لم يكن ما تفعله أمريكا، بعنصريتها المتغطرسة، مع المحتل الإسرائيلى، بهجومها الوحشى على العُزل فى فلسطين المحتلة، بغريب على الأذهان والوجدان. فهو ما اتسشعره الكاتب محمد ناصف وعبر عنه فى قصته، قبل ما يحدث الآن بسنوات، حيث تحول تمثال الحرية إلى شعار أجوف، فكانت نظرة كل بلد إليه، ليعكس رؤيته لذلك الذى تحول إلى كتلة صماء.

من هنا تشرق الشمس

محمد عبد الحافظ ناصف

 

دفء أمي وحنانها يصلني رغم المسافات البعيدة ورغم الثلوج التي يرتديها كل شيء حولنا ويحولها إلى اللون الأبيض، كنت أرتدي من الملابس الثقيلة ما يعينني على تحمل برودة أمريكا، لكن درجات الحرارة تنخفض بشكل غير عادي هذا العام.

كان علي وصديقي أن نخرج في هذا اليوم لزيارة إحدى المدارس لنرى التطور في كل شيء، ونرى الفصول المجهزة بأحدث الوسائل العلمية التي يشتاق إليها تلاميذي الصغار في المحلة، كان كل شيء مدهشاً في المدرسة وخاصة إتاحة الكمبيوتر والشبكة العنكبوتية للتلاميذ، والتي بها يستطيع الطفل أن يتصل بأي مكتبة في الدنيا ويأخذ منها معلوماته التي يحتاجها دون أن يعاني في البحث عن كتاب على الأرفف، تخيلت الولد "عبد الرحمن" يتصل بي ويشاكسني بأسئلة عن طبقات الأرض وعن ثقب الأوزون وعن الكواكب السيارة، ضحكت لأنني لم أسمع لدغة لسانه، ولكنني أرى أسئلته مكتوبة فقط على شاشة الكمبيوتر.

دخلنا أحد الفصول، كان الأولاد يرسمون موضوعات غريبة والجليد أساس للجميع وتمثال الحرية وديزني لاند والناطحات يفضلها بعضهم، تذكرت رسوماتنا عن المولد النبوي والعيد والسوق والفارس الذي فوق حصانه يحارب أعداء الوطن وأكتوبر والعلم الذي فوق كل شبر عربي والكعبة المشرفة والمسجد الأقصي وقبة الصخرة.

التف حولي مجموعة منهم، كان يقف بينهم متحفزاً ولون بشرته البرونزية وشعره الأسود المسترسل أخذني إلى الشرق، قلت في نفسي:

هذا الولد ينتمي حتما للشرق.

ابتسم نفس ابتسامة الولد عبد الرحمن في فصل ثالثة أول بمدرسة طه حسين، سألني عن بلدي قلت بحرارة الشمس التي تسري في جسدي:

  • من مصر.

- قال مرة واحدة:

        النيل والأهرام وأبو الهول، أود أن أرى مصر، يقولون إن الناس لديكم كرماء ويبتسمون دائماً.

       ابتسمت له فابتسم، فأشرقت شمس كانت غائبة حولنا للحظات، كانت بنت بيضاء ثلجية تتابعنا منذ بداية الحديث، لها نظرات حادة ثاقبة تخترق شفافية وهدوء الولد وتعكر صفو الحديث الذي يدور بيننا.

       كان لكل تلميذ منهم كرسي يتركه ويقف مشرئبا كي يرسم بإتقان، كان تمثال الحرية هو موضوع تلك المجموعة، منهم من يرسمه طويلاً ومنهم من يرسمه غارقاً في مياه المحيط الأطلنطي ومنهم من يرسمه مطفأ الشعلة ومنهم من يضيء الشعلة.

       شعر زميلي الذي معي بالدوار فجأة، أحضر الولد الهندي كرسياً فجلس زميلي عليه، وجلست على كرسي آخر، كان الكرسي الذي يجلس عليه صديقي يخص البنت التي بلون الثلج، احمر وجهها غضباً، وضعت يدها بعصبية على الكرسي:

  • إن الكرسي الذي تجلس عليه يخصني أنا!
  • لكنك تتركينه ولا تجلسين عليه.

هب زميلي واقفاً يتملكه الغضب رغم حالة الدوار التي تسيطر على جسده، أعطاها الكرسي بعصبية، أخذته ببرود شديد ووضعته جانباً ولم تجلس عليه، تحول لون صديقنا الهندي إلى احمرار شديد، اعتذر بشدة وهرع يحضر لنا عدة كراسي من أصدقائه الذين يحبونه لكننا فضلنا الوقوف خشية أن نحرج ثانية، أسرع الولد إلى معلمه وأبلغه بما حدث، فقال له:

  • إنها حرة تفعل ما تريد.

زاد احمرار الولد عن ذي قبل، شعرنا بالخجل للمرة الثانية، اعتذر ثانية عن موقف معلمه أيضاً، وشعرت بالسعادة الشديدة أن هذا الولد من الهند وأن الشمس تشرق عليه أولا وأن خيوطها الذهبية تداعبه قبل أن تصل إلى البنت الثلجية، كان الولد يقرأ ما يدور بذهني سألته مبتسما رغم الإحراج الشديد:

  • هل تفهم ما يدور في ذهني؟
  • نعـــــم.
  • هل تعرف أن الشمس تشرق علينا أولاً؟!
  • نعــم.

خرجنا من المدرسة وما زال الولد يعتذر كأنه هو الذي ارتكب ذنباً، كان يمسك بيده لوحته، نظرت إليها، كانت لتمثال الحرية بلا يدين ولا شعلة، ابتسمت، ما زالت صورته تداعب خيالي كلما أشرقت الشمس وكلما رأيت الهند تتبوأ موقعها المدهش على خريطة العالم.