يتصدر التلفزيون وسائل الإعلام المؤثرة على صناعة الرأي، هنا تقدم آسية السخير ترجمة لنص بقلم يتطرق فيه الكاتب الفرنسي المرموق لآلية هذا الجهاز وعنفه السلطوي، ومناوراته في تكريس السلب وذهنيّة الخضوع، بغية إدراج المتفرج في معارج السوق السياسية والاستهلاكية.

جعل الدماغ فارغاً

التلفزيون ينجح فيما فشلت فيه كل الأنظمة الشموليّة

برنار نويل/ ت: آسية السخير

إعياء وتمرد، في الحقيقة هو الحنق في الانهيار عندما ينصبّ التمرد. لقد نجحت السلطة في إيجاد الوسيلة الحذرة التي اجتاحت بواسطتها مناطق الدفاع فينا، أو لنقل إنها نجحت حتى في إتلاف طاقتنا. وهنٌ يأتي دون مبرر، ولا يغدو مدركاًً إلا عبر الصدفة، نخمّن حينها إذن، أن الحلم القديم الجائز بصدد التحقق: حلم الخنوع بلا قهر ظاهر، والذي ينتج عنه الإعراض والإهمال. لكن أي اجتياح هذا الذي تم إغفاله كي يحدث ما حدث؟ منذ زمن بعيد سابق، وكي أشرح هذه الظاهرة صنعت كلمة "sensure"، وهي توليفة مشتقة من كلمتي الرقابة أو الحرمان censure والإدراك sens، كي أعبر عن الحرمان من الإدراك وفقدانه. هذا الحرمان يؤدي دون شك إلى ضياع خطير ملائم للخضوع، دون أن يتم تصنيفه وفقاً للوضع الحرج الذي هو عليه فعلاً. كما أنه يخلق له الفضاء المناسب له، هو أيضاً يؤدي في حالة امتداده إلى وهن هو الأكثر نجاعة وفعالية، إلى درجة أنه لا يغدو غير عادة مقترنة بنوع خاص من الاستهلاك، الذي يصير شيئاً فشيئاً اعتيادياً بالنسبة إلى ضحاياه. هكذا يصبح حقاً للمسمى حرماناً تأثير على الإدراك، لا يقلّ خراباً عن تأثير المخدرات التي تهاجم قدراتنا الذهنية. ماعدا هذا، ما من أحد يفكر بمثل تلك المقارنة التي تبدو صادمة وغير لائقة. المشكل هنا هو أنه لا يمكن معرفة كيفيّة تعريف وتحديد دوافع وأسباب هذه الخسارات، التي لا يمكن الإحساس بها كما هي في واقع الأمر، حيث أن انعدام الإدراك هذا يمثل إحدى أهم ميزاتها.

العامل الأساسي للحرمان من الإدراك في أيامنا هذه هو التلفاز الذي يعتبر السبب المباشر، وذلك من خلال شعبيته وما يتمتع به من عدد ضخم لا يستهان به من المتابعين، كما أنه المسؤول أيضاً من خلال تحريضه على سلوكيات سياسية واقتصادية وترفيهية بعينها. عدد متابعي التلفاز هام لكونه لا يتطلب مجهوداً آخر غير الجلوس أمام الجهاز، ثم المشاهدة والاستماع. لم يحدث أبداً على مدى تاريخ البشرية أن توفرت وسيلة إعلام، أو تثقيف تمنح نفسها للاستهلاك بكل هذا اليسر. تلك السهولة بطبيعة الحال ذات مغزى في حالة انبثاقها ضد تيار القانون الأخلاقي الأولي، الذي يؤكد على أنه لا يمكن الحصول على شيء دون بذل ما يتطلبه من مجهود. في زمننا هذا، صار المتفرج يتحصل على الأخبار، على البرامج الترفيهية، والأشرطة الوثائقية دون أن يكلف نفسه أدنى مشقة. وكي يحقق ذلك لا يحتاج إلا للجلوس في وضعية المتقبل السلبي والخامل، مفسحاً المجال لكل ما يشاهده كي يخترقه. كل شيء يوهب له على شكل عرض للصور الناطقة المتعاقبة بنفس القدر في فضائه الذهني كما أمام ناظريه، ذلك أن الفضاءين البصري والذهني على ارتباط دائم، يمكن أن نستنتج مسبقاً وكما ينبغي أن هذه الصلة الوثيقة لا يمكن أبداً أن تكون محايدة، وأن اختراق ذلك العرض من الصور عبر العين يقود يوماً فيوماً إلى كسلٍ هو بذاته يصنع عروضاً ذهنية شخصية، وبناء عليه تكون هي الأخرى إدراكاً.

من ناحية أخرى. غالباً ما تكون الصور التليبصرية مصفحة، وهذا ما يحصل على كل الأصعدة. هي تستدعي إذن تشكيل نسق عرض مشابه لها تماماً، ينجز عن ذلك إنهاك للتفرد ولملكة الابتكار، اللذين يصبان في مصلحة نوع من المتخيل المتفق عليه، المؤلف عند الجميع من ذات العناصر المتناسخة بسبب مشاهدة نفس البرامج. كان من المتعارف عليه اجتماعياً اعتبار هذا الصنف من التحاليل مسرفاً، بيد أن مدير قناة TF1 أظهرها مؤخراً معدلة، وهو يؤكد (وسأعود إلى هذا) على أن دوره يتمثل في صناعة أدمغة مهيأة. هي إذن وفقاً لهذا التصريح يجب أن تكون جاهزة للاختراق من طرف كل إغراءات الإشهار بالخصوص.

من الأفضل الانتباه إلى معرفة أن التخطيط للحرمان من الإدراك يتم بسفاهة ونذالة قصويين: ذاك أنه يعرقل القدرة على البرهنة عليه، ويسمح بالتساؤل عن خسارة، هي في منأى عن الإدراك وتتعلق بالحيوية والقدرة على الحياة. يبدو أنه من الطبيعي أن تشغيل الخيال تتم تسويته عبر عرض لصور غير ذات معنى تحلّ محلّ حركتها الطبيعية، بيد أن المفعول الضئيل لهذا الاستبدال للدلالات يفرط في الذهاب بعيداً. هل يحدث ذلك لأن الزمن الذي نقضيه في القيام بأمر ما ينطوي، أو لنقل يؤدي إلى التزام جزء صغير معادل من حياتنا؟ هل يحدث ذلك كنتيجة، حيث أن ذاك الجزء الصغير من الزمن المبدد في الاهتمام بالتفاهة هو في آخر الأمر استهلاك مميت؟ يذهب الإحساس هنا إلى أنه لا يمكن المسّ بالفضاءات الذهنية للإنسان دون أن يلحق الضرر بجسده. وإصابة الجسد في هذه الحالة بليغة الخطورة ووخيمة العواقب.

لاشك أن الحديث سابقاً لم يجرِ سوى عن "الزمن الضائع"، فيما يخص الوقت المقضي أمام شاشة التلفاز، لكن عندما يصير الزمن الضائع عادة يومية، فإن خصائصه ستتغير طبعاً. كشفت الإحصائيات أن الفرنسيين يجلسون أمام التلفاز بمعدل أربع ساعات يومياً، وتلك المدة تضاهي ربع سني أعمارهم وهم في حالة يقظة. إن عدم الاكتراث بضياع ذلك الوقت، واعتبار الأمر غير ذي أهمية، لا يمكن أن يمرّ دون الإضرار بالحواس والإدراك بما أن الفاعلية الذهنية التي يخضع لها يعوضها دائماً تعاقب الصور، الذي يمثل معالجة بواسطة الوهم والخضوع لكل ما هو متعارف عليه جماعياً. ذاك الوهم يجتاح المشاهد لأنه لا يكون فقط في العرض الذي تتم مشاهدته في حدود الحياة الخاصة، بل هو يشكل رويداً رويداً كل المحيط، إذ أنه ينبغي أن يكون مشابهاً للصور المعروضة إن أراد الإقناع "عندما يتعلق الأمر بعالم السياسة"، وأن يكون قادراً على اغتصاب الإعجاب "عندما يتعلق الأمر بالأشياء والمواد والمنتوجات"، أو على الإغراء "عندما يتعلق الأمر بالعلاقات". كل هذا يؤثر ويشتغل عن طريق العدوى، لأن الدعوة التي تحرص الصور على توجيهها تتفاقم بسبب التأثير الساحر الذي لا يقاوم، وليس بسبب التبصر والتروي في التفكير. هذه الطريقة تتطابق مع عملية الاستهلاك حيث يصير التعليب واللف أكثر أهمية من المحتوى، وهذا الأخير يمكن أن يظل مطابقاً ومحرضاً لرغبة جديدة شريطة أن يغير مظهره.

في لعبة الصور هذه يظلّ المظهر هو البضاعة الأهم: الصور تبيع اللاشيء بيد أنها تلتحم أيضاً باللاشيء السياسي، كما أنها تسوق لمحبة خواء الوضعيات العاطفية والإيروتيكية وعدميتها، تختصر السعادة في تلك الصورة بينما يمثل المستقبل نفسه صورة أخرى مختلفة تماماً. مذاك الحين، يغدو الواقع زائداً، ويذهب طي النسيان في النظرة التي نسقطها عليه، لأن النظر يسحب عليه تماثلاً يرضي قناعاتنا. الجسد يعامل بذات الطريقة، غير أن ذلك يتم من الداخل مادام الداخل هو الذي يمثل في البداية فضاء العرض، بل هو في حقيقة الأمر فضاء صغير ليس أكثر من قناة، أو حتى مصب تنساب فيه صور دون أن يكون قد تم استيعابها ومقارنتها. تلك الصور في ذات الآن لا تبالي بالذي يتقبلها: هي فقط تخترق وتلج ثم تمر، وتصير حركتها، التي يجب أن تمضي ذات الأهمية الوحيدة، وإدراكها لا يعدو أن يكون اتجاهاً، تقدماً يمحو في نفس الوقت ما يتفاقم في الجسد المعالج الذي يعتبر ماسورة بسيطة للاستلام وللتصريف. فتحة ذاك الأنبوب هي الدماغ: دماغ صار في الواقع جاهزاً بفعل الحركة، وهو لا يمكنه أن يحتفظ بشيء آخر غير الرسائل التي يكثف فيها المختصون بالإعلانات القليل من الإدراك.

هذا الإدراك طبعاً خانع ومطيع: إنه لا يسعى أبداً إلى التنوير بقدر سعيه إلى تغذية الخيال، هدفه الوحيد هو استهلاك هذا أو ذاك، وهو نفسه لا يعدو أن يكون نتاجاً مدرجاً بواسطة تعليب يدّعي الومضة أو الإعلان الإشهاري. بيد أن اتجاه الأخبار اليومية التليفزيونية أو البرامج السياسية، ليس أقل اخضاعاً واستعباداً من برامج الإشهار التي تستعمل كنموذج له، ما خلا حالات استثنائية نادرة، فإن الأمر هنا لا يتعلق إطلاقاً بالإعلام الحقيقي، هو فقط طريقة لاستهلاك رؤية متفق عليها للأنباء، لشخصية ما، لحزب بعينه أو لحدث ما. فسير وتقنية الاستهلاك هما اللذان يقودان كل الخطابات المنشورة: هما أثناء ذلك يكونان بصدد تشكيل الثقافة والتربية وصياغتهما.

هذه الوضعية مخربة لأن المستهلك لا يعتبر فيها مواطناً مسئولاً عن اختياراته، هو لا يعتبر حتى مثله مثل أي مقتن آخر عاقل وقادر على التمييز. كل ما في الأمر هو أنه ثمة سعي إلى تنمية انصياعه الذي يجرده من وعيه وقدرته على مقاومة إغراء منتج أو فرد يضع قناع صورة فاتنة.

وبالفعل، فان تثبيت الخنوع ابتدأ عندما حول العرض التليفزيوني المشاهد إلى كائن سلبي عديم الانفعال عوضاً عن حثّه على المشاركة. المشاهد السلبي ليس إلا أنبوباً بلا مصفاة فهو لا يفكر ولا يهضم، مما يجعله لا يتقن غير الامتصاص دون كلل. هذا المشاهد القابل للابتلاع دون تدبير وحفظ، هو النموذج الأصلي للمستهلك المثالي، ذاك الذي، بمقتضي الملصقات الإعلانية الخسيسة في هذه الأيام ينصاع لـ "واجب الابتياع".

من الواضح أنه لا يمكنك التعامل مع جسدك على أنه عضو بسيط للامتصاص لا يصلح لغير علفه وتسمينه بالصور دون أن تزدريه. هذا الجسد المستغل، في وجوده المادي ووجوده النفسي على حد سواء، ليس إلا ضرباً من الفجوات العضوية المزروعة فيك كي تجعل الحي يعيش عالة، وتحوله إلى مستهلك مذعن لما تمّ تلقيمه إياه. المستهلك يعتبر بشكل ما في هذه الحالة بغياً بالنسبة للسلعة المعروضة، ربما يبدو هذا الوصف كاريكاتورياً: إنه لا يفعل شيئاً آخر غير التبسيط كي يوضح الحقيقة، بالإضافة لذلك فإن ثمة ما هو أبأس وأدهى في هذه الحالة، إن وقع التفطن إلى أن الحرمان من الإدراك المقترن بالاستهلاك السلبي يؤدي إلى التسمين بالخواء الذي يقع تثبيته في مجموعة المتفرجين.

الاختراع العبقري لهذا النمط الإعلامي يهدف إلى إغراقنا بالمظاهر أو بالأحرى إلى شغلنا باللاشيء. يتمخض عن ذلك نجاح غريب إذا فكرنا في أنه على مرّ التاريخ كل الجماعات تجد معناها وتحقق وجودها في اشتراكها بالأفكار المتينة بما يكفي، حيث أن كل فرد يتحد بالمنظومة الاجتماعية أو "الرمزية" التي ينتمي إليها ويمتلئ بالشعور بالاكتمال فيها أفضل مثال على ذلك هو ما تقدمه الأديان المنشغلة بتزويد المخلصين لها بحياة روحانية تستند على الشعائر وترضي شهيتهم ورغبتهم في الإدراك. الأنظمة التوتاليتارية كرّست أيديولوجيات من المفروض أن تشتغل كما الأديان، أي أنها مدعوة إلى تمجيد الاشتراك في الفكرة الجماعية. وخشيتهم من أن تمرين التفكير يؤدي إلى الاحتجاج، جعلهم يجمدون الأيديولوجيا بسرعة بجعلها أفكاراً جاهزة غارقة في التفاهة والوهم الهزيل. هذا الانتصار الغريب للمؤسسة الإعلامية يتمحور حول إنتاج التفكير الموحد بمنح اللاشيء الذي يمكن التفكير فيه. وهذه العملية ممكنة عن طريق الاستحواذ على الفضاء الذهني، بواسطة العرض الذي يقلد حركة التفكير، وخلق المشاركة بالفراغ الذي يجب تقاسمه، وذلك دون شك الأكثر ربحاً بالنسبة للسيطرة الاقتصادية، التي لا تنفك تتحسن بما أنه ثمة حرص متقن على استئصال الفوارق الدقيقة، لصالح وجهات النظر الثنائية التي لا تقبل بغير الـ "لا" أو الـ "نعم".

الأكثر ثباتاً في سلوك الإنسان هو جنوحه/ نزعته نحو الخضوع والعبودية، توجد عبر كل الأزمنة أكثرية تضطهدها أقليّة لا يمكن أن تنجح في ذلك بغير موافقة الأولى. من المؤكد أنه كان ثمة انتفاضات وهياج شعبي وعصيان وتمرد وحتى ثورات، لكن القمع كان دائماً ما يعاد إلى نصابه.

وغالباً ما يتم ذلك عن طريق عنف المحررين الذين يستحوذون بواسطة معارضتهم للسلطة على وسائل السلطة من مؤسسات.. عسكر، شرطة وكل ما يرمز بالضبط إلى الأشياء التي يجب هدمها لتغيير النظام الاجتماعي. والحال انه أصبح مجتاحاً من طرف الإعلام، فإن مجتمعنا صار يسمح بالحلم بسلطة، هي دون أن تخسر شيئاً من طبيعتها القمعية تقرر العدول عن العنف لأنها لم تعد ضرورية للهيمنة إطلاقا. لم يعد ثمة لزوم فعلاً للاضطهاد والإخضاع بواسطة القوة، بما أنه يكفي أن تستحوذ على العينين كي تتحكم بالعقل، وبالتالي بمكان الرفض المحتمل.

كانت أنفاس الأنظمة القديمة تنقطع من أجل المنع والتفتيش والتحقيق والمراقبة دون أن تنجح في السيطرة على مكان التفكير وقهره، ذاك الذي يقدر دائماً على الاشتغال بصمت وسكون ضدها. السلطة الحالية تقدر على احتلال مكان التفكير ذاك دون أن تستعمل أي إجبار مهما كان ضئيلاً: إذ يكفي أن تجعل الحرمان من الإدراك يشتغل، ينفذ ويؤثر، ومحروماً من الإدراك والإحساس يتزحلق الإنسان بصفة طبيعية نحو الرضا بالعبودية والقبول بالاستسلام. ووسائل المقاومة تظل دائماً مذعنة، طالما أن صمودها يستوجب أن تكون على علم بفعل القهر المسلط عليها كما أنه يجب أن تعرف أنها ضحية. هي كذلك تظل خانعة لأنه من الصعب تنمية الوعي عندما يكون المضطهد هو نفسه القامع لذاته. ليس ثمة من شخص آخر غيره كي يستخدم كعامل للحرمان من الإدراك والإحساس.

هذه الوضعية تجعل عملية استعادة الوعي من هذا الامتداد الشاسع للخسارات عسيرة.. بعد وقت قصير نشتكي من الزمن الطويل الذي نقضيه أمام شاشة التلفاز.. بعد وقت قصير نسخر من حماقة برنامج كنا كابدنا مشاهدته.. بعد وقت قصير نتبجح بأننا كنا ننتقل بدراية وبسرعة قصوى بين القنوات. بيد أن هذه التحفظات لا تذهب بعيداً نحو التطبيق إلا في حالات نادرة، لاسيما وأنها لا تتمعن ولا تعالج المشكل الحقيقي، مما يعني الاستيلاء الكلي القاهر لفيض الصور. والأدهى هو أن البرنامج الجيد والجدي ينحدر إلى احتلال نفس الفضاء الذهني مثله كمثل أي برنامج رديء.

جمعية المشاهدين هي الأخرى لها معدلان اثنان للسرعة ونلاحظ جيداً أن المنافسة بين القنوات واهتمام المتابعين لا يدوران في فلك النوعية، والانشغال الوحيد هو أوج الإغراء من أجل أن يرفع الصنف الملائم من المشاهدين من قيمة دقيقة الإشهار إلى أقصى حد ممكن. هذه "المثالية" تتطلب أن يعامل المتفرج، ليس كمستمع أو زبون كما يبدو الأمر في الحالات السوية، وإنما كعقل "شخص" يجب أن يصير طيّعاً ومطيعاً للرسائل الإشهارية/ الدعائيّة وكل ما شابهها. ذاك هو الهدف الذي تقترحه على نفسها القناة الأكثر شعبية، وهذا يعني أن جمهورها، الذي يعد ما يقارب نصف متابعي التلفاز الفرنسيين، سيكون مسيّراً وفقاً لإرادة مصالحها في حين أنه يتصور أنه يتسلى أو يتلقى أخباراً.

هذا الاحتيال الذي يمر عبر التزييف والتمويه يستعمل لإنشاء مجموعة مستمعين ببيعهم لأصحاب الإعلانات، فالمشاهدون قطيع يحذف منه الرأس ليعرف مقداره كي يباع لنخاسي الإعلانات الإشهارية/ الدعائية. السيد باتريك لو لاي الرئيس والمدير العام لقناة TF1 عبّر بخصوص هذا الموضوع بوقاحة لائقة بإضاءة الأمور أخيراً: "مهمة الـ TF1 هي مثلاً مساعدة الكوكاكولا على بيع منتجها. ولكن لكي تكون الرسالة الإشهارية/ الدعائية ملء الإدراك ينبغي أن يكون دماغ المتفرج شاغراً وخاملاً، برامجنا ليس لها من غاية غير جعل الدماغ جاهزاً: أي تسلية، تريحه بين الرسالة والرسالة التي تليها كي يكون مهيأ، ما نبيعه للكوكاكولا هو زمن الدماغ الإنساني الشاغر".

السيد لو لاي لا يقول ماذا يعني "دماغ إنساني شاغر"، لفرط ما تبدو له هذه الحالة فعلاً مكتسبة، ولفرط يقينه بقدرة التلفاز على إنتاجها. هذه الثقة/ الجرأة هي طريقة مضمرة وضمنية تذكرنا بأن التلفاز هو الوسيلة الأسرع والأنجح لتفريغ الدماغ/ العقل كي يتقبل "رسالة" وكأنه هو الذي اخترعها.

أبعد بقليل، يشير السيد لولا لاي، عرضياً إلى سبب لهذه الفعالية: "التلفاز نشاط بلا ذاكرة". يمكن القول بطريقة أخرى إن "الشغور/ الفراغ" لا يكسب أي درس مما يسجله ذات لحظة ما. إذن، هو يظل متيناً وغير قابل للاختراق.

السخرية المرة ـ لكن إزاء من؟ ـ تصر على التذكير دائماً بأن السيد يويغس تحجج "بأفظع خطاب ثقافي" عند خصخصة الـ TF1 سنة سبعة وثمانين وتسعمائة وألف، كي يفوز بها أمام منافسيه ويصبح مالكاً لها.

هذا "الثقافي" تحوّل إلى فن يجعل الدماغ الإنساني خاملاً وخاوياً. هذا الفن الذي لم ينجح أي نظام استبدادي/ توتاليتاري/ ديكتاتوري في تطبيقه بكل ذاك النجاح والإتقان.

هذا النجاح "يقنّع" ويموه على فعاليته من وراء تجارة تبدو أنها لا تهمّ غير منتجات الاستهلاك، إذ من المرجح أن يكون اعتراف السيد لول لاي بأن غاية قناته هي جعل عقولنا شاغرة ـ مثالاً ـ لتقبل أفكار السيد ساركوزي لن يكون مثمراً. لا ينبغي، خاصة تحذير القطيع البشري من الشاري الذي سيصبح متملكاً، له إذا كان يريد أن يسلمه على شكل كتلة ودون مشاكل. يمكن فهم أن الشغور الذي يشتغل عليه السيد لو لاي بواقعيّة نفعيّة جديرة بإعجاب كل "المقاولين" ليس غير نسخة للعبودية القديمة. المجتمع الاستهلاكي بحاجة إلى هذه العبودية التي تجعلنا نقتنع بأن اختياراتنا ليست ناجمة عن غير إعلام حر، موضوعي لا يبالي بأي شيء. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولد الكاتب برنار نويل في بلدة سانت جينيفياف سور أرجنس شمال مقاطعة أفيرون SAINT GENEVIEVE ـ ARGENCE A AVEYRON  في التاسع عشر من تشرين الثاني سنة ثلاثين وتسعمائة وألف. وجذب الانتباه منذ مؤلفه الشعري الأول "خلاصات الجسد" سنة ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف. ولم يظهر مؤلفه الثاني "وجه الصمت" إلا بعد عشر سنوات أي سنة تسعة وستين وتسعمائة وألف. أما روايته "قصر العشاء الأخير" فكبدته عناء الوقوف أمام القضاء الفرنسي بتهمة الاعتداء على الأخلاق الحميدة وخدش الحياء. كرس برنار نوبل الذي يعتبر من أهم أدباء عصره حياته للكتابة منذ سنة واحد وسبعين وتسعمائة، ومن مؤلفاته: "خلاصات الجسد" EXTRAIT DU CORPS، "لغة لسان حنا" LA IANGUE D'ANNA، "قلعة العشاء الأخير" CHATEAU DE COMMUNE، "انهيار الأزمنة" LA CHUTE DES TEMPS، "قاموس التجمعات البشرية" LE DIETIONAIRE DE LA COMMUNE، "الإخصاء الذهني" LA CASTRATION MENTALE، "ماغريت" MARGARITTE، "ماتيس" MATISSE، "إحدى عشر رواية" ONZE ROMANS، "فضاء القصيد" L'ESPACE DU POEME. برنار نويل شاعر، وروائي مجرب، وناقد للفن التشكيلي قادته حسه الفني وصداقته واحتكاكه بالرسامين إلى المشاركة في تأليف العديد من الكتب الفنية. اعتبره كل من لويس أراغون وموريس بلانشو كواحد من أهم الوجوه الأدبية في حقبتنا هذه. ومن أبرز إنجازاته منحه للشعر الدور الأساسي والموحد لكونه يعتبره المحدد للفضاء والحاجة. وفي سنة اثنين وتسعين وتسعمائة وألف حصل برنار نويل الجائزة الوطنية الكبرى للشعر.