وتظل الفضية الفلسطينية، ساخنة رغم مرور السنين. تتأجج نيرانها بين فترة وأخرى، فتتأجج المشاعر من جديد، وتصبح وقودا للمبدع، فيعذف لحنه، وينشره .. فتتأجج المشاعر، ويتحرك الساكن، وهكذا فعل المبدع المصرى "في هذه القصة.

قطار القدس الأخير

سمير مندي

 

جاءه الموعد السنوي المعتاد فالورقة تحمل ذات الرقم السنوي مع اختلاف السنة فاليوم الرابع عشر من مايو، يتكئ " عدنان " على وحدته شاردا في لا أحد ، على كتفه الحطة الفلسطينية في إحدى يديه العقال ، يسير بخياله على جانب سكة حديد ممتدة على قضبان شامخة تتحدى الزمن لتقول للجميع-  : كنا هنا ذات يوم أصحاب للحياة والحضارة ولا أحد يستطيع إنكار ذلك مهما مر الزمن، تلك القضبان الصدئة شهدت الرحلة الأخيرة لقطار القدس يوم حملته أمه من خاصرته ورفعته عن أرض رصيف المحطة ليقبل أباه الواقف في نافذة القطار مودعا ، يتشبث عدنان بكفه الرقيقة بحطة أبيه لا يتركها ، يتحرك القطار فينزع الحطة يسقط على الرصيف العقال ويمضي القطار، تحتفظ الأم بالحطة والعقال حتى عودة الزوج في ذات القطار بعد أن ينهي بعض أعمال مع أخوته في حيفا، يزعج الصغير صرير المكابح وصفير القطار وأعمدة الدخان المتصاعدة برائحة المازوت، يتابع أباه الذي يلوح لهما من نافذة القطار بمنديله؛ يبكي الصغير على غير عادته ، تهاجم عصابات الهاغانة القطار في طريق مرج ابن عامر ويحترق القطار بمن فيه من عرب ، ويتوقف خط سكة حديد القدس في ذات العام ولا يعود لمصر ، في ذلك اليوم وقف الغاصب مبتسما في يده بندقية وصاحب الحق مقيدا بسلاسل حديدية ، تتوقف السكة الحديد ، ينزلون الساعة الكبيرة ذات العقارب المعدنية المعلقة على واجهة محطة القدس بعد أن رنت رنينها الأخير مثل صوت قرع أجراس كنيسة القيامة في بيت لحم ، يحترق لها المسجد الأقصى حزنا . صار الصغير شيخا في راحتيه حطة أبيه يضعها على وجهه يشم ريح أبيه فترتد له ذاكرة لا تضيع . يطوف في مسامعه صوت أمه التي عاشت تحدثه عن بحيرة طبرية وزهور شقائق النعمان التي تملأ الأودية وخرير الجداول في المزارع ورائحة أزهار الليمون وأشجار الزيتون وتغريد الحمام ونور الشمس المشرقة من النهر إلى البحر . لا يغادر باله نكبة الأرض . يجري لسانه بكلمات أمل - إنه ليس ثأرك وحدك - لكنه ثأر جيلٍ فجيل - وغدًا .. - سوف يولد مَن يلبس الدرع كاملةً - يوقد النار شاملةً - يطلب الثأرَ - يستولد الحقَّ - مِن أَضْلُع المستحيل . وفجأة إذا بالشيخ عدنان وكأن الزمان عاد به للوراء أو كأنه بقطار القدس رجع يسير على قضبان عادت لامعة كالفضة ، يقف أبوه في نافذة القطار وعلى رأسه الحطة والعقال ، فما عاد يزعج عدنان صرير مكابحه الحديدية أو صفيره العالي ، يشم في أدخنته المتصاعدة رائحة أزهار الليمون وأشجار الزيتون ، يعود عدنان طفلا وبكل ما أوتي من قوة يرفع ذراعه بالحطة ملوحا بها لأبيه صارخا : - لن أصالح.