ومع مرور الأعوام، لتهل من جديد ذكرى ثورة يناير المغدورة، ليؤكد الكتاب والشعراء أنها فى القلب لم تزل، ونبضها فى العروق، وعلى السطور يتوهج، وكأنه الحنين لذكريات الحب الأول. فيستعيد الكاتب تلك الأيام، مصاغة بلغة قصصية وهاجة، تحمل لوعة الشوق، ومرارة الخيبة، فإن شيئا فى المجتمع..لم يتغير.

عدنا!!

محمد القـصـبى

 

كان مساء حزينا ..

أنسحق تحت وطأة الصوت المنفر الذي تطفح به مكبرات نقابة الصحفيين عن تطورات فرز الأصوات ، بينما أذناي تكابدان للفرار من تنظيرات الجلسات الجانبية داخل سرادق عبد الخالق ثروت حول سير عمليات الفرز..توقعاته

 تلاحقني :مطيع النجار هو النقيب!

أعرج على محيي عباس .. فقط لمجرد السلام ..سيدة تجلس في مواجهته تتمتم وهي  تحاول الابتسام: جلال عارف  كان يهزم وكنا نحتفل به ..!!
إذا ..معسكر محيي يقر بالهزيمة !
يتشبث بابتسامة بلا رصيد في القلب وهو يمد لي يده ..لكني فوجئت به يضمني ..أضمه في عنفوان! ..
 لم نكن أصدقاء .. بل ما يربطنا أشبه بغدير -لايصل أبدا إلى حجم النهر- من التواصل الإنساني .. يترقرق بالمودة والاحترام كلما التقينا أو تهاتفنا ..مثله ناصري ..أمي الحنون صوت العرب.. من سرسوب ثديها تلقمت وأنا طفل إحساسي بالوطنية ،حتى لو أخطأت في تربيتي فإني مازلت أحن لفيوضات عطائها -أهي لذة تعاطي الانستولوجيا ؟ لاأدري ! لكن ما أعيه جيدا أني لست مثل الكثير من تياره.. لم أسحق عظام الغلابة  لأصنع منها صنما لعبد الناصر أحلق حوله و" البايب " يتدلى من بين شفتي ، ولاأضع صورته في غرفة نومي.. وكلما هممت بأداء واجباتي الزوجية ، أمثل في حضرته مستأذنا ! ..و صباحا أنهش لحم البواب الذي أوصاني به خيرا..وفي المساء أصعد إلى المنصات لأشدو :مصر يامه يا بهية !
 في عناقنا لم أقل ..وبدوره لم يقل ..لكن ونحن متلاحمان شعرت بأن شيئا يوحدنا ..الإحساس بالهزيمة .. بالانكسار ..
 ولاأدري مصدر القوة التي خلعتني من بين ذراعيه ..وساقت قدمي المتثاقلتين إلى خارج السرادق ..لتلاحقني هتافات عبر مكبر الصوت :النجار ..النجار! ..

 أكاد أصطدم بجندي من قوات الأمن التي تحيط بالمكان.. .. أعتذر ..يسألني : معك قلم يا أستاذ ..!أتأمل تقاسيم وجهه التي تبدو وكأنها حفريات أشلاء معركة عمرها عقودا.. قرونا ،وانتهت بهزيمته ..ولاشيء في لمعة العينين التي تلوح في عتمة رصيف نقابة المحامين ينم على مرار الهزيمة ..بل الاستسلام ..اعتياد على الاستسلام ! ..اعتذرت ..فوجئت بزميل له يسأل مرافقي أيضا عن قلم..! ..هم إذن يبحثون عن نصيبهم من غنائم معركة انتخابات نقابة الصحفيين ..بعضا من الأقلام التي كان يوزعها أنصار المرشحين ..!
 على طريق العودة إلى المنزل تمتم صديقي الصحفي الذي اصطحبني في سيارته:

-الداخلية منذ أيام اتصلت بالصحفيين !
سألت بغير اهتمام :أي صحفيين ..؟
 ذكر سبعة أسماء .. أعرفهم جيدا ..ومنذ سنوات ..كانوا يبحثون عن أوفر تايم ..عن دور ..عن سكة إلى كرسي رئيس التحرير ..فطرقوا أبواب الحزب ..الشاذلي.. الشريف ..عز ..ومنهم من رأى في لاظوغلي بوابة المجد ..بعضهم ..قلة يملكون أدوات المهنة ..إجادة اللغة ..الحس الصحفي ..قدرا من الثقافة ..لكن الجميع تنضح أعماقهم بطموح جامح للوصول ..ولايعنيهم إن تقاطع مع طموح الوطن أم لم يتقاطع ..ومنهم من كابد في تخليق فكرة أراحته ، وشرع ينظر لها ..أنه من خلال الحزب ..من خلال لاظوغلي.. يناضل من أجل حماية الدولة!
مرة كتبت عنهم أو ربما كان صراخاً من فوق إحدى المنصات – لا أتذكر-

هؤلاء لو حكم شارون مصر لاقدر الله لانضموا فورا إلى حزب الليكود !

......
ينبهني صديقي ..حين أوقف السيارة أمام مسكني بمدينة نصر وهو يضحك: ماذا بك .. وكأنك لست من هذا البلد ..كنا هكذا وسنظل هكذا ..ما الجديد ..؟ عشرات مثل النجار مزروعون في الفضائيات وغير الفضائيات يخرجون لسانهم لي ولك كل ليلة ..!
 
وأنا أحشد قواي لأنفلت من السيارة ..قال : بالمناسبة ..مكرم اختاروه رئيسا للمجلس الأعلى للصحافة والإعلام ..وكرم رئيسا للهيئة الوطنية للصحافة !
أشرت له بيدي مودعاً دون أن أعلق ..

...............
أمام المصعد فاجأني جاري :عدنا ..!
تطلعت إليه في صمت مستفسرا ..فزاد :
-
مبروك عليكم النجار!
 
ما يربطنا التصاق جغرافي  ..حيث تلتحم شقتينا بجدار واحد .. لكنه لم يترجم إلى تقارب انساني ..لاشيء سوى تحايا تقليدية أمام المصعد كلما التقينا ..
حتى أحد صباحات فبراير 2011 ...التقيت به وأسرته أمام المصعد ..ملابس كاجوال على غيرعادته وأحذية رياضية .. و.. كل يحمل حقيبة خفيفة .. حاولت أن أكسر حدة ترقب المصعد سائلآ : أجازة ؟
فقال ضاحكا : بل عمل مهم جدا ..في ميدان التحرير !

تفحصتهم في دهشة ....مثلي وأسرتي ..كنباويون بإفراط .. معرفتهم باسم رئيس الجمهورية فقط لأنه مكث أكثر مما ينبغي في المنصب .! لاشيء يشغلهم سوى الوظيفة والدراسة والطعام والنادي والفسح ..ولاأظن أنه يعرف إن كان مرشد الأخوان محمد بديع أم كمال الشاذلي !..هذا مالاحظته منذ سنوات خلال اجتماع اتحاد ملاك العمارة حين خاض أحدهم قبل بدء الاجتماع في حديث حول أسباب عدم اكتمال مستشفى الأخوان المجاورة ..!
 
وها هو يحشد أسرته ليصرخوا في ميدان التحرير..في مواجهة مبارك و العادلي والحزب ورجال الأعمال الفاسدين : كفى!!!
سألته : هل تابعت انتخابات نقابة الصحفيين ؟
-نعم ..
-
وإحساسك الآن !
كما قلت لك :عدنا !!
الكلمات تنفرط من بين الشفتين اللتين تنفرجان عن ابتسامة رأيتها من قبل ..لاأدري متى ..!
في الصباح التقيته ..سألني :وجهك مرهق ..ألم تنم جيدا ؟ ..قلت محاولا الابتسام : لم أنم أبدا ..
-
انتخابات النقابة !
قلت : أشعر بالخوف !
قال وهو يودعني : لاتخف ..

وما أن انشطر عني ببضع خطوات حتى استدار وقال وهو يبتسم :

-أنا وأولادي نعرف جيدا الطريق إلى التحرير !!
 
تأملت وجهه بدهشة ..لم يكن جاري ..بل أحمد راتب ..منذ يومين شاهدت رائعة وحيد حامد " طيور الظلام " للمرة ربما المئة ..
 
في الفيلم شخص وحيد حامد منذ أكثر من ربع قرن الحالة المصرية بأنها صراع على السلطة بين الأخوان " رياض الخولي "والحزب غير الوطني "عادل إمام " ، وثمة طرف ثالث نقي شريف يتابع ما يجري في سلبية " أحمد راتب "، لكن حين فاض الكيل ب"راتب " اندفع يوم 25 يناير . إلى الميادين ، ونجح في عزل مبارك ، وحين سرق الإخوان فرحته  اندفع مجددا إلى الميادين في 30يونيو لتصحيح المسار ،و..أيضا نجح ، لكن الوجوه المقيتة تعاود التسلل يوما وراء يوم إلى الواجهة لتسرق فرحته !

والآن.. وأنا أتأمل ابتسامته الهادئة وهو يغادر العمارة...عرفت متى رأيت تلك الابتسامة ..أحد صباحات فبراير 2011 حين كان يرتدي وأسرته ملابس الكاجوال ... في طريقهم إلى الميدان !