنى لأجل الشيكولاتة كانت لعبة، قال لى دوفو، إنه لم يفكر أبدًا أن يجعلنى أضحوكة، وإنما أن يُضحكنى، عندما أدرَكْتُ ما يقصده أعطانى نسخة عن هذه المجموعة من الأفلام، بعدها كان يعطينى نسخة من كل فيلم فور أن يجهزه، وبالطبع هناك واحدة لأحد مراكز الأبحاث"

"لم تقولى بَعْد جدّتى، لماذا لم يظهر فى هذه الأفلام؟"

"نعم، عندما سألتُه، قال إنه لم يتعمّد الأمر، حتى إنه لم ينتبه إليه فى البداية، لكنه فكّرَ فيه بعد حادثة الغابة المتحجرة، وكانت إجابته أنّ لا وَعيَه كان يرغب فى رؤيتى طوال الوقت، أو أنه، دون أن يدرك ذلك، اعتبر نفسه موجودًا لأنى موجودة"

 "أحبَبْتُ هذا"

 نظرَتْ بعيدًا، تنهّدَتْ.

"بينى وبين دوفو ذكريات بلا نهاية، لنا قوائم نُسمّيها "الأفضل": أفضل عشرة كتب، عشرة أغانٍ، أماكن، أفلام، تتسع القائمة أحيانًا لأكثر من عشرة، أهدانى معظم الموسيقا التى لدىّ، أعرف ألوانه المُفضلة، حيوانه، طائره، ويعرف عنّى، أعرف كلماته المُفضّلة التى يكررها فى كلامه، ويعرف كلماتى..."

 قاطعْتُها "انتظرى جدّتى، أريد أن أعرف هذه الكلمات"

 ابتسمَتْ.

 "كلمات دوفو هى: لعب، سهل، كل شىء ممكن، كلماتى هى: سأحاول، أفكر، شغف"، تلفتَتْ حولها بنظرة طفولية.

 "ابتكرَ لى عدّة ألقاب سِريّة لم يكن غيرنا يعرفها"

 "هل تقولينها لى؟"

 "أذكر لك اثنين فقط كى تبقى بينى وبين دوفو أشياء لا يعرفها غيرنا"

مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها.

قالت "أُخت المطر، والبنت التى تحاول"

"الأول لأنك تحبين المطر، طبعًا، والثانى لأنك تستعملين كلمة سأحاول بدلاً من سأفعل"

 أومأتْ مُبتسمة.

قلت "صحيح، لماذا لا تستعملين "سأفعل"، أليست أفضل من "سأحاول"، وتساعد أكثر على الإنجاز، بطريقة ما؟"

فكّرَتْ لحظة.

قالت "أولاً، ‘سأحاول‘ تناسبنى أكثر، حُرّة، ولا تُشعرنى بالالتزام، أما "سأفعل" فكأنها قيد، ثقيلة، وبها غطرسة"، نظرَتْ بعيدًا كأنما تبحث عن معنى دقيق.

 "‘سأحاول‘ كلمة سهلة، وبها مساحة للعب"، ضحكَتْ ضحكة قصيرة، نظرَتْ إلىّ.

 قالت "ذكَرْتُ للتوّ كلمتين من كلمات دوفو المفضلة، سهل ولعب"

"هذه إشارة لنعود إليه"

"لا زلنا معه"، صمتَتْ لحظة، ابتسمَتْ.

"كان ينادينى أحيانًا باسمى كاملاً، سيمويا أكسيلينور، وكنت أبتسم كلما فعلَ ذلك، مهما كانت الظروف، حتى لو كرّرها خلال حديث قصير، لم يكن يحدث هذا إلا معه، الغريب، أنى لم أنتبه لهذا إلا بعد حادثة الغابة"

"كان يمكنكِ أن تناديه باسمه كاملاً من وقت لآخر، وتراقبى ما يحدث له" "فعَلْت، ولم يكن يبتسم"

 "ربما كان قلبه يبتسم"

توقفَتْ جدّتى، نظرَتْ إلىّ، وابتسمَتْ عيناها، تأمّلْتهما لحظة.

قلت "أنا واثقة أنكِ كنتِ تفعلين أشياءَ أخرى تجعله يبتسم، ويضحك"

"أعجبنى أنْ يبتسم قلبه، يرضينى هذا"، مسَحَتْ جانبًا من شعرى، ومشينا.

 قالت "سألته كثيرًا قبل حادثة الغابة لماذا ينادينى باسمى كاملاً، ولم يُعطنى إجابة، يكتفى بأن يُحرّك يده على شكل موجة، كنت أعتبر عدم إجابته نوعًا من المشاغبة"، تنهدَتْ، مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها.

"لكنه أخبرنى أنه أدركَ بعد حادثة الغابة لماذا كان يفعل ذلك"، صمتَتْ، تعلّقَتْ عيناى بها، أمالت رأسها على كتفها.

 "لأنه يُحب كل ما فىّ، حتى بقية اسمى"، نظرَتْ بعيدًا، وابتسمَتْ.

 قالت "شكرًا دوفو ماليمورا"

 "أنتِ أيضًا تُحبين بقية اسمه"

 أومأتْ وما زالت تنظر بعيدًا كأن عينيه هناك، توقفَتْ، تأمّلْتُها قليلاً. همَسْتُ "جدّتى، سيمويا أكسيلينور"، نظرَتْ إلىّ، رأيتُ فى عينيها دموعًا جميلة، خلعَتْ الحقيبة من ظهرها.

 قالت "سأريكِ شيئًا"، جلسَتْ مُتربّعة مثل طفلة تستعد لفتح كنزها، جلسْتُ بمواجهتها بما يليق بالصديقة المخلصة لصاحبة الكنز، أخرجَتْ حافظة أوراقها، الزرقاء، وضَعَتْها بيننا، فتَحَتْها، رأيت بداخلها مجموعة من الصور، ربما لا تتجاوز الخمسة عشر، فكّرْتُ أنها ما أرادت جدّتى بشدة أن تحتفظ به، لمحْتُ بينها صورة تجمعنا، هى نفسها التى أخذتُها من البيت، هناك أيضًا ثلاث فلاشات حاسوب، وحزمة الأوراق بالأسفل، الورقة الأولى بيضاء، كأنما وضعْتها جدّتى كى تحجب حتى العنوان، ظننْتُ أنها ستسمح لى بقراءة بعضها.

أمسكَتْ جدّتى الصور، اختارت واحدة، تأمّلَتْها قليلاً، أعطتنى إياها، كانت فى العشرينيات من عمرها، تقف على شاطئ البحر، حافية، ترتدى ثوبًا أزرق مائيًا قصيرًا، يكاد الهواء يُطيّرها، وتضحك كأنها لم تُجرّب الحزن أبدًا.

 "كانت لى ضحكة لا أحد يستطيع أن يُخرجها منى إلا دوفو، ولا أضحكها إلا معه وله"، سحبَتْ الصورة من يدى، أعطتنى غيرها، تقف فيها على جسر خشبى، ترتدى قميص كَرْزى وبنطلون قطنى أزرق، تميل برأسها على كتفها قليلاً وتنظر إلى الكاميرا.

 "كانت لى نظرة خاصة لأجل دوفو وحده، ما ترينه الآن لا يظهر إلا لو كان هو مَن يُصوّرنى، أنظر إليه وليس للكاميرا"، مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها، تطلّعَتْ بعيدًا.

 "أكون فى أروع حالاتى مع دوفو"، صمتَتْ لحظة.

"عرفنى قبل أن أعرف نفسى، دائمًا ما كان يفعل، ظل لسنوات يقول لى أنتِ فتاة رومانسية لم تكتشف نفسها بَعد، حتى اكتشفْتُ ذلك، معه"، أخَذَتْ منى الصورة، تأمّلَتْ واحدة غيرها للحظات، نظرَتْ فى ظهرها، ابتسمَتْ، قرأتْ جملة مكتوبة.

 "أُحب هذه النظرة"، أخرجَتْ نفسًا طويلاً شمَمْتُ فيه رائحة البحر.

 أعطتنى الصورة، تقف فيها على سطح سفينة خشبية وسط بحر شديد الزُرقَة، وحولها آخرون.

 قالت "الشاب الواقف عن يمينى هو دوفو ماليمورا، وعن يسارى البحّار، صاحب العينين المذهولتين، المُذهلتين، وطاقم السفينة، أمّا مَنْ يقف خلفى، ويده على كتفى، هو الكنجارو الرسّام"، صمَتَتْ لحظة، ابتسمَتْ.

 "الكنجارو هو مَن التقطَ هذه الصورة"

 أومأتُ عدّة مرات ببطء، كنتُ مُتفهّمة كيف يمكن للكنجارو أن يلتقط الصورة ويظهر فيها، إنه كنجارو جدّتى، "سيمويا أكسيلينور".

 

(10)

توقفَتْ "سيمويا" عن القراءة.

 حدّثَتْ نفسَها بصوت مسموع "غير معقول، إنه دوفو، وأنا الجدّة، أنا جدّة بينورا"

 مرّتْ بعينيها على بعض السطور.

 "اسمى كاملاً، سيمويا أكسيلينور، صورى مع دوفو والبحّار والكنجارو، كيف حدث هذا؟"

 تذكّرَتْ ما قالته لها المرأة العجوز فى رحلتها مع "كاريسكا" عن أنها ستقرأ مستقبلها، نظَرَتْ إلى الأوراق.

"نعم، أنا أقرأ مستقبلى"

تذكّرَتْ حوارها الأخير مع جدّتها.

"هذا ما لم تخبرنى به جدّتى، وقالت إنى سأعرفه بنفسى فى وقت ما"

تركَتْ مكانها وبيدها الأوراق، تحرّكَتْ بعشوائية، فكّرَتْ، لا بد أنّ هذه الأوراق هى نفسها التى تحملها الجدّة، أنا، وتريد "بينورا"، حفيدتى، أن تقرأها.

توقفَتْ بمنتصف الخيمة، أغلقَتْ عينيها، أخرَجَتْ نَفَسًا عميقًا، لمحَتْ حافظة الأوراق الزرقاء على سطح المكتب، انتبَهَتْ إلى أن الحافظة التى تتحدث عنها "بينورا" فى أوراق "الليل" زرقاء أيضًا، يمكنها أن تلاحظ ذلك الآن، وتصنع رابطًا، لا يعنى هذا أنهما الحافظة نفسها، على الأرجح غيّرْتُها أكثر من مرة، لكنى اخترْتُها كلها بلونى المُفَضّل، الأزرق، واحتفَظْتُ فيها بالأوراق نفسها، أوراق "الليل"، فكّرَتْ "سيمويا".

وضعَتْ الأوراق بجوار الحافظة على سطح المكتب، غادرَتْ، توقفَتْ عند فتحة خيمة "دوفو"، تنفّسَتْ بعمق.

 نادت "دو.. دوف.. دوفو"

 ظهَرَ "دوفو" فى فتحة الخيمة، شعرَتْ "سيمويا" أن قطارًا صدمها.

ظلّتْ تنظر إليه كأنها تراه للمرة الأولى.

"أهلاً سيمويا"، سمِعَتْ صوته من بُعد آخر.

"تفضّلى"، وأفسحَ لها مجالاً.

 ظلّتْ تُحدّق به.

"أنتِ بخير؟"

"أريد أن أفلامك عن المواقع التى ندرسها"

"الآن؟"

"نعم، من فضلك"

جلسَ "دوفو" إلى مكتبه أمام الحاسوب، "سيمويا" خلفه على طرف السرير، ساقاها مضمومتان، يداها تحت ركبتيها، ورؤوس أصابع قدميها بالكاد تلامس الأرض.

قال دوفو "لكن، لماذا تريدين أن تريها؟"

هزّتْ كتفيها، ونطَقَتْ حروفًا مُتقطّعة.

"سبب قوى فعلاً، سأحضر لكِ شيئًا تشربينه أولاً"، كاد ينهض، قبَضَتْ على معصمه، شعرَ برعشة خفيفة فى أصابعها.

"حسنًا سيمويا، كما تحبين"، قال "دوفو"، فكّ أصابعها عن معصمه، وجذَبَ مقعدًا إلى جواره.

 "يُمكنكِ أن تجلسى هنا"

"ابدأ تشغيل الأفلام، من فضلِك"، قالت وعيناها على شاشة الحاسوب.

 تأمّلها "دوفو" لحظة، نظرَ إلى الحاسوب، فتحَ ملفًا اسمه "أفلام"، شَغّلَ إحدى الأيقونات.

قال "هذا الفيلم عن موقع الأشجار العالية"، وتحرّكَ بمقعده جانبًا كى ترى الشاشة كاملة.

(طيور كبيرة ملوّنة، بعضها له جناحان، البعض الآخر له أربعة أجنحة، تطير على مسافات مرتفعة، تغيب لحظات بين السحاب وتظهر، حركة أجنحتها بطيئة لكنها تقطع مسافة طويلة مع كل ضربة فى الهواء، حَطّتْ الطيور على أشجار عالية، أكلَتْ من ثمارها الملوّنة، شرِبَتْ من آنية خشبية مُثبّتة على الأغصان كأنها تنبْتُ منها، وطارت من جديد)

مدة الفيلم دقيقتان، لم تظهر فيه "سيمويا".

"فيلم آخر؟"، سألَها "دوفو".

أومأتْ وعيناها على الحاسوب.

"الفيلم عن موقع شلال الموسيقا"

(شلاّل يسقط من قمة جبل شاهق الارتفاع، تصاحبه موسيقا، تحوّل الشلال نهرًا، تفرّعَ النهر إلى ثلاثة روافد، ظهر فى أحدها مجموعة أبقار وحشيّة تستحم، وفى الثانى امرأة تغسل كومة من الملابس، وبشر يشربون من الثالث، تجمّعَتْ الفروع الثلاثة مرة أخرى، والتقَتْ مع بحر، حيث صيادون ينتظرون فى قواربهم)

مدّة الفيلم ثلاث دقائق، لم تظهر فيه "سيمويا"، التفَتَ إليها "دوفو".

"تذكرين أن الموسيقا كانت تصدر عن سقوط الشلال"

نظرَتْ إليه، ولم ترد.

قال "فيلم آخر؟"

هزّتْ رأسها نفيًا، انتقلَتْ إلى المقعد المجاور له، نظرَتْ إليه من هذه المسافة القريبة، كادت تنقلب على ظهرها، أمسك بيدها.

"أنتِ بخير؟"

تأمّلَتْه لحظة.

"أريد أن أرى الرسومات التى صمّمْتَها لى"

فتحَ "دوفو" ملفًا فى الحاسوب اسمه "سيمويا"، به سَبع أيقونات، فتَحَها منفردة واحدة بعد أخرى، ظهرَتْ "سيمويا" فى كلٍ منها كشخصية كرتوينة، لها وجه طفولى، تسريحة شعر مجنونة، تُمسك بقطعة شيكولاتة، ترتدى شورت قصيرًا، وتى- شيرت يتغيّر لونه مع كل صورة، مرسوم على صدره طفلة تُطيّر بالونات.

 "لماذا رسَمتَنى بهذا الشكل، دوفو؟"

حرّكَ يده على شكل موجة.

"الوجه الطفولى، لأن لديكِ حِسًا طفوليًا أُحبه، تسريحة الشعر المجنونة، لأنها تناسبك، نوعًا ما، الشيكولاتة، لا تحتاج لشرح"

"أين القلب؟ أقصد لماذا لم ترسم قلبًا على صدر التى- شيرت؟"

"ليس لسبب مُحدّد، قلب، وردة، بالونات، سمكة، أو أىّ شىء آخر"

"لماذا لم أظهر فى أفلامِك حتى الآن مثلما وعدَتنى؟"

"لأنكِ كنتِ تنزعجين كلما عرَضْتُ عليكِ تصميمًا لشخصيتك، أنتظر حتى تكفّى عن انزعاجك، أو أبتكر أنا تصميمًا يعجبك"

فتَحَتْ "سيمويا" التصميمات السبْع معًا، تأمّلَتْها قليلاً.

قالت "ماذا لو قلتُ أنها تعجبنى كلها، أىّ واحدة تختار؟"

"أنتِ فى تى- شيرت أحمر مرسوم على صدره قلب أبيض"

"لكنى لا أرتدى تى- شيرت أحمر بقلب أبيض فى أىّ من تصميماتك"

"أعرف، خطَرَ هذا فى بالى الآن، ربما لأنكِ سألتِنى لماذا لم أرسم قلبًا على أىّ تى- شيرت"

فتّشَتْ فى عينيه عن شىء غير عادى لتربط بينه وبين ما قرأتْه فى أوراق "الليل".

قال دوفو "إذن أنتِ توافقين؟"

لم ترد.

"سيمويا؟ توافقين؟"

"أوافق دوفو"

"حسنًا، تظهرين فى أفلامى بعد أن ننتهى من مُهمّتنا، تبقّى لنا موقع واحد"

"لماذا لم تظهر أنت فى الأفلام؟"

فكّرَ لحظة.

"لا أعرف، ربما أظهر فيما بعد"

"لن تفعل"، همسَتْ "سيمويا" وهى تستدعى ما قرأته فى أوراق "الليل".

"ماذا؟"

"أقصد، أتوقّع أن تجعلنى وحيدة فى أفلامك، تدهسنى الأفيال، تأكلنى الديناصورات، تطاردنى حيواناتك وطيورك الخرافية ليأخذوا منى الشيكولاتة"

"هذه أفكار جيدة، ربما أنفّذها"

تأمّلَتْه لحظة، أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

"أوافق على كل ما تفعل"

ابتسمَ.

"تستحقين الآن أن أُعدّ لك شيئًا تحبّينه"، قال "دوفو" تركَ مكانه.

تأمّلَتْه "سيمويا" لحظات بحضوره الجديد، ومشاعرها الجديدة، نظرَتْ إلى الرسوم الكارتونية، تخيّلَتْ نفسها فى تى- شيرت أحمر، مرسوم على صدره قلب أبيض، وبيدها قطعة شيكولاتة، ابتسمَتْ، وشغّلَتْ من الحاسوب موسيقا بيانو مع كمان.

عاد "دوفو" ومعه كوبان كبيران يتمايل منهما بخار فضىّ، وضَعَ أحدهما أمامها على سطح المكتب.

"شيكولاتة ساخنة، لا يمكنكِ أن تقاومى"

ابتسمَتْ، أحاطتْ الكوب بيديها، قرّبَتْ أنفها منه، أغلَقَتْ عينيها، وتنفّسِتْ رائحة الشيكولاتة.

جلس "دوفو" إلى جوارها، وضَعَ كوبه أمامه، نظرَ إلى الحاسوب.

"بيانو وكمان، أحب هذا"، ورفعَ الصوت درجتين، التفَتَ إلى "سيمويا"، وجدها تنظر إليه بجديّة كأنها تستعد لتقول شيئًا مُهمًا.

قال "ماذا؟"، وابتسمَ.

"ما هى أكثر ثلاث كلمات أُكررها؟"

"سأحاول، أفكر، شغف"

قالت "لِعْب، سَهْل، كل شىء ممكن"

"هذه كلماتى"

قالت "ما هى أكثر ثلاثة أشياء أحبها؟"

"البحر، المطر، الشيكولاتة"

قالت "الموسيقا، السفر، المطر"

قال دوفو "إجابة صحيحة، الثلاثى المُفضّل لى"

تأمّلَتْ "سيمويا" كل عينٍ من عينيه على حِدَة.

قالت "هل يحدث يومًا أن تخترع لى ألقابًا سريّة تنادينى بها؟"

"لماذا؟"

"لأىّ سبب"

حرّكَ يده على شكل موجة.

"كل شىء ممكن، أُحب أن أفعل"

فكّرَتْ فى الأسماء التى يمكن أن يخترعها لأجلها، هل تكون نفسها الأسماء التى قرأتْها فى أوراق "الليل"؟ أوشكَتْ أن تذكر له بعضها وتسأله عن رأيه فيها.

قال دوفو "فيم تفكرين؟"

أمالت رأسها على كتفها، شعرَتْ برغبة قوية أن تقضى ليلتها معه، فقط أن تكون معه، على الأقل ما زال أمامها الوقت الذى تشرب فيه الشيكولاتة، رشَفَتْ من الكوب، استدارت بجسمها كله إلى الحاسوب، تأمّلَها "دوفو" لحظة، تركَ مكانه كى تشعر براحة أكبر، حسْبَ ظنّه.

تنقّلَتْ "سيمويا" بين الأفلام التى نفذّها "دوفو" عن المواقع التى درساها معًا، لم تتحدّث أو تنظر إليه، كانت سعيدة بحضوره، حركته حولها من وقت لآخر، واضطراب الهواء أثناء مروره.

 لم يشأ أن يُقاطعها، شعرَ أنها فى حالة شفّافة ليس له أن يخدشها.

تمنّتْ أن يَمُدّ يده فى أيّة لحظة ويلمس خدّها أو يمسح شعرها.

أَنْهَتْ كوب الشيكولاتة، استدارت إلى "دوفو"، كان يقرأ رواية ممددًا فى السرير، تأمّلَته كأنها تراه للمرة الثانية فى حياتها.

"تصبح على خير دوفو ماليمورا"، ونهضَتْ.

"تغادرين؟"

أومأتْ، غادرَ السرير وبيده الرواية، وقف بمواجهتها، تأمّلَها لحظة، وابتسمَ.

 قال "لا تنسى، بيننا أفلام قادمة، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ، تحسّسَتْ شفتيها بأطراف أصابعها كأنما تتأكد من وجود ابتسامة.

"قل لى دوفو، هل أبتسمُ كلما نطقْتَ اسمى كاملاً؟"

أومأ مرتين.

"نعم، تبتسمين كلما نطقْتُ اسمكِ كاملاً"

ظلّت صامتة للحظات وهى تنظر إليه.

"لم أكن أعرف أنى أفعلُ ذلك، هل تصدّق؟"

عادت إلى خيمتها.

 وقفَتْ تتأمّل أوراق "الليل" على سطح المكتب، تساءلَتْ، كيف لم تنتبه طوال الوقت إلى أنها تبتسم فى كل مرة يناديها "دوفو" باسمها كاملاً، لماذا تبتسم بالأساس؟ لا بد أن شيئًا قد تغيّر فيها حتى تنتبه الآن لابتسامتها، أو ربما لأنها قرأتْ عن ذلك فى الأوراق، مشَتْ فى زوايا الخيمة، تذكّرَتْ إحساسها بالسعادة أثناء وجودها مع "دوفو" فى خيمته؟ جمعتهما من قبل مئات المواقف، ولم تشعر فى أىّ منها بشىء خاص، هل اكتشفَتْ حبها له فجأة بعد أن قرأته فى أوراق "الليل"، كانت تحتاج فقط لعلامة، وحصلَتْ عليها؟ 

أعجبها أن "دوفو"، ودون تفكير، ذكَرَ لها كلماتها المُفضّلة، وأكثر الأشياء التى تحبها، لكنه فعل ذلك بطريقة عاديّة، هو نفسه كان عاديًا، لم تشعر أنّ قطارًا صدَمَه، أو حتى مرّ بجواره، وبحسب أوراق "الليل"، كان من المُفترَض أن يشعر كلٌ منّا بالحب تجاه الآخر فى اللحظة نفسها.

راجعَتْ تاريخ ميلادها، وجدَتْ أن عمرها اليوم، 23 سنة وستة أشهر وثلاثة أيام، هو نفسه العمر الذى اكتشفَتْ فيه مشاعرها تجاه "دوفو" بالغابة المتُحجرة، حسب ما قرأتْه فى أوراق "الليل"، مع ملاحظة بسيطة، أنها و"دوفو" لم يذهبا بَعْد إلى الغابة.

شمّتْ رائحة شيكولاتة تختلف عن التى تأكلها وأىّ نوع آخر، كانت أكثر خِفّة وحساسية، تلفّتَتْ حولها، اكتشفَتْ أنها نفسها مصدر الرائحة، شمّتْ يديها، ذراعيها، خلَعَتْ ملابسها كلها، شَمّتْ صدرها، تحت إبطيها، قدميها، فخذيها، وكل ما استطاعت الوصول إليه فى جسدها، تذكّرَتْ ما قالته له جدّتها أن رائحة الشيكولاتة تفوح منها مع بداية قصة حبها، أو عندما تكون جدّة، أيهما أقرَب.

احتفَلَتْ "سيمويا" برائحتها الجديدة، شغّلَتْ من الحاسوب صوت مطر وبحر، وأعدّتْ فنجان قهوة. كانت فى حاجة لقراءة المزيد من أوراق "الليل".

 

الليل

أَرَتْنى جدّتى صوَرَها، ولكل صورة حكاية أو حكايات، انتظرْتُ أن تعطينى أوراقها، أو أن تسمح لى بقراءة بعضٍ منها، لم تفعل.

 بدأتْ السماء تُمطر خفيفًا، أعادت جدّتى الصور والأوراق إلى الحقيبة، مشينا.

 انقطع المطر بعد قليل، قابَلْنا أشخاصًا نائمين على الأرض وبجوارهم بعض قناديل الشجرة البرتقالية، تشعّ نورًا خافتًا، البعض الآخر كانوا جالسين فى دوائر صغيرة يحكون عن أُم الطفلين التى أراها فى أحلامى، لم يذكر أيًا منهم شيئًا لا أعرفه، مشيتُ بينهم وجدّتى، تحوّلَتْ أصواتهم فى أذنى إلى وشيش ناعم، كأنه ضباب سمعى، تلوّنَ العالم أمامى بنور القناديل، رأيت قشرة برتقال رقيقة تغطى الأفق، مشيتُ إليها، التَفّتْ حولى فى دائرة واسعة، عَزَلَتْنى عن كل شىء، ورأيت أُم الطفلين.

سَمِعْتُ صوتى يحكى من نقطة عميقة بداخلى "الأم تمشى فى مساحة هادئة من البحر، رأتْ طبقة خفيفة من الدم، مُستقرة فى مكانها، ومتوحّدة، رائحتها نقيّة حدّ الرهبة، تأمّلَتْها، سَرَتْ فى قلبها رعشة خاطفة، ابتعدَتْ عنها بهدوء كى لا تزعجها، انتبهَتْ على عواء ذئب، تلفّتَتْ حولها، رأت ذئبًا يقف بعيدًا على قمة موجة عالية ثابتة، يُمسكها بمخالب فضيّة، عنقه ممدود باتجاه القمر المكتمل، له عينان واسعتان فيهما طعم الملح ولون البحر، حول فمه شقّان صغيران يرتعشان مع عوائه فيظهر عُمقهما الأحمر، خمّنَتْ أنها خياشيمه، وعلى جانبى بطنه انفتحَ جناحان أو زعنفتان كبيرتان، ليست متأكدة، لم تعرف إن كان يوشك على الطيران أم السباحة، تنتصبُ بطول ظهره زعنفة زرقاء تتناغم مع جلده الأبيض، تتدلّى زعنفته الخلفيّة العريضة لتلامس الماء بالكاد، وترتفع لتصنع طرف قوس صغير، بدَا الذئب مثل عاشق قديم، تأمّلَتْه وفى قلبها نقطة بنفسجية تنبض لأجله، كان عوائه شجيًا يجول البحر كله، أحسّت تجاه صوته بأُلفة عميقة، فكّرَتْ أن تذهب إليه وتربّت شجنه، لكنها أحبّتْ أن تبقى لتستمع إليه، رأت شجنها يخرج منها مثل شريط نور بنفسجى ليقابل شجن الذئب فى منتصف المسافة، وربتَ كلٌ منهما الآخر، هدأ البحر لأجلهما وقتًا كافيًا، وكان على المرأة أن تذهب بنفسها لتأخذ شجنها من هناك، هو الذى تمنّى أن يبقى مدة أطول، ضمّته إلى حضنها، وعاد شجن الذئب إليه مثل شريط نور أزرق، انتظرَتْ أن يلتفتَ إليها، لم يفعل، بدَا وكأنه لا يشعر بوجودها، ابتسمَتْ وهى تمسح رذاذ الملح من وجهها، استدارتْ ومشَتْ على مهل، يصعد بها الموج ويهبط، يضربها من الخلف، الأمام، كل الاتجاهات، تقع، تنهض دون أن تستند بيديها، ساعَدَها الموج، رأت نجمة تسقط على مسافة قريبة، أخرى على مسافة أبعد، سقَطَتْ كل النجوم، تجمّعَتْ فى مساحة تحت سطح البحر، أضاءت كل شىء بالأسفل، بدأ القمر يهبط وهو يدور حوله نفسه بهدوء، تاركًا فى الهواء أشباحًا تتلاشى على مهل، سقطَ بجوار الأم، كان خفيفًا، لم يصدر عنه صوت أو رذاذ، بقى طافيًا خلال اللحظات التى تأمّلَتْه فيها، غطَسَ عندما مدّتْ يدها إليه، ظلّ يغوص ويدور حول نفسه حتى توقف وسط النجمات، تضاعفَ النور تحت الماء، رأت الأم قاع البحر، وفيه جزيرة المرجان، الذئب ذو الزعنفة الزرقاء، تعرّفَتْ عليه وسط ذئاب أخرى، السمكة التى ساعدتها فى الولادة، وبجوارها طفلها، سرب "قطط البحر"، ميّزتْ القطة التى داعبَتْها، ظهرَتْ أسماك من كل اتجاه، صغيرة، ملوّنة، اندفعَتْ إلى النجمات، ابتلعَتْها، تجمّعَتْ حول القمر فى دائرة، بَدْت كأنها تنتظر شيئًا، ظهَرَ أخطبوط كبير، انفتحَتْ له الدائرة، أخفى القمر بين أذرعه وانطلقَ به بعيدًا، لم يَعُدْ بإمكان الأم أن ترى شيئًا، نظرَتْ إلى السماء، ظلام كامل، تلفتّتْ حولها، لم ترَ حتى زبدَ البحر، ظلّتْ فى مكانها تترقّب ما يمكن أن يحدث، سمِعَتْ صوت البحر يتهادى حولها، تتصاعد منه موجات هواء بارد، شعرَتْ بلذّة تتسرب إليها، وبالبحر يدعوها لتمشى فيه، مَشَتْ، صوته أكثر وضوحًا وعُمقًا فى الظلام، امتلأت به، لم تُدرك إن كانت تمشى بنفسها أَمْ يتحرك البحر بها، لا يمكنها أن تُفرق بين حركتها وحركته، مَنْ منهما يمشى فى الآخر، تمنّتْ لو ظلّتْ تمشى هنا طوال عمرها، لولا أن لديها طفلاً وطفلة جائعان ينتظرانها، تمنّتْ لو كانا معها".

انتبَهْتُ.

 رأيت قشرة البرتقال تتلاشى فى الأفق، تلفّتُ حولى، لا أثر لقناديل الشجرة البرتقالية، نظرْتُ إلى جدّتى، أومأتْ بما فهِمْتُ منه أنى حكَيتُ لها ما رأيته، أو أنها عرفَتْه بطريقة ما، تساءَلْتُ، أيوجد فى الجزء الذى يُغطيه النهار من العالم فتاة أخرى تحلم بالأم وطفليها؟ أم أنها تحلم بشىء يحدث هنا، ربما يكون أنا وجدّتى؟

وصلنا إلى النقطة التى أعتقد أن قشرة البرتقال تلاشت عندها، رأيت على مسافة قريبة دخانًا فضيًا يتصاعد من الأرض على مهل، ويحجبُ الأفق، كأنه حلم يدعونا لندخله، مشيتُ وجدّتى إليه، بمجرد أن دخلْتُه، شعرْتُ أنى خارج الليل والنهار، تتحرّكُ الأرض بإيقاع كأنها تتنفّس، تَسحَبُ فى شهيقها جزءًا من الدخان وينكشف سطحها، كان مختلفًا فى كل مرة، رأيتُه بلون بنفسجى به نجوم فضيّة، أصفرَ برسوم ملوّنة متداخلة، أزرقَ بأرقام ذهبيّة لا نهائية، بُنّيًا بكلمات خضراء فوسفورية، ومَكسوًا بزغب أحمر رهيف مثل ثمرة ضخمة، نظرْتُ إلى أعلى، لم يكن هناك ما يمكن تسميته سماء، لا قمر، نجوم، أو شمس، أدركْتُ أنى فى مكان ليس به ليل ولا نهار، سمِعْتُ همهمات حولى، رأيتُ أشخاصًا كثيرين، يزداد عددهم كل لحظة، بينهم وجوه أعرفها، وأصدقاء، اتّسع المكان، ازدادت الأعداد، شعرْتُ أن سكان الليل والنهار كلهم تجمّعوا هنا.

 مشيتُ وجدّتى فى اللا ليل، اللا نهار، لم أعرف إن كنت أمشى أَمْ فقط ألامس الأرض بأطراف أصابعى، ربما كنت فى حالة بين المشى والطيران الخفيف، كل شىء مرئىّ بشكل كامل، كأنى فى حالة من كمال الرؤية، رغم أن ما حولى لم يكن نورًا من أىّ نوع، شعرْتُ أن الأشياء مكشوفة بذاتها، وأنى قادرة على الرؤية دون مساعدة من نور، ربما هى طبيعة المكان، حتى النور فى الظروف والأماكن العاديّة يحتاج إلى مساعدة من جسم مُعتِم كى يكون موجودًا، الأجسام المُعتِمة هى نور بالنسبة إلى النور، ويحتاجها مثلما تحتاجه، أَمّا هنا، فالكل راءٍ ومرئىّ بذاته، دون شرط أو مساعدة.

 شعرْتُ بالزمن مختلفًا، الماضى مُستقبل، والمستقبل ماضٍ، والحاضر أرجوحة تتحرّك بينهما بحبل يتقطّع، شعرْتُ أن هؤلاء الثلاثة الصغار، الحاضر، المستقبل، والماضى، مُجرّد أوهام، نقاط صغيرة وسط عالم لا ينتهى من نقاط الزمن.

فكّرْتُ أن الزمن كله ليس إلا لحظة تتجمّع فيها كل الأوقات والتوقيتات، مثلما الكون ذرة ينضغط فيها كل الوجود، حسْبَ ما أُفكّر، حتى الآن على الأقل.

لم أعرف كم قضينا من الوقت، أو كم قضى هو منّا، عندما خرجنا كان الليل فى انتظارنا، سماء، قمر، ونجوم، وأرض يُغطيها عشب أحمر قصير، لم أرَ أحدًا ممّن كانوا معنا، فكّرْتُ أن الجميع تفرّقوا فجأة مثلما ظهروا، وعاد كلٌ منهم إلى عالمه ليبحث عن ليله أو نهاره، شعرْتُ للحظة أنى أمضيتُ هناك عمرًا كاملاً، أو حصْلتُ على عمر إضافىّ، هل غَيّر هذا فى ملامحى؟ نظرْتُ إلى جدّتى، لم أرَ تغيّرًا فى ملامحها، إذن أنا أيضًا لم أتغيّر، نظرْتُ خلفى رأيت الدخان الفضّى يتصاعد، حيث لا ليل ولا نهار.

مشينا، جدّتى وأنا، لبعض الوقت دون كلام، نظرْتُ إليها.

 قلت "احكى لى عن دوفو؟"

ابتسمَتْ عيناها.

 قالت "أحكى لك عن شارع الأرصفة"

 "أولاً، هل هذا اسم حقيقى؟"

ضحِكَتْ ضحكة قصيرة.

 "لا، اخترَعتُه بنفسى، تعرفين لماذا فيما بعد"، صمتَتْ لحظة.

"كان شارعًا واسعًا إلى حد ما، أرضه قطَعًا صغيرة من صخور بُركانيّة حمراء، ناعمة، له رصيف من رخام أخضر، ارتفاعه متر، وعرضه نصف متر، على أحد جانبيه أشجار طويلة، تبدو جديدة فى كل مرة، وعلى الجانب الآخر مجرى مائى هادئ، ربما نهر أو جدول كبير، تمرّ فيه من وقت لآخر قوارب شراعية لا يظهر فيها أحد، كأنها منظر جمالى، أحيانًا تسبح حول القوارب أسماك ملوّنة، لم يكن فى الشارع مبان أو أعمدة إنارة"، مرّرَتْ إصبعها على جانب رأسها، نظرَتْ بعيدًا كأنها تتأمّل عاشقَين.

"نجلس أنا ودوفو عادةً على الرصيف القريب من الأشجار، وأرى فى زوايا الشارع شبابًا وشابات، يتحدّث كل شاب وشابة معًا أو ينظران لبعضهما بعضًا بحب، وتصدر عنهما لفتات لطيفة، كأنهما معزولان فى عالم خاص، لم أسمع أصواتهم أبدًا، أشعر أنهم ليسوا إلا أطيافًا أو رَسمًا فى الهواء"

"أعتقد أنهم أيضًا كانوا يرونكِ ودوفو طيفَيَن"

 "هذا ما فكّرْتُ فيه، لا أعرف لماذا لم أحاول أن أتحدّث إلى أىّ منهم لأتأكّد، كما أن أحدهم لم يتحدّث إلينا"، صمَتَتْ كأنها تحاول أن تجد تفسيرًا، كنت حريصة ألا أقاطعها إلا فى أضيق الحدود، وبأقل عدد من الكلمات.

 "يظهر نادل من وقت لآخر، يرتدى  قميصًا أبيض وبنطلونًا أحمر، يحمل على يده صينية فضيّة، فوقها كوب عصير، أو فنجان قهوة، أو سندويتش صغير، يمرّ دون أن ينظر إلى أحد، لا يسأل إن كان أحدنا يرغب فى طعام أو شراب، أنا لم آكل ولم أشرب شيئًا هناك، ولم أرَ أحدًا يأكل أو يشرب"

 "لا بد أن أحدهم كان يفعل"، نَدمْتُ على هذه المقاطعة، أشرْتْ لها أن تتجاوز تعليقى كأنى لم أتكلّم، ابتسمَتْ.

 "أحيانًا تمرّ عربة يجرّها حصان أبيض له ذيل وعُرْف كثيفان، ويقودها صبىّ يرتدى ملابس مزركشة برسوم وألوان متداخلة، العربة عبارة عن صندوق من خشب أحمر، يتّسع لاثنين، منقوش برسوم لآلات موسيقية، له نافذة زجاجية تُغطيها ستارة بيضاء"، توقفَتْ جدّتى واستدارت إلىّ بجسمها كله.

"كان الحصان يمشى بإيقاع له رنين مُنغّم، هكذا"، وأدّتْ بيديها حركة إيقاعيّة تتبادل فيها تصفيقة واحدة مع ضربتين خفيفتين بالأصابع فى أعلى نقطة من صدرها، صدَرَ عن حرَكَتِها إيقاع أقدام الحصان، أدّتْها بإيقاع بطىء فى البداية، ثم تسارعَتْ كأن حصانًا يجرى، تباطأتْ بعدها حتى توقفَتْ.

تنهّدَتْ.

 "علّمَنى دوفو هذه الحركة"، نظرَتْ بعيدًا كأنما تشاهد نفسها معه وهو يُعلّمها إياها، نظرْتُ معها وتخيّلْتُهما.

مشينا.

"الغريب، أنى ودوفو لم نركب هذه العربة أبدًا"، قالت جدّتى، صمتَتْ لحظة، هزّتْ رأسها يمينًا ويسارًا، تجاوزَتْ أَسَفَها.

"كنا نذهب إلى شارع الأرصفة فى وقت خاص لا يمكن اعتباره ليلاً ولا نهارًا، تكون الشمس فيه قد اختفَتْ، ولم يظهر القمر بَعْد، نتسلّل فى تلك الدقائق البينيّة القليلة"، ضحِكَتْ ضحكة قصيرة.

 "لكنى اكتشفْتُ الخدعة فى لقائنا الثالث، كانت هذه الدقائق تستمر طوال وجودنا فى الشارع، رغم أننا كنا نقضى ساعات هناك"

"ربما الوقت نفسه لا يتغيّر فى هذا الشارع جدّتى"

ابتسمَتْ لأن خيالى يتجاوب مع قصّتها، شعرْتُ بالزّهو.

 قالت "أكثر من ذلك، أنا لم أستطع الوصول إلى الشارع بمفردى أبدًا، كان دوفو يمشى بى فى شوارع متقاطعة كأنها متاهة حتى أجد نفسى هناك، الأغرَبْ أن هذا الشارع، بنفس تفاصيله، كان موجودًا فى كل بلد نزوره لأجل العمل، حتى لو كانت الزيارة الأولى، يسألنى دوفو: هل تحبين أن نذهب إلى شارع الأرصفة؟ ويدور بى فى شوارع متقاطعة حتى نصل إلى شارعنا"، صمتَتْ لحظة، مرّرَتْ عينيها على جانب من السماء.

 "عندما سألتُه عن ذلك، قال إنه لا يعرف كيف يعثر على الشارع، لكنه يعرف أنه موجود فى كل مكان، مثلما الحب من أول نظرة موجود فى كل وقت"، نظرَتْ إلىّ، أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ، هذه المرة كانت علامة على رغبتها فى التوقّف مؤقتًا عن الحكى.

طلَبْتُ منها أن تؤدى الحركة التى تُقلّدُ بها إيقاع خطوات الحصان، توقّفَتْ، استدارت إلىّ، رفَعَتْ يديها عند صدرها، وبدأتْ، سمِعْتُ بعد لحظات خطوات حصان تأتى من بعيد، متناغمة مع إيقاع حركتها، تلفّتُ حولى، لم أرَ شيئًا، أسرْعَتْ جدّتى من إيقاعها، تسارعَتْ معها خطوات الحصان، واقترَبَتْ، رأيت نقطة بيضاء قادمة من الأفق، تحوّلَتْ بسرعة إلى حصان أبيض يجرّ عربة، هى نفسها التى حكَتْ عنها جدّتى، صندوق من خشب أحمر، يتّسع لاثنين، منقوش برسوم لآلات موسيقية، له نافذة زجاجية تُغطيها ستارة بيضاء، ويقودها صبىّ يرتدى ملابس مزركشة برسوم وألوان عديدة.

توقّفَتْ العربة أمامنا، انفتحَ بابها، غمرَتْنا رائحة الورد، أشارت جدّتى إليه بيد مفتوحة.

"الحفيدات أولاً"

 دخلْتُ، انغلَقَ الباب، انطلقَ الحصان، أزحْتُ ستارة النافذة، لمحْتُ ابتسامة جدّتى قبل أن تبتعد بى العربة، رأيت فى الخارج شوارع كثيرة متقاطعة، لكلٍ منها لون مختلف، لا بنايات، إيقاع أقدام الحصان يَرنّ حولى، حتى بدأتْ سرعته تقِلّ تدريجيًا، تباطَأ كأنه يدخل مكانًا لا يريد أن يُزعج فيه أحدًا، رأيت عبرَ زجاج النافذة نورًا برتقاليًا خافتًا كأنه غروب، شارعًا أرضه عبارة عن قطع من صخور بركانية صغيرة، حمراء، له رصيف من رخام أخضر، ارتفاعه متر تقريبًا، وعلى جانبه صفًا من أشجار عالية، أدركْتُ أنى فى "شارع الأرصفة"، رأيت شبابًا وشابات، يتحدث كل شاب إلى شابة، يتهامسان، وتصدر عنهم لفتات لطيفة، شعرْتُ أنهم أطياف أو رسوم فى الهواء، رأيت جدّتى جالسة على الرصيف الأخضر إلى جوار حبيبها "دوفو"، ساقها تلامس ساقه، وينظر كلٌ منهما فى عينى الآخر، عاشقان، لا يمكن أن أُخطئ هذه النظرة.

 هتفْتُ "دوفو"، حاولْتُ أن أفتح النافذة أو الباب، لم ينفتحا.

 ناديتُ الصبىّ قائد العربة "أنت، توقف، أريد النزول، توقف"

 لم يلتفتْ إلىّ.

 أدركْتُ أن أحدًا هنا لن يسمعنى، ولن أخرج لمجردّ أننى أريد ذلك، انتقلْتُ إلى النافذة الأخرى، رأيت نهرًا، قوارب شراعية، عُشّاقًا هادئين، النادل ذى القميص الأبيض والبنطلون الأحمر، وشابة تشبهنى تقف مع شاب لم أتبيّنْ ملامحه، ابتسَمْت، لم أحاول أن أفتح الباب، استرخيْتُ، راقبْتُ بجانب عينىّ النور البرتقالى الذى ليس ليلاً ولا نهارًا، وإيقاع خطوات الحصان يرِنّ حولى.

بدأتُ أسمع صوت البحر، توقّعْتُ أن أرى أُمّ الطفلين خلال لحظات، كنت أريد أن أعرف الطريقة التى سأراها بها هذه المرة، هل سأنام وأحلم بها، أَمْ فقط أغفو دقيقة واحدة، أو أقَلّ، ربما شيئًا آخر، أردْتُ أن أمسك باللحظة التى أتواصل فيها معها، ارتفع صوت البحر تدريجيًا، فى الوقت نفسه خفَتَ إيقاع أقدام الحصان، تلاشى الإيقاع، امتلأتْ العربة بصوت البحر، شعرْتُ أنى أغرق فيه، أو أنه يغوص فىّ.

ورأيتها.

"تمشى الأم على سطح البحر، سمِعَتْ ابنتها تناديها "أمى"، تلفّتَتْ حولها، لم ترَ غير الظلام، جلسَتْ على ساقيها، ملأتْ يدها بحفنة ماء، همسَتْ لها "أريد أن أخرج"، شَربَتْها، رأت من بعيد تاجًا كبيرًا يتأرجح فى مكانه بخفّة، تبرقُ فيه ألوان كثيرة، جَرَتْ إليه، وجدَتْه جزيرة من الذهب تطفو فى مكانها، أرضها مفروشة باللؤلؤ، الماس، أحجار كريمة، وتتناثر فيها كتل من الذهب والفضّة، غادرتْ البحر إليها، غاصت ساقها فى اللؤلو مع أول خطوة، سَحبَتْها، أزاحت عنها الذهب والأحجار الكريمة، أكملَتْ مشيها بصعوبة وهى تتلفّت حولها بحثًا عن شىء يصلح ليكون طعامًا، لاحظَتْ أن بعض اللؤلؤ والذهب مُتعفّن، ربما لأن أحدًا لم يستعمله، فكّرَتْ أن الجزيرة كلها تغرق عندما يتعفّن كل ما فيها، توغلَتْ بما يكفى لتعرف أن المكان خالٍ من الطعام، بحثَتْ عن طريق يُعيدها إلى البحر، رأت بابًا خشبيًا قديمًا يقف أعلى ثلاث درجات من الفضّة، مشَتْ إليه وهى تدفع ساقيها بقوة، وصلَتْ إلى الدرجات الثلاث، صعدَتْها على يديها وساقيها، التقطَتْ أنفاسها، دفعَتْ الباب برفق، انفتحَ عن بيت بسيط يشبه بيتها، لكنه ليس هو، دخلَتْه، بحثَتْ عن طعام، لم تجد غير حاجيات تشبه حاجياتها، لكنها ليست هى، كل شىء جاف، كأن أحدًا لم يأكل أبدًا فى هذا البيت، رأت فى العمق بابًا، مشَتْ إليه، فتَحَتْه، وجدَتْ الليل، وأرضًا تشبه الأرض التى تركَتْ فيها طفليها، خرجَتْ، انغلقَ الباب خلفها، لم تعرف إلى أين يمكنها أن تذهب، فكّرَتْ فى الوقت الذى غابته عن ابنتها وابنها، ظهَرَ فى الأرض خَطّ أخضر فوسفورىّ، مشَتْ فوقه، وصَلَ بها إلى الأغنية التى تركَتْها قُرْبَ طفليها، لَمَسَتْها، وهمسَتْ لها "شكرًا لكِ"، انطفأ الخَطّ الأخضر، نظرَتْ إلى طفليها، جالسيَن أمام الطبقين الخشبيين مثلما تركتهما، ما زالا يرتعشان جوعًا، جرَتْ إليهما، "أمى"، قال الولد والبنت معًا بلهفة، حاولَتْ أن تَرد عليهما، ارتعشَتْ شفتاها، حضنتهما، أمسكَتْ بأطراف شعر ابنتها، قالت "صار شعرُكِ طويلاً"، هزّتْ الطفلة كتفيها، تدحرجَتْ منهما كُرات جوع صغيرة، "أمى، معكِ طعام؟"، سأل الولد، نظرَتْ إليه، حاولَتْ أن تبتسم، أحاطت وجهه بيديها، نظرَتْ خلفها إلى القِدْر، النار تحته، "أُجهز الطعام حالاً"، أمسكَتْ بيديهما، نَهَضَا معها، أجلستهما تحت نجمة خضراء، "انتظرانى هنا"، ذهبَتْ إلى القِدْر، ألقتْ بعض الخشب فى النار، بحثَتْ عن السكّين الصغيرة، وجدَتها قد كبرَتْ بما يكفى، شعرَتْ لها بالامتنان، جلسَتْ وأدارت ظهرها لطفليها، كشفَتْ ذراعها اليسرى، قبضَتْ على السكّين بيدها اليمنى، التفتَتْ إلى البنت والولد، يراقبانها متلاصقين ورعشة خفيفة واحدة تسرى فيهما، ابتسمَتْ، بدأتْ تُغنّى، ابتَسَمَا، أدارت وجهها عنهما، وضعَتْ حدّ السكّين أعلى كوعها وبدأتْ تقطع، تجاوزَتْ جلدها بسرعة، ارتفع صوت السكّين فى لحمها، رفعَتْ صوتها بالغناء، نادتها الطفلة "أمى"، توقفَتْ يدها بالسكّين، التفتَتْ إليها وهى تواصل الغناء، "أمى"، قالتها الطفلة ثانية، وارتعشَتْ أكثر، "أنا هنا"، قالت الأم، وبطريقة تُجيدُها تركَتْ عينيها مُعلّقَتين لأجلها وأخيها فى الهواء، حرّكَتْ السكّين بشكل أسرع، دمها صافى اللون، له رائحة نقيّة، وألم عميق، فكّرَتْ أنها لو توقفَتْ عن الغناء لحظة وأخرَجَتْ آهة واحدة فإنها ستتخلص من ألمها، وربما لا يسمع طفلاها آهَتها، لكنها غير متأكدة، لن تغامر، اصطدَمَتْ السكّين بعظمها، توقفَتْ، أرادت أن تُنهيه بضربة واحدة كى لا يسمع طفلاها صوت الحَزّ، رفعَتْ صوتها بالغناء كى يُغطّى صوت الضربة القادمة، لكنها احتاجت ثلاث ضربات قوية لتكسر عظم ذراعها، أكملَتْ عملها فيه بسرعة، سقَطَ بحجرها، ارتعشَتْ أصابعه، غَنّتْ له، نام، وضَعَتْه فى القِدْر".

 فتحْتُ عينىّ.

 وجدْتُ نفسى جالسة على الأرض بمواجهة جدّتى وهى تؤدى بيديها مع صدرها حركة إيقاع الحصان، شعرْتُ أنى لم أكن نائمة، إنما فى حالة بين نوم وغفوة، مثلما كنت من قبل فى مكان ليس ليلاً ولا نهارًا، نظرْتُ حولى لأعرف إن كنت فى البحر أَمْ "شارع الأرصفة"، لست فى أىّ منهما، توقفَتْ جدّتى عن حركة إيقاع الحصان.

 قالت "أتعَبِتِ يداى، بينورا"، خمّنْتُ أنها كانت تهدهدنى بتلك الحركة الإيقاعية كى أظلّ فى حالتى التى كنت عليها.

 قلت "زُرْتُ فى شارع الأرصفة"

 "أعرف، حكيتِ لى كل شىء"

 أوشكْتُ أن أقول شيئًا، تساءلْتُ مع نفسى، هل رأيت البحر وأُمّ الطفلين حقيقة، وحلمْتُ بشارع الأرصفة، أم رأيت شارع الأرصفة حقيقة، وحلمْتُ بالبحر وأُم الطفلين، كان الاثنان حلمًا؟ حقيقة؟ هناك فارق؟

حملَتْ جدّتى الحقيبة ومشينا.

 رأيتُ بعد عدّة أمتار آثار الحصان والعربة تمتد بعيدًا.

 قلت "أعتقد أن شارع الأرصفة فى هذا الاتجاه"

 قالت جدّتى "هل نمشى إليه؟"

 فكّرْتُ لحظة.

 "كنتُ هناك، لماذا لا نجرّبُ شيئًا جديدًا؟"

مشينا فى غير اتجاه آثار العربة.

 رأيتُ نقطة برتقالية متوهجة ترتعش بعيدًا على سطح الأرض، مشينا إليها، تحوّلَتْ إلى بقعة نار فوقها قِدْر كبير يستند إلى حجرين، كان مليئًا بالماء، تبرز منه ذراع الملعقة الخشبية الكبيرة، وحوله طبقان خشبيان.

 قلت "أشياء أُم الطفلين"، حرّكْتُ الملعقة، لم تصطدم بشىء، نظرْتُ حولى بحثًا عن الأم.

 "ربما تكون قريبة"

بحثنا عنها فى الجوار، لم نعثر عليها، عُدنا إلى القِدْر، جلسنا بالقرب منه، نظرْتُ إلى الطبقَين، جافّيَن، تخيّلْتُ الطفلة والطفل جالسيَن إليهما يرتعشان جوعًا، ثم وهُما يأكلان قِطَعًا مطبوخة من ذراع أمهما، قلت لنفسى إن الأم وجدَتْ فى النهاية طريقة لتُطعم طفليها، أنْ تقطع من جسمها وتطبخ لهما، لكن، هل يمكن أن تقطع لهما ذراعها الأخرى، لن يمكنها أن تطبخ لهما لو فعلَتْ، كما أن ذراعيها لن تشبعاهما إلى الأبد، إلى أىّ حَدّ يمكنها أن تتمادى فى ذلك؟

قابَلْنا مجموعة صغيرة من رجل وامرأة وطفلين، توقّفوا لحظة، نظروا إلى القِدْر.

 سألَتْنى المرأة "رأيتِ أُم الطفلين، بينورا؟"

 لم أتفاجأ لمعرفتها اسمى، ولم أرُدّ، تأمّلونى لحظات ومَشَوا، ظهرَ بعدهم رجل وسألنى السؤال نفسه، سألَتنى امرأة تحمل طفلاً، كانوا يختفون بعد خطوات قليلة كأنهم يتلاشون، الغريب أن أحدًا لم يسألنى إن كان هناك طعام فى القِدْر، فكّرْتُ، لماذا لم يسألوا جدّتى عن أُمّ الطفلين، هل يعرفون أنى أحلم بها، أَمْ لأنى أجلس قُرْبَ القِدْر؟ جدّتى أقربُ إليه منّى، لو أن أحدهم فقط سألها، أو ردّتْ هى على واحدٍ منهم، لو أنهم حتى لم يذكروا اسمى.

انتظرْتُ أن يظهر شخص آخر ويسألنى، لن أدعه يمرّ بسهولة لو ذكَرَ اسمى، ظهرَتْ شابة، يُغطّى شعرها معظم وجهها، لم تنظر إلينا، كأنها لا ترانا، اقتربَتْ من القِدْر، نظرَتْ بداخله، حرّكَتْ الملعقة الخشبية، مشَتْ عدّة خطوات.

 قالت دون أن تنظر إلىّ "رأيتِ أُم الطفلين، بينورا؟"، لم تنتظر إجابتى. جرَيتُ خلفها، اختفَتْ فجأة، نظرْتُ حولى، مشيتُ بشكل عشوائى، صادفْتُ بعد أمتار قليلة أشخاصًا ممدّدين على الأرض، تنقّلْتُ بينهم، رأيت شابة  فى وضع جنينىّ، عرِفْتُ أنها مَنْ أبحثُ عنها، تذكّرْتُ الشابة التى وجدْتُها نائمة فى سريرى قبل أن أغادر مدينتى، شعرْتُ أنهما الشابة نفسها، جلسْتُ على ساقىّ عند وجهها، شعرها يُغطّى جزءًا من وجهها مثلما رأيتها فى سريرى، لون شفتيها أزرق سماوى، شمَمْتُ من جسمها رائحة فاكهة ما، ربما ما زالت ترتدى الملابس نفسها، كانت نائمة جدًا كأنها لم تمرّ بى منذ لحظات، أو ربما بحثْتُ عنها لوقت طويل دون أن أدرى، ملأتنى رغبة فى النوم إلى جوارها، اتخذْتُ وضْع الجنين مثلها، وجهى إلى وجهها، لمَسَتنى أنفاسُها، مدَدْتُ يدى إلى شعرها، أوشكْتُ أن أُزيحه، شعرْتُ بحركة لطيفة فوقى، نظرْتُ بجانب عينىّ، رأيت روحًا مشقوقةً نصفين، ويدَيَن تُغَطّينى بأحدهما، ثم تُغطّى الفتاة بالنصف الآخر، مشى الرجل الذى يشقّ روحه ولم أتبيّنْ ملامحه، مرّرْتُ يدى على غطائى، تنهّدْتُ، غفوتُ ربما، أو شىء آخر.

 ورأيت.

"الأم جالسة عند القِدْر، طفلاها يلعبان على مسافة قريبة، أدارت ظهرها إليهما، بدأت تُغنّى أغنيتها الشفافة، أخرجَتْ ثديها الأيسر، مَسَحَتْ عليه، أسمَعَتْه مقطعًا خاصًا من الأغنية، مدّتْ يدها اليمنى تحت ركبتها، سحبَتْ سكّينها، ارتعشَ ثديها، ربّتَتْه، همسَتْ له "لا تخف، لن أؤلمك"، استكان لها، وضعَتْ حَدّ السكّين عند بداية قوسه العلوى، بدأتْ تنحته بسكينها وهى تُكمل أغنيتها، لم ينزف، ليس إلا خَطًا ورديًا تصاعدَتْ منه رائحة سُكّر أُمومى، وصلَتْ إلى قوسه السفلى، رفعَتْه قليلاً بيدها، دارت حوله بالسكّين، انفصلَ عنها، تلقّتْه فى يدها اليسرى، ارتعشَ، همسَتْ له "لا بأس، أنت بخير، أنا بخير"، انتظرَتْ حتى فارقَته روحه بسلام، وضَعَتْه فى قِدْر الماء الساخن.

الأم تقطع ساقها اليمنى، تمشى فى أرض رمليّة بقدم واحدة، ذراع واحدة، وثدى واحد، مستندة إلى غصن جاف.

الأم تقطع ثديها الأيمن.

تقطع ساقها اليسرى.

جسد الأم ينبْتُ من جديد.

الطفل والطفلة يساعدان أُمهما فى قطع ذراعها اليسرى، يطبخانها فى القِدْر.

يقطعان الثدى الأيسر، يطبخانه فى القِدْر.

يقطعان ساقها اليمنى، يطبخانها.

الثدى الأيمن.

الساق اليسرى.

الذراع اليمنى.

جسد الأم ينبْتُ من جديد".

فتحْتُ عينىّ.

 وجدْتُ نفسى ما أزال فى وضع الجنين، نائمة بجوار الشابة، وجَدّتى جالسة على ساقيها عند رأسى تتأمّلنى، تلاشَتْ عنى نصف روح الرجل، شعرْتُ بلسعة برد خفيفة، نهضْتُ، ألقيتُ على الشابة نظرة أخيرة، ومشيتُ مع جدّتى.

 فكّرْتُ فى الرجل الذى يَشقّ روحه نصفين ويوزّعهما على الآخرين، ثم تنبْتُ له روح جديدة، وأُمّ الطفلين التى ينبْتُ لها جسد جديد كلما انتهَتْ من إطعام طفليها ثدييها، ذراعيها، وساقيها، انتبهْتُ إلى أنى لم أرها تأكل فى أىّ وقت.

 تساءلْتُ، كيف لم أفزع أو أنتبه من نومى، أو أيًا كان، عندما رأيت الطفل والطفلة يقطعان أعضاء أمهما، لم أشعر بأىّ اضطراب داخل الحلم، على العكس، بَدَا لى المنظر رومانسيًا بطريقة ما، حتى إنى أحبَبْتُ النظر إليه، تذكّرْتُ أنى أدرَكْتُ شعورهما وقتما كنت أحلم بهما، كانا يعتقدان أن هذا ما يحدث فى كل العالم، يأكل الأبناء من أجساد أمهاتهم، وتستعيد الأمهات أجسادهن مرة بعد أخرى.

شعرْتُ أنى لن أحلم بالأم ثانية، وأنها ستظل تقطع أعضاءها وتُطعم ابنها وابنتها، ثم ينبْتُ جسدها من جديد إلى ما لا نهاية، أو ربما يحدث شىء آخر، لا أحد يعرف.

 ربما تعاودنى الآن أحلامى عن الجانب من العالم الذى يُغطيه النهار.

 

(11)

استيقظَتْ "سيمويا" عند السادسة صباحًا، فكّرَتْ فيما قرأته الليلة الماضية عن "شارع الأرصفة"، الشارع نفسه الذى رأته عندما فتحَتْ الباب الأزرق فى البيت الطينى بأرض البسكويت، جلسَتْ على طرف السرير، حاولَتْ أن تؤدى بيديها حركة تقليد إيقاع أقدام الحصان، ارتبكَتْ، ابتسمَتْ.

 "أحتاج بعض التدريب"

وضعَتْ أوراق "الليل" فى درج المكتب، تحمّمَتْ، تناولَتْ إفطارها، ارتدَتْ قميصًا بمربعات صغيرة ملوّنة يغلبُ عليها الأحمر، بنطلونًا أزرق من قماش قوى، ربطَتْ حزام العمل حول خصرها، وَضَعَتْ فيه عدَستها المُكبّرة، مُفكّرة صغيرة، أقلامًا، كاميرا، لم تكن فى حاجة إلى الشاكوش.

توقفَتْ عند فتحة خيمتها، فكّرَتْ فى" دوفو"، تعرف أنها ستجده على الأرجح أمام خيمته، سحبَتْ نفسًا عميقًا، أغلقَتْ عينيها لحظة، ابتسمَتْ لكونها تُجهزّ نفسها لرؤيته، مُتشوّقة، ومرتبكة قليلاً.

"غريب جدًا"، قالت لنفسها.

خرَجَتْ، وجدَتْ "دوفو" أمام خيمته.

"صباح الخير سيمويا"

"صب.. صباح الخير دوفو"

"جاهزة؟"

تحسّسَتْ الحزام حول خصرها.

"نعم"

مشيا إلى الشريط الورقىّ حيث ينتظرهم "ساهر" وفريق عمله.

ابتعدت "سيمويا" عن الجميع، أرادت أن ترى الفراشات الثلاث مرة أخرى بمفردها، لم تضع بالأمس علامة تدلّها عليها، تَبِعَتْ حدْسَها، وصلَتْ إلى فراشاتها، جلسَتْ على ساقيها، تأمّلَتْها، فكّرَتْ أنها الآن تنظر إلى توقيعها فى المستقبل، نظَرَتْ من خلال عدستها المُكَبّرة، رأت الأجنحة ترفّ، أبعدَتْ العدسة، سكنَتْ الأجنحة، انتبهَتْ و"دوفو" يجلس بجوارها.

قال "أنا أيضًا أحبَبْتُ أن أراها مرة أخرى"، نظرَ إلى الفراشات بعينه المُجردة، ثم من خلال العدسة.

قال "منذ أن عثرتِ على الفراشات لم تهتمى بشىء آخر فى الشريط"

"اممم، أشعر بارتباط عاطفى معها"

"حسنًا، لدينا شىء آخر مميز، مكان ليس فيه ليل ولا نهار، هل يمكن أن ترتبطى معه قليلاً، سيمويا أكسيلينور؟"

ابتسمَتْ.

مَشيا إلى "ساهر".

صحبَهما إلى مكان خلف الخيام بمسافة نصف كيلو متر، توقّفوا أمام مساحة من ضباب أزرق بحجم باب حجرة عادى.

قال ساهر "المدخل إلى اللا ليل لا نهار"

نظرَ "دوفو" إلى "سيمويا".

قال "يُذكّركِ بشىء؟"

"الباب الأزرق فى أرض البسكويت وأرض الملابس الجديدة"، لمَسَتْ الباب.

"بارد قليلاً"

لمَسَه "دوفو".

"وجميل"، نظرَ إلى "ساهر".

"من فضلك، سأدخل أنا وسيمويا وحدنا"

"أفهم ذلك دوفو، تفضّلا"

دَخَلا.

وجدَا ضبابًا أزرق يتماوج بارتفاع نصف متر، يمتد فى جميع الجهات إلى   ما لا نهاية، تتحرك الأرض بإيقاع خفيف كأنها تتنفّس، تسحَبُ الضباب فى كل شهيق، ينكشف سطحها، مرة يكون مكسوًا بزغَب مثل ثمرة ضخمة، أو مُغطّى بعشب ملوّن، مُبلل بماء خفيف، موشوم برسوم متداخلة، كلمات، أو أرقام.

لم تكن هناك سماء، لا شمس، لا قمر، ولا نجوم، حولهما نور مجهول المصدر، شعرَا أنهما فى حالة بين الطيران والمشى الخفيف، فكّرَتْ "سيمويا" فى أوراق "الليل".

رأيا بالصوت والصورة مشاهد لأحداث، بعضها قديم، قبل حتى ظهور الإنسان على الأرض، البعض الآخر لأزمنة قريبة، والحاضر، ومشاهد بدا أنها من المستقبل.

تلاشت المشاهد تدريجيًا حتى اختفَتْ.

ظهرَتْ على بُعد أمتار قليلة شابة تقترب منهما، ترتدى ملابس زرقاء شفافة.

قال دوفو "أعتقد أنها ستكون دليلكِ، سيمويا"

"سنرى"

توقفَتْ الفتاة بمواجهتهما، لها شعر أسود طويل، عينان واسعتان بلون ورق النعناع، ابتسمَتْ.

"أهلاً سيمويا، دوفو"

قالت سيمويا "لم يعد يدهشنى أن يعرف الآخرون اسمى ولا أعرفهم"

"هذه ليست طريقتى لإدهاشك، الدهشة هناك"، أشارت بيدها خلفها.

"هيا، لدينا كرة أرضية تنتظر"

مشيا معها.

تجاوزوا حاجزًا وهميًا.

شعرَ "دوفو" و"سيمويا" أنهما يمشيان فى مسافة من الزمن تشكّلَتْ مكانًا، ليس هناك ماض، لا حاضر، ولا مستقبل، شعرَا بالفناء، وأنهما عاشا حتى نهاية الكون، والآن هما خارج الوقت والمكان، غير مُقيّدَين بأىّ شىء، لمَسَا خفّة الموت والحياة معًا، يسبحان فى لا زمن، لا مكان، بلا كتلة أو حَيّز، كأنهما أَبَد وفناء معًا، حتى إن الأبد يظل زمنًا مُنتَهيًا مهما طال، ويبقى للفناء وزن مهما خَفّ، الأول يظل مُقيّدًا بأنه أَبَد، والثانى مُقَيّدًا بكونه فناء.

مشوا فى درجات متعددة من الأزرق، دخلوا ممرًا شديد الزُرقة، وصلوا إلى نهايته، حافة يليها فراغ لا نهائى، تدور فيه الكرة الأرضية حول نفسها على مهل، ويُغطّيها ليل بنفسجىّ رائق، جلسَ الثلاثة على الحافة، وتدلّتْ أقدامهم فى الفراغ البارد.

قالت الفتاة "هذا أول ليل مرّتْ به الأرض، أو مرّ بها"

سمِعَ "دوفو" و"سيمويا" صوت حركة الأرض، تنفّسها، تنهدّاتها، ضحكها، بكاءها، ودقّات قلبها، رأيا تفاصيلها بوضوح، كَشَفَ الليل كل شىء بطريقته الخاصة.

"أليس من المفروض أن يُغطّى الليل جانبًا منها، ويُغطّى النهار الجانب الآخر، أم ماذا؟"، قالت "سيمويا" وهى تتأمّل الكرة الأرضية.

"ربما غطّاها الليل كلها فى البداية لمرة واحدة، وغطّاها النهار

أيضًا مرة واحدة، بعد ذلك سار الأمر بشكل مختلف، أم ماذا؟"، قال "دوفو".

"لا أعرف"، قالت الشابة.

"ربما لا زلتِ صغيرة كى تعرفى شيئًا مثل هذا، أو؟"

"أنا أكبر مما تتخيّل، وما زلتُ لا أعرف"، صمتَتْ لحظة.

"هَوّنا على نفسيكما وكُفّا عن الأسئلة"

ظلّ الثلاثة يتأمّلون الكرة الأرضية حتى توقفَتْ عن الدوران.

قالت الشابة "تتوقف لدقيقة، ويبدأ الليل من جديد"

دارت الأرض ثانية دون أن يصدر عنها صوت.

"يمكننا أن نغادر الآن"، قالت الشابة.

عادوا إلى الباب الأزرق.

قالت الفتاة "ما رأيتماه معى خاص بكما، أنا لا أظهر لأصدقائكما، لا يعرفون بوجودى"

قال دوفو "يمكن توقّع ذلك"

"فى المرة القادمة أريكما أول نهار تمرّ به الأرض"

خرجَ "دوفو" و"سيمويا".

وجدَا النهار ما يزال، نظرَتْ "سيمويا" فى ساعتها.

"لم نقضِ هناك غير ساعة واحدة"

"ساعة بحساب وقتنا، ليلة بحساب الباب الأزرق"

اتجَها إلى الشريط الورقىّ، حاولَتْ "سيمويا" أن تؤدى حركة تقليد إيقاع أقدام الحصان، فعل "دوفو" مثلها، ارتَبَكا.

"نحتاج بعض التدريب"، قالت "سيمويا".

وَصَلا إلى الشريط، كان "ساهر" وفريق العمل متناثرين حوله، اختارا مساحة خالية، جَلَسَا متجاورَين على سيقانهما، شعرَتْ "سيمويا" بأنفاس "دوفو"، شمّتْ رائحة جسده، كل شىء يخصّه كان واضحًا جدًا بالنسبة لها، ومحسوس.

قالت "أريد أن أسألكَ عن مكان ما، دوفو"

 نظرَ إليها.

 "تعرف شارعًا اسمه شارع الأرصفة؟"

فكّرَ لحظة.

"لا"

"إنه الشارع نفسه الذى رأيتُه أنا عندما فتحْتُ الباب الأزرق فى البيت الطينى بأرض البسكويت"

"كيف عرفْتِ أن اسمه شارع الأرصفة؟"

حرّكت يدها فى الهواء.

"لم أعرفه، شعرْتُ به"

تأمّلَ عينيها قليلاً.

"آسف سيمويا، لا أعرف هذا الشارع"، نظرَ إلى الرسوم فى الشريط.

 لم تحوّل عينيها عنه، شعرَتْ برغبة قويّة أن تُمرّر يدها على شعره.

قال "دوفو" دون أن ينظر إليها "هل لاحظتِ أننا لم نلتقط ولو صورة للكرة الأرضية؟"

"ماذا؟ اممم، نعم"

"أعتقد أنه ليس خطأنا، لم يكن نسيانًا منّا"، أدار وجهه ناحية الباب الأزرق.

 مرّرَتْ "سيمويا" يدها فى الهواء كأنها تمسح شعره، لمحَتْ رعشة خفيفة  بأطراف أصابعها.

عند الساعة الثانية، تناولا غداءً جماعيًا مع "ساهر" وطاقم العمل.

عند الثامنة مساءً، ذَهَبَا إلى المكان الذى ليس ليلاً ولا نهارًا.

 الباب برتقالى هذه المرة.

دَخَلا.

وجدَا ضبابًا برتقاليًا بارتفاع نصف متر، يمتد فى جميع الجهات، الأرض تتنفّس مثلما كان الأمر فى الزيارة السابقة، تسحْبُ الضباب فى شهيقها، رأيا سطحها بلون مختلف فى كل مرة، لم تكن هناك سماء، لا شمس، لا قمر، لا نجوم، وحولهما نور مجهول المصدر.

رأيا بالصوت والصورة مشاهد من أزمنة وأماكن مختلفة.

اقتربَتْ منهما شابة ترتدى ملابس برتقالية شفافة، لها شعر أبيض طويل، وعينان خضراوان.

"أهلاً سيمويا، أهلاً دوفو"

قالت سيمويا "أنتِ هى؟ تعرفين ما أقصد"

ابتسمَتْ الشابة.

"أنا هى، فقط تغيّر لون شعرى، هيا، لدينا كرة أرضيّة نتفرّج عليها"

مشوا فى عمق البرتقالى.

تجاوزوا الأبد والفناء.

 دخلوا ممرًا لونه برتقالى خفيف، وصلوا إلى حافته، رأوا الكرة الأرضية تدور حول نفسها على مهل فى فراغ لا نهائى، والنهار يُغطيها كلها.

قالت الشابة "أول نهار مرّتْ به الأرض، أو مرّ بها"

جلسوا يتأمّلونها.

أنصَتوا إلى صخبها، صمتها، بكائها، ضحكها، تنفّسها، ودقّات قلبها، رأوا تفاصيلها، ولم ينطق أىّ منهم بكلمة.

توقفَتْ الأرض عن الدوران لمدة دقيقة.

دارت ثانية، بهدوء.

"الآن نغادر"، قالت الشابة.

عادوا إلى الباب البرتقالى.

"هل تعودان ثانية؟"، سألتهما الفتاة.

قالت سيمويا "نعود لو بإمكانكِ أن تُرينى اللحظة الفاصلة بين الليل والنهار"

"لو أنها موجودة بالأساس"

"ماذا تقصدين؟"

هزّتْ الفتاة كتفيها.

 "لا أعرف"

"لا تعرفين ماذا؟"

"لم أرها أبدًا، لا أعرف إن كانت موجودة، آسفة سيمويا"

ودّعَتْهما.

خَرَجا.

نَظَرَتْ "سيمويا" فى ساعتها.

"قضينا ساعة واحدة"

"ولم نلتقط ولو صورة واحدة"

"ليس خطأنا كما قلتَ أنتَ فى البداية"

مشيا باتجاه الخيام، حاولَتْ "سيمويا" أن تؤدى بيديها حركة تقليد إيقاع أقدام الحصان، فعلَ "دوفو" مثلها، لم ينجحا، طلبَ منها أن يقفا متواجهين، وتشرح لها طريقة الأداء بالتفصيل.

"سنفعلها"، قال "دوفو".

بدآ فى لحظة واحدة، ارتَبَكا قليلاً، استمَرّا، بدأ إيقاعهما ينتظم، توصّلا إلى نغمة قريبة من صوت خطوات الحصان، لمعَتْ عينا "سيمويا"، شجّعَ كلٌ منهما الآخر بنظراته، تسارعَتْ حركة أيديهما والضربات الخفيفة على الصدر، تصاعدَتْ دقّات قلبَيهما.

"اقتربنا، افعلها معى دوفو"

  تزامَنَتْ حركة أيديهما ودقّات قلبيهما، كأنهما شخص واحد، حَصَلا على الإيقاع الصحيح.

صرخَتْ سيمويا "هى، نعم، هى، أقدام الخيول"

ضَحِكَ "دوفو".

هتفَ "سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

تصاعد أداؤهما، سمِعا وقع أقدام خيول تأتى من بعيد، تبادَلا نظرات مندهشة، تلفّتا حولهما وهما يواصلان حركة أيديهما، اقترَبَ صوت أقدام الخيول، وتناغمَ مع الصوت الصادر عن أيديهما.

"لا تتوقف دوفو"

ظهرَ قطيع خيول عارية، حمراء، سوداء، برتقالية، بيضاء، بُنيّة، ومُرقّطَة، جديدة كأنما خُلقَتْ للتوّ، تجرى على مسافة قريبة منهما، تنظر جميعها إلى الأفق، أعناقها ممدوة إلى الأمام، عُرْفها يطير مع الهواء، ظهرها يلمع، ذيولها مرفوعة، خطواتها متناغمة، كأنها حصان واحد يجرى.

ظَلّ "دوفو" و"سيمويا" يؤديان حركتهما ويراقبان الخيول، حتى اختفَتْ وتلاشى وقْعُ أقدامهما.

توقفَتْ أيديهما.

تعلّقَتْ عيونهما بالأفق لبعض الوقت.

مشيَا إلى الخيام دون كلمة واحدة.

تحمَمّتْ "سيمويا"، تناولَتْ الطعام، أعدّتْ فنجان قهوة، قضمَتْ زاوية صغيرة من قطعة شيكولاتة، أدّتْ حركة صوت أقدام الخيول، سمِعَتْ وقع أقدام خيول بعيدة.

كتبَتْ ملاحظاتها عن الموقع.

أخرجَتْ أوراق "الليل" من درج المكتب.

"الآن، أنا، وحفيدتى بينورا".

 

الليل

دخلنا، جدّتى وأنا، أرضًا يُغطيها تراب أخضر لامع، له رائحة عشب مُبلّل، رأيت آثار أقدام، تفحصّتُها، وجدْتُ بينها أربعة أقدام صغيرة، وقدمًا واحدة كبيرة يُمْنى، تتكرّر هذه القدَم، وبمحازاتها آثار عصا، كأن شخصًا بقَدَم واحدة يُمْنى، يمشى مستندًا إلى عصا بدلاً من قدمه اليسرى، شعرْتُ أن الآثار تخصّ الأم التى أراها فى أحلامى وطفليها، تتبعْتُها، خطَرَ ببالى أنها ستؤدى بى إلى أحد هذه الأحلام، لكنها انقطعَتْ بعد مسافة قصيرة، بحثْتُ حولى، لم أجد أىّ أثَر، رأيت بقعة نار بعيدة، مشيتُ وجدّتى إليها، وجدنا فوقها القِدْر، مليئًا بالماء، تبرز منه ذراع الملعقة الخشبية، وحوله الطبقَين، حرّكْتُ الملعقة بهدوء، تصاعدَتْ رائحة سُكريّة، اصطدمَتْ الملعقة بشىء مرن فى القاع، طفَا بعد لحظات، تأمّلْته، كتلة دهنية صغيرة مُدوّرة، يلفّها غشاء رقيق، أدركْتُ أنه جزء من ثدى الأم، لمسْتُه بمقدمة إصبعى، كان حقيقيًا، دافئًا، انزلَقَ قليلاً على سطح الماء، راقبتُه حتى سكَنَ إلى جدار القِدْر، ظللتُ أنظر إليه وأنا أُفكّر فى مئات الأشياء، ربما كان شيئًا واحدًا، أو لا شىء.

انتبهْتُ على يد تلمس كتفى، التفَتُ خلفى.

قالت جدّتى "لا أعتقد أننا سنقابل الأم أو طفليها"

تنهّدْتُ.

"أعرف جدّتى"

  ضمّتنى إليها، ومشينا.

ظلّتْ جدّتى صامتة لبعض الوقت، كأنها تنتظر أن أتجاوز حالة أحلامى مع المرأة، أو أنها تؤجل حكيَها عن "دوفو" لسبب ما، شعرْتُ بالجوع فجأة.

قلت "أنا جائعة جدّتى"

 أشارت إلى نقطة ليست بعيدة، رأيتُ ما بَدَا أنه مجموعة من أقمار عالقة فى الهواء، بعضها بارتفاع قامتى.

 قالت "ربما نجد هناك شيئًا نأكله"

 اطمأنَنْتُ، كل ما تقوله أو تتوقّعه يحدث بطريقة ما.

وصلنا إلى الأقمار، لم تكن إلا شجرة كبيرة، تتفرّع منها غصون خضراء بعضها قريب، والبعض الآخر يمتد عاليًا، لكنها تعطى انطباعًا بسهولة الوصول إليه، تتدلّى منها نسغٌ رفيعة فى نهاية كلٍ منها ثمرة دائرية بيضاء بحجم رغيف خبز عادى، تهتز مع حركة الهواء، تحتكّ ببعضها بعضًا، ويصدر عنها صوت يدّل على جفافها سمعْتُ نفسى أهمس "شجرة الخبز"، كأنّ نسخة منى بداخلى تقولها، أو تخبرنى بحقيقة الشجرة، تحسّسْتُ الثمار، دافئة، وناعمة، لم أشكّ أنها رغيف خبز جاف، قطفْتُ واحدة، تحوّلَتْ فى يدى إلى رغيف طرىّ، درجة حرارته بين الدفء والسخونة، نظرْتُ إلى جدّتى.

 "خبز ساخن"، قضمْتُ من الرغيف، لذيذ.

 قطفَتْ جدّتى رغيفين، جلسنا تحت الشجرة، أكلنا ورائحة الخبز تُدفئ الهواء، استلقيتُ على ظهرى، تأمّلْتُ الأقمار وهى تتدلّى فوقى، يا لروعتها، تتحوّل إلى خبز ساخن لو قطفْتُها.

فكّرْتُ أن الوقت حانَ لأسمع جديدًا من قصة جدّتى و"دوفو"، اعتدَلْتُ جالسة، كانت تستند برأسها إلى الشجرة، عيناها مُغلقتان، شعرْتُ أنها ليست نائمة.

 همَسْتُ "جدّتى؟"

 فتحَتْ عينيها، تطلّعَتْ إلى أقمار الخبز، بدا لى أنها تترقّب ما أقول.

 "احكى لى شيئًا جميلاً عنك ودوفو؟"

ظلّتْ تنظر إلى أقمار الخبز حتى اعتقدْتُ أنها لن تتكلم، تساءلْتُ إن كنت أخطأتُ فى التوقيت، أو ربما لم تسمعنى.

"سمعتِنى جدّتى؟"

 ردّت بهدوء "نعم بينورا"، التفتَتْ إلىّ، وصمتَتْ لحظات.

"أحكى لكِ كيف مات دوفو"

"مات؟"، قُلْتُها مثل صرخة، ارتبكْتُ لأنى أعرف بالفعل أن "دوفو" ميّت، لكنها كانت تحكى عنه كحبيب حىّ، وكنت أتوقّع المزيد من الحكايات، حرّكْتُ يدى فى الهواء.

 "آسفة جدّتى"

 ابتسمَتْ ابتسامة بسيطة.

"مات دوفو قبل نهاية العام الثانى من لقائنا بالغابة المُتحجرة، أقل من عامين عشناهما معًا حبيبَين، لم يمُت بسبب حادثة أو مرض، فقط مات"، أدارت وجهها إلى جهة أخرى، مسَحَتْ دمعة أفلتَتْ منها، نظرَتْ إلىّ، ضحَكَتْ ضحكة مرتعشة.

"أنا أبكى"

"يمكنكِ ألا تتحدثى، جدّتى"، ومرّرْتُ أصابعى على يدها.

قالت "مات فى الغابة المتحجرة، عند الشجرة نفسها التى شهِدَتْ لحظة حبنا، أو اكتشافنا لحبنا، كانت الغابة ضِمن موقع كبير نقوم بدراسته، اسمه "النجمة الزرقاء"، عبارة عن مدينة قديمة تحت مدينة ساحليّة، قمنا ببعض الدراسات وغادرنا، لكن "النجمة الزرقاء" لم تنتهِ بسهولة، كان الفريق الذى يقوم بدراستها يكتشف امتدادات جديدة لها، ومطلوب مِنّى ودوفو أن نتابعها، كنا نزورها كل شهرين أو ثلاثة، وبالطبع نزور شجرتنا فى الغابة المتحجرة، ونعيش تلك الدقيقة التى تستعيد فيها الغابة حياتها"، صمتَتْ لحظة، نظرَتْ بعيدًا.

 "صارت النجمة الزرقاء مدينتى الخاصة أنا ودوفو، الغابة غابتنا، الشجرة شجرتنا، حتى كانت مرة، المرة الأخيرة، مشينا فى الغابة، وقبل أن نصل إلى شجرتنا بمسافة قصيرة، قال دوفو إنه يشعر بشىء فى روحه، لم يستطع وصفه، غير أنه لم يكن ألَمًا، طلبَ أن نُسرع إلى الشجرة، وصلنا إليها، اخضرّتْ، استعادت الغابة حياتها، و..."، نظرَتْ فى عينىّ، وضعَتْ أصابعها على شفتيها لحظات، ثم مسحَتْ شعرى.

 "مات دوفو، مات فى حضنى، خلال هذه الدقيقة التى تستعيد فيها الغابة حياتها"، ابتسمَتْ عيناها، لم أرَ فيهما حزنًا، إنما حبًا صافيًا، ضمَمْتُها إلى صدرى.

"تصلنى رسائل منه حتى الآن"

 ضمَمْتُها أكثر، أبعدَتْنى برفق، نظرَتْ إلىّ كأنى لم أفهم جُملَتها الأخيرة.

"فى اليوم التالى لموته، وصلتنى رسالة منه على الرقم الذى خَصّصتُه له، كنتُ متأكدة أن أحدًا لا يعرف هذا الرقم، كما أنه ذكر فيها أحد الألقاب التى اخترعها لى، ولا يعرفه غيرنا، بعد ذلك تضمّنَتْ رسائله مواقف حدثَتْ بينى وبينه، وألقابًا أُحبها"، نظرَتْ بعيدًا، كأنها تُحدّثه.

"لم تنقطع رسائله أبدًا"

"لم تحاولى الاتصال به؟"

نظرَتْ إلىّ، وهزّتْ رأسها نفيًا.

"ولم تردّى على أيّة رسالة؟"

أغلقَتْ عينيها لحظة، فهمْتُ أنها لم تفعل.

سألتُها "لماذا؟"

"لدىّ شعور أنى سأخسر كل شىء لو حاولْتُ الاتصال به، أو أرسلْتُ إليه رسالة، لن يرد علىّ، وستنقطع رسائله، فضّلْتُ أن أحتفظ بوجوده على الطرف الآخر، ولو بهذه الطريقة"

فكّرْتُ فى تصرّفها، ومرّ بعقلى سؤال، ماذا كنتُ لأفعل لو أنى مكانها؟

قالت "أوشكْتُ فى لحظات ضعف كثيرة أن أتصل به، أو أكتب إليه رسالة، حتى قررْتُ مرة واحدة وبشكل نهائى أنى لن أجازف، فقط سأستقبل رسائله، لن أُضيّعه منى"

شعرْتُ بإعجاب وتقدير لموقفها، رغم أنى ما زلتُ لا أعرف ماذا كنت لأفعل لو أنى مكانها.

قلت "هذا ما قلتِ أنتِ عنه، الحب حتى آخر نظرة"

أومأتْ مرتين، نظرَتْ بعيدًا.

"أفتقد العمل معه، قبل حادثة الليل والنهار بأيام قليلة، كنت فى مهمة إشراف بأحد المواقع التى عملْتُ عليها مع دوفو منذ سنوات طويلة، وقتها كنا أول مَنْ وضع قدمه فى الموقع" صمَتَتْ لحظة، التفَتَتْ إلىّ.

"أوحشنى دوفو"

حضَنْتُها.

 قبل أن نغادر قطفَتْ جدّتى بعض الأرغفة، وضَعَتْها فى الحقيبة، وحملَتْها على ظهرها.

 مشينا، راودنى سؤال بشأن جدّتى و"دوفو"، لم أستطع أن أؤجله، نظرْتُ إليها.

قالت "تريدين أن تسألى عن شىء"

"لماذا لم تُحبّى أحدًا بعد دوفو؟"

لمعَتْ عيناها، نظرَتْ بعيدًا، شعرْتُ أنها لم تسأل نفسها هذا السؤال من قبْل.

قالت "لا أعرف"

توقفَتْ، فكّرَتْ لحظة.

"لم تكن لدىّ خطة كى أُحب أو لا أُحب بعد دوفو، هل انشغلْتُ بالعمل؟ لا، لا، أنا لم أنسَ دوفو فى أىّ وقت"، صمتَتْ وهى تنظر فى عينىّ، شعرْتُ أنها لا تنظر إلىّ بالفعل، مرّتْ ثوان، ابتسمَتْ، الآن تنظر إلىّ.

"ربما لم أُحب بعد دوفو لأن حبه كان بداخلى طوال الوقت، حتى قبل أن أكتشف أنى أحبه، لم يكن اكتشافى لمشاعرى تجاهه إلا الجزء الظاهر من جبله المختبئ بأعماقى، وهذا الجبل ظلّ صامدًا"

أمالت رأسها على كتفها.

قالت "يُعجبكِ هذا؟"

"نعم"

 "لكنه لا يكفينى، ليس لدىّ تفسير لماذا لم أُحِب بعد دوفو، وهذا يعجبنى"

نظرَتْ بعيدًا، لمعَتْ فى عينيها نجمة.

قالت "هل لا بد أن يكون هناك تفسير؟"

 لم يكن هذا سؤالاً، كانت الإجابة التى تبحث عنها.

مشَتْ، بقيتُ فى مكانى أتأمّلُها وأُفكّر كم أُحبها، التفتَتْ إلىّ، وابتسمَتْ، لحقْتُ بها، بدأتْ تُدَندِنُ وهى تقلّدُ نغمات الكمان، كانت تفعل ذلك فى البيت على فترات متباعدة، وكلما سمعتُها اعتقدْتُ أنى شغّلْتُ موسيقا الكمان من حاسوبى، أو أنها شغّلَتْها من حاسوبها، وأكتشف بعد قليل أنها تدندن، ليس لأن نغمة نشازًا صدَرَتْ عنها، أو أنها لم تكن كمانًا فى أيّة لحظة من الدندنة، لكن لأنى أنتبه إلى أنه اللحن نفسه الذى لا تُغّيره، لم يكن مقطوعة قصيرة تكررها، كان لحنًا طويلاً، تدندن منه مقطوعة جديدة كل مرة، هناك روح واحدة تسرى فى كل المقطوعات، روح جدّتى، "سيمويا أكسيلينور".

توقفَتْ جدّتى وهى تنظر إلى نقطة فى الأرض تبعُد عنّا أمتارًا قليلة، ما زالت تُدندن، نظرْتُ معها، رأيت فى نور القمر كمانًا أزرق شفاف، وقوسه إلى جواره، ابتسمَتْ له جدّتى، سمِعْتُ رَنّة كَمَان، شعرْتُ أنهما تعرفان بعضهما بعضًا، مشَتْ إليها، تركْتُها تسبقنى بخطوة، من اللائق أن أدع لهما لحظة بمفردهما، بعدها يتقدّمنى إحداهما للأخرى.

 توقفَتْ جدّتى عند الكمان، تأمّلَتْها قليلاً، جلَسَتْ إليها، مرّرَتْ أصابعها على جسمها، التقطَتْها، ضمّتها إلى صدرها، أغلقَتْ عينيها وهى تُدندن، بدَتْ كأنها أدخلَتْها صدرها وأخرجَتْها، أو أنها دَخَلَتْها وخرجَتْ منها، توقفَتْ عن الدندنة، نظرَتْ إلىّ.

 همسَتْ "تعالى حفيدتى"

 جلسْتُ إلى جوارها، أدركْتُ على الفور أن الكمان روح وليس مادة مصنوعة، لاحظْتُ أنها بلا أوتار، لمَحْتُ بداخلها لونًا بنفسجيًا على شكل قلب ينبضُ بخفّة.

 وضعَتْ جدّتى الكمان على ركبتيها، نزَعَتْ من رأسها أربع شعْرات، جعلَتْها أوتارها، مدّتْ يديها بها إلىّ وهى تبتسم.

 سألتُها "لى، أنا؟"

 أومَأَتْ.

 قلت "لكن، أنتما تعرفان بعضكما بعضًا، هناك شىء خاص جدًا بينكما" "هذا صحيح، والشىء الخاص بيننا هو أنتِ"

 حدّقْتُ بها.

 قالت "لن يعزف عليها غيرك"، وضعَتْها فى يدىّ، كانت بلا وزن، رأيت قلبها البنفسجىّ يرتعش، وسمعْتُ منه نبضة خاصة.

 قالت جدّتى "رأيتِ قلبها؟ سمعْتِه"

 شعرْتُ بقلبى أيضًا وسمعْتُه، ابتسمْتُ وأومأتُ مرتين.

 مرّ بخاطرى للحظة أنى سأكون مكانها يومًا، وأُعطى لحفيدتى كمانًا أوتارها من شَعرى، أو ربما آلة موسيقية أخرى أترك فيها شيئًا منى.

 التقطَتْ جدّتى قوس الكمان، وضعَتْه بين أصابعى.

 "اعزفى"

 دقّ قلبى بقوة، قلتُ كلامًا لم أتذكّره أبدًا، لكنى أعرف أنه ليس شيئًا مثل: لا أستطيع العزف.

"هيا حفيدتى، أريد أن أسمع لحنك"، همَسَتْ لى جدّتى.

 نظرْتُ إلى الكمان، رأيت قلبها ينظر إلىّ.

الكمان من أحب ثلاث آلات موسيقية إلى قلبى، أعتبرها فتاة متجوّلة، كثيرة الشجن، ضحكتها الحلوة مُبللة بالدموع، من أجمل المناظر التى أُحِب أن أراها، فتاة أو امرأة تعزف الكمان، خاصة لو كانت واقفة، أعتبرهما كيانًا واحدًا، وفى الوقت نفسه تعزف كلٌ منهما الأخرى.

بدأتُ العزف على الكمان الأزرق الشفاف، أوتارها شَعْر جدّتى، سمعْتُ لحنًا أشعر أنه لم يكن له وجود قبل هذه اللحظة، وفى الوقت نفسه، كأنى أعزفه طوال عمرى.

 

(12)

استيقظَتْ "سيمويا" عند السادسة صباحًا، تألّمَ مزاجها بما قرأته الليلة الماضية عن موت "دوفو"، شعرَتْ فى قلبها بطعم حزين، جلسَتْ على طرف السرير دقيقتين طويلتين.

"ربما لا يحدث"، قالت لنفسها.

دَخَلَتْ الحمّام، تذكّرَتْ موت "دوفو" أثناء استحمامها، خرجَتْ سريعًا، فتحَتْ قطعة شيكولاتة بشكل لا إرادى، تركَتْها على سطح المكتب، حاولَتْ أن تُغَيّر مزاجها، شغّلَتْ موسيقا كمان وبيانو، فكّرَتْ فى الكمان الذى صنعَتْه بنفسها فى أوراق "الليل" لأجل حفيدتها "بينورا"، تحسّسَتْ أطراف شعرها، اعتزمَتْ أن تُطيله حتى تكون مستعدة عندما تأتى اللحظة، ابتسمَتْ لأنها تُفكر فى نفسها كجدّة مُستقبليّة، وهاجمها من جديد مشهد موت "دوفو".

ارتدَتْ قميصًا أبيض، بنطلون أسود، وضعَتْ أوراق "الليل" فى درج المكتب، توقفَتْ عند فتحة خيمتها، سحبَتْ نفسًا عميقًا، ربّتَتْ قلبها.

"ربما لا يحدث"، وخرجَتْ.

وجدَتْ "دوفو" قُرْب خيمته، خفَقَ قلبها بدقّة قوية، وعاد إلى نبضاته الطبيعية.

تبادَلا التحيّات الصباحيّة.

مشى إليها، رأت فى عقلها ما قرأتْه عن موته، أغلَقَتْ عينيها بقوة للحظات، فتحتْهما، وجدَتْه بمواجهتها، تأمّلَها.

"لماذا أنتِ حزينة؟"

هزّتْ كتفيها ونظرَتْ بعيدًا.

ظهرَ "ساهر" قادمًا من بين الخيام بخطوات سريعة.

قال دوفو "أشعر أن هناك شىء غير طبيعى"

وصلَ إليهما.

 قال "حدث شىء غريب، اختفى المكان الذى ليس فيه ليل ولا نهار"

"ماذا تقصد؟"، سأله "دوفو".

"اختفى الباب الأزرق، بحثْتُ عنه ولم أجده"

ذهبَ الثلاثة حيث كان الباب موجودًا بالأمس، بحثوا عنه.

 يئسوا من العثور عليه.

"اختفى"، قال "دوفو".

سألهما ساهر "رأيتما شيئًا غير عادى بالأمس عندما دخلتما؟"

أمالت "سيمويا" رأسها على كتفها، حرّكَ "دوفو" يده على شكل موجة، نقَلَ "ساهر" عينيه بينهما، ابتسمَ.

"أُحِب هذا النوع من الردود"، تلفّتَ حوله.

"ماذا الآن؟"

قال دوفو "أعتقد أن عملنا هنا انتهى"

قالت سيمويا "ربما يظهر الباب ثانية"

"لن يظهر، تعرفين ذلك بطريقة ما"

الموقع التالى هو الأخير فى مهمتهما، حيث من المُفترَض أن يموت "دوفو"، حسْبَ أوراق "الليل".

قالت سيمويا "لماذا أنت مُتعجّل؟ يمكننا أن ننتظر يومًا أو يومين، وربما يظهر الباب البرتقالى ليلاً"

"لم تُفكّرى أن الباب الأزرق اختفى لأنه أرانا ما أراد أن يُرينا إياه؟ للسبب نفسه لن يظهر الباب البرتقالى"

مرّ أمام عينيها ما قرأته عن موته، ارتعشَتْ روحها، ظلّتْ تنظر إليه وهو ينتظر ردّها.

قالت "يمكننى أن أُربّتَ خدّك، صحيح؟"

ابتسمَ.

"إذا كان هذا ما يرضيكى"

حدَثَ أن ربّتَتْ "سيمويا" خَدّ "دوفو" وصدره من قبل بشكل تلقائى، دون إذن، لكنها أرادت أن تطلبـها هذه المرة، لا تعرف لماذا.

   

مدّت يدها، وضَعَتْها على جانب وجهه، ضَمّتْ أصابعها، ضغَطَتْ برفق للحظات، لم تُبْعد عينيها عن عينيه، أرْخَتْ يدها، ربّتَتْ خَدّه بأطراف أصابعها عدّة مرات، شعَرَ "دوفو" بهذه الرَبْتَة فى روحه وقلبه، احتواه دفء عميق، وحنان، لن ينسى هذه اللحظة أبدًا. 

عند منتصف النهار، حلّقَتْ بهما الهليكوبتر، وغادرا موقع "شريط الورق".

قال دوفو "هل فكرْتِ إنْ كان بإمكاننا أنْ نُوقّع نحن أيضًا فى الشريط؟"

ظلّتْ تنظر إليه صامتة.

قال "ماذا؟"

"وقّعْتُ بالفعل"

"لم تفعلى"

"فعَلْت، ثلاث فراشات"، وانتظرَتْ أن يسألها عن أىّ شىء، كانت لتحكى له عن أوراق "الليل"، لكنه تأمّلَها لحظات، أسندَ رأسه إلى المقعد، ونظرَ عبْرَ زجاج النافذة.

فكّرَتْ "سيمويا" أنهما يتوجهان الآن إلى النقطـة الأخيرة فى مهمتهما، "النجمة الزرقاء"، وهناك، من المُفتَرض حسْب أوراق "الليل"، أن يحبها "دوفو"، ويموت قبل مرور عامين، ورغم أن ما تقرأه فى الأوراق يحدث معها بطريقة ما، إلا أنها رأت فى الأمر شيئًا جيدًا، فلو أن قصة حبهما لم تتم بالطريقة التى قرأتْها، وهذا ما حدث بالفعل، لأنها تحبه، لكنه لم يشعر تجاهها بمشاعر خاصة حتى الآن، لا يمكنها القول أن هناك قصة حب بينهما، لذا، فكّرَتْ، ربما أيضًا لا يموت "دوفو"، ليس فى هذه المهمة، ولا فى وقت وبطريقة تعرفهما.

لا يتعلّق خوف "سيمويا" بألا يكون لدى "دوفو" الوقت لتعيش معه قصة حب طويلة، هى مهتمة بأن يبقى حيًا، وبعدها ترى ما يكون فى الحب.

 تساءلَتْ، هل يمكن ألا يحبها أبدًا؟ ألا يكتشف أنه يحبها.

هَمَسَتْ لنفسها "حب من طرف واحد"، لم تشعر بالحقد تجاه "دوفو"، ولا برغبة أن تفقأ إحدى عينيه، أو حتى تخدْشه، نظرَتْ إليه بجانب عينيها، كان يقرأ كتابًا، شعرَتْ بالشفقة عليه، ورغبة أن تضم رأسه إلى صدرها، وتقول له "لا تخشَ شيئًا، أنت فى حمايتى".

  تساءلَتْ إنْ كان من حقه أنْ يقرأ أوراق "الليل" الآن، أو يعرف بوجودها على الأقل، لكن، أتجعله يقرأ موتَه؟ ليس الآن، ستكشف له عنها وتقرأها معه من جديد بعد أن ينتهيا من المهمة، ويكونا قد تجاوزا لحظة موته.

عَزمَتْ أن تُخصّص له رقم هاتف بمجرد أن يصلا إلى "النجمة الزرقاء"، ليس لتستقبل رسائله بعد موته مثلما قرأت فى أوراق "الليل"، إنما ليمكنها الذهاب إلى أماكن بعيدة، لا تخبر عنها أحدًا غيره، ابتسمَتْ وهى تتخيّل نفسها فى مكان لا يعرفه أحد، ولا يمكن لكائن الوصول إليها عدا "دوفو"، أعجَبَتْها أيضًا الفكرة فى حد ذاتها: أنْ تُخصّص له هاتفًا.

فتحَتْ فى حاسوبها الملفّ الذى أرسله إليها مركز الأبحاث، قرأتْ كل المعلومات عن النقطة التى يتجهان إليها، "النجمة الزرقاء"، كى تتعرّف إليها أكثر، وتكون مستعدة.

ظلّتْ فى مقعدها لبعض الوقت، بالكاد منعَتْ نفسها لمرات كثيرة أن تمسح رأس "دوفو"، تضمّه إلى حضنها، أو تُقبّل خدّه، كان يلتفتُ إليها أثناء قراءته كتابًا أو مشاهدته فيلمًا ليقول لها كلمة أو جملة ما، وأحيانًا تقاطعه وتطلب منه أن ينظر إليها وينطق اسمها كاملاً، "سيمويا أكسيلينور"، يطاوعها ويفعل، فتبتسم.

ألقى "دوفو" نظرة عبْرَ زجاج النافذة، رأى الليل، نظرَ إلى "سيمويا"، وجدَها تحدّق به.

قال "غريب، لَمْ تحاولى الإمساك باللحظة الفاصلة بين الليل والنهار"

"أحاول الإمساك بلحظة أخرى، دوفو ماليمورا"

"ما هى؟"

ظلّتْ تنظر إليه حتى اعتقد أنها لن تُبعِد عينيها عنه أبدًا، ابتسمَ ونظر عَبْر زجاج نافذته.

لا بد فى النهاية أن تُبعد عينيها عنه، لتقرأ على الأقل فى أوراق "الليل" قبل الوصول إلى "النجمة الزرقاء".

أمسكَتْ حقيبتها ونهضَتْ.

"سأجلس فى المقعد الخلفى"

أومأ "دوفو".

مشَتْ خطوتين باتجاه مؤخرة الطائرة، استدارت إليه.

نادَتْه.

التفَتْ إليها.

قالت "لا توجد لحظة فاصلة، الكون متصل".

 

الليل

بعد أن انتهيتُ من العزف، أدركْتُ أن الكمان لى، اللحن خاص بى، ولن يعزفه غيرى.

مشينا من جديد، جدّتى، وأنا، فى أرض التراب الأخضر.

رأيت على مسافة قريبة مئات العيون مُعلّقة فى الهواء، كلها تنظر إلىّ دون أن ترفّ، توقّفْتُ لحظة، شعرْتُ أنها تهمس لى، ستنادينى لو أدَرْتُ لها ظهرى، لم أكن لأفعل، لا يمكن تجاهل كل هذه العيون، كلما اقتربْتُ منها ظهرَتْ أخرى جديدة، وصلنا إليها، اكتشفْتُ أنها شجرة، أوراقها على هيئة عيون، تنظر إلىّ عن قُرْب هذه المرة، لم أعرف هل ضحِكَتْ روحى أم فَزِعَتْ، فى النهاية، وبسرعة، أعجَبَها الأمر.

 تحرّكَ الهواء، رَفّتْ العيون، شعرْتُ أنها كلها صارت لى، أنظر بها إلى العالم، وأعرف سرًا جديدًا فى كل نظرة، أعتقد أنى رأيت مشاهدَ مما رأته كل عين، تزاحمَ العالم أمامى وفى عقلى، بدأتُ أدخل فى نوم، أو غَرَقْ، وحلمْتُ بالنهار.

انتهى الحلم، أو أنه تلاشى من عينىّ، لا زلتُ أقف فى مكانى، رأيتُ بمواجهتى عينيَن تشبهان عينىّ، تتدلّيان من أغصان الشجرة وتنظران إلىّ، اقتربْتُ منهما أكثر، كانتا نسخة عن عيناى، ليس أنهما تشبهانهما بدرجة كبيرة، وإنما نسخة حقيقية، رأيت فيهما بعض روحى، ارتعشَتْ نقطة عميقة فى قلبى، كان هناك شىء جميل فى تلك اللحظة.

 انتبهْتُ وجدّتى تهمس باسمى، نظرْتُ إليها.

قلت "عيناى هناك، أقصد نسخة منهما"

 قالت "أنا أيضًا"، أشارت إلى نقطة فى الشجرة، كانت عيناها تتدلّيان من غصن بجوار عينىّ، وتبتسمان لى، رأيت من خلالهما مشهدًا قديمًا كنت فيه طفلة أمشى فى شارع واسع يضيئه قمر مكتمل، وبيدى حلوى مثلجة. مشهد آخر كنت فيه شابة أقف على شاطئ البحر فى مدينتى، أتأمّله وهو يصعد إلى السماء فى موجات ويمتزج بالسحاب.

 مشهد ثالث ظهَرَ فيه "دوفو"، حبيب جدّتى، واقفًا بجوار شجرة مُمدّدَة على الأرض فى غابة مُتحجرة، وبين لحظة وأخرى تظهر فى مجال رؤيتى يد تمسك بقطعة شيكولاتة، تُقرّبُها من فمه ليقضم منها قضمة، ثم تنسحب، عرفْتُ أنها يد جدّتى، الشابة وقتها، "سيمويا أكسيلينور"، كان واضحًا أنهما يأكلان قطعة الشيكولاتة بالتبادل، قضمة لها، وقضمة له.

     أسعدَتْنى المشاهد الثلاثة.

     مشينا.

     قلت لجدّتى "حلمْتُ بالنهار عند شجرة العيون"، انتظرْتُ ردّها،

لم تَبْدُ مهتمة.

"لم تكونى معى فى الحلم مثل كل مرة، كان الكمان"

 نظَرَتْ إلىّ.

 "أوتار الكمان من شَعرى، إذن كنتُ معكِ"

 "أحكيه لكِ؟"

"أعتقد أنى أعرف ما حلمْتِ به"

"كيف تعرفين؟"

 ابتسمَتْ، مسحَتْ بإصبعها على جانب شعرى.

 "حكمة الجدّات"

 تأمّلْتُها، قلت لنفسى "هذه المرة، ليست حكمة الجدّات".

 ربّتَتْ خدّى.

 "استعدّى حفيدتى، تعزفين لى بعد قليل"

تساقط مطر خفيف، رفعْتُ وجهى إلى السماء، ابتسمْتُ، لاحظْتُ أنها تُمطر علىّ وجدّتى فقط، سحابة واحدة لأجلنا، فتحْتُ ذراعىّ جانبًا، اتسعَتْ رقعة المطر لتحيط بهما، ابتعدْتُ عن جدّتى خطوات، انقسمَتْ السحابة نصفين، تحرّك أحدهما معى وبقى الآخر معها، ظلّ ما بيننا جافًا، تنقّلْتُ إلى نقاط مختلفة، انتقلَ معى المطر، عُدْتُ إلى جدّتى، عاد معى نصف السحابة وانضمّ إلى توأمه، مشينا والمطر الخاص بنا، أحبَبتُه أكثر فى كل لحظة، رقَصْتُ مع جدّتى، عزفْتُ على الكمان موسيقا شعرْتُ أنها تنبع منى، ضَحِكْنا، عِشْنا، عِشْنا طويلاً.

توقفَتْ جدّتى، نظرَتْ إلى نقطة خارج المطر، رأيت فى عينيها نورًا وشجنًا، أشارت إلى النقطة وقالت شيئًا ما، امتزجَ صوتها بخيوط المطر، سمعْتُ نغمة كمان، كان هذا ما قالته، مشَينا باتجاه مساحة دائرية لا يتجاوز قطرها خمسة أمتار، يُغطّيها عشب قصير وردىّ اللون، ويضيئها القمر بشكل خاص، كانت مساحة العشب الوحيدة وسط التراب الأخضر، توقفنا عند حدودها، انقطع المطر، شمَمْتُ رائحة الورد من الدائرة الورديّة، رأيت فى منتصفها جاروفًا، وقطعة مستطيلة من رخام أبيض، طولها نصف متر، وعرضها عشرة سنتيمتر، كانا جديديَن، وجدّتى تتأمّلهما.

 سألتُها "ما هذا؟"

لم ترد، مرّتْ نسمة هواء، اهتزّ العشب، لعبَتْ حولنا رائحة الورد، دخَلَتْ جدّتى الدائرة، شعرْتُ أن المكان يَخصّها، غير مسموح لى بالدخول قبل أن تأذَن.

أمسَكَتْ مستطيل الرخام، قلّبَتْه بين يديها، ابتسمَتْ كأنها تعرفه، أومأتْ لى، دخَلْتُ إليها، خَلَعَتْ الحقيبة من ظهرها، جلَسَتْ على الأرض، جلسْتُ قُبالَتَها، وضَعَتْ قطعة الرخام إلى جوارها، أمالت رأسها على كتفها.

 قالت "هل قلتُ لكِ إن أروع قطعة شيكولاتة هى التى كنت آآكلها مع دوفو، قضمة له، وقضمة لى"

أخافنى فى صوتها حزن خافت، انتظرْتُ أن تُكمل، تأمّلَتْنى لحظة.

"لطالما أردتِ أن تحملى الحقيبة، حفيدتى"

شعرْتُ أن شيئًا كبيرًا على المحَك، لم يَعُد مهمًا لى أن تعطينى الحقيبة.

 قالت "الآن تحمليها، رحلتى تنتهى هنا"

غرقَ قلبى.

"أنتِ تودّعيننى جدّتى؟"

 "لن أودّعكِ أبدًا، أموت هنا، لكنى أبقى فى قلبك وروحك، أليس كذلك؟"

 نزَلَتْ دموعى.

 "أليس كذلك، حفيدتى؟"

 أومأتُ.

"أريد أن أسمعها"

"نعم، جدّتى"

"وابتسامتك؟"

 حاولْتُ، لم أستطع.

 "أُحب أن أراها"

 حاولْتُ ثانية، ابتسمْتُ.

      طلَبَتْ منى أن أُخرجَ حافظة الأوراق من الحقيبة، أخرجْتُها، وأعطيتُها إياها، فتَحَتْها، مرّرَتْ يدها على الصور والأوراق، نظرَتْ إلىّ.

 قالت "الأوراق لكِ، لكن لا تقرأيها إلا بعد أن ترى النهار مثلما رأيتِه فى حلمكِ، حتى عنوانها لا تقرأيه، عِدينى"

 تأمّلْتُها لحظات.

"أعدُكِ جدّتى"

"اتركى معى الصور وفلاشات الأفلام"، صمتَتْ لحظة، ابتسمَتْ.

 "حسنًا، يمكنكِ أن تحتفظى بصورة واحدة، اختارى"

 نقَلْتُ عينىّ بين الصور، اخترْتُ واحدة، كانت جدّتى فيها شابة، تقف على قمة جبل، خلفها سماء صافية، ترتدى قميصًا أزرق، بنطلونًا قماش أبيض، تميل برأسها قليلاً على كتفها، وفى عينيها نظرة وابتسامة أعرف أنهما لا تظهران إلا لأجل "دوفو"، أرَيْتُها إياها.

 قلت "دوفو كان هناك"

 ابتسمَتْ عيناها، تطلّعَتْ إلى الليل لحظات، أمسَكَتْ قطعة الرخام، وضعَتْها فى يدى.

 "هذا شاهد قبرى"

 بَكَتْ روحى، ضحِكَتْ جدّتى ضحكة قصيرة

 "لا تبكى، حفيدتى"، نظرَتْ إلى الكمان.

 "أنا معكِ، أوتار كمانك من شَعرى، اعزفينى فى أىّ وقت"، أحاطت وجهى بيديها.

 قالت "الآن، أعزف أنا لك"، داعبَتْ أوتار الكمان، عيناها تبتسمان لى. "ابتسمى لى بينورا، لأجل جدّتك"

 مَسَحْتُ دموعى، ابتسمْتُ لها بأجمل ما أستطيع.

غَنّتْ لى أغنية أعرف أنها لم تكن موجودة فى العالم من قبل.

توقفَتْ جدّتى، "سيمويا أكسيلينور" عن العزف.

 أمالت رأسها على كتفها.

ودّعْتُ عينيها، قبّلْتُهما.

ضمَمْتُها إلى صدرى طويلاً، كانت مُبلّلة بالمطر، مدّدْتُها على الأرض، مسحَتْ شعرها، وخدّيْها.

عزفْتُ لها لحنًا خاصًا.

وضعْتُ الكمان إلى جوارها، أخرجت الأوراق وصورتها التى اخترتُها من الحافظة الزرقاء، أمسكْتُ الجاروف بيدين مرتعشتين، حفرْتُ قبرًا ملاصقًا لجدّتى، كى أُنزلُها فيه بسهولة دون أن أُزعجها، كان لون الطبقة السطحية للأرض ورديًا، وله رائحة الورد، بعد عشرين سنتيميتر تقريبًا ظهرَتْ طبقة جديدة لونها برتقالى ولها رائحة قشر البرتقال، عشرون سنتيميتر أخرى ورأيت طبقة قرمزيّة برائحة حلوى طفوليّة.

 ظلّتْ طبقات الأرض تتغيّر كل عشرين سنتيمتر، ويظهر لون جديد برائحة جميلة.

حفرْتُ قبرًا واسعًا، آخر طبقة وصلْتُ إليها من الأرض كانت بلون سماوى ولها رائحة المطر، لم يكن ظاهرًا منى على السطح غير كتفى ورأسى، وجه جدّتى قُبالتى، تأمّلْتُ تفاصيله، كم أُحبه، أحبها، مَسَحتُ جبينها، أَدخَلْتُ ذراعىّ تحت ظهرها وحملتُها، خفيفة ومؤثرة مثل نَغَمة، ومُبلّلة بالمطر، أعرف أنها سعيدة بذلك.

 وضَعْتُها برفق فى أرض القبر، رائحة الورد تملأ الهواء، جعَلْتُ شعرها مفرودًا على صدرها، وضعْتُ حافظة الأوراق بجوار يدها، قبّلْتُ فمها، شمَمْتُ منها رائحة شيكولاتة خفيفة، ابتسمْتُ، وغادرْتُ سريعًا كى لا أزعجها.

 لم أستخدم الجاروف، أعدْتُ التراب الملوّن إلى القبر وأنا أُزيحه بيدىّ حفنة بعد أخرى، كى لا أؤلمها.

سوّيْتُ القبر، أمسكْتُ شاهد الرخام، رأيتُ فى أحد طرفيه نقْش لثلاث فراشات زرقاء، تتراصّ فى صفّ عمودى، الأولى كبيرة، الثانية صغيرة، والثالثة أصغر منهما، لم يكن هناك اسم، غرسْتُه عند رأس جدّتى بحيث تكون الفراشات لأعلى كى أعرف القبر فيما بعد، تأكدْتُ من ثباتِه، وجلسْتُ إلى جواره.

مرّ وقت دون أن أفكّرَ فى شىء، فقط أنا بجوار جدّتى، ثم بدأتُ أفكّرُ فيها، كأنها فكرة أو نغمة، ضبَطتُ نفسى أكثر من مرة وأنا أبتسم، لم أشعر بحزن أو ألم، تفكيرى فيها يُشعرنى بفرح هادئ، لطيف.

سمعْتُ نفسى أهمسُ من وقت لآخر "جدّتى"، وفى كل مرة أشعر بدفقة من الحب.

 مسَحْتُ رأس القبر، التقطْتُ الحقيبة والكمان ونهَضْت، مشيتُ خطوات، توقفْتُ عند حدود دائرة العشب الوردى، ابتسمْتُ لجدّتى.

"أُحبك سيمويا أكسيلينور"

وضعْتُ الكمان فى الحقيبة بحيث تكون ذراعها بارزة، كى أسحبها بسهولة.

كنت ألتفتُ خلفى كل عدّة خطوات فأرى القبر على بُعد أمتار قليلة، تحيط به دائرة خاصة من نور القمر والعشب الوردى، وتصلنى منه رائحة الورد، مشيتُ فى أرض التراب الأخضر لوقت طويل، ظلّ القبر عند المسافة نفسها، فكّرْتُ أنى لن أراه فى مكانه الأصلى إلا إذا امتنعْتُ عن الالتفات إليه، توقفْتُ، استدرْتُ إليه، رأيته على بُعد أمتار.

 همَسْتُ "وداعًا جدّتى"

 عاد القبر إلى مكانه، تلاشى نور القمر حوله، لم أستطع أن أرى الدائرة الورديّة، تَلفّتُ حولى، العالم بلا نهاية، شعرْتُ بلسعة برد.

مشيتُ.

تساءَلْتُ، كيف عرِفَتْ جدّتى موضع موتـها؟ كانت تعـرف أَمْ

أنها شعرَتْ بدنوّ الموت منها مثلما يحدث مع كثيرين، واختارت هذا المكان، مِن أين جاء الجاروف والشاهد الجديدان، أحضرَتْهما نسخة أخرى من "سيمويا أكسيلينور" تعيش فى حياة موازية؟

    لماذا رفضَتْ أن أحكى لها حلمى الأخير وقالت إنها تعرف ما رأيته؟ كيف عرفَتْ، هل اعتبرَتْ عدم ظهورها فيه إشارة إلى موتها، تلك الإشارة التى لم أنتبه إليها، كانت تحتاج إلى إشارة بالأساس؟

لماذا طلبَتْ ألا أقرأ أوراقها إلا بعد أن أرى النهار مثلما رأيته فى حلمى، يعنى هذا أنى سأعثر عليه بالفعل؟

كأن كل شىء تم ترتيبه من البداية، فعلاً؟

 كانت تعرف؟ كُنتِ تعرفين كل شىء جدّتى، سيمويا أكسيلينور؟

 مكان خاص بكِ لتموتى فيه، شاهد بثلاث فراشات، وقبل هذا، مطر.

سحَبْتُ الكمان من الحقيبـة، تحسّسْتُ أوتارهـا، شَعْر جدّتى، صدرَتْ عنها رنّة صغيرة، ثبّتُها فى وضع العزف، وبدأتُ، وجدْتُ نفسى أعزف الموسيقا التى عزَفَتْها جدّتى لى قبل موتها، اكتشفْتُ أنه لحن للفَرَح، لم أعرف كيف عزفْتُه، شعرْتُ أنى والكمان كيانًا واحدًا، تعزفنى وأعزفُها، تطوّر اللحن، فكّرْتُ أنه بقية لحن جدّتى، وأنها أعطتنـى البدايـة هناك، كنتُ أُغيّر وضع الكمان مثل عازفة     محترفة، أضعـها على صـدرى مرة، أنقلـها على جانبى جسـدى، أو      

أُعلٍّقها فى الهواء وأُنا أمسك بذراعها.

 رقصْتُ مع الموسيقا، طارت منى روحى، فارقنى جسدى، وبقيت وحدى كيانًا ثالثًا، أو أنه الكيان الأول، حيًا، لا أدرك طبيعته، خفّته، حضوره، فناءه، أبديّته، لم يكن مادة ولا روحًا.

عندما انتهى اللحن كنت مُبلّلة بالموسيقا، أعدْتُ الكمان إلى الحقيبة، تلفّتُ حولى، الليل، قمر مكتمل، النجوم، والعالم، أفتقدُ عينَى جدّتى.

 سَمِعْتُ صوتها يهمس لى "مَن أَحَب نجا"

 تساءلْتُ بصوت مسموع، هل سأحب؟ أنجو؟

 هل تعرف "سيمويا أكسيلينور" شيئًا عما سيحدث لى؟ بدَتْ فى أوقات كثيرة خلال رحلتنا وكأنها تعرف ما سيقابلنا، أو على الأقل لديها فكرة كافية، وفى أوقات أخرى كانت مثلى، لا تعرف، وتريد أن تكتشف، كنت أشعر طوال الوقت أن هناك سرًا ما، وأنه موجود على الأرجح فى أوراقها، لكنى لن أقرأها إلا بعد أن أعثر على النهار، مثلما وعدْتُها.

 سأواصل البحث جدّتى، أولاً كى لا أخذلك، ولأجلى، وكى أستحق أن أقرأ أوراقك، لكن، هل أجده فعلاً؟ انتبهْتُ إلا أن جزءًا من الحلم الذى رأيت فيه أنى عثرْتُ على النهار قد تحقق فعلاً، وهو أن جدّتى لم تَعُد معى، صِرتُ جاهزة لأقابله وحدى.

تعرفين جدّتى، ما كنتُ لأختار أن أعثر على النهار إذا لم تكونى معى, تعرفين أنى كنت لأختارك.

 

(13)

توقفَتْ "سيمويا" عن القراءة، نظرَتْ عبر زجاج نافذة الطائرة.

 "أعرف بينورا، أنا أيضًا كنت لأختارك"

فكّرَتْ فى موتها الذى قرأته بنفسها، شعرَتْ بشجن لطيف، فهِمَتْ أنها تقبّلَتْه هناك، كان يمكنها أن تُغيّر طريقها، يمكنها حتى أن تفعل هذا الآن. ابتسمَتْ.

نظرَتْ إلى الأوراق فى يدها، فكّرَتْ أنها ستعطيها قبل أن تموت إلى حفيدتها "بينورا"، تساءلَتْ، لماذا لم تُعْطِها إياها قبل ذلك، أو تسمح لها على الأقل بقراءة جزء منها.

 "ربما أكتشف ذلك فيما بعد"، قالت لنفسها.

عادت إلى مقعدها بمحازاة "دوفو".

حَطّتْ الطائرة عند التاسعة مساءً فى مكان بوسطَ مدينة ساحليّة.

 كان الموقع الأخير فى مهمتهما عبارة عن مدينة قديمة اُكتشفِتْ أثناء القيام بأعمال تجديد اعتيادية لمبنى بوسط المدينة الساحليّة، أطلقوا على المدينة المُكتَشَفة اسم "النجمة الزرقاء"، لأنهم رأوا بالسماء نجمة زرقاء كبيرة ليلة اكتشافهم إياها، ظلّتْ النجمة تلمع لثلاثة أيام متواصلة، حتى خلال النهار، اختفَتْ بعدها، وصارت تظهر من وقت لآخر. 

"اسمى كاكدى، يُسعدنى أن ألقاكما أخيرًا"، قالت الشابة التى استقبلَتْ "سيمويا" و"دوفو".

صحبَتْهما إلى خيمتيهما.

تحَمّما، بدّلا ملابسهما، خَرَجَا ليتجوّلا فى الموقع مع "كاكدى".

  "أقترح أن نبدأ بشجرة العيون"، قال "دوفو".

بدَتْ "النجمة الزرقاء" مثل حفرة على عمق مائة متر فى أرض المدينة الساحليّة، قطرها خمسمائة متر، تتوزّع فيها إضاءة خاصة، جَعَلَتْها أشبه بعالم متوَحّد، تتفرّع منها شوارع وفتَحَات تمتد تحت المدينة الساحليّة، وهناك سلالم من الخشب مُثبّتة بالأرض، وممرّات، تصِلُ بين المدينتين.

 فكّرَتْ "سيمويا" فى أشهر ثلاث نقاط بالموقع، الأول، "الغابة المُتحجرة"، حيث من المفترض حسب أوراق "الليل" أن يكتشف "دوفو" حبه لها، ثم يموت فى المكان نفسه بعد أقل من عامين، الثانى "شجرة العيون"، الثالث "مقابر الورد".

كان يمكنها الربط بسهولة بين المعلومات التى قرأتْها عن الموقع فى الملفّ الذى حصلت عليه من مركز الأبحاث، وما قرأته فى أوراق "الليل" لتعرف أن نسخة من عينيها مُعلّقَة الآن على أحد أغصان "شجرة العيون"، وجثّتها موجودة فى أحد "مقابر الورد".

 عيناها وجثتها الآن فى مكان ما؟ شعرَتْ بقلبها يتفَتّتْ.

دخلوا ممرًا من تراب أخضر، مشوا عدّة أمتار، ظهرَتْ على مسافة قريبة شجرة كبيرة، تتوزّع على أغصانها عيون بشريّة بدلاً من الأوراق، كلها تنظر إليهم دون أن تَرِفّ، توقفوا يتأمّلونها.

قالت كاكدى "شجرة العيون"، ونظرَتْ إليهما.

"شعرْتُما بالخوف لوهلة؟"

لم تردّ "سيمويا"، ظلّتْ عيناها على الشجرة، حرّكَ "دوفو" يده على شكل موجة.

قالت كاكدى "كلما نظرْتُ إليها شعرتُ بالخوف للحظة، ثم تدفعنى رغبة فى الجرى إليها، حتى عندما أراها فى النهار وهى نائمة، أعتقد أن فى الأمر لعبة ما"

وصلوا إلى الشجرة.

ظهرَتْ بمواجهة "دوفو" نسخة عن عينيه، تأمّلَها، وتأمّلَتْه النسخة فى اللحظة نفسها، شعرَ أنه يطير فى مسافة بين الوهم والحلم، ابتسمَ، نَظرَ إلى "سيمويا".

"ظهرَتْ نسخة عن عينيكِ؟"

هزّتْ رأسها نفيًا وهى تنظر إلى الشجرة، كانت تبحث عن نسخة من عينيها موجودة منذ عدد لا تعرفه من السنوات.

قالت كاكدى "غريب، كل مَنْ ينظَرَ إلى هذه الشجرة تظهر نسخة من عينيه على أغصانها"

"يبدو أنى الاستثناء"، قالت "سيمويا"، دخلَتْ تحت الشجرة، راقبَها "دوفو" حتى اختفَتْ بين الأغصان، ومشى فى اتجاه آخر مع "كاكدى".

رأت "سيمويا" عيونًا بأشكال وألوان عديدة، ربما كانت تعرف أصحاب البعض منها، لمَحَتْ عينَين تعرفهما، توقفَتْ لحظة، مشَتْ إليهما، إنهما عيناها وقتما كانت جدّة، أو عندما تكون جدّة، ابتسمَتْ، أمالت رأسها على كتفها.

"أهلاً عيناى، إنها أنا، سيمويا"

 رَفّتْ عيناها على الغصن، ورأت من خلالهما مشهدًا لشابة تعزف مُغمّضة العينين على بيانو قرمزى فى أرض من تراب بُنّى، يضيئها قمر مكتمل، ونجوم لامعة.

 مشهد آخر للفتاة نفسها وهى جالسة فى أرض من تراب أخضر لامع، تعزف على كمان أزرق شفّاف، له أوتار فضيّة، الوقت ليل، قمر مكتمل، ونجوم لامعة.

 

المشهد الثالث، الفتاة ترقص فى أرض التراب الأخضر نفسها، تحت مطر يخصّها، لم يكن هناك مطر خارج الدائرة الوهميّة الصغيرة التى تحيط بها، كأن سحابة واحدة تمطر لأجلها وحدها، ليل، قمر كبير، ونجوم.

عرِفَتْ "سيمويا" أن الشابة هى حفيدتها "بينورا"، كانت مُنتبهة إلى أنها قرأتْ هذه المشاهد فى أوراق "الليل"، نظرَتْ إلى غصن مجاور لعينيها، حيث من المُفترَض حسَب الأوراق أن تجد عينا "بينورا"، وجدَتْهما تنظران إليها، ابتسمَتْ.

"أهلاً بينورا، أنا سيمويا، جدّتك سيمويا"

رفّتْ العينان.

رأت "سيمويا" من خلالهما مشهدًا لنفسها وهى جدّة بشعر فضىّ طويل، تجلس فى أرض من تراب أخضر لامع، تحت قمر مكتمل، نجوم لامعة، وبيدها كمان أزرق شفاف بلا أوتار، تنزع من رأسها أربع شعرات لتجَعَلَها أوتارًا له.

 مشهد ليلىّ آخر لها وهى جدّة، ترقص فى الأرض الخضراء نفسها تحت مطر خاص بها، كأن سحابة واحدة تمطر لأجلها.

 المشهد الثالث، رأت نفسها ميتة، مُمَدّدَة على عشب وردىّ، وجهها وملابسها مُبلّلين، وبجوارها كمان أزرق شفاف.

كانت تعرف، حسب أوراق "الليل"، أنها هناك مُبلّلة بالمطر، وفى اللحظة نفسها تحفر لها "بينورا" قبرها.

ابتسمَتْ "سيمويا" لنفسها وهى ميتة.

همسَتْ باسمها كاملاً.

خرجَ الثلاثة، "سيمويا"، "دوفو"، و"كاكدى" من بين أغصان "شجرة العيون".

تأمّلَ "دوفو" نسخة عينيه.

"أتساءل عَمّن تسمحان له برؤية ما رأيتماه"، نظرَ إلى "سيمويا".

"تعرفين أن العيون على الشجرة تختار مَنْ تعرض له ما لديها؟"

"نعم، قرأتُ كل شىء عن الموقع"

ابتسمَ بشىء من دهشة.

"لماذا هذا الموقع تحديدًا؟"

مرّرَتْ عينيها على تفاصيل وجهه.

"بسبب الموت"

مشوا باتجاه "مقابر الورد".

 دخلوا ممرًا قصيرًا  تُظلّه أغصان بنفسجية بها ورود بيضاء، خرجوا إلى أرض يُغطيها عشب وردىّ قصير، وبها شواهد قبور تمتد بمدى البصر، توقفّوا وتطلّعوا إليها قليلاً، لمَسَتْهم ريح خفيفة مُحمّلَة برائحة الورد.

دخلوا.

ابتعدَتْ "سيمويا" عن "دوفو" و"كاكدى".

 توحّدَتْ مع نفسها وهى تنقلُ عينيها بين شواهد القبور، تجلس على ساقيها بمواجهة الواحد منها، تُدقّقُ فيه النظر، لم تكن هناك أسماء، فقط رسوم أو نقوش جميلة وواضحة كأنما تم تنفيذها منذ دقائق،  كانت تبحث عن ثلاث فراشات زرقاء منقوشة فى صفّ عمودى، الأولى كبيرة، الثانية صغيرة، والثالثة أصغر منهما.

 لَمَعَتْ فى عقلها فكرة أنها مدفونة فى أحد هذه المقابر، انتفضَ زَغَبُ جسدها كله.

عثرَتْ على شاهد به نقش لفراشة خضراء، إلى جواره شاهد به فراشَتان حمراوان، ثم شاهد به ثلاث فراشات زرقاء، ارتعدَ قلبها، لكنها لاحظَتْ أن الفراشات متساوية الحجم، ليس قبرها، مرّتْ بنقوش ورسوم لطيور، حيوانات، أزهار، أشجار، شعرَتْ بالإرهاق، تلفتَتْ حولها، ربما تبحث لأسابيع دون أن تعثر على فراشاتها.

"أين قبرى؟"، همَسَتْ لنفسها، فكّرَتْ أنها ربما كانت أول قبر هنا، ثم نشأَتْ القبور حولها، مشَتْ إلى نقطة فى المنتصف دون أن تلتفتْ، تنظر فقط إلى الشّاهد الذى يقابلها، كأنها لا تتعمّد النظر، لا بد أن شاهِدَها أيضًا يرغب فى رؤيتها، مرّتْ على وجهها نسمة بها رائحة شيكولاتة خفيفة، اِنهار قلبها وتماسك فى لحظة.

 همَسَتْ لنفسها "اقترَبْتُ"

 بدأت الشواهد تتلاشى من حولها، بقى شاهد واحد على مسافة قريبة، يلمع فى نور القمر، رأت الفراشات الثلاث الزرقاء بوضوح، تتراصّ فى صفّ رأسى، الأولى كبيرة، الثانية صغيرة، الثالثة أصغر منهما، رَفّتْ الفراشات حول الشّاهد لحظة، وعادت إليه.

وصلَتْ "سيمويا" إلى قبرها.

جلَسَتْ على ساقيها عند شاهدها، تأمّلَتْ فراشاته واحدة بعد أخرى، لمَسَتْه، بارد، أَحبّتْ ملمسه، مرّرَتْ عينيها على الأرض، وتخيّلَتْ نفسها هناك، تساءلَتْ، منذ كم عام وأنا هنا؟ مسَحتْ العشب بيدها، حفَرَتْ قليلاً بأطراف أصابعها، تصاعَدَتْ رائحة الورد، سحَبَتْ نَفَسًا عميقًا، كانت هادئة، مُتفهّمة جدًا، قلبها صافٍ، وعقلها، لم تشعر بأيّة غرابة، دخلَتْ روحها فى نُعاس جميل، ابتسمَتْ لنفسها فى القبر.

 هَمَسَتْ "نامى بسلام سيمويا أكسيلينور"

لاحظَتْ وجود مساحة خالية بجوار قبرها، كأنها محجوزة لقبر آخر.

نهضَتْ، تساقط مطر خفيف، رفعَتْ وجهها إلى السماء، فتحَتْ ذراعيها، بلّلَ المطر روحها، ملابسها، وجسمها، ظلّتْ فى مكانها حتى انقطع.

 نظرَتْ إلى قبرها، يلمعُ فوقه المطر، وتفوح منه رائحة ورد، أمالت رأسها على كتفها.

"فى سلام، سيمويا"

استدارت، رأت "دوفو" و"كاكدى" ينتظرانها على بُعد أمتار، مشَتْ إليهما، لاحظَتْ أن الأرض جافة خارج مساحة القبر، كأنها لم تُمطر عليها.

قال دوفو "أمطرَتْ لكِ وحدك هناك، سيمويا"

نظرَتْ إلى القبر المُبلّل، ابتسمَتْ، ومشَتْ إلى الخيام.

فى خيمتها، جلسَتْ على طرف سريرها وفيها رائحة المطر، لم تُفكّر فى شىء، فقط عيناها تبتسمان، مرّتْ عشرون دقيقة، سمِعَتْ صوت "دوفو" يناديها، أَدْخَلَتْه، وعادت إلى مكانها على طرف السرير.

قال "أنتِ بخير؟"

أومأتْ وما زالت عيناها تبتسمان.

نظرَ إلى ملابسها المُبَللة.

"محظوظة"

أومأتْ أكثر، وابتسمَتْ عيناها أكثر.

قالت "عندى شغف"

لدى "سيمويا" و"دوفو" شغف بالمطر.

لا يبدّل أىّ منهما ملابسه لو هطل عليه مطر إلا بعد أن تجفّ عليه، أو يشبع جسده من المطر على الأقل، والآن، لدى "سيمويا" سببًا إضافيًا كى تحتفظ بملابسها على جسدها لوقت أطول، إنه مطرها الخاص، وكانت تقف وقتها على قبرها، كيف يمكنها أن تخلع عن نفسها مطرًا كهذا.

"هل أُعدّ لكِ مشروبًا دافئًا؟"، سألها "دوفو".

"لا، شكرًا"

رأى فى عينيها طيف ابتسامة يعرفها، تأتى من نقطة عميقة بداخلها.

"حسنًا سيمويا، أتركك بمفردك"

ظلّتْ فى مكانها لمدة خمسة عشر دقيقة، خلعَتْ ملابسها على مهل، كأنما لا تريد أن تفقد بقايا المطر، احتفظَتْ بها فى مكان خاص.

 ارتدَتْ ملابس النوم، أكلَتْ موزة، تسع حبّات لوز، فتحَتْ قطعة شيكولاتة، قضمَتْ زاويتها الصغيرة، أعدّتْ فنجان قهوة، وجلَسَتْ فى سريرها مع أوراق "الليل".

 

الليل

فكّرْتُ، ما أول شىء أقابله بعد أن صِرْتُ وحدى، بلا جدّة؟

دخلْتُ أرضًا من رمل فضّى، رأيت على مسافة قريبة ما بَدا أنه بابًا يقف وحده، غير مُتصل بشىء، مَشيْتُ إليه، تتضّح تفاصيله تدريجيًا، لم أُغيّرْ رأيى أنه باب وحيد.

وصلْتُ إليه، كان كتابًا أطول منى قليلاً، سُمْكُه لا يتعدّى عشرة سنتيميرات، غلافه الأمامى له لون خشب قديم، مُؤطّر بنقوش على هيئة أوراق الأشجار، وبداخل الإطار رسم بارز لطفلة تعزف على كمان، نظرْتُ فى الكعب والغلاف الخلفى، لم أجد كلمة واحدة.

جذَبْتُ حافة الغلاف الأمامى، انفتَحَ مثل كتاب، دخَلْت، انغلَقَ وتحَوّلَ بابًا، رأيت مكتبة تمتد بمدى بصرى، يُضيئها نور أبيض ناعم، أرضها وجدرانها خشب أحمر، نوافذ كثيرة بستائر بنفسجية رقيقة، السقف مرتفع كأنه سماء، تتوّزع فيها ستاندات وأرفف تتراصّ بها الكتب، وفى بعض الزوايا سلالم خشبية متحركة تؤدى إلى الطوابق العليا.

 لم أرَ مكتبة بهذا الحجم من قبل، فكّرْتُ لوهلة أنها تضم جميع الكتب، حتى التى لم تُكْتَبْ بعد، لم تعجبنى الفكرة، لو أنها كذلك فهى مقبرة للكتب، شعرْتُ بالارتياح لفكرة أنه لا توجد مكتبة تضم جميع الكتب، خَطَرَ فى بالى أن المكتبة، أيّة مكتبة، تُذكّرنا دومًا أن المزيد من الكتب ما يزال بالخارج، وأكثر من ذلك، لم يُكتَب بعد.

تقدّمْتُ خطوات، رأيت عن يمينى ثلاث طاولات من خشب أخضر، رُدهة قصيرة فى نهايتها باب مفتوح على مطبخ، تذكّرْتُ جوعى، أو أنه ذَكّرَنى بنفسه.

 ناديتُ "مرحبًا، هل من أحد؟"

دخَلْتُ المطبخ، لا أحد، وفى المنتصف طاولة خشبية مستديرة، فوقها خبز، عسل، جبن، ومربّى برتقال، أعدَدْتُ سندويتش جبن مع طبقة رقيقة من العسل، مَشيْتُ إلى إحدى النوافذ، أزحْتُ ستارتها البنفسجيّة قليلاً، رأيت بالخارج نور النهار، ومُثلثًا صغيرًا من أرض يُغطّيها عشب أخضر قصير، أزحْتُ الستارة كلها، رأيت الليل، وأرضًا من رمل فضّى، هى نفسها التى كنت فيها قبل أن أدخل الكتاب، المكتبة، تركْتُ الستارة، مشيتُ خطوتين باتجاه الطاولة، عُدْتُ إلى النافذة، أَزحْتُ الستارة قليلاً، رأيت مُثلثًا من النهار والعشب، لم أكن بحاجة لأن أزيحها كلها مرة ثانية كى أعرف أنى سأجد الليل والرمل الفضّى.

أنهيتُ السندويتش، غادَرْتُ المطبخ، تجوّلْتُ فى الطابق الأرضى من المكتبة، توقفْتُ عند واحد من أرفف الكتب، تطلّعْتُ إلى العناوين، كلها مكتوبة بلغات لم أرها من قبل، سحَبْتُ كتابًا ضخمًا، كان بخفّة ورقة واحدة، فتحْتُه، بدَتْ لى لغته قديمة جدًا، أو قادمة من المستقبل، لكنّى وجدْتُ نفسى أقرأها بصوت مسموع وأفهمها على الفور، قرأتُ حكاية عن متُسلّقة جبال شابة اسمها "فريليا"، مات حبيبها فى حادثة أثناء تسلّقهما أحد الجبال.

أعَدْتُ الكتاب.

 صعدْتُ إلى الطابق الثانى.

 ناديتُ "مرحبًا"

 ليس إلا المزيد من الكتب، سحَبْتُ واحدًا، رأيت فيه رسوم بالحبر لأُمّ الطفلين التى رأيتها فى أحلامى، ظهرَتْ فى أحدها وهى تصعد الجبل.

رسم آخر وهى تساعد السمكة فى البحر على الولادة.

 تقطع أحد ثدييها.

تمشى فى جزيرة الذهب.

تحمل طفلتها وطفلها على ذراعيها.

 رأيت رسوما أخرى لم أحلم بها.

 كان الكتاب كله عنها وطفليها، أَعَدْتُه مكانه، سحَبْتُ آخر، توقّعْتُ أن أجد فيه حكايات أو صور لى وجدّتى، ربما، لكن لا، بحثْتُ فى كتب أخرى، لم أجد شيئًا عنّا، فقدْتُ اهتمامى.

 ناديتُ "هل من أحد؟"

 تنقّلْتُ بين ستاندات الكتب بحركات راقصة، دفعْتُها بعشوائية، تحرّكَتْ على عجلات خشبية صغيرة وتبادلَتْ أماكنها دون أن تتصادم، كأنها ترى بعضها بعضًا، تأرجحَتْ الكتب واستعادت توازنها سريعًا.

 عزفْتُ على الكمان وأنا أصعد طوابق المكتبة حتى تعِبْتُ، توقفْتُ لألتقط أنفاسى، نظرْتُ إلى الطابق الأرضى، بعيدٌ جدًا، نظرْتُ إلى أعلى، عدد لا نهائى من الطوابق، شعرْتُ بدوار خفيف، مَشيتُ على مهل، رأيت ممرّات داخلية ينبعث منها نور خافت، دخَلْتُ أحدها، وصلْتُ إلى باب مرسوم فيه آلات موسيقية، قرّبْتُ أذنى منه، لا صوت، فتحْتُه، رأيت مسرحًا مُضاءًا، وفرقة موسيقيّة تعزف، استطعْتُ أن أرى ظلال الجمهور الكبير الذى يملأ القاعة المظلمة، تقدّمْتُ، اعترضنى بهدوء صبىّ وصبيّة يبتسمان، لم يتكلّمَا، خلَع الصبىّ حقيبتى عن ظهرى، سحَبَ الكمان من يدى، لا أعرف كيف تركْتُهما بهذه السهولة، فى اللحظة نفسها خلَعَتْ الفتاة ملابسى حتى صِرْتُ عارية، لم تفارقهما ابتسامتهما، ولم يفارقنى استسلامى، ألبَسَانى ملابس جديدة، لم يستغرق هذا كله غير ثوان قليلة، حتى إنى فكّرْتُ أن شيئًا لم يحدث، أشارت الفتاة لأدخل، سَبَقَنى الفتى وهو يمسك بمصدر ضوء صغير، توقّفَ عند مقعد خالٍ فى أول صفّ بمواجهة المسرح، كأنه محجوز لى.

  جلسْتُ، أعضاء الفرقة يرتدون ملابس بها مسّ من وَهْم، كأنها رسوم وليست شيئًا ماديًا من قماش أو أيًا كان، يتوزعون فى زوايا المسرح بفوضى مُحبّبة، لا تظهر عليهم آثار السفر، شعرْتُ أنهم لم يفعلوا شيئًا طوال حياتهم غير الموسيقا، بينهم فتاة تعزف على بيانو يشبه البيانو الذى عزفْتُ عليه فى "أرض الشيكولاتة"، وبجوارها شابة تعزف الكمان، فكّرْتُ فى الكمان خاصّتى، كيف تركْتُه هكذا بسهولة؟

يعزفون بتناغم دون توقّف، عدّلْتُ فكرتى عنهم، هم لم يفعلوا شيئًا فى حياتهم غير الموسيقا وفقط، إنما أيضًا لم يغادروا هذا المسرح أبدًا، لا يأكلون أو يشربون، وبالطبع لا يبحثون عن ليل أو نهار، يقودهم مايسترو له شَعر أبيض طويل يُغطى ظهره كله، تتحرك كل تفصيلة من جسمه مع الموسيقا، كأنما تدُبّ فيه حياة جديدة كل لحظة.

دَخَلَتْنى الموسيقا من كل مَسامى، ارتعشَتْ أطراف أصابعى تلك الرعشة الخاصة التى أعرفها.

 رعشة تحدث معى كلما صادفْتُ عملاً فنيًا يلمس روحى، ربما يكون فيلمًا، أغنية، قصيدة، قصة، موسيقا، لوحة، رواية، يهزّنى الجمال الفنى، ترتعش أطراف أصابعى بحب، تلمَع عيناى، وأرى لمعَتَهما.  

شعرْتُ مع الموسيقا بلذّة فى روحى وجسمى، يخطفنى البيانو، يقذفنى إلى الكمان، الفلوت، ساكس، ناى، هارْب، لا شىء يتركنى، ولا أترك شيئًا، تتفكّكُ روحى وتلتئم مرات عديدة، لمعَتْ بداخلى ألوان، كان يمكننى أن أبقى مع الموسيقا إلى الأبد.

تمنّيتُ أن أرى وجه المايسترو، هل يمكن أن يلتفتَ إلينا، بدا لى اللحن فى طريقه للنهاية أكثر من مرة، لكنه لم ينتهِ، حتى مرة تصاعد فيها بطريقة شعرْتُ معها أن أنهار العالم، بحاره، طيوره، حيواناته، أشجاره، نوره، ظلامه، نجومه، شموسه، وأقماره، كلها تجمّعَتْ فى نقطة وصارت روحًا واحدة شفّافة، عندها انتهى اللحن، أعتقد أنى مِتُ للحظة، ومات الجمهور معى، ربما تلاشيتُ، أو أن الحياة تكثّفَتْ قطرة ماء فى راحة يدى، لا أعرف، حسنًا، أحاول من جديد: ما حدث أنى رأيت الموسيقا، ورأَتنى.

أُضيئتْ القاعة من مصدر مجهول، استعدْتُ جزءًا من وعيى، بقيتُ مُعلّقة مع روح الموسيقا التى تُحلّق حولى، نهضْتُ مع الجمهور لتحيّة الفرقة الموسيقية، أشار المايسترو للموسيقيين، نهضوا، بادلوا الجمهور التحيّة، لا بد أنه سيلتفْتُ إلينا على الأقل، تعَلّقَتْ عيناى به، استدار إلينا، رأيت أوَسَعَ عينين يمكن أن أصادفهما فى العالم، زرقاوان، مُذهلتين، مُنذهلتين، عرفتهما، إنه البحّار الذى ظهرَ مع جدّتى فى الصور على السفينة، لكن بشعر أبيض بدلاً من الأحمر، وجدْتُ نفسى أهمس "أُحب هذه النظرة".

خرجْتُ من قاعة الموسيقا بعد أن استعدْتُ ملابسى القديمة، الكمان، والحقيبة، لم أر أيًا ممن كانوا بالداخل، مشيتُ فى المَمرّ، وصلتُ بعد أمتار قليلة إلى صالة تبدو كاستراحة، تتوزّع فيها طاولات خشبية مستديرة، بألوان مختلفة، عند أحد الجدران ثلاجتان زجاجيتان تتراصّ فيها أنواع عديدة من الشيكولاتة، وإلى جوارهما ماكينات لمشروبات ساخنة وباردة، تلفّتُ حولى، لا بد من وجود بائع.

 قلت "مرحبا، هل من أحد؟"، لا رَد، مشيتُ إلى إحدى الثلاجات، جرّبْتُ مع بابِها، انفتحَ بسهولة، لفَحَتْنى دفقة هواء باردة برائحة الشيكولاتة، أُحب هذا، مدَدْتُ يدى، علّقتُها فى الهواء، نظرْتُ يمينًا ويسارًا.

 قلت بصوت مرتفع "لو أن أحدًا يسمعنى سآخذ قطعة شيكولاتة"

 جلسْتُ إلى طاولة حمراء، فتحْتُ غلاف الشيكولاتة على مهل، دفعْتُ القطعة البُنيّة قليلاً من أسفل، قضمْتُ زاويتها الصغيرة بأطراف أسنانى كأننى أُرَحبُ بها، تطلعّتُ إلى المكان حولى، شعرْتُ بدرجة برودة لذيذة بها مسّ من الشيكولاتة، فكّرْتُ أن جدّتى كان ليسعدها أن تكون هنا.

انتهيتُ من الشيكولاتة، طويْتُ غلافها، أدخَلْتَه أحد جيوب الحقيبة، غادرْت، مشيتُ فى ممرّ تتوزّع على جدرانه شاشات طيفيّة صغيرة تعرض لقطات من أفلام شاهدْتُ بعضها من قبل، وصلْتُ إلى باب فيه نقش لشجرة العيون التى رأيتها مع جدّتى، دفعْتُه برفق، دخَلْت، رأيت شاشة عرض سينمائى بيضاء، أضواء خافتة، جمهور يملأ القاعة، انتظرْتُ أن يظهر أحد ما ويُجلسنى، لا أحد، بحثْتُ بعينىّ عن مقعد خال، كنت أعرف أنّ واحدًا ينتظرنى، رأيته على بُعْد خطوات فى نهاية أحد الصفوف الوسطى.

 جلسْتُ وحقيبتى بين قدمىّ، لم يبدأ الفيلم بَعد، تلفّتُ حولى، الجميع ينظرون إلى الشاشة كأنهم يتابعون أحد أفلامهم المُفضّلة.

 قلت للجالس بجوارى "مرحبًا، متى يبدأ العرض؟"

 كأنه لم يسمعنى، نقَلْتُ عينىّ بين آخرين، كلهم يُحدّقون فى الشاشة البيضاء، ابتَسمْتُ، وقلّدْتُهم، حدّقْتُ بالشاشة، مرّ بعقلى فيلم أُحبه، تَمنّيتُ لو يعرضونه، رأيته يبدأ على الشاشة، هل هذا ممكن؟ شكرًا، لاحظْتُ بعد دقائق أن ردود أفعال الآخرين لا تتناسب بأىّ حال مع الفيلم، حتى إنها تتناقض بين واحد وآخر، أحدهم يضحك كأنه يشاهد فيلمًا كوميديًا، الآخر مُتحمّس كأنه فيلم حركة، أيًا كانت تعبيرات وجوههم أو انفعالاتهم فهى لا تناسب الفيلم الرومانسى الذى أشاهده.

 غادر الشخص الذى يجلس بجوارى بعد عشر دقائق من بداية الفيلم، ثم اثنان آخران بعد خمس دقائق، وعندما انتهى الفيلم، عادت الشاشة بيضاء، رأيت أحدهم ينظر إليها كأنما يتابع فيلم لا أراه، نظرْتُ إلى آخر، يتطلّعُ إلى الشاشة باهتمام، الجميع يحدّقون بها.

 مرّتْ فى رأسى فكرة، أردتُ أن أختبرها، نظرْتُ إلى الشاشة، وفَكّرْتُ فى فيلم من قائمتى المُفضّلة، رأيته يبدأ فى الحال على الشاشة، نظرْتُ حولى، لم يصدر عن أحدهم ردّ فعل، فَكّرْتُ فى فيلم آخر، رأيته على الفور.

 صار الأمر واضحًا لى، كل شخص فى القاعة يشاهد فيلم غير ما يشاهده الآخرون على الشاشة نفسها، دون أن تختلط أصوات الأفلام، كأن كلاً منهم يجلس فى سينما تخصّه.

شاهدتُ مقاطع من أفلام قائمتى المفضّلة، وغادَرْت.

نزلْتُ إلى الطابق الأرضى من المكتبة.

خرَجْت.

الليل، وأرض الرمل الفضّى، نظرْتُ خلفى، رأيت كتابًا أطول من قامتى قليلاً، له لون خشب قديم، تلفّتُ حولى، وقلت "الليل".

مشيْت.

وصلْتُ إلى أرض يغطيها عشب أحمر طويل، تحوّلَ بعد خطوتين إلى سطح بحيرة جليديّة، توقفْتُ ونظرْتُ حولى، كانت بمدى البصر، شعرْتُ ببرد شديد، مشيت، تحوَلَتْ البحيرة بعد خطوتين إلى صحراء حارة، مشيت فيها خطوتين، وفى الثالثة وجدت نفسى إلى جوار نهر، توقفْتُ، اعتقدْتُ أنى أسافر فى الأماكن، ظلّ النهر موجودًا حتى عاودْتُ المشى، بعد خطوتين وجدْتُ نفسى فى ممرّ على جبل، شعرْتُ أن الأماكن هى مَنْ تأتينى، شرط أن أواصل المشى، لا أحتاج غير خطوتين حتى يظهر لى مكان جديد، وإذا توقفْتُ فى أحدها يظلّ موجودًا حتى أمشى ثانية.

كان الليل هو المُشترَك بين كل الأماكن، وجدْتُه فيها جميًعا.

  ظهرَتْ لى أرض الرمل الفضّى من جديد، لم أتوقع أن أصادف المكتبة مرة أخرى.

قابَلْتُ الجِن.

لم أعرفهم فى البداية، حتى طارت طفلة منهم بالقرب منى.

 كانوا مثل بشر عاديين، يتدفأون حول بُقَعٍ من نار ملوّنة، يتحرك بعضهم فى الجوار، أو يلعبون، ألقيتُ التحية على مجموعة منهم، خلَعْتُ حقيبتى وجلسْتُ بينهم، قلتُ لهم اسمى، أومأوا برؤوسهم، لمَحْتُ فى عيونهم لمعة أحببتُها، قرّبْتُ يدىّ من النار، رأيت طفلة تطير قُرْب رأسى، ارتبَكْتُ لحظة، ابتسَمْتُ لها، نظرْتُ إلى مَنْ حولى بتدقيق أكثر، رأيت بَرْقًا بألوان مختلفة يمرّ فى عيونهم، هذا ما اعتبرْتُه لمعانًا فى البداية.

قال جنّى شاب "لم تلاحظى أننا جِن؟"، مرّ برْق أخضر فى عينيه، لاحظْتُ أظافره الورديّة الجميلة، نقلْتُ عينىّ بينهم، ابتسموا وهم يَحْنون رءوسهم قليلاً.

"يبدو هذا صحيحًا، أرجو ألا يزعجكم وجودى"

قالت جنيّة عجوز "لدىّ بعض الطعام لكِ"، أخرَجَتْ من بين ملابسها كسرات خبز.

مَدّ جنّى عجوز يده لى بزمزميّة ماء، رَجّها مرتين.

 "وبعض الماء"

"شكرًا لكما، لست جائعة ولا عطشانة"

نظرْتُ إلى المجموعات الأخرى، بعضهم حول النار، البعض الآخر بعيد عنها، أفراد نائمون، أو يعزفون بتوَحّد على آلات موسيقية، أطفال يضحكون، أو يطيرون على ارتفاع منخفض.

 نظرْتُ إلى الجنّى الشاب.

سألتُه "تبحثون عن النهار؟"

"ولم نصل إليه، الكثير منّا لم يعد مُهتمًا، أنا لم أهتم من البداية، الأمر بالنسبة لى فرصة للاكتشاف، ومعرفة بعض أسرار العالم"

"ألا تعرف الكثير منها بالفعل؟"

قال جِنّى الزمزميّة "ربما تعرفين أنتِ يا صغيرة أكثر من أكبر جنّى فينا، الأهم أنّ ما يعرفه أىّ إنسىّ أو جنّى أو غيرهما لن يكون كثيرًا أبدًا"

  حَدﱠثونى عن بعض الأشياء العجيبة التى قابَلَتْهم، حدَّثتُهم عن جدّتى، تابَعْتُ طفلاً وطفلة يطيران قريبًا منى، تمنّيتُ لو أطير لبعض الوقت، قاطعَنى جنّى الزمزميّة.

"تُجيدين ركوب الدراجات، يا صغيرة؟"

نظرْتُ إليه.

قال "الدراجات الهوائية، تجيدين ركوبها؟"

رأيت فى عينيه تحَفّزًا ما.

قلت "نعم"

 اتسَعَتْ عيناه، مرّ فيهما بَرْقان فضيّان، سمِعْتُ همهمات الجميع، اعتقدْتُ أنى اقترفْتُ خطأ، نقلْتُ عينىّ بينهم، يتطلّعون إلىّ بإعجاب، عُدْتُ إلى جنّى الزمزميّة، ينتظرنى بلهفة.

قلت "كانت لدىّ دراجة وأنا صغيرة"

"احكى لنا"

"ماذا؟"

قالوا "احكى لنا، احكى، الدراجة"

نظرْتُ إلى الشاب بشىء من الدهشة.

قال "الجن لا يستطيعون ركوب الدراجة، ويشعرون أن ركوبها سيكون ممتعًا جدًا لهم"

"كيف تكونون متأكدين رغم أنكم، حسب ما تقول، لم تجرّبوه؟"

"مثل أنكم البشر تشعرون أن الطيران سيكون ممتعًا لكم، رغم أنكم لم تجرّبوه، حتى الآن على الأقل"

أومأتُ موافِقة.

قلت "لكن، أنت جاد؟ الجن لا يستطيعون ركوب دراجة؟"

"يقال أن أحد أجدادنا القدماء فَعَلَها مرة، لكن الأمر أقرب إلى أسطورة"

ضحكْتُ ضحكة قصيرة.

قال "عندما يقود إنسىّ دراجة فى الشارع، يجرى خلفه الجن بعد أن يجعلوا أنفسهم غير مرئيين أو مسموعين، يُهلّلون، يغنّون، ويتبادلون الجلوس على المقعد الخلفى دون أن يشعر قائد الدراجة، المحظوظ"

"فعَلْتَها أنت؟"

أومَأ مرتين.

قال "بالمناسبة، بعض الجن لا يستطيعون الطيران، أو أن يجعلوا أنفسهم غير مرئيين أو مسموعين، والكثير منهم لا يستطيع أن يجارى البشر فى المشى أو الجرى"، صمَتَ لحظة، مرّ فى عينيه بَرْق أزرق.

 "والآن، احكى لنا"

قالوا "نعم، هيا احكى، شعوركِ وأنت تقودين دراجة، احكِ"

 هتفوا معًا بشكل إيقاعى.

"الدراجة، الدارجة، الدراجة"

تجمّعَ حولى كل مَنْ فى المكان، تطلّعوا إلىّ بعيون يعبْرُ فيها برق متعدّد الألوان.

قلت "حسنًا، أحكى عن الدراجة"

لم يكن هناك الكثير من القصص، ضحكوا على أشياء بسيطة، برَقَتْ عيونهم أكثر عندما حكَيتُ عن السباقات الصغيرة مع أصدقائى.

كادوا يُجَنّون عندما قلّدْتُ صوت جرس الدراجة "تررررررن، تررررررن"، كرّرْتُه مرات كثيرة كى أُسعدهم، حاولوا أن يُردّدوه خلفى ولم يستطع أىّ منهم.

قال عجوز الزمزميّة "أعرف أنه مستحيل، حاولْتُ طوال عمرى"

صمتوا وتطلّعوا فِىّ.

قلت "أنتم تسخرون منى"، نقلْتُ عينىّ بينهم، ينظرون إلىّ كأنى معجزة.

أخرجَ جنّى الزمزميّة من بين ملابسه جرس دراجة فضّى.

"أخذْتُه من مخزن إنسىّ فقير، وتركْتُ بدلاً منه صندوقًا مليئًا بالذهب"، مدّ يده به إلىّ.

"لا يرِنّ، يُمكنكِ إصلاحه؟"

وضَعَه فى يدى، تحسّستُ تروسه بإصبعى الصغير، رنّ الجرس نصف رنّة، صرخوا وقفزوا من أماكنهم، لم يتكرر الرنين، خمّنْتُ أن تِرسًا ينقص الجرس.

"آسفة، لا أستطيع"، مدَدْتُ يدى به إلى العجوز، أعاده تحت ملابسه، اختفى بَرْق عينيه، نظرَ إلى الأرض، أردْتُ أن أتجاوز اللحظة.

"ما الأشياء التى تُمتعكم، عدا الدراجة، ويمكنكم أن تمارسوها؟"

ظلّ العجوز ينظر إلى الأرض.

قال الشاب "يختلف من جِنّى إلى آخر"

رفَعَ العجوز عينيه إلىّ.

"لكن هناك شىء يخيف جميع الجِن"

 نظرْتُ إليه، تأمّلَنى قليلاً، قرّبَ فمه من أذنى.

"المراجيح"، هَمَسَ كأنه يخشى أن تسمعه.

 ضحكْتُ، قطَعْتُ ضحكتى لأن أحدًا لم يشاركنى، همهموا بكلمات لم أفهمها، شعرْتُ فيها بخوفهم من المراجيح وغضبهم من ضحكى.

اعتذَرْتُ منهم.

قال العجوز بصوت مرتعش "نخاف المراجيح بكل أنواعها، حتى لو كانت متوقفة"

ساد الصمت، لا أحد يريد أن يتحدث عن الأمر.

"لماذا لا نُطيّرها، حكَتْ لنا عن الدراجة، وقلّدَتْ صوت الجرس، لنكافئها"، قال لهم الشاب.

 تغيّرَ مزاجهم، هلّلوا، تلفّتَ العجوز حوله.

قال "أين الطيّارون؟"

ظهرَ من بينهم طفل وطفلة، أمسَكَ كلٌ منهما بإحدى يدىّ، طارا بى عاليًا، تلاشى جسدى وتجمّع عدّة مرات، تنقّلَتْ روحى بين حَيَوات كثيرة، صِرْتُ كل الطيور وعُدْتُ "بينورا" مرة أخرى. 

دخلنا طبقة من سحاب بنفسجى مضىء.

قال الطفل "يمكننا أن نُعلّمكِ الطيران هنا خلال دقائق، بشرط أن تُعلّمينا ركوب الدراجة"

"لكن ليس معى دراجة الآن"

"إذن، فى وقت آخر"

عادا بى إلى الأرض.

أهديتُ الطفلة مشبك شعر على شكل نحلة، وللطفل قلمًا يكتب بسبعة ألوان.

شربْتُ جرعة ماء من زمزميّة العجوز.

أكَلْتُ كسرة من خبز المرأة.

تمنّيتُ للشاب اكتشاف المزيد من أسرار العالم.

وضعْتُ الحقيبة على ظهرى، ومشيت.

 كنت ألتفتُ إليهم بين لحظة وأخرى، وأُقلّدُ صوت جرس الدراجة "تررررررررن، ترررررررن".

ابتعدْتُ.

وصَلْتُ إلى أرض ينبْتُ منها وَبَر أحمر قصير، دافئ، سأُحب أن أُجرّب النوم عليه فيما بعد.

فكّرْتُ فى السلالة التى أنتمى إليها: إناث بلا أب أو أم أو أبناء، تعيش الواحدة منّا حفيدة لفترة من حياتها، ثم تصير جدّة، تُحب الشيكولاتة، تمرّ بقصة حب غير عاديّة، تخرج مع حفيدتها فى رحلة غريبة وتموت قبل نهايتها، هذا يعنى أن لكل واحدة منّا رحلتين، الأولى، تكون فيها حفيدة وتدفن جدّتها، الثانية، تكون فيها جدّة وتدفنها حفيدتها؟ لا بد أنى أكتشف مع الوقت، تساءَلْتُ، متى أحصل على حفيدتى، ومتى تبدأ قصة حُبّى؟

توقفْتُ بعد أن كِدْتُ أصطدم بشخص مُمدّد على الأرض، كأنه نبَتَ منها لتوّه، توقفْتُ أتأمّله، كان مستلقيًا على جنبه، بدَا وحيدًا تمامًا، شعرْتُ بألم فى قلبى، تلفّتُ حولى، لم يكن هناك غيره، مدَدْتُ يدى إليه، لمَسْتُ كتفه، همسْتُ بكلام لا أذكره، بكيْت، عدّلْتُ من وضعه بحيث أرى وجهه كاملاً، جميل، حزين، وميّت، لا أدرى كيف عرفْتُ أنه ميّت، حتى إنى لم أختبر تنفّسه أو نبضه، أردْتُ أن أفعل شيئًا لأجله، لن أستطيع دفنه، بلّلتُ شفتيه بالماء، نظفّتُ وجهه، يديه، وقدميه، فكّرْتُ أنه اختار لنفسه وضعًا مريحًا قبل موته، أعَدْتُه مثلما كان، جلسْتُ إلى جواره حتى تلاشت حالة الوحدة من حوله، استأذنتُه، وانصرَفْت.

فكّرْتُ أن هذا أول ميّت أصادفه، لكنه بالتأكيد لم يكن أول شخص يموت منذ بداية بحثنا عن النهار، هل كانت جدّتى تتفادى لأجلى المرور قرب الأموات، أو تشغلنى بأىّ شىء حتى لا ألاحظهم؟ لا بد أنها فَعَلَتْ.

الآن، علىّ أن أتعامل مع الأمر بنفسى.

 تعرفين جدّتى؟ أعتقد أنك تعرفين، الموت ليس بهذا السوء، فقط جميل وحزين.    

مشيتُ لوقت طويل على ما أعتقد، سمِعْتُ همهمات، رأيت على بُعد خطوات قليلة أشخاصًا بعضهم مُمَدّد على الأرض، وبعضهم جلوس، مشيتُ بينهم، أعدادهم قليلة، يتبادلون كلمات، كسرات خبز، ورشفات ماء، لم يلتفتْ إلىّ أحدهم، رأيت الرجل الذى يشقّ روحه يتنقّل بينهم، توقفَ عند امرأة عجوز، شقّ روحه نصفين، غطّاها بأحدهما، تلفّتَ حوله، مشى إلى طفل وكلب نائمين وكلٌ منهما يحضن صاحبه، غطّاهما بنصف روحه الآخر، وابتعد بخفّة حتى تلاشى فى عتمة ناعمة.

جلسْتُ بالقرب من الصبىّ والكلب، عزفْتُ على الكمان لحنًا هادئًا، نِمْتُ إلى جوارهما على الوَبَر الأحمر، عندما استيقظتُ لم أجد أحدًا، رأيت إلى جوارى كومة صغيرة من كسرات خبز، مجموعها رغيف، كل كسرة تختلف عن الأخرى، كأنهم جمعوها لى من بعضهم بعضًا، لم أكن جائعة، لكنى أكلْتُ كسرة واحدة حتى لا أكون رفضْتُ هديّتهم، تركتُ البقية لجائع يمرّ.

أمسكْتُ الكمان، مرّرتُ أصابعى على أوتارها، شَعْر جدّتى، فكّرْتُ، لماذا لا أقرأ شيئًا من أوراقها، لدىّ إحساس أنى سأجد فيها على الأقل تفسيرًا لبعض ما يحدث، لكن، هل أريد تفسيرًا بالفعل، يمكننى على الأقل أن أقرأ العنوان، لكن، ربما يغوينى هذا بالتمادى، وأنا لا أريد أن أخلف وعدى معها.

فضّلْتُ أن أقرأ الأوراق كاملة فى الوقت المناسب، وأحفظ وعدى لجدّتى، "سيمويا أكسيلينور".

وضعْتُ الحقيبة على ظهرى، مشيتُ وأنا أعزف على الكمان، وجدْتُ نفسى أدندن بأغنيات لا أذكر أين سمعْتُها من قبل، لكنها مألوفة لى، واصَلْتُ الغناء، تذكّرْتُ أنها الأغنيات التى سمعْتُها مع جدّتى فى "أرض البسكويت"، و"أرض الملابس الجديدة".

أعدْتُ الكمان إلى الحقيبة، نظرْتُ حولى، العالم خال، تَمنّيتُ أن يظهر أحد ما، أىّ أحد، لأمشى معه، فكّرْتُ أنى قبل الحادثة، كنت أتمنّى أحيانًا أن يختفى البشر من العالم لبعض الوقت، كى أُنجزَ عمَلاً ما، أو لمجرد أن أكون بمفردى، أحيانًا أخرى كنت أتمنّى لو يصير العالم سُوقًا شعبيًا مفتوحًا يضم كل البشر.

 الآن، أعرف أن لو إنسانًا امتلكَ العالم كله، لن يمكنه أن يستمتع بشىء منه، وكل ما يفعله وقتها أن يحمل معه شَرْبَة ماء وكسرات خبز، ويمشى بحثًا عن إنسان يشاركه العالم، سيكون مستعدًا وقتها أن يتنازل عن العالم كله مقابل حصوله على إنسانِه هذا.

 نظرْتُ إلى القمر، يمشى معى، بدَا مهتمًا بى، تذكّرْتُ تلك اللعبة القديمة، توقفْتُ، توقّفَ معى، جريتُ، جرى، ابتسمْتُ ومشينا معًا.

 المشى مع القمر، اللعبة الكونية، أعتقد أن كل إنسان لعبها مرة واحدة على الأقل، لعبة بلا ضغينة، أو منافسة، فقط المتعة الصافية.

أتساءل، كيف يمكن للقمر أن يمشى مع الجميع  فى وقت واحد، رغم أن كلاً منهم ربما يمشى فى اتجاه مختلف، هو ذكى، ومتسامٍ، لا يُفرّق بين أحد، يضىء لقاطع طريق مثلما يضىء لعابر سبيل.

أُحِبّ أنه ظَلّ محتفظًا برومانسيته وجماله رغم ما يُقال عنه أنه رمال وحجارة، وأشياء أخرى، لا أُحب أن أفكر فيه بهذه الطريقة.

 القمر أكثر مَن رأى أحزان البشر، لحظات ضعفهم، وعرف أسرارهم، ينظر إليهم طوال الوقت كى يحرسهم، وفى الوقت نفسه لا ينظر إليهم أبدًا كى لا يزعجهم.

 يقضى حياته كلها فى العراء لأجلهم. 

لا سهر، لا نوم، ولا رومانسية بدونه.

هل كان العالم ليلعب، يسهر، أو يحلم لو لم يكن هناك قمر؟

القمر، أفضل لاعب فى العالم.

توقفْتُ.

 سمِعْتُ تنهيدة لى، رغم أنى لم أتنهّد بالفعل.

نقلْتُ عينىّ بين زوايا الليل.

ناديتُ اسمى بصوت مرتفع "بينوراااا"

 جاءنى صدى صوتى من كل اتجاه.

 ناديتُ بصوت أعلى "بينورااااا"

 لم أسمع صدى هذه المرة، رأيت شخصًا قادمًا باتجاهى من نقطة قريبة، لم تكن ملامحه واضحة فى البداية، سرعان ما اكتشفْتُ أنها نسخة منى، ترتدى ملابسى نفسها، تحمل حقيبتى وكمانى، لم أشعر بخوف، ابتسمَتْ لى نسختى، وقفَتَ إلى جوارى، لم تُحوّل عينيها عنّى، أعجبتنى اللعبة.

ناديت باسمى، "بينورااااا"

 جاءتنى نسخة أخرى.

 كرّرْتُ النداء مرات كثيرة.

 انتبهْتُ وعدد كبير منّى يحيط بى وينظر إلىّ، شعرْتُ بخوف، بدأتْ كل النسخ تنادى اسمها فى وقت واحد.

 "بينوراااا، بينوراااا، بينوراااا"

 ظهرَتْ نسخ جديدة، تلفّتُ حولى، رأيت آلافًا منّى تبتسم لى.

 أنا نسخة أم أصل؟

جرَيْت.

 سمِعْتُ صوتى خلفى ينادينى آلاف المرات فى وقت واحد، أسرَعْت، ظَللتُ أجرى حتى لم أعد أسمع الأصوات، نظرْتُ حولى، وجدْتُ أنى وحدى، عرفْتُ أنى "بينورا" الأصلية، صاحبة النداء الأول.

توقفْتُ لألتقط أنفاسى، نظرْتُ خلفى، فقط الليل، شمَمْتُ رائحة البحر، تلفّتُ حولى، لم أره، الأرض رملاً برتقاليًا، خلَعْتُ الحقيبة، استلقيتُ على ظهرى، فتحَتْ ذراعىّ جانبًا، مرّرْتُ عينىّ على النجوم، ضحِكْت، فكّرْتُ للحظة أنّ نُسَخًا منّى قد تظهر لى الآن وتضحك، استبعَدْتُ ذلك، ما حدث كان يتطَلّبُ التقاء مكان ولحظة فى ظروف معينة، ولن يتكرّر بهذه السرعة على الأرجح، حتى لو عُدْتُ إلى هناك وناديتُ اسمى.

ماذا لو كنت ناديتُ جدّتى؟

غفوتُ لحظات.

 انتبهْتُ وصوت البحر يأتينى من كل اتجاه، جلسْتُ، تلفّتُ حولى، لم أره، مشيتُ أبحث عنه، ظهرَتْ لى بعد قليل أرض زرقاء ممتدة، توقفْتُ عند حدودها، ذكّرَتْنى بكل درجات الأزرق التى رأيتها فى حياتى، غير أن أزرقها لم يكن أيًا منها، كأنه اُخترع لأجلها، صار صوت البحر يأتينى منها وحدها، رائحته تملأ الهواء، دخلْتُ خطوة واحدة، تصاعدَ الصوت كأن البحر سيظهر فى أيّة لحظة، التقطْتُ حفنة من الرمل، تحسّستها بين أصابعى، شعرْتُ بما يمكن أن يكون عليه شىء بين السحاب والرمل، ورأيت فيها موجات بحريّة تلاحق بعضها بعضًا، كأنّ فى يدى قطعة من البحر.

مشيتُ، أشعر بين لحظة وأخرى برذاذ البحر على وجهى، أنتظر ظهوره، لا يفعل، رأيتُ صخورًا بألوان وأحجام مختلفة، نحتَتَها الريح على هيئة بشر من كل الأعمار، أطفال، نساء، رجال، تظهر فى وجوههم الصخريةّ تعبيرات ومشاعر حيّة، منحوتات أخرى لحيوانات ضخمة، مخيفة وطيبّة فى الوقت نفسه، وحشيّة وحنون معًا، طيور عملاقة تبدو كأنها حَطّتْ يومًا على الأرض أو الأشجار ولم تستطع الطيران ثانية، وبعضها يقف فى الهواء بجناحين مفتوحين، بدَا الأمر كأن حياة كانت هنا وتحجّرَتْ، لكنها ما تزال مُتأهبة، يمكن أن تنطلق فى أيّة لحظة.

رأيت أشخاصًا يظهرون من أماكن مختلفة، يتحركون بخفّة كما لو أنهم أطياف، يرتدون ملابس زرقاء كأنها موج، بعضهم يحمل على ظهره شباك صيد، خمّنْتُ أنهم بحّارة أو صيادون فى طريقهم إلى البحر، تجمّعوا ومشوا فى اتجاه واحد، تعقّبتهم وحرصْتُ على مسافة بينى وبينهم، بدا لى أنهم يشعرون بى ويتجاهلوننى، ارتفع صوت البحر، شمَمْتُ رائحته قوية، رذاذه يلمس وجهى، سمعْتُ أصوات طيوره، خفْقَ أجنحتها، فكّرْتُ أنى ربما أجده فى الانعطافة التالية، تصاعد صوته بسرعة كأنما يجرى باتجاهى، توقفْتُ، فتحْتُ عينىّ على اتساعهما، امتلأ بصرى بموجة كبيرة من الأزرق، غادرَتْنى روحى إليها وعادت مُبللّة، تلاشَتْ الموجة، لم أجد الصيادين، نظرْتُ فى الرمل، لا أثر لأقدامهم، اختفى صوت البحر، رذاذه، ورائحته.

مشيْتُ إلى آخر نقطة رأيت عندها الصيادين، لم أجد غير المزيد من المنحوتات الصخرية.

 ناديتُ "مرحبا، أنا هنا"

سمِعْتُ صدى صوتى يتردّد بين المنحوتات بنبرة مختلفة، كأنها تقول لى "مرحبا، أنا هنانانانااااااااا"

 أعجبتى اللعبة.

 ناديت "أنا هنااا"

 ردّتْ المنحوتات "أنا هناناناناناااااااا"

 تجوّلْتُ فى المكان، أنادى من وقت لآخر "أنا هنا"، فتؤكّد لى المنحوتات أنها أيضًا هنا.

 جلسْتُ إلى جوار منحوتة لشجرة يقف فوقها طائر كبير يستعد للطيران، وبمواجهتى على بُعد خطوات منحوتة لطفل فى وضْع الجرى، أسندْتُ ظهرى إلى جذع الشجرة، نظرْتُ إلى القمر.

سمعْتُ أصواتًا، وكأنّ كائنات حية تبدأ تنفّسها، حركة خفيفة لأجنحة طيور، رعشة أوراق أشجار، همهمات حيوانات تستيقظ، ورأيت عيونًا تلمع.

دبّت الحياة فى المنحوتات كلها.

فرِحْتُ بهم.

بشر، طيور، حيوانات، وأشجار، احتفال كبير، غنّيْتُ معهم، رقَصْت، عزفْتُ على الكمان، أكلْتُ فاكهة، شربْتُ من شلال، أخذونى إلى البحر، رأيت الصياديّن وسط الموج بقواربهم وملابسهم الزرقاء.

 رأيتنى أجرى على الشاطئ مع الجميع، تتّسع خطواتنا، يعلو لهاثنا، الموج يضربنا بين لحظة وأخرى، نُهلّل، تنهض معنا الرمال، تتحوّل إلى غزالات، أفيال، نمور، خيول، ألعاب نارية، وتنانين، تصعد من قلب البحر سفن، قوارب، يظهر جِنّ، عفاريت، يجرون على الموج بمحازاتنا، نُطلق الصيحات، الأغنيات الملأى بالمشاعر، تظهر الدلافين فى مُقدمة الكائنات التى تجرى على الموج، وفى المؤخرة أخطبوطات عملاقة تمدّ أذرعها وتقبض على الدلافين ترميها للخلف، لكن الدلافين المسكونة باللعب تظهر ثانية فى المقدمة، ترفرف فوق البحر موجات النوارس، يهطل المطر، ألمح القمر يجرى معنا، تتناثر موسيقى وألوان، أشمّ أشجار ومخلوقات الغابة وهى قادمة نحوى، أشعرُ سخونة الصحارى، برودة الجليد، أسمعُ صخب الشوراع، أفتحُ قلبى، يتغيّر إيقاع الخطوات على الشاطئ، وشكل السباحة فى البحر بسبب طبول وفرق موسيقية تنضم إلينا، وتساعد الرمل على النهوض بكائنات جديدة، ينقلبُ البحر ويعوم على ظهره، يضحك للسماء، يُخرج الكثير من بناته الجميلات، يظهر رحّالة، متشردون، شوارع، طيور، أشجار، وحيوانات، يعلو اللهاث، الصيحات، نتشارك أغنيات ورقصات يتم ابتكارها فى الحال، أتمنّى أن أواصل الجرى إلى الأبد، أتطلّعُ إلى الأفق المُحلّىَ بالنجوم، يضربنى البحر، ما أروعه، ثم تهدأ الموسيقا، الأغنيات الصيحات، تتلاشى الكائنات واحدًا بعد آخر، أرى نفسى طفلة تجرى فى شوارع مدينتها، تصل إلى الميدان حيث بنايتها، تمشى على مهل، تدخل البناية، وتنظر إلىّ من نافذة حجرتى.

 استيقظْتُ تحت الشجرة والطائر الكبير، شعرْتُ فى فمى بطعم الطعام الذى حلمْتُ به، وبدلاً من منحوتة الطفل الذى كان يقف بمواجهتى فى وضع الجرى، رأيت منحوتة لطفلة تنظر إلىّ وفوق كتفها طائر، نظرْتُ فى الرمل، لا أثر لقَدَم.

بحثْتُ عن الصيادين، رأيتهم يتنقّلون بين المنحوتات ومعهم شباك الصيد، تعقّبتهم، ارتفع صوت البحر، تكرّر معى ما حدث فى المرة الأولى، رأيت موجة زرقاء عالية، خطفَتْ روحى لحظة وأعادتها إلىّ مُبلّلة، اختفى الصيادون، تجوّلْتُ فى المكان، كنتُ مستعدة لمزيد من الألعاب.

نِمْتُ بجوار منحوتة لحصان يرفع ساقيه الأماميتين عاليًا، حلمْتُ بالكائنات مرة ثانية، وعندما استيقظْتُ وجدْتُ نفسى بجوار طائر كبير بجناحين مفتوحين بدلاً.

عزمْتُ هذه المرة ألا أُفلِتَ الصيادين، وجدتُهم بسهولة، أو أنهم أظهروا أنفسهم لى، تصاعدَ صوت البحر، توقّعْتُ أن تظهر الموجة العالية، توقفْتُ أنتظرها، لن تخطف روحى هذه المرة، التفَتَ إلىّ أحد الصيادين، ابتسمَ، واختفى مع زملائه خلف صخرة كبيرة، لم تظهر الموجة، جريتُ إلى النقطة التى اختفوا عندها، لم أجدهم، لكنى وجدْتُ البحر، تلفّتُ حولى.

ناديت "مرحبا، أعرف أنكم هنا"

 لا أحد.

 مشيتُ إلى البحر، رأيت على الشاطئ سريرًا من خشب أزرق، محفور فيه رسم على شكل موجات، وعليه وسادة وملاءة بدرجات مختلفة من الزُرْقة.

سرير صنَعه البحر لى.

دفعْتُه إلى الموج.

 كان خفيفًا، قفزْتُ إليه، وسَحَبَنى البحر.

 

(14)

بعد شروق الشمس بدقائق ذهب "دوفو" و"سيمويا" مع "كاكدى" إلى "شجرة العيون" كى يُشاهداها فى النهار وهى نائمة.

دَخَلَتْ "سيمويا" بين الأغصان، وصلَتْ إلى نسخة عينيها، كانتا مُغلقَتين، تأمّلتُهما.

"هكذا عيناى وأنا نائمة"، قالت لنفسها.

لمسَتْهُما، رَفّتْ رموشهما، ابتسمَتْ، نظرَتْ إلى نسخة عينى حفيدتها "بينورا"، تأمّلتهما قليلاً.

 "نظرة أخيرة، لجدّتك؟"، وأمالت رأسها على كتفها.

 ظلّتْ العينان مغلقتين.

 "حسنًا، إلى اللقاء، ما زلت أحبك"

 ابتعدَتْ عدّة خطوات، التفتَتْ خلفها، رأت عينا "بينورا" تنظران إليها، غَمَزَتْ إحداهما لها، ردّتْ بغمزة.

"شكرًا بينورا"

قابلَتْ "دوفو" و"كاكدى" فى مكان تحت الشجرة، وآلاف العيون النائمة تحيط بهم.

"الآن ماذا؟"، قالت "كاكدى".

قالت سيمويا "مقابر الورد، نحتاج أن نراها نهارًا"

قال دوفو "ليس لديكِ فضول لترى شيئًا جديدًا؟ الغابة المتحجرة مثلاً؟"

ارتبكَتْ، حرّكَتْ يديها فى الهواء.

"المقابر، سأُريكَ شيئًا مميزًا هناك"

مشوا إلى "مقابر الورد".

دخلوها.

 تجوّلوا بين الشواهد.

"أين الشىء المميز، سيمويا؟"، سألَها "دوفو".

تلفّتَتْ حولها.

"كل شىء هنا مميز"

"تعرفين قصدى"

نظرَتْ إلى الأرض والسماء.

"اتبعانى"، وسبَقَتْهما بخطوتين.

وصَلَتْ بهما إلى قبرها.

نظرَ إليها "دوفو" متسائلاً، أشارت بعينيها إلى شاهد القبر، جلس أمامه على ساقيه، نظرَ فيه، التفَتَ إليها.

قال "الفراشات الثلاث"

أومأتْ دون أن تنظر إليه.

قالت كاكدى "هل يعنى هذا شيئًا محددًا؟"

قال دوفو "رأينا الفراشات فى أكثر من موقع"، نَظرَ إلى "سيمويا".

"هذا القبر به سرّ، أتمنّى لو أعرف صاحبه"

دارت "سيمويا" حول نفسها دورة واحدة، جلسَتْ على ساقيها وحفرَتْ بسبّابتها فى الأرض.

نظر "دوفو" إلى مساحة من الأرض بجوار القبر.

"لماذا هذه المساحة خالية؟"

انتقل إليها، مشى فيها ذهابًا وإيابًا كأنما يختبرها، راقبته "سيمويا" وهى تكتم أنفاسها.

قال دوفو "كأن قبرًا كان هنا أو سيكون"

"إذن لمَ لا تخرج منه؟"، قالت "سيمويا".

ابتسمَ لها "دوفو".

"لن أموت لأنى أمشى فى مكان يُفترض أن يكون قبرًا"

أطاحت بالهواء أمام وجهها.  

"لا تتكلم عن الموت، يكفى أننا بين المقابر"

"أنتِ من طلب أن نأتى هنا"

"وأطلب أن نغادر الآن"

اقتربَ منها، نظرَ فى عينيها بترفّق.

"أنتِ بخير؟"

أدارت وجهها بعيدًا.

"نعم، فقط نغادر هذا المكان"

"أرى دموعًا فى عينيكِ"

"ربما، لا أعرف، تغيّرَ مزاجى"

"حسنًا، نغادر حالاً"، قال "دوفو" وربّتَ خدّها.

مشى، ومعه "كاكدى".

ظلّتْ "سيمويا" فى مكانها، أمطرَتْ خفيفًا عليها وعلى القبر فقط، تنفّسَتْ بعمق، رفعَتْ وجهها إلى السماء، فتحَتْ ذراعيها، انقطعَ المطر بعد دقيقة، نظرَتْ إلى قبرها.

 همَسَتْ "نامى بسلام سيمويا"

 مشَتْ إلى "دوفو" و"كاكدى"، كانا ينتظرانها على بُعد أمتار قليلة، توقفَتْ بمواجهتهما، وابتسمَتْ.

قال دوفو "المطر، جعَلَكِ تبتسمين"

"أنت تعرف"

نقلَتْ "كاكدى" عينيها بينهما.

قالت "ماذا تختاران؟ الأرض الزرقاء أم الغابة المتحجرة؟"

"متحف الأم"، قالت "سيمويا" ونظرَتْ إلى "دوفو".

ابتسمَ.

"تُديرين الأمر على طريقتِك"

"هذا سىء؟"

"أنتِ إحدى الطرق المفضّلة لى"

غادروا "مقابر الورد" إلى متحف مفتوح، بلا جدران أو سقف، يقف فى مدخله تمثال لإمرأة أربعينية، عارية، ملامحها قوية، وحنون، عينان واسعتان، جسد ممتلئ بنظام، وبلا ترهّل، مكان الثديين محفور بعناية، المرأة منحنية انحناءة بسيطة إلى الأمام وهى تمدّ يديها إلى طفل وطفلة، وفوق كل يد أحد ثدييها، واضح أنها أُمّ وطفليها.

درات "سيمويا" حول التماثيل الثلاثة، شمّتْ الأم كأنها تشمّ جسدًا بشريًا تحبه، لمسَتْها، مرّرَتْ يدها على ظهرها، شعرَتْ ببلل خفيف فى أطراف أصابعها، فكّرَتْ أنه عَرَقْ الأم، مسحَتْ به شعرها، تأمّلَتْ مكان الثديين، لمسَتْهما بأصابع مرتعشة، نظرَتْ إلى عينيها، قالت فى نفسها "أعرفُكِ"، استدارت إلى الطفلة والطفل، دقّقَتْ النظر فى ملامحهما الصغيرة، والفم المفتوح بشىء من اللهفة والدهشة معًا، ربّتَتْ رأسيهما.

  انتقلوا إلى تمثال آخر، الأم نفسها مُبتسمة تحضن ذئبًا يقف على قدميه الخلفيّتين ويضع الأماميتين على كتفيها، له زعنفة بطول ظهره، اثنتان على جانبى بطنه تبدوان فى الوقت نفسه كجناحين، وذيل سمكة عريض.

تمثال ثالث، الأم واقفة، وحولها مجموعة من قطط لها خياشيم خلف أذنها، وزعنفة خلفية طويلة مشقوقة فى نهايتها.

تمثال رابع، الأم جالسة على ساقيها عند ذيل سمكة كبيرة، وتُمسك برأس جنين صغير يخرج مما يبدو أنه رَحِم السمكة، كأنها تقوم بتوليدها.

رأوا قِدْرًا كبيرًا يستند إلى قطعتى حَجَر، تبرز منه ذراع ملعقة كبيرة،  وبجواره طبقين فارغين، بداخل كلٍ منهما ملعقة، دارت "سيمويا" حول القِدْر، نظرَتْ داخله، شمّتْ رائحة تمثال الأم.

كل تماثيل المتحف تحكى قصة الأم وطفليها حسب ما قرأته "سيمويا" فى أوراق "الليل"، بعضها لم يكن موجودًا فى الأوراق، لكنها أدركَتْ بسهولة أنه جزء من الحكاية.

"قصة عن أُم تطعم جسدها لطفليها"، قالت "كاكدى" وهى تنقل عينيها بين التماثيل.

قال دوفو "أعجبتنى الفكرة، لكن ماذا لو أن الأمر حقيقى، واُضطرّتْ أُمّ أن تُطعم جسدها لطفليها قطعة بعد أخرى"

أدارت "سيمويا" ظهرها لهما.

قالت كاكدى "هذا قاس"

"لكنه ينبع من حنان"، قال "دوفو" ونظرَ إلى "سيمويا".

"ما رأيكِ؟"

تجمّدَتْ وظهرها له.

"سيمويا؟"

استدارت إليه.

"ماذا؟"

"هل يُمكن أن تُطعمى جسدكِ لأطفالك كى تنقذيهم من الموت جوعًا؟"

"لسْتُ أُمًا بعد"، وظلّتْ تنظر فى عينيه، مرّ بعقلها أنها لن تكون أُمًا أبدًا، لم تهتم، هى لم تفكر فى هذا يومًا.

غادروا المتحف عند منتصف النهار.

قالت كاكدى "نتناول الغداء، ونزور نقطة أخرى"

قال دوفو "الأرض الزرقاء أو الغابة المتحجرة"

"لدىّ اقتراح آخر"، قالت "سيمويا"، نظرَتْ إلى "دوفو"، ظهرَ فى عينيها حزن غامض.

"ليس اقتراحًا، إنما رغبة، وأرجوك لا تخذلنى"

 فتحَ "دوفو" يديه.

"أريد أن نكتفى اليوم من العمل، ونخرج أنا وأنت إلى المدينة"، نظرَتْ إلى "كاكدى".

"عفوًا كاكدى"، نظرَتْ إلى "دوفو".

"تنناول غداءنا فى أىّ مطعم، ونتجوّل، نحن نزور هذه المدينة للمرة الأولى، وأنا أفتقد المشى فى الشوارع"

"كما تحبين، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

عاد كلٌ منهما إلى خيمته.

   تحَمّمَا، بدّلا ملابسهما، وخرَجَا إلى المدينة الساحليّة.

تناولا الغداء فى مطعم مأكولات بحريّة، وبدآ التجوّل.

شوارع قصيرة، متقاطعة، تنفتحُ على بعضها بعضًا، كل شارع به نوع من أشجار يختلف عن الآخر، المبانى قصيرة، أطولها لا يتعدّى خمسة طوابق، لها شرفات واسعة، بها نباتات وورود، كأن الشرفة بُنيَتْ أولاً ثم صُمّمَ لها بيت، الكثير من أهل المدينة جالسون فى شُرفاتهم، يتناولون شايًا، عصائر، وأنواع من الحلوى والكيك، يتوقف بعض المارة ويتبادلون حوارات قصيرة وضحكات مع أصحاب الشرفات القريبة، وربما يأخذ أحدهم قطعة حلوى أو كوب عصير ويُكمل طريقه.

رأت "سيمويا" امرأة خمسينيّة بشعر رمادى طويل، تخرج من أحد محلات الحلوى المثلجة، وبجوارها طفلة فى السابعة من عمرها تقريبًا، أقربُ إلى أن تكونا جدّة وحفيدتها، تُمسكُ كلٌ منهما بقطعة آيس كريم، مرّا بجوارها، نظرَتْ الطفلة إليها، ابتسمَتَا لبعضهما بعضًا، لمَحَتْ "سيمويا" لطخة آيس كريم على طرف أنفها، تعمّدَتْ ألا تُنّبهها إليها، كيف لأحد، وخاصة لو كان طفلاً أن يأكل آيس كريم دون أن يُلطّخَ وجهه، أين المتعة فى ذلك؟

دخلَتْ الطفلة والجدّة شارعًا جانبيًا.

أخرجَتْ "سيمويا" نفَسًا حُلوًا، تلفّتَتْ حولها، أشارت إلى مقهى قريب.

"لماذا لا نجلس هناك؟"

جلَسَتْ و"دوفو" متجاورين إلى طاولة فوق الرصيف، سمِعَا من داخل المقهى موسيقا كمان هادئة.

 طلبَ "دوفو" قهوة حلوة، طلبَتْ "سيمويا" آيس كريم، ونظرَتْ بجانب عينيها حيث رأت الطفلة وجدّتها.

رشفَ "دوفو" من قهوته.

قال "هل يمكن أن تتنازلى لمرّة وتعتبرى أن شيئًا ما حدَثَ بطريق المصادفة؟"

"أنا لا أؤمن بالمصادفات، كل شىء يحدث بسبب ولسبب"

"أوافقكِ، عليكِ إذن أن تُفسّرى لى كيف أمطرَتْ عليكِ وحدكِ مرتين فى مقابر الورد؟"

"أنت توقِعُ بى، حسنًا"، نظرَتْ إلى الآيس كريم، التقطَتْ منه ندفة على طرف إصبعها الصغير، ومَصّتْها.

"ليس لدىّ تفسير، وما زلتُ لا أؤمن بالمصادفات"

"إذن؟"

"أُكملُ لك بقية ما أعرف أنك توافقنى عليه، كَوْننا لا نعرف كيف أو لماذا حدث شىء ما، لا يحوّله هذا إلى مصادفة، لذا، لستُ مطالبة بتقديم تفسير عن كيف أو لماذا أمطرَتْ علىّ مرتين فى مقابر الورد"

"الآن توقعين بى أنت"

هزّتْ كتفيها.

"كنتُ على بُعد خطوات منكِ هناك، ولم أحصل على قطرة"

 "آسفة"

"أنتِ شريكة فى هذا"، قال "دوفو" كأنه يتهمها بشىء ضِمْنى.

حرّكَتْ كوب الآيس كريم فى دوائر حول نفسه.

"لماذا أنتِ متوترة؟"

توقفَتْ عن تحريك الكوب.

ابتسمَ.

"من الجيّد أن تكونى شريكة فى المطر، هذا يليق بكِ سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

نظرَتْ إلى السماء.

أخرجَتْ نفَسًا هادئًا.

قالت "المطر، لن يعرف أبدًا كم أُحبه، لن يعرف ما فاتَه فى حُبى له"

"ربما يعرف يومًا"

نظرَتْ إليه، وابتَسمَتْ عيناها.

قالت "لا أتخيّلُ أن أشخاصًا يهربون منه، أُشفقُ عليهم وأنا أراهم يجرون ليحتموا بالمظلات أو مداخل البنايات، من المطر؟ أريد أن أمسك بهم، أقول لهم لا تهربوا، ابقوا معه، استمتعوا به"، نظرَتْ بامتداد الشارع.

"يهربون فى كل مرة، والمطر الرائع يستمر أحيانًا لساعات، يمنحهم الفرصة كى يعودوا إليه، لا يفعلون، فيتوقف، ولأنه طيّب يعود بعد قليل بالحب نفسه، لكنهم يهربون منه ثانية"، نقلَتْ عينها بين السحاب والمارة.

 "أتساءل كيف أنه يمارس لعبته تلك مع البشر طوال عمره، ويردّون بتصرفهم غير الناضج هذا"، نظرَتْ إلى "دوفو".

 "أعتقد أن ما يُبقيه سعيدًا فى النهاية هو أن هناك أشخاصًا يحبون المشى معه، ويُبلّلون به ملابسهم وأجسادهم"، صمَتَتْ لحظة.

"وأرواحهم أيضًا"

قال دوفو "أُحب هذه اللمْعَة فى عينيكِ عندما تتحدّثين عن شىء تحبينه"

ابتسمَتْ.

"لا بد أن لديكَ حكاية عن المطر، أعرف ذلك، احكِ دوفو"

فكّرَ لحظة.

"اممم، حكاية صغيرة، أخبرتنى أمى، أنى عندما كنت طفلاً، وفى أىّ وقت يهطل فيه المطر، أجرى إلى الشارع وأغسل رأسى به، ومَهْما نادَتنى لا أعود إلا بعد أن يتوقف، وكان عليها أن تراقبنى كل هذا الوقت وهى واقفة فى فتحة الباب أو خلف النافذة"، مرّرَ عينيه على السحاب.

"ما زالت هذه الرغبة تراودنى كلما رأيتُ المطر، وأفعلها أحيانًا دون أن أهتم بالآخرين"، نظر بعيدًا كأنما تذكّر مشهدًا ما، وابتسمَ.

 "فى إحدى المرات، هطلَ مطر غزير غير مُتوقّع، هرب الجميع، وقفتُ أنا بمنتصف الشارع، بدأتُ أغسلُ رأسى به، انضمّتْ لى شابة، ثم شاب، امرأة عجوز، طفلة، حتى امتلأ الشارع كله ببشر يغسلون رؤوسهم بالمطر"

"لا أجمل من وجه مغسول بالمطر"

ساد الصمْتُ لحظات، وكلٌ منهما ينظر إلى نقطة بعيدة فى الشارع، التفتَ "دوفو" إليها.

"تعرفين أكثر ما يثير فضولى فى النجمة الزرقاء؟"

 نظرَتْ إليه.

قال "الغابة المتحجّرة"

 كادت تسأله عن السبب، اكتفَتْ أن تتنفّس.

رشفَ "دوفو" من قهوته.

قال "يعجبنى، حسب معلوماتنا عنها، أنّ أشجارها تقف من جديد وتستعيد خُضرَتَها لدقيقة واحدة عندما يصل أحدهم إلى نقطة معينة فيها، لكن، لا أحد يعرف هذه النقطة"

"أعتقد أن لا أحد يصل إليها بنفسه، هى تختار مَن يعثر عليها، وتكشف له عن نفسها"

فكّرَ لحظة.

"أحبَبْتُ هذا، لكن ما الشىء المميّز فى الشخص الذى تختاره؟"

"الحب"

تبادَلا النظرات دون كلام، ارتعشَ قلب "سيمويا".

سألته "هل صدمكَ قطار يومًا؟"

هزّ رأسه مُستفهمًا.

"أقصد، حدث لك شىء جعلكَ تشعر وكأن قطارًا صدمك؟"

حرّك يده على شكل موجة.

ابتسمَتْ "سيمويا" وكأنها اكتشفَتْ لتوّها شيئًا تحبه.

"هل قلتُ لكَ إنى أُحب هذه الحركة منك؟"

"تقصدين هذه؟"، حرّك يده على شكل موجة.

"نعم"

تصنّعَ التفكير، هزّ رأسه نفيًا.

"لم تقولى أبدًا أنك تحبينها"

"حسنًا، أنا أُحبها"، حرّكَتْ يدها بطريقته على شكل موجة.

ابتسمَ.

تأمّلَتْه لحظة، أمالت رأسها على كتفها.

"ما رأيكَ أن نتمشّى قليلاً؟ أو كثيرًا"

مشيا فى الشوارع دون أن يعرفا أو يهتمّا إلى أين تأخذهما.

 توقفَتْ "سيمويا" أمام أحد محلات الهواتف المحمولة.

"انتظرنى هنا دقيقتين"

دخَلَتْ المحل.

 خرجَتْ ومعها هاتفان توأم، مدّتْ يدها بأحدهما إلى "دوفو".

"تفضّل، هدية"

"لماذا؟"

حرّكّتْ يدها فى الهواء.

"بمناسبة وصولنا.. إلى.. النقطة الأخيرة.. فى مهمتنا"

نظرَ إليها بجانب عينيه.

قالت "حسنًا، فقط خطرَتْ لى الفكرة، ونفّذتُها، اقتنعْتَ الآن؟"

"أنتِ تتصرّفين بغرابة"

"أرجو ألا تزعجكَ غرابتى"

هزّ رأسه نفيًا.

"إذن لا تزعجنى واقبَل هديتى"، دفعَتْ الهاتف داخل جيب بنطاله، ربّتَتْ خدّه، شَعرَ برعشة خفيفة فى أصابعها.

قالت "لن يعرف أحد غيرى رقم هاتفك الجديد، ولن يعرف أحد غيرك رقمى الجديد، تلك بقية فكرتى، العَبْها معى، شكرًا دوفو"

نظرَ إليها بشىء من دهشة.

عانقَتْ ذراعها بذراعه.

"الآن نكمل المشى"

شَعرَ برعشة لطيفة فى جسمها، مرّتْ دقائق دون أن يتحدّثا، تأمّلَتْ أصابع يديه.

"جميلة، أصابعَك"

ضحكَ ضحكة قصيرة.

"أنتِ بخير؟"

"هل لا أكون بخير لو قلتُ رأيى فى أصابعك؟"

تأمّلَ عينيها لحظة.

قال "جميلة، عيناكِ"

"شكرًا"

اختفَتْ رعشة جسدها.

 مرّتْ دقائق دون كلام، التفتَتْ إليه.

"أنتَ متأكد أنك لا تعرف شارع الأرصفة؟"

"سألتِنى من قبل، وقلت أنى لا أعرفه، تذْكُرين؟"

"نعم أذكر"، حرّكَتْ يدها على شكل موجة.

"أنتَ تلعبين، صحيح؟"

أومأتْ عدّة مرات مثل طفلة تعرف أنها مسموح لها بكل شىء.

"وأنت تُحب اللعب، صحيح؟"

ابتسمَ وأدار وجهه إلى الجانب الآخر من الشارع.

رأت زغَبًا خفيفًا فى جانب رقبته، تمنّتْ لو تُقَبّله.

تنهّدَتْ.

 ظَلّ "دوفو" يتابع البيوت، الشوارع، السحاب، والبشر.

فكّرَتْ "سيمويا" أنها بالفعل تتصرف بغرابة، "ما الذى يعتقده دوفو الآن؟ أنى أحبه، فليكن، أنا بالفعل أحبه"، تساءلَتْ، شعرَ بحبها؟ لاحظَ رعشة جسده؟ وتلك الرنّة فى صوتها، هو أكثر شخص يفهمها فى العالم، هل من الممكن أن يُخطئ هذه المرة ولا يفهم مشاعرها؟ تعرف أنه يقبل منها كل شىء، قال لها بعد شهرين فقط من تعارفهما إنها استثنائية فى حياته، لكنها لم تعتبر ذلك تصريحًا بالحب، أو حتى تلميحًا، لأنه لم يكن كذلك، هل يمكن أن يعتبر تصرفاتها مجرد أشياءَ تفعلها إنسانة تعرف أنها استثنائية فى حياته، ومسموح لها بكل شىء.

"يُخطئ فى فَهْم مشاعرى؟"

 "تقترف هذا الخطأ الكبير، دوفو ماليمورا؟"

توقفَتْ "سيمويا" وهى تنظر إلى مبنى فى نهاية شارع.

"مكتبة، أريد أن أدخل"

تصميم باب المكتبة عبارة عن كتاب يقف بشكل رأسى، يتكوّن المبنى من ثلاثة طوابق، كل واحد منها على شكل كتاب فى وضع أفقى.

دَخَلا.

 بَدتْ المكتبة أكبر مما تبدو عليه من الخارج، جدرانها مُبطّنَة بخشب أحمر، أرفف وستاندات للكتب، على الجانبين سلالم متحركة من الخشب، ونور هادئ مجهول المصدر.

 تذكّرَتْ "سيمويا" المكتبة التى دَخَلَتْها "بينورا" فى أوراق "الليل".

سَحَبَتْ كتابًا عن أجمل أحلام الأطفال، بدا صغيرًا، ربما لا يتجاوز الخمسين صفحة، لكنها كلما تصفّحته وجدَتْ حلمًا جديدًا مرسومًا بخطوط سوداء رفيعة وزخارف من وَهْم، أدركَتْ فى لحظة ما أن الكتاب لن ينتهى طالما تتصفّحه.

أعادته أخيرًا إلى مكانه، كان لا بد أن تفعل فى النهاية.

تلفّتَتْ حولها، رأت "دوفو" على بُعد خطوات يتصَفّح أحد الكتب، مشَتْ إليه، نظرَتْ فى الكتاب.

 "أنت متأكد أنك لا تعرف شارع الأرصفة؟"

 ابتسمَ "دوفو"، وأعاد الكتاب.

 رأيا الكنجارو واقفًا عند نهاية الممر يرسمهما فى كرّاسه الصغير.

ابتسمَتْ "سيمويا".

 همَسَتْ "الكنجارو الرسّام"

مشيا إليه، ظَلّ فى مكانه يواصل الرسم، أسرْعَا، انتهى قبل أن يَصِلا إليه بخطوات، جرى واختفى بين ستاندات الكتب، بَحَثا عنه قليلاً دون جدوى.

قال دوفو "لماذا لا تسألين الكنجارو عن شارع الأرصفة؟"

"أنا أسألكَ أنت"، وطرَقَتْ على قلبه بطرف سبّابتها.

صَعَدَا إلى الطابق الأول.

مشيا فى أحد الممرّات، رأيا الكنجارو يعبر عند نهايته، جريَا خلفه، وجَدَا نفسيهما بمواجهة باب موارب، نظرَتْ "سيمويا" إلى الداخل بإحدى عينيها، رأت مسرحًا، وشابة تعزف على كمان داخل دائرة من ضوء أزرق سماوى، نظرَتْ إليها الشابة، وابتسمَتْ، حدّقتْ فيها "سيمويا" لحظة، وابتسمَتْ.

انتبهَتْ بعد أن مرّتْ يدٌ على شعرها من الخلف بشكل خاطف، استدارت، رأت الكنجارو يقف فى نهاية الممرّ ويرفع يده كأنما يُمسك بين إصبعيه شيئًا لا تراه.

"ما هذا؟"، سألَتْ "سيمويا".

"أخذَ شعرة من رأسِك"، قال "دوفو".

ابتسمَتْ.

"المُغَفّل، كنتُ لأقُصّ له خصلة كاملة"

 لوّحَ لهما الكنجارو، واختفى.

صَعَدا إلى الطابق الثانى.

المزيد من الكتب، دَخَلا ممرًا تسبح فيه أضواء ملوّنة، رأيا على جدرانه شاشات عرض صغيرة تعرض مقاطع من أفلام سينمائية بلُغات مختلفة، وفوق كل شاشة كُتِبَ تاريخ إنتاج الفيلم، أخبرتهما إحدى الشابات أن المكتبة لا تعرض إلا الأفلام التى مرّ على انتاجها مائة عام أو أكثر.

 مشيا بطول الممر يتطلّعان إلى الشاشات، بَدَا كأنه لن ينتهى، عبَرَ الكنجارو على بُعد خطوات منهما، لم يجريا خلفه.

قالت سيمويا "فقط أتمنى أن أرى كيف رَسَمَنا"

خَرَجَا من ممرّ شاشات العرض إلى صالة على شكل نصف دائرة، تبدو كاستراحة، تتوزّع فيها طاولات خشبية ملوّنة، بها لمسة برودة مُحبّبة، ورائحة شيكولاتة خفيفة، وفى زاوية من نور أزرق وبرتقالى تقف ثلاجتان زجاجيتان بهما أنواع مختلفة من الشيكولاتة، وتكادا أن تناديا "سيمويا".

"شيكولاتة"، قالت "سيمويا" وابتسمَتْ، لوّحَتْ للثلاجتين، هرولَتْ إليهما، نقلَتْ عينيها بين قِطَع الشيكولاتة.

"مرحبًا، كيف حالكِ، بخير؟ أنا أيضًا"، تلفّتَتْ حولها.

"هل من أحد؟"، تذكّرَتْ أن أحدًا لم يظهر لأجل "بينورا" فى أوراق "الليل"، وأنها أخذَتْ قطعة الشيكولاتة بنفسها، يتكرّر الأمر معى؟

نادتْ "مرحبًا، أريد شيكولاتة"

 سمِعَتْ صوتًا خلفها يقول "خذى ما تريدين"

 استدرات، رأت شابة عشرينية قادمة نحوها تبتسم، توقفَتْ إلى جوارها، نظرَتْ عبر زجاج الثلاجة إلى الشيكولاتة.

"أىّ واحدة تريدين؟"

 وضعَتْ "سيمويا" رأس سبّابتها على نقطة فى الزجاج، فتحَتْ الفتاة الثلاجة، وأعطتْها قطعة الشيكولاتة المطلوبة.

"شكرًا جدًا"

ظهرَ "دوفو" إلى جوار "سيمويا" وهو يمدّ يده بالنقود إلى الشابة.

"تفضّلى"

"هذه أول زيارة للمكتبة؟"

"نعم"

"إذن الشيكولاتة هدية"

"شكرًا، شكرًا"

غادرا صالة الاستراحة.

فتحَتْ "سيمويا" غلاف الشيكولاتة، قضمَتْ زاويتها، فكّرَتْ أن تعطى "دوفو" قطعة، شعرَتْ أنها ليست اللحظة المطلوبة.

"ليس الآن"، قالت بصوت مسموع.

"ماذا؟"

"لا شىء، أنا ألعب"

رأيا الكنجارو فى نهاية الممرّ، ابتسمَ لهما، ابتسما له.

صَعَدا إلى الطابق الثالث.

وجَدَا بابًا بدرفتين مفتوحتين، توقّفَا عنده، رأيا بالداخل مرسمًا بلا نهاية، كل مَن فيه أطفال، يرتدون ملابس ملوّنة، يرسمون فى لوحات مُعلّقة أمامهم، أو على الأرض، والجدران، يصعد بعضهم سُلّمًا خشبيًا ويرسم فيما يمكن اعتباره سقفًا، كان واضحًا أنه سماء خاصة قاموا برسمها، يحصلون على ألوانهم من قنوات تسيل بينهم ببطء، يمزجون بعضها ببعض أحيانًا ليبتكر أحدهم لونًا ليس له وجود إلا فى خياله.

كأنّ أطفال العالم كله يرسمون هنا.

رأى "دوفو" و"سيمويا" الكنجارو بعيدًا فى العمق، يتنقّل بين الرسّامين، يتحدث إلى أحدهم بكلمة أو كلمتين، يتفرّج على اللوحات، يرسم فى الأرض أو السماء.

نادته "سيمويا" عدّة مرات، لوّحَتْ له، أدرَكَتْ أنها غير مرئية لمَن داخل المرْسَم، وصوتها لا يتجاوز بابهم.

الكنجارو والأطفال فى عالم خاص من الرسم والألوان.

شعرَ "دوفو" و"سيمويا" أنهما لو دخلا خطوة واحدة سيتحوّلان إلى طفليَن رسّامين، لم يكن لديهما مانع، غير أن عملاً ينتظرهما كى يُنهيَاه.

غادرا المكتبة.

الوقت غروب، الشوارع طافية فى نور برتقالى.

"ماذا الآن؟"، قال "دوفو".

"خذنى إلى شارع الأرصفة"

"ما زلتُ لا أعرفه"

نظرَتْ إلى الشمس.

"هذا وقت ظهوره، لنبحث عنه"

"هل قلتُ لكِ أنكِ تتصرّفين بغرابة؟"

أومأتْ، عانقَتْ ذراعها بذراعه، ومشيا.

فكّرَتْ "سيمويا" أنهما ربما يجدان "شارع الأرصفة"، بما أن "دوفو"، حسب أوراق "الليل"، يعثر عليه حتى لو فى مدينة يزورها للمرة الأولى، لا بد أن الشارع موجود هنا أيضًا، فقط لو أراد أن يعثر عليه، وعندها ربما يكتشف أنه يحبها.

مشيا فى شوارع تؤدى إلى بعضها بعضًا، كأنها لعبة، تنظر "سيمويا" فى كل اتجاه.

"سنجده صدّقنى، لو صدقتنى سنجده"

 لم يعترض "دوفو"، لكنها لاحظَتْ أنه لا يأخذها على محمل الجد، كأنها فتاة تلعب، ولا مانع لديه.

"عليك أن تأخذنى على محمل الجد، ابحث عن الشارع دوفو، ستجده"

"إنْ كان موجودًا بالأساس، لماذا تصرّين على شارع الأرصفة هذا؟"

"تعرف عندما نجده"، نظرَتْ إلى الشمس.

"ولا بد أن يحدث هذا قبل الغروب"

"لماذا؟"

"سيختفى بعد الغروب، أو، لا أعرف، المفروض أن تعرف أنت"، قالتها بجديّة، وجرَتْ أمامه وهى تتطلّع حولها إلى الشوارع.

هرولَ خلفها.

"لماذا لا تسألى أحدًا عنه؟"

"لا، أنت مَن يجب أن يعثر عليه"

"أنتِ غريبة، هل قلتُ لك؟"

"نعم، أنا غريبة"

رأت الشمس تغطس سريعًا، جرَتْ باتجاهها كأنما تريد أن تمسك بها.

هتفَتْ "انتظرى، شمس، شمس، أنتِ انتظرى"

لم تنتظر.

توقفَتْ "سيمويا" وهى تنظر إلى الأفق، دَخَلَ "دوفو" مجال بصرها، تأمّلَ عينيها، رأى فيهما ماءً يرتعش.

"فات الوقت"، قالت "سيمويا".

ضمّها إلى حضنه.

عادا إلى "النجمة الزرقاء".

أمام خيمتها.

 ابتسمَ لها "دوفو".

قال "تعرفين شارعًا اسمه شارع الأرصفة؟"

"نعم أعرفه"، قالت بجديّة.

فتح "دوفو" يديه إشارة إلى أنه لم يكن ليستطيع أن يفعل شيئًا.

قال سيمويا "أنتَ مَن يجب أن يعثر عليه، هذا مهم، لو أردْتَ، ستجده"

"سأحاول"، قالها على طريقتها.

ابتسمَتْ.

ربّتَ خدّها.

"تصبحين على خير، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ أكثر.

تحمّمَتْ "سيمويا"، أكلَتْ موزة، قضمَتْ زاوية صغيرة من قطعة شيكولاتة وأعادتها إلى الثلاجة، أعدّتْ فنجان قهوة، شغّلَتْ من الحاسوب موسيقا جيتار مع صوت البحر، جلسَتْ فى سريرها مع أوراق "الليل".

 فكّرَتْ، هل يعرف "دوفو" شيئًا عن أوراقها، أو على الأقل يشكّ فى شىء؟ لماذا قال عند قبرها إن القبر به سرّ، وأنه يتمنى لو يعرف صاحبه، لأن الشاهد به نقش الفراشات الثلاث؟ لكنه رأى فراشات فى شواهد أخرى ولم يهتم كثيرًا، لماذا سألها عند تماثيل أُم الطفليَن إن كان من الممكن أن تُطعم جسدها لأطفالها كى تنقذهم من الموت جوعًا، أسئلته عادية أم يُلمّح بها لشىء؟

 كانت الأسئلة لتبدو عادية لو أن "سيمويا" لم تقرأ أوراق "الليل"، هى واثقة أن "دوفو" يعرف أنها تقرأ أوراقًا خاصة كلما انتقلَتْ إلى المقعد الأخير بالطائرة، يمكنه أن يلاحظ هذا بسهولة، فى الوقت نفسه تستبعد أن يكون قد تسلّل إلى أوراقها.

تساءلَتْ، هل يمكن أن تكون لدى "دوفو" نسخة من أوراق "الليل"، ليس بالضرورة أن تطابق نسختها، ربما تكون مُكمّلة لها، أو مختلفة تمامًا، فيها حياة أخرى لى وله، ربما تكون حالتنا معكوسة فى نسخته، يحبنى وأموت قبله، لكن ما يحدث بالفعل هو ما أقرؤه فى أوراق "الليل" خاصّتى، أو على الأقل شىء قريب منه.

لا يمكنها نسيان أنّ ما قرأته يَفترِض أنْ يحبها "دوفو" هنا، ويموت هنا، فى الغابة المتحجرة، لكنها لن تسمح بذلك، يمكنها تغيير هذا كله، بأن تغادر الموقع، وفى هذه الحالة لن ترى حبه لها، ولن يموت، لكن، هل تضمن ألا يموت رغم هذا، لا بد أن شيئًا سيحدث فى كل الأحوال، ولا يمكنها أن تُفوّته، الأفضل أن تبقى بجواره، كى تحميه.

لن تسمح له بالموت.

بدأتْ تقرأ.

 

الليل

لطالما تمنّيتُ أن يكون لى بيت من خشب على شاطئ البحر، تلمسه كل موجة.

 الآن أنا فى سرير يطفو على البحر.

البحر، كائنى المُفضّل، لو كان مُتاحًا لى أن أكون كائنًا آخر لبعض الوقت، لاخترْتُ أن أكون البحر، أعتقد أن جدّتى أيضًا كانت لتختاره. 

البحر أكبر عراء فى العالم، أكبر بيت، تشرّد وسَكَنْ، خوف وأمان، هو للجميع وليس لأحد، جَموح، مغامر، يصاحب القراصنة، البحّارة والصيادين، الإنس، الجن، والعفاريت، المجانين والحكماء، المذنبين والأبرياء، السفن والقوارب، السماء والأرض، الليل والنهار، الرمل واللؤلؤ، المحكوم لهم بالحياة والمحكوم عليهم بالموت، والمتبرّعين بحياتهم للحياة، يُصاحب ما لا نعرف، لا يفرق بين أحد، حُرّ، بلا منبع ولا مصب، لا ينتمى لأحد أو مكان أو وقت، ولا يحمل هويّة.

 البحر هويّة نفسه.

 المالح الذى لا عَذْب بدونه، لا يمكن للنهر أو المطر أن يستمرّا فى الحياة إلا بأن يُفضيا إليه فى النهاية، لا تكتمل دورة الحياة بدونه، وله دورة حياة تخصه.

البحر دورة حياة نفسه.

لا يمكن تخيّل العالم دون بحر.

كنت سعيدة لأنه ظهر فى رحلتى أكثر من مرة.

 أجلس على حافة السرير، أمدّ ساقىّ فى البحر، أخلَعُ ملابسى كلها وأنزل إليه، أسبح، أغطس، أعود إلى سريرى، أنام وصوته يهمس لى، أستيقظ ورذاذه يداعب وجهى، يعلو بى الموج حتى ألمس السحاب وأرى مساحات من العالم، يا لروعتها، أقف فى منتصف سريرى، أهتف بأسماء مَن أُحبهم، وأىّ كلام يخطرُ ببالى، أو أَخطرُ بباله، أعزفُ الكمان، تأتينى أسراب النوارس، تحوم حولى، ومن وقت لآخر تظهر لى أكوام فاكهة طازجة، آكلُ منها، وأشرب.

رأيت سفينة كبيرة يتدلّى من حافتها العلوية حبل به عُقَد، وبحّار يسبح بمحازاتها بسرعتها نفسها، بَدَا زملاؤه فى السفينة كأنهم ينادونه كى يعود إليهم، تجاهلهم لبعض الوقت، ثم أمسك بالحبل وبدأ يصعد، رأيت عند الدفّة عينين زرقاوين، مُذهلتان، وتنظران إلىّ بذهول، مرّ من أمامى كنجارو برتقالى، توقّفَ لحظة، نظرَ فى عينىّ، اتجه إلى السفينة، قفز إليها، اختفى، بحثْتُ عنه بعينىّ، رأيته واقفًا فى منتصفها، يُمسك بهاتف ويلتقط صورة لجدّتى الشابة، "سيمويا أكسيلينور"، وهى تقف بين "دوفو" والبحّار المذهول، وحولهما البحّارة، انتبهْتُ على عواء ذئب يأتى من خلفى، التفَتُ، رأيتُ ذئبًا يقف فوق موجة عالية، ثابتة، يمسكها بمخالب فضيّة، له عينان زرقاوان، جلد أبيض لامع، زعنفة ظهريّة زرقاء، وأخرى خلفية عريضة، عنقه ممدود إلى القمر ويواصل العواء، نظرْتُ ثانية إلى السفينة، لم أجدها، تلفّتُ حولى، لا شىء، انقطعَ العواء أيضًا، اختفى الذئب، جلسْتُ على طرف السرير، أنزلْتُ قدمىّ فى البحر، نظرْتُ إلى النجوم، وابتسَمْت.

لطالما تمنّيتُ أن أقضى سنة كاملة فى البحر لا أرى اليابسة، ليس معى أىّ جهاز يصلنى بالعالم، أو يسمح له بالوصول إلىّ، لا هاتف، تليفزيون، أو حاسوب، فقط أنا والبحر والسماء، حصلْتُ على أمنيتى، ولا أعرف الآن كم قضَيتُ من الوقت هنا، أُفكّر أن أغادر، لا بد أن أُكملَ رحلتى كى أعثر على النهار، لن أقرأ أوراق جدّتى قبل هذا، لكنى لا أعرف كيف يمكننى مغادرة البحر، حتى إنى لا أُوجّه حركة السرير، فَكّرْتُ أن أفعل مثلما فعلَتْ أُمّ الطفلين فى حُلمى، ملأتُ يدى بحفنة من ماء البحر، همسْتُ لها "أريد أن أخرج"، وشربتُها، رأيت تاجًا كبيرًا يلمع من بعيد، بدَا لى أنه الجزيرة نفسها التى عثرَتْ عليها أُمّ الطفلين، اتجه إليها السرير، توقّفَ عند حافتها، غادرْتُه، مشيتُ فى الذهب واللؤلؤ وأنا أتلفّتُ بحثًا عن البيت، رأيته على بُعد عدّة أمتار، صعدْتُ درجاته الفضيّة الثلاث، دفَعْتُه، رأيت بيتًا يشبه بيتى لكنه ليس هو، تجوّلْتُ فيه، وجدْتُ أغراضًا تشبه أغراضى لكنها ليست هى، عثرْتُ على باب خمّنْتُ أنه للخروج، فتحْتُه، رأيتُ مئات الأقمار مُبعثرة على أرض بنفسجيّة، نظرْتُ إليها عن قُرْب، كانت انعكاسات لقمر السماء بحجمه نفسه الذى أراه عليه عندما أنظر إليه من الأرض.

مشيْتُ بين الأقمار، شعرْتُ عند لحظة وكأنى تداخلْتُ مع شخص غير مرئى، مرَرْتُ خلال جسده، وامتزَجَتْ روحى بروحه، لم يستغرق هذا أكثر من طرفة عين ومسافة خطوة واحدة، لكنّى شعرْتُ أنى سافرْتُ أزمنة ومسافات، وأنّ مَنْ تداخلْتُ معه شَعرَ بى فى اللحظة ذاتها، توقفْتُ، لم أكن بحاجة للتفكير، أدرَكَتْ على الفور بمَن امتزَجْت؟ رأيت جدّتى فى قلبى، شمَمْتُ رائحة شيكولاتة خفيفة، وابتَسَمْت.  

عاودْتُ المشى، لمَسْتُ أحد الأقمار، ضوءه بارد وجميل، رأيت قمرًا أكبر من الجميع، اقتربْتُ منه، جلسْتُ على ساقىّ عند حافته، لمَسْتُه، ابتلّتْ أصابعى، شعرْتُ برنّة فوق رأسى، واختفَتْ الأقمار الأخرى من حولى، أدركْتُ أنى أجلس عند بئر ملأى بالمياه، ينعكس فيها القمر ويُغطّى سطحها كله دون أن تنعكس فيها صورتى، نظرْتُ إلى أعلى، رأيت قمر السماء يرتعش برفق، وطيف فتاة تشبهنى تجلس جلسَتى نفسها عند حافته وتنظر إلىّ، حَرّكْتُ يدى فى البئر، حرّكَتْ الفتاة يدها فى القمر، لوّحْتُ لها، لوّحَتْ لى، ملأتُ يدى بحفنة ماء، نظرْتُ فيها، رأيت صورة مكتملة للقمر، نظرْتُ إلى أعلى، رأيت الفتاة تنظر إلىّ ويدها مُعلّقة تحت فمها بطريقتى نفسها، شربْتُ ما غرفْتُه من البئر، لم يكن ماءً أو شيئًا جرّبْتهُ من قبل، أعتقد أن هذا طعم القمر.  

خلَعْتُ ملابسى، نزلْتُ البئر، رأيت طائرًا فضيًا كأنما تشَكّلَ من الماء يسبح قريبًا منى، اتسعَتْ البئر قليلاً، ظهرَ حصان أحمر قُرْبَ الطائر، صبىّ بجوار الحصان، ظلّتْ البئر تتسع، ظهرَتْ كائنات جديدة، طيور، حيوانات، وبشر، كأن البئر هى العالم كله، رأيت جدّتى عند نقطة بعيدة تبتسم لى، سبحْتُ باتجاهها، ظلّتْ المسافة بيننا ثابتة، عرفْتُ أنى لن أصل إليها، اكتفيْتُ بأن ألمحها بين الوجوه وهى تبتسمُ لى، وأبتسمُ لها.

بدأتْ البئر تضيق، تختفى الكائنات تدريجيًا، ظلّ وجه جدّتى معى حتى النهاية، كان قريبًا جدًا، لكنه أيضًا فى بُعد آخر، عندما اختفى عادت البئر إلى حجمها الطبيعى، غادرْتُها، ارتديتُ ملابسى، وضعْتُ الحقيبة على ظهرى، ومشيتُ، التفَتُ خلفى بعد عدّة خطوات، رأيت مئات من الأقمار مبعثرة على الأرض.

انتبهْتُ من جديد أنى لم أكتب شيئًا مما رأيته حتى الآن، غير أن هذا لم يقلقنى، ليس فقط لأنى أذكر كل شىء منذ غادرْتُ بيتى مع جدّتى، شعرْتُ أيضًا أن الأمر يتعلّق بالقلب بالدرجة الأولى وليس العقل، ذاكرتنا الحقيقية موجودة فى القلب، المصدر الأول للتفكير، وأىّ تواجد للذكريات والأفكار فى مكان آخر ليس إلا صدى لمكان وجودهما الأصلى، وتنويعات عليها، فكّرْتُ أنه من المُحزِن جدًا أن يفقد إنسان كل المشاعر، الأفكار، والصور، التى عرفَها فى حياته لأىّ سبب، لا بد أنها تبقى فى مكان ما بداخله، مكان لا يفقد أبدًا ما لديه، القلب، منبع المشاعر، التفكير، الخيال، وموطن الذكريات.

سحبْتُ الكمان من الحقيبة، بدأتُ أعزف من ذاكرة القلب موسيقا سمعْتُها لمرة واحدة وأعرف أنى لا أحفظها، لكنّ القلب الذى لا يحتاج غير أن يرى الشىء أو يسمعه لمرة واحدة، أو أقل، كى يحتفظ به، منحنى الموسيقا التى أريدها.

 فكّرْتُ، القلب لا يحتاج حتى أن يسمع الشىء أو يراه، هو يعرف الأشياء قبل حدوثها، ويخترعها أحيانًا.

أمشى، أعزف، وأُغلقُ عينىّ لمسافات طويلة، رأيت على بُعد أمتار نسخة منّى يغمرها ضوء القمر، توقفْتُ فى مكانى وأنا أواصل العزف، بدَتْ نسختى هناك فى بُعد آخر، وقد تقدّمْتُ فى العمر عدّة سنوات، شابة ثلاثينية مُتحمّسة، أمارس عملاً صحفيًا، هذا ما أكون عليه؟ أحبَبْتُ صورتى تلك، كأنى حقّقتُ هناك جزءًا من أحلامى، شعرْتُ فى الوقت نفسه بالسموّ فوق أمنياتى التى حققتها، لم تُصِبْنى سعادة بلهاء، رأيت نُسخَتى فى لقطات أخرى حزينة، كأن شيئًا من أمنياتى فاتَنى، أحبَبتُها أيضًا، شعرْتُ بالسموّ فوق خسارة الأمنيات وعدم تحقيقها، لم يُصِبنى إحباط مُغفّل، غمرنى شعور بالبساطة أراحنى جدًا، ابتسمْتُ للنسخة الحزينة، وهمَسْتُ لها "لا تحزنى، صدّقينى".

 أدركْتُ أن الأمر أكثر عمقًا من مُجرّد تحقيق الأحلام أو خسارتها.

أعدْتُ الكمان إلى الحقيبة، مشيتُ لوقت طويل فى أرض مفتوحة تغطيها طبقة خفيفة من تراب رمادى داكن، لم أشعر بتعب أو جوع أو عطش. العالم حولى واسع وممتد.

 رأيت على مسافة ليست بعيدة كهفًا يشعّ من داخله نور فضّى، وتقف فى مدخله طفلة لم أتبيّن ملامحها، لكنى رأيتها تجرى فى ذاكرة قلبى، مشيتُ إليه، دخَلَتْ الطفلة.

توقفْتُ أمام الكهف، نظرْتُ داخله.

 ناديت "مرحبًا"

 جاءنى صدى صوتى.

 قلت "يا فتاة، أنا أعرفُكِ"

 رأيت فى قلبى طيف طفلة يَرُد "أنا أعرفُك، يا فتاة"

أمطرَتْ خفيفًا علىّ وحدى لمدة دقيقة واحدة.

دخلْتُ الكهف على مهل، يصدر النور الفضىّ عن جدرانه وسقفه، هواؤه نقىّ كأنما لم يتنفسّه أحد، أرضه عشب قصير يتغيّر لونه بين لحظة وأخرى.

 الجدران ملأى بنقوش، ورسوم، بعضها ملوّن، رأيت رسمًا بالألوان لشابة تقف بمواجهة البحر، وخلفها امرأة بشعر أبيض طويل.

 رسم آخر للشابة نفسها، نائمة على الأرض، المرأة جالسة بجوارها تتأمّلها، وبالقرب منهما قنديل برتقالى صغير.

الشابة والمرأة ترقصان معًا تحت المطر.

الشابة جالسة فى سرير يطفو على البحر.

تتبَعْتُ الرسوم حتى وجدْتُ نفسى بمواجهة صخرة من رخام تشعّ نورًا فضيًا به زُرقة خفيفة، لم يكن بها أىّ رسم، مَسَحْتُ عليها، تحرّكَتْ، وانفتَحَ الكهف.

خرَجْت.

رأيت فى الأفق خطًا متعرجًا من نور، تذكّرْتُ حُلمى الذى رفضَتْ جدّتى أن تسمعه وقالت إنها تعرفه، لم أكن قد رأيت الكهف فى الحلم، لكنى أعرف هذا الخط المتعرّج، قلبى يعرفه.

النهار.

تلفّتُ حولى، رأيت تفاصيل حلمى تتجمّع، أشخاص كثيرون يظهرون من كل اتجاه ويمشون إلى النور.

مشيتُ معهم.

توقَفْتُ بعد عدّة خطوات.

أستطيع الآن أن أقرأ أوراق جدّتى.

أجلس هنا وأقرأها، أم أمشى إلى النهار؟

مشيْت.

لم أستطع أن أتخلّص من فكرة قراءة الأوراق.

"يمكننى أن أقرأ صفحة أو اثنتين بينما أمشى، لم لا؟"

توقفْت.

وضعْتُ الحقيبة على الأرض، فتحْتُها، أخرَجْتُ أوراق جدّتى، الورقة الأولى بيضاء، وضعْتُ يدى عليها، تصاعدَتْ دقّات قلبى فجأة، شعرْتُ بتيار من البرودة والحرارة يندفع تحت جلدى، رأيت رعشة خفيفة فى أصابعى، اندهشْتُ مما أصابنى، لم أعد قادرة على الوقوف.

جلسْتُ، شعرْتُ بالخطوات تتزايد حولى، وتمشى فى اتجاه واحد، إلى النهار، لم ألتفِتْ، وضعْتُ الأوراق على ركبتى، تأمّلْتُها، تذكّرْتُ منظر جدّتى فى المرتين اللتين رأيتهما فيها وهى تقرأها، الآن، لدىّ شعور عميق أن بها شيئًا يخصّنى جدًا، أمسكْتُ طرف الورقة الأولى، البيضاء، لم أستطع أن أوقف رعشة أصابعى.

 تنفسّتُ بعمق، ورفعْتُ الورقة.

رأيتُ فى منتصف الورقة التالية كلمة واحدة، مكتوبة بخطّ اليّد وحبر أزرق.

قرأتُها بصوت مسموع: النهار.

 

(15)

كانت هذه نهاية أوراق "الليل".

قرأتْ "سيمويا" آخر جملة عدّة مرات.

أدركَتْ أن أوراق "الليل"، ليست هى نفسها التى ستعطيها قبل أن تموت لحفيدتها "بينورا"، مثلما افترضَتْ من قبل، فالأوراق مع حفيدتها تبدأ بكلمة "النهار"، وليس بكلمة "الليل".

 فقط الحافظتان باللون نفسه، الأزرق، لكن الأوراق مختلفة.

توقعَتْ أن أوراق "النهار" ستكون عن مستقبل "بينورا"، مثلما حصلَتْ هى نفسها على أوراق عن مستقبلها.

لكن، متى وكيف تحصل على أوراق "النهار" كى تُسلّمها لحفيدتها؟

"عندما يحين الوقت"، همسَتْ لنفسها.

وَضَعَتْ الأوراق أمامها على السرير.

تأمّلَتْ الكلمة الزرقاء المكتوبة بمفردها فى الصفحة الأولى، "الليل".

فكّرَتْ.

مَن كتَبَ أوراق "الليل"؟ حفيدتى "بينورا" بعد أن قابَلَتْ النهار؟ أو فى حياة أخرى لها ولى، أم كتَبَتْها الفتاة التى أعطتنى إياها فى البداية أثناء ذهابى إلى مركز الأبحاث، والتى ربما تكون فى الوقت نفسه إحدى حفيداتى البعيدات، أو حتى جدّاتى.

كتَبْتُها بنفسى فى حياة أخرى؟

 أمسكَتْ إحدى الأوراق، تأمّلَتْ السطور المكتوبة، كانت لتعرف أنه خطّها من البداية، رغم أنها لا تستعمل خَطّ يدها كثيرًا، تساءلَتْ، لو أنها كتَبَتْها بالفعل فى حياة أخرى، هل يتغيّر خَطّها هناك، استبعَدَتْ ذلك، كان لديها شعور أن فصولاً كاملة تتغيّر فى حياةٍ أخرى لشخص ما، لكن ليس خَطّ يده.

إذن، هى لم تكتب أوراق "الليل"، على الأقل حسب ما توصّلَتْ إليه حتى الآن.

فقط يمكنها ترجيح أنّ مَن كَتَبَهَا واحدة من سلالة إناث بلا أب ولا أُم ولا أبناء، تعيش الواحدة منهن حفيدة لفترة من حياتها، ثم جدّة.

ولماذا لا يكون شخصًا لم يخطر ببالى، أو احتمال لم أفكر فيه؟ سألَتْ "سيمويا" نفسها.

فكّرَتْ فى علاقة أوراق "الليل" بالمواقع التى زارتها، ومشاعرها تجاه "دوفو"، كيف أنه لم يشعر تجاهها بالحب، وما يُمكن أن يحدث غدًا عندما يزوران "الغابة المتحجرة"، يموت منها هناك؟ يصدمه قطارها ويشعر بحبه لها؟

"دفو يُحبّنى، لكنه لم يكتشف ذلك بَعد"

هل يحدث الأمران فى اليوم نفسه، يشعر تجاهها بالحب، ويموت؟

لا يمكنها أن تسمح بموته.

فقط، أن تُبعده غدًا عن "الغابة المُتحجرة"، حتى لو اضطرّتْ أن تكشف له عن الأوراق ليقرأ موتَه بنفسه.

كتبَتْ رسالة فى هاتفها الجديد الذى خصّصته له، لم يكن بها غير اسمه كاملاً "دوفو ماليمورا"، وقبل أن ترسلها سمعَتْه يناديها من خارج الخيمة.

"هل يمكن أن أجلس معكِ قليلاً، سيمويا؟"

"لحظة واحدة"

لم ترسل الرسالة، وضعَتْ الهاتف فوق مُربّع خشبى بجوار السرير، أدخَلَتْ أوراق "الليل" درج المكتب، فتَحَتْ الخيمة، رأت لمسة من شحوب على وجه "دوفو".

"أهلاً دوفو، تفضّل"

دخَلَ.

توقّفَ عند السرير، بدا مرتبكًا كأنما لا يجد ما يقوله أو يفعله، نظَرَتْ فى عينيه بقلق.

"أنتَ بخير؟"

"لا أعرف"، تلفّتَ حوله، توقفَتْ عيناه عند السرير.

"هل يمكن أن أتمدّدَ فى سريرك قليلاً؟"

"طبعًا"، أمسكَتْ بيده، باردة، مشَتْ به إلى السرير، استلقى على ظهره، ربتَّتْ صدره.

"سأُعدّ لكَ شيئًا دافئًا"

"لا سيمويا، فقط ابقى معى"، تأمّلَ عينيها لحظة.

"تعالى إلى جوارى، من فضلِك"، أفسحَ لها قليلاً.

تمدّدَتْ بجواره، استدار إليها، شعرَتْ برعشة خفيفة فى جسمه.

"أظنّ أن هذا ما جئتُ لأجله، فقط أتمدّدُ فى سريرك، بجوارك، سامحينى لو أنى أتصرّفُ بغرابة"

ابتسمَتْ.

قالت "أنا أتصرّف بغرابة معكَ منذ وقت طويل"

 ابتسمَ.

 تأمّلَتْه لحظة.

"تريد أن أحضنك؟ ليس بقوة، فقط قليلاً قليلاً"

"لا أُمانع لو حضنتِنى بقوة"

"أنت تستغلّ قلبى الطيّب، حسنًا، حضن كبير أيها الانتهازى"، أحاطته بذراعها، شعرَتْ به يُدخِلُ نفسه فى حضنها.

همسَتْ "تشعر بتحسّن؟"

أومأ، وأغلقَ عينيه.

"لن أنام، فقط أُغْلقُ عينىّ لدقائق"

فكّرَتْ "سيمويا"، هل شعرَ "دوفو" بحبه لها، لكن، لماذا تشعر أن الأمر لا يتعلّقُ بقطارات الحب؟

تأمّلَته، شاحب، ومحبوب، وضعَتْ يدها على جبهته، باردة، من الأفضل أن تُعِدّ له شيئًا دافئًا على الأقل، كادتْ تنهض، أمسكَ بيدها، ظلّتْ فى مكانها مُعلّقة، نظرَتْ إليه.

قال دون أن يفتح عينيه "ابقى سيمويا"

استرخَتْ، عاد إلى حضنها، أحاطته بذراعها.

تنفّسَ بعمق، ابتسم.

"جميلة، رائحة جسمك"

اقتربَتْ منه أكثر.

"تعرفين، وأنا صبىّ، كنتُ أتسلّلُ إلى حجرة أبى وأمى أثناء نومهما، أُواربُ الباب، وأُراقبهما حتى أتأكّد أنهما يتنفّسان وما زالا على قيد الحياة، عندها أغلق الباب وأعود إلى حجرتى"، صمَتَ لحظة، فتحَ عينيه.

"الغريب أن الاثنين لم يموتا فى فراشهما"

ربّتَتْ "سيمويا" خدّه.

قال "منذ السابعة عشر من عمرى، وحتى السابعة والعشرين، راودنى هاجس أنى سأموت شابًا، وبطريقة غير اعتيادية، أحيانًا كنت أعتبر الأمر فكرة تخصّ هذا العمر، لكنى عرفْتُ أنها تخصّنى أنا، نسيتها، لكنّى لم أنسَهَا فعلاً"

تأمّلَته قليلاً.

"قل لى دوفو"، ظهرَ عليها التردّد كأنها تراجعَتْ عما تريد قوله.

"لا، لن أسألكَ هذا السؤال"

"اسألينى سيمويا، ماذا؟"

هزّت رأسها نفيًا.

"اسألى، هذا الوضع قد لا يتكرّر ثانية"

شعرَتْ بألم فى قلبها.

"أين سؤالك؟"

"متأكد؟"

أومأ برموش عينيه.

حاولَتْ أن تبتسم كى تُخفّف وَقْعَ ما تقوله، لكنها لم تستطع.

"لو عرِفْتَ أنكَ تموت غدًا، ماذا كنت لتفعل اليوم؟"

فكّرَ وهو ينظر فى عينيها.

"لا أعرف"

تأمّلَتْه لحظة.

"ماذا لو عرفتَ أنك تقع فى الحب غدًا؟"

ابتسمَ.

"ربما أبقى مستيقظًا طوال الليل، أو أنام نومًا عميقًا، وربما لا أعرف ما أفعل"

"لا أعرف، إجابة تعجبنى أكثر"

تأمّلَ كل عينٍ من عينيها على حِدة.

قال "هل قلتُ لكِ أن عينيكِ جميلتان؟"

لمَعَتْ عيناها.

"اممممم، لا أذكر"

"أعرف أنى لم أُفوّتَ هذا، وأنى أحب اللمعة التى أراها فيهما الآن"

حرّكَتْ يدها بطريقته على شكل موجة.

ابتسمَ.

"تؤدّينها بشكل جيد"، رفعَ يده وحرّكَها على شكل موجة، رفَعَتْ يدها إلى جوار يده، وأَدّيَا الحركة معًا بتناغم، رأت رعشة خفيفة فى أطراف أصابعه، أمسكَتْ بها.

"أنتَ ترتعش"

"طبعًا، فى الفراش مع شابة جميلة، لا أحد يستطيع أن يلومنى"

"ترتعش دوفو"، قالت بنبرة بها رعشة خفيفة.

"أنتِ السبب"، سحبَ أصابعه من يدها، مرّرَها على أطراف شعرها.

"أطَلْتِ شَعرَكِ؟"

"أنت قوى الملاحظة الليلة، رغم شحوبك، ورعشتك، أرجوك دعنى أُعدّ لك شيئًا تشربه"

 أَمسكَ بكتفها.

"أريد شيئًا آخر"

"كل شىء لك"

ابتسمَ.

"أخبرينى عن الشيكولاتة، ماذا بينك وبينها؟"

ابتسمَتْ عيناها، فكّرَتْ لحظة.

"حسنًا، الشيكولاتة، كما تعرف، حب كبير فى حياتى، لا أُهديها، ولا أسمح لأحد أن يشاركنى فيها، لأن الفتاة، برأيى، عندما تُهدى قطعة شيكولاتة لشاب فإنها بذلك تقول له: أنا أُحبك، أو تدعوه ليمارس معها الحب، هذا شعورى على الأقل"

"لكنكِ لا تهديها حتى لصديقاتك أو زميلاتك"

"لا يعجبنى هذا المنظر، كما لا يعجبنى أن يُقدّمها شاب إلى شاب"

"غريب"

"ليكن"، صمتَتْ لحظة، نظرَتْ بعيدًا.

"عندما آكل الشيكولاتة تتسرّب إلى روحى، تَدخلنى، أُسَلّم نفسى لها، أتلاشى فيها، أذوب فى اللذّة، وأشعر أحيانًا ببلل خفيف فى سروالى الداخلى"

ضحِكَ "دوفو" ضحكَة قصيرة، نظرَتْ إليه.

"الرجل لا يُعامِل الشيكولاتة مثلما تُعاملها المرأة، أنتم تمزّقون غلافها بقسوة، كأنكم تغتصبونها، تأكلونها بلا إحساس، فقط لتسدّوا جوعكم، المرأة تفتح غلاف الشيكولاتة برقّة، تحافظ عليه كأنه قطعة من ملابسها، تأكلها للمتعة، السعادة، واللذّة"، نقرَتْ ذقنه نقرَة خفيفة بسبّابتها.

 "أنتم لا تهتمون أيًا كان نوع الشيكولاتة التى تأكلونها، نحن نهتم، لكل فتاة نوع مُفضّل، ربما تأكل أكثر من نوع، لكن يبقى لديها نوع حبيب، وكما تعرف، أنا لا أتخلّص من غلاف الشيكولاتة، أشعر أنه قطعة حميمة من ملابسى"، أخرجَتْ نفسًا هادئًا.

 "لهذا كله، لن ترى إعلانًا عن الشيكولاتة يُقدّمُه رجل، ولو حدَثَ، أعرف أن العالم أصيب بخلل ما"، صمَتَتْ لحظة.

"نهاية القصة"

ابتسمَ "دوفو".

"أحبَبْتُ هذا"

مرّرَتْ أصغر أصابعها على جانب وجهه.

"عندى شغف، ما رأيكَ أن نتشارك قطعة شيكولاتة؟"

"لسْتِ مضطرة"

"أفعلُ هذا بكامل قواى القلبيّة"، قفزَتْ إلى ثلاجتها، عادت بقطعة شيكولاتة، جلسَتْ مُتربّعة، وبدأتْ تفتح الغلاف الأزرق على مهل.

"هكذا، برفق"

دفعَتْ الشيكولاتة من أسفل حتى ظهرَتْ فى فتحة الغلاف، قرّبَتْها من فم "دوفو".

"تفضّل"

"بعدَكِ"

قضمَتْ زاوية صغيرة بطرف أسنانها، قرّبَتْها من فمه، أبعدَتْها.

قالت "قبل هذا"

نظرَ إليها متسائلاً، أمالت رأسها على كتفها.

"لم يحدث ولو مرة واحدة ناديتكَ فيها باسمك كاملاً أن ابتَسَمْت، دون أن أراك مثلاً؟"

فكّرَ لحظة.

"لا أعرف، ربما كنت أبتسم بقلبى، مثلاً"

ابتسمَتْ.

"هذا ما توقّعَتْه بينورا"، قرّبَتْ الشيكولاتة من فمه.

"اجعلها قضمة كبيرة"

تناوَلَتْ قضمة بعده.

شعرَا بحركة عند باب الخيمة، رأيا الكنجارو واقفًا يرسمهما، مدّتْ "سيمويا" يدها له بالشيكولاتة.

"شيكولاتة؟"

فكّرَ لحظة، هزّ رأسه نفيًا، انتهى من الرسم خلال لحظات، ابتسمَ لهما، وغادر.

قضمَتْ "سيمويا" من الشيكولاتة.

قضمَ "دوفو".

سيمويا

دوفو

سيمويا

دوفو

سيمويا

دوفو

سيمويا

دوفو

سيمويا

انتهَتْ الشيكولاتة.

سألَتْه سيمويا "كم قطرة مطر فى قلب فتاة واقعة فى الحب؟"

حرّكَ "دوفو" يده على شكل موجة، نظرَ فى عينيها عميقًا.

"أنتِ تعرفين، سيمويا أكسيلينور"

ابتسمَتْ.

قفَزَتْ من السرير، وضعَتْ غلاف الشيكولاتة فى أحد أدراج المكتب.

"سأغيّر الموسيقا"، تنقّلَتْ بين عدّة ملفات موسيقية فى الحاسوب.

"ماذا تحب أن تسمع، كمان، جيتار، مطر فى غابة، بحر مع بيانو، مطر وبحر"

شغّلَتْ موسيقا كمان مع بحر وبيانو.

"ما رأيك؟"

مشَتْ باتجاه السرير، مرّتْ عيناها على هاتفها الجديد فوق المربع الخشبى، التقطَتْه، فتحَتْ الرسالة التى لم ترسلها إلى "دوفو".

قالت وهى تنظر فى شاشة الهاتف "كتبْتُ لك رسالة ولم أرسلها"، نظرَتْ إليه، رأسه مائلة إلى أسفل، رموشه تحجب عينيه، لم تعرف إن كانتا مفتوحتين أم مُغلقتين.

"دوفو؟"

أعادت الهاتف مكانَه، صعدَتْ السرير بهدوء، تأمّلتْ وجه "دوفو".

"لم تعد شاحبًا"

 لَمَسَتْ جبهته.

"ولا باردًا"

مالت قليلاً ونظرَتْ إلى عينيه.

"دوفو؟"

لم يرد

"دوفو"

 لم ينظر إليها.

"دوفو"

 لم يدقّ قلبه.

"دوفو"

لم يتنفس.

ظلّتْ تنظر إليه، شعرَتْ بدموعها على خدّيها.

"دوفو ماليمورا"

أغلقَتْ عينيه، وقبّلَتْهما.

فكّرَتْ، هل شعرَ "دوفو" أنه سيموت الليلة، وجاء ليموت فى حضنها؟

فعَلَ ما كان يُحب أن يفعله لو عرف أنه يموت غدًا؟

"دوفو ماليمورا"

تذكّرَتْ الرسالة التى كتَبَتْها له.

"الهاتف الجديد"، همَسَتْ كأنها تكتشف شيئًا ما.

تساءَلتْ، هل أكملَتْ بنفسها تفاصيل موت "دوفو" دون أن تدرى، وأنها عندما اشترَتْ هاتفَين جديدين، له ولها، ورقمين يخصّانهما، كانت تفعل بالضبط ما قرأتْه فى أوراق "الليل"، ماذا لو أنها لم تفعل، لكن، الأشياء لم تكن تحدث بنفس تفاصيلها التى قرأتْها فى أوراق "الليل"، حتى إنهما لم يذهبا إلى الغابة المُتحجرة، ومات فى سريرها، كيف يمكنها أن تتوقّع هذا؟

التقطَتْ الهاتف، فتحَتْ الرسالة.

"دوفو ماليمورا"

أرسلَتْها, سمِعَتْ نغمة وصولها فى جيبه، ابتسمَتْ لأنه يحمل الهاتف المُخصّص لها، فكّرَتْ أن تأخذه، فضّلَتْ أن يبقى معه كى يكتب لها الرسائل، مثلما قرأت فى أوراق "الليل".

غَطّتْ "دوفو" حتى صدره بملاءة، قبّلَتْ خدّيه، رأت آثار شيكولاتة طفيفة على شفته السفلى، التقطَتْها بطرف إصبعها الصغير، وَضعتْها فى فمها وهى تنظر إليه، ابتسمَتْ ونزَلَتْ منها دمعة.

 مشَتْ عدّة خطوت باتجاه باب الخيمة، توقفَتْ، عادت إلى المكتب، أخرجَتْ أوراق "الليل" من الدرج، وضَعَتْها فى حافظتها الزرقاء، وخرَجَتْ بها دون أن تدرى لماذا تفعل ذلك.

توقفَتْ أمام الخيمة، لمَعَتْ فى عقلها المساحة الخالية بجوار قبرها، عرِفَتْ الآن لمَن كانت محجوزة.

   ذهبَتْ إلى "شجرة العيون"، بحثَتْ عن عينى "دوفو"، توصّلَتْ إليهما بسهولة، تأمّلَتْهما.

"مرحبًا"

ابتسَمَتَا لها.

أمالت رأسها على كتفها، وابتسمَتْ.

اقتربَتْ منهما.

رأت من خلالهما مشهدًا لها وهى واقفة فى مركز الأبحاث، تضم إلى صدرها أوراق "الليل"، عرِفَتْ أنها كانت تتحدث وقتها إلى "دوفو".

مشهد ثان، رأت فيه نفسها على سطح سفينة القبطان المذهول، عارية، إلا من شيكولاتة تُغطى جسدها كله.

المشهد الثالث، الهليكوبتر تطير على ارتفاع منخفض، وهى تقف فى فتحة الباب، تمسك مقبضًا فيه بإحدى يديها، وتمدّ الأخرى إلى الكنجارو الذى يجرى على الأرض ويقفز إليها، يقترب أكثر مع كل محاولة، تخرج من الهليكوبتر بجسمها كله تقريبًا، تمدّ ذراعها عن آخرها إلى الكنجارو، يقفز فى اللحظة نفسها أعلى قفزاته، وتلمسُ رأسه.

"أُحبك دوفو ماليمورا"، قالت "سيمويا" لعينى "دوفو".

مشَتْ إلى الغابة المُتحجّرة, توقفَتْ عند حدودها، أرضها رمل كأنه مزيج من فُتات الذهب والفضة، أشجار، جذوع، وأغصان، كلها مُتحجّرة ومُمَدّدَة على الأرض.

دخَلَتْ.

 مشَتْ بعشوائية، تبحث عن النقطة التى عندما يصل إليها أحدهم، أو بالأصحّ، تكشف هى له عن نفسها، فإن الغابة تخْضَرّ وتستعيد حياتها لمدة دقيقة.

 تعبَتْ "سيمويا"، أرهقَها البحث وليس المشى، توقفَتْ، تلفّتَتْ حولها.

"أظهرى نفسَكِ لى لو أنكِ حقيقية، لو أنّ لى قصة حب"

رأت على بُعد أمتار نقطة تومضُ فى الأرض بنور أخضر، مشَتْ إليها، وجدَتْ شجرة كاملة، مُتحجّرة، تنبض بداخلها نقطة خضراء كأن قلبها يستعيد حياته، جلسَتْ إليها على ساقيها، مرّرَتْ يدها عليها.

"هل هى أنتِ؟ هل أنتِ أنتِ؟"

شهقَتْ الشجرة، استرَدّتْ روحها، اكتسَتْ بالأخضر، مدّتْ جذورها داخل الأرض، وقفَتْ فى مكانها، تفرّعَتْ منها غصون، أوراق، وثمار برتقاليّة بحجم قبضة اليد، لها شكل قنديل، نهضَتْ كل الأشجار، خضراء، مورقة، ومثمرة.

 نظرَتْ "سيمويا" حولها، ابتسمَتْ، ضحكَتْ.

"اخضرّتْ الغابة دوفو، انظر، أعرف أنك ترى هذا، أنت وأنا قصة حب، دوفو ماليمورا، سيمويا أكسيلينور"

مرّتْ دقيقة.

بدأت أوراق الأشجار تذبل وتتحلّل فى الهواء، جفّتْ أغصانها، تلاشت ثمارها، سحبَتْ جذورها من الأرض بهدوء، استلقَتْ واحدة بعد أخرى كأنها تخلد إلى النوم. 

كانت شجرة القناديل آخر النائمات.

ربّتَتْها "سيمويا".

"شكرًا لك"

بدأتْ تحفر بجوار الشجرة، شعرَتْ أن "سيمويا" أخرى انفصلَتْ عنها، ووقفَتْ تتفرّج عليها وتسألها، لماذا تفعلين ذلك؟ لم يكن لديها إجابة، وضعَتْ الأوراق فى الحفرة، وغَطّتْها بالرمل.

عادت "سيمويا" الأخرى إليها.

تساءَلَتْ مع نفسها لماذا دفنْتُ الأوراق؟

توغلَتْ فى الغابة، وجدَتْ نفسها عند حدودها، شريط من أصداف بحريّة عرضه متر يفصل بينها وبين أرض زرقاء ممتدة، يضيئها القمر المكتمل، بها منحوتات لبشر، حيوانات، وطيور، تذكّرَتْ ما قرأته فى أوراق "الليل".

 تأمّلَتْ المنحوتات من مكانها، رأت قشرتَها الصخريّة تتشقّق، هَبّتْ ريح خفيفة حَمَلَتْ رماد القشرة بعيدًا، دَبّتْ الحياة فى المنحوتات، أداروا رؤوسهم إليها، تفاصيلهم واضحة فى نور القمر، رأت فى كلٍ منهم لمحة من الأزرق، أنف زرقاء، أو يَد، شعر أزرق لفتاة، نصف وجه امرأة، ساق حصان، خَدّ طفلة، جناح طائر، كأنهم لوحة بها لمسات من الأزرق.

بدأوا رقصة جماعية، منهم مَنْ يعزف على آلات موسيقية، البعض يؤدون حركات بهلوانية، وبين لحظة وأخرى يشير إليها أحدهم أن تأتى، حتى جاءتها شابة لها يد واحدة زرقاء وتوقفتْ على بُعد خطوات منها.

"تعالى سيمويا، افرحى معنا"

"تعرفيننى؟"

ألقَتْ الفتاة نظرة إلى شريط الأصداف الفاصل بينهما.

"تعالى، لو خطوتُ خطوة واحدة خارج الأرض الزرقاء أتحوّل حجرًا إلى الأبد"

"تعرفيننى؟"

"دوفو يُسعده أن تفرحى"

تأمّلَتْها "سيمويا" لحظة، وابتسمَتْ.

قالت الفتاة "اقفزى فوق الأصداف، لا تمشى فيها"

دَخلَتْ "سيمويا" الأرض الزرقاء.

سمِعَتْ صوت البحر، شمّتْ رائحته، شعرَتْ برذاذه على وجهها، صنعوا حولها دائرة، بدا لها الأمر غريبًا لوهلة، لكنها شعرَتْ بالألفة سريعًا، أشار أحدهم إلى يديها، رأت أصابعها زرقاء، ابتسمَتْ، عاودوا الرقص والموسيقا، رقصَتْ معهم، كانوا يرقصون رقصات غريبة، وبمجرّد أن تحاول تقليدَهم أو يمسك أحدهم بيدها فإنها تؤدى الرقصة نفسها بسهولة، غنّوا بلُغات تسمعها للمرة الأولى، لكنها فَهِمَتْها على الفور وشاركَتْهم الغناء.

كانت تُنصِتُ بين لحظة وأخرى لغنائها وتنظر إلى رقْصِها باندهاش.

 فرِحَتْ معهم حتى وجدَتْ نفسها عند حدود الأرض الزرقاء بعيدًا عن الغابة، رأت خارج الحدود أرضًا بنفسجيّة تتناثر فيها أقمار بمدى البصر، كأن القمر انعكس عليها بأعداد لا نهائية، بالحجم نفسه الذى تراه عليه عندما تنظر إليه من الأرض.

نظرَتْ خلفها، رأت أرضًا زرقاء خالية، وشعرَتْ بالبحر.

تساءلتْ مع نفسها، لماذا دَفَنْتُ أوراق "الليل" بجوار الشجرة؟

دخلَتْ أرض الأقمار، عاد لأصابعها لونها الأصلى، مشَتْ عدّة خطوات، شعرَتْ عند لحظة أنها تداخلَتْ مع شخص غير مرئى، عبَرَتْ خلال جسمه، وامتزجَتْ روحها بروحه، حدَثَ هذا فى أقل من لحظة بدَت كأنها أزمنة متعددة، ومسافات لا نهائية، شعرَتْ "سيمويا" أنّ مَنْ امتزَجَتْ به شَعرَ بها فى اللحظة ذاتها، توقَفَتْ، حتى إنها لم تسأل، عرِفَتْ على الفور أنها امتزجَتْ لتوّها بحفيدتها "بينورا".

مشَتْ من جديد، اقتربَتْ من أحد الأقمار، لمَسَتْه بأطراف أصابعها، بارد، ولطيف، مشَتْ إلى قمر كبير، جلسَتْ على ساقيها عند حافته، رأت صورتها منعكسة فيه، لمَسَتْه، تَبَلّلَ إصبعها، أدركَتْ أنه بئر ماء، اختفَتْ كل الأقمار الأخرى، نظرَتْ إلى قمر السماء، رأت فتاة تشبهها جالسة عند حافته، مدّتْ "سيمويا" يدها إلى البئر، رأت الفتاة تمدّ يدها إلى القمر، لوّحتْ لها، ردّتْ عليها الفتاة.

ملأتْ "سيمويا" يدها بحفنة ماء، رأت فيها صورتها، شربَتْها، لم تعرف إن كان هذا طعم الماء، أم طعمها هى.     

خلعَتْ ملابسها، نزلَتْ البئر، ظهرَتْ سمكة ملوّنة بالقرب منها، بطريق، دُب، زرافة، حصان، فهد، ظلّتْ البئر تتسع حتى صارت العالم كله، ظهر لها بشر، حيوانات، وطيور.

 رأت وجه جدّتها، الفتاة التى أعطتها أوراق "الليل"، حفيدتها "بينورا"، القبطان المذهول، الشاب "كاريسكا"، الفتاة التى تخيط قلبها، ثم وجه "دوفو" وهو يظهر لها ويختفى بين الآخرين، سَبَحَتْ باتجاهه، لم تتغيّر المسافة بينهما، توقّفَتْ، ظَلّ يظهر ويختفى بين الوجوه، يبتسم لها، وتبتسم له.

بدأتْ البئر تضيق، تختفى الكائنات تدريجيًا، كان وجه جدّتها قبل الأخير، ظلّ وجه "دوفو" معها للنهاية، عندما اختفى عادت البئر إلى حجمها الطبيعى.

 غادرَتْها.

ارتدَتْ ملابسها.

تساءلَتْ مع نفسها، لماذا دفَنْتُ أوراق "الليل" بجوار الشجرة؟

مشَتْ فى الأرض البنفسجيّة حتى نهايتها، دخلَتْ أرضًا تُغطيها طبقة خفيفة من تراب رمادى داكن، رأت على مسافة قريبة بيتًا صغيرًا من الطين، يتسرّب من داخله نور فضىّ، وتقف فى فتحة بابه طفلة تنظر إلى النجوم، مشَتْ إليه، دخلَتْ الطفلة وتركَتْ الباب مفتوحًا.

وصلَتْ "سيمويا"، باب البيت أزرق، تطلّعتْ إليه، أمالت رأسها على كتفها.

"هل أعرفك؟"

مرّرَتْ يدها عليه، رأت بجواره، فى جسم البيت، أحد أغلفة الشيكولاتة المُفضّلة لديها، وقلم رصاص بخطوط طوليّة ملوّنة، ابتسمَتْ لهما، تحسّسَتْ الجزء الظاهر منهما.

"أعرفكما أيضًا"

أمطرَتْ عليها خفيفًا، رفعَتْ وجهها إلى السماء.

"مرحبًا"

انقطعَ المطر بعد دقيقة.

نظرَتْ داخل البيت.

نادت "يا فتاة، رأيتكِ"

سمِعَتْ صدى صوتها معكوسًا "رأيتكِ، يا فتاة"

 لمَحَتْ طيف طفلة يجرى فى قلبها.

دخَلَتْ.

البيت عبارة عن حجرة واحدة واسعة، خالية، ونافذة صغيرة يدخل منها نور القمر، باب أزرق بمواجهة الباب الرئيسى، الجدران ملأى برسوم ونقوش، بعضها بالألوان.

رأت رسمًا لطفلة تمشى إلى جوار امرأة لها شعر أبيض طويل.

رسم آخر لشابة تسبح فى البحر إلى جوار سفينة.

الشابة نفسها تشرب مع أرنب من بركة ماء صغيرة على شكل فراشة.

الشابة تقف إلى جوار شاب وهما يبتسمان لكنجارو برتقالى يبتسم لهما.

تنقّلَتْ "سيمويا" بين الرسوم كلها، فتحَتْ الباب المُغلق، وجدَتْ بيتًا بالحجم نفسه، رسوم، نافذة، وبابًا أزرق آخر، تفرّجَتْ على الرسوم، فتحَتْ الباب، وجدت بيتًا، رسومًا، نافذة، وبابًا أزرق.

تكرّرَ الأمر مرات كثيرة.

وصلَتْ إلى بيت بابه الداخلى بُنّى، رأت رسمًا يحتل جدارًا بكامله، عبارة عن غابة أشجار، يقف فى منتصفها الشاب والشابة صديقا الكنجارو بجوار شجرة كبيرة، بها ثمار برتقالية بحجم قبضة اليد، ولها شكل القنديل.

تأمّلَتْ "سيمويا" الرسم لوقت طويل بعينَين مبتسمتَين ورأس تميل على الكتف.

انتقلَتْ إلى الباب البُنّى.

تطلّعَتْ إليه.

سألَتْ نفسها بصوت مسموع "لماذا دفَنْتُ أوراق الليل بجوار الشجرة؟"

لمَعَتْ فى رأسها الإجابة، بدَتْ لها سهلة، كان يمكنها أن تحصل عليها فى أول مرة: دفَنْتُها كى أكون جاهزة لأستقبل نسخة غير مكتملة، وليست الوحيدة، عن مستقبل حفيدتى "بينورا"، أوراق "النهار".

تساءلَتْ، لماذا طلبَتْ من حفيدتها ألا تقرأها إلا بعد أن ترى النهار؟

"أعرف عندما تصلنى الأوراق"، قالت لنفسها.

تنهّدَتْ "سيمويا".

أَسَنَدَتْ رأسها إلى الباب البُنّى.

"ماذا تُخبئ لى؟"

سمِعَتْ من خلفه ضحكَتَها وهى طفلة، عرفَتْها.

فتَحَتْ.

 رأت بدايات النهار.

 

صدرت الرواية عن دار نشر "الكتب خان"، عام 2016.