مقدمات وتأملات استهلالية في البرنامج
انعقد مهرجان أفينيون السابع والسبعون في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يوليو (5 - 25 يوليو 2023)؛ ولكن تحت إشراف وإدارة مدير جديد للمهرجان، هو المخرج والكاتب المسرحي البرتغالي تياجو رودريجزTiago Rodrigues. وقد اختار هذا المدير الجديد للمهرجان أن يجعل بريطانيا ضيف شرف أول مهرجان ينظمه، ومجال اهتمامه حيث يفرد له فيه خمس عروض مختلفة، تتسم كلها بالجدة والتجريب. بل جاء إلي لندن في نهاية أبريل 2023 ليطلق المهرجان من المركز الثقافي الفرنسي بها، مع مجموعة ممن قرر استضافتهم أو استقدام أعمالهم المسرحية إلى مهرجان هذا العام. وقد استطعت حضور هذا الاحتفال، وطرح بعض القضايا فيه، وهو الأمر الذي سأشرك فيه القارئ بعد قليل. ومع أن ناقد جريدة الجارديان الانجليزية المسرحي، هو الذي قدم الحفل، فإن رودريجز هو الذي سيطر عليه بحماسه ورغبته الشديدة في أن يطرح رؤيته المتميزة في إدارة هذا المهرجان، باعتباره أول مدير غير فرنسي له، وبعد أن أداره لأكثر من سبع سنوات الكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي أوليفييه بي.
كما أن وعيه بأن تميزه كمخرج مسرحي أوروبي معاصر هو الذي أهله للحصول على هذا المنصب المرموق في عالم المسرح الأوروبي، هو الذي جعله يرد – في حديثه في المركز الثقافي الفرنسي، وحتى في برنامج المهرجان المطبوع لهذا العام – فكرة إنشاء المهرجان إلى جان فيلار. وهو الأمر الذي صححته له في تعقيبي على حديثه في تلك الندوة. لأن فكرة المهرجان تعود في الأصل للشاعر والمفكر الفرنسي الكبير رينيه شار (1907-1988). فهو الذي صاغ فكرة المهرجان وبلورها بعد الحرب العالمية الثانية، كي يرد لمدينته أفينيون، التي ولد في إحدى القرى المجاورة لها «جزيرة على نهر السورج L'Isle-sur-la-Sorgue» وتلقى تعليمه الثانوي بها، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي في مارسيليا، دورها وأهميتها. فقد كانت هذه المدينة الجميلة في العصور الوسطى أهم الحواضر الأوروبية، ومستقر البابا الذي كان يحكم أوروبا باعتباره ظل الرب على الأرض، لأكثر من قرن من الزمان. وهو الأمر الذي رقش آثاره في بنية المدينة وجغرافياها المتميزة. وقد قام رينيه شار بهذا الأمر من منطلق فلسفي – فهو أحد أكثر شعراء القرن الماضي غنى بالرؤى الفلسفية والعمق. لأن له شذرات فلسفية لا تقل أهمية عن أشعاره المهمة التي بقيت في ضمير الأدب الفرنسي؛ إلى الحد الذي جعل مارتن هيدجر (1889-1076) يزوره أكثر من مرة، وهو يبلور نظريته الفلسفية عن الشعر. وقد أنشأ شار المهرجان كي يطرح عبره الفن – أو بالأحرى أبو الفنون، أي المسرح – في مواجهة الحرب وما تجلبه من دمار.
فقد قاد رينيه شار المقاومة الفرنسية في جنوب فرنسا أثناء الاحتلال النازي لها، وهو الأمر الذي أكسبه مكانة معنوية خاصة في تاريخها الحديث. وعاش ما تتطلبه تلك المقاومة الباسلة من شجاعة وتضحيات ودمار. وكان قد تحقق أدبيا قبلها، ومنذ الثلاثينات بعدما تأكدت مكانته الشعرية، في الأوساط الثقافية في باريس. حيث صادق أبرز كتابها من ألبير كامي وجورج باتاي وموريس بلانشو، وشعرائها من أراجون وإلوار وبريتون، ورساميها؛ فقد رسم قصائده التي نشرت في دورياتها في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي ماتيس وبيكاسو وبراك وميرو وفييرا دي سيلفا. كما كان جان فيلار – الممثل والمخرج المسرحي الأشهر وقتها – صديقا شخصيا له. فقرر أن يستقدمه إلى أفينيون – حيث يحج إليها الفرنسيون في الصيف بشكل طبيعي – كي يقدم عددا من العروض لمدة أسبوع واحد، بينما كانت الأصابيح تعج بالشعر ومناقشات عروض الليلة الماضية، في مناخ ثقافي يطرح الثقافة كفضاء مثالي – أو بالأحرى يوتوبيا مبتغاة – لأرقى طاقات الإنسان على التسامي على شرور العالم ومشاكله. وهو الأمر الذي أخذ يتنامى ويزدهر على مر السنين. وهكذا بدأ المهرجان عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام 1947.
يقول مدير المهرجان الجديد في تقديمة لبرنامج هذا العام «إن هذه اليوتوبيا الثقافية المثالية هي ما يبتغي المهرجان في دورته السابعة والسبعين أن يحققه من جديد. لأن تاريخ هذا المهرجان ليس إلا سيمفونية يعاد عزفها كل عام؛ وإن بأدوات وشركاء وعازفين مختلفين في كل مرة. يجهزون طوال العام لتحقيق هذا التجمع الفني الفريد لفنون العرض المختلفة من شتى أنحاء العالم. وللاحتفاء بالكشوف الجديدة واستشراف الآفاق المجهولة، أو التنقيب في أغوار الذاكرة من أجل التوجه للمستقبل. لأن مهرجان أفينيون ينهض على الوحدة بين الفنانين والجمهور، من أجل الرغبة في سبر أغوار ما تنطوي عليه الحياة من تعقيدات، والحفاظ في الوقت نفسه على الحرية الفنية والعمل من أجل ديموقراطية الثقافة، والاحتفاء بكل ما هو جديد ومختلف.»
ثم يؤكد مدير المهرجان في ترجيع لأفكار رينه شار المؤسسة «إن مهرجان أفينيون حدث فني وسياسي في آن. واحتفالية حضارية يتزاوج فيها التأمل ولذة الاستمتاع بقدرة الفن على التسامي بنا، وما يفرزه التجمع البشري الخلاق معا من وعي بأهمية حرية التفكير في أوروبا التي تتهددها على الدوام الحرب والنزعات الشعبوية وفقدان العدالة والمساواة. فهو حدث متعدد اللغات، يدعو اللغات المختلفة إلى التداخل بفرح في معمعة الترجمات وهي تجتاح الحدود الجغرافية وتتجاوزها كي تشعل شرارة الأمل بمستقبل أفضل.»
بوستر المهرجان مع مديره الجديد
وإذا كان مدير المهرجان قد جاء إلى لندن كي يطلق مهرجانه منها لأنه يحتفي بالمسرح الانجليزي كضيف شرف لهذا العام، فإن أي قراءة متفحصة لكتاب/ برنامج المهرجان المطبوع، والذي يضم أكثر من أربعين عرضا، تكشف لنا عن أن العدد الأكبر من عروض المهرجان جاء من فرنسا، وليس من بريطانيا التي جعلها ضيف الشرف فيه، وأنه احتفى بتجارب المسرح المهمة في فرنسا. وهو الأمر الذي وجد أن عليه أن يبرزه في أول دورة له، كمدير غير فرنسي لهذا المهرجان العتيد. حيث يفتتح المهرجان بعرض فرنسي (جروف Groove) لبنتو ديمبلا Bentou Dembele يمزج بين فنون الشعر الاحتجاجي، والإلقاء السريع Hip-Hop والموسيقى الجديدة والرقص الحديث. وثمة عرض فرنسي آخر لا يقل عنه جدّة وتجريبا هو (نيندرتال Neadertal) للمخرج والمسرحي الفرنسي دافيد جيزيلسون David Geselson عن حيوات العلماء الذين يفكّون الشفرات الوراثية للإنسان وتقطعاتها مع أبحاثهم، وعن حياة سفانتا بابو Svante Pääbo الفائز بجائزة نوبل لاكتشافه النيدرتال. وهو أمر لا يقل تعقيدا عن ذلك الذي يسعى مسرحي فرنسي آخر هو فيليب كيسنا Philippe Quesne للقيام به في عرض بعنوان (حديقة المسرات الأرضية Le Jardin des Delices) والتي يصفها بأنها ملحمة مستقبلية تتقصى كلمات لم تُخلق بعد في عالم خيالي يقع على التخوم بين رسوم هيرونيموس بوش، ووحشية العصور الوسطى، وعوالم الخيال العلمي وأفلام الكاوبوي الأمريكيةـ والذي سيعرض في محجر بولبون الشهير خارج أفينيون، والذي شهد ميلاد (مهابهاراتا) بيتر بروك الشهيرة.
وثمة عرض فرنسي ألماني مشترك بعنوان (انقراض Extinction) لجوليان جوسيلين Julien Gosselin مأخوذ عن إحدى مسرحيات آرثر شنيتسلر وتوماس برنارد. كما تستوحي المسرحية الفرنسية بولين بيل Pauline Bayle من أعمال فرجينيا وولف عملا مسرحيا بعنوان (اكتبي حياتك Ecrire sa Vie)، ويستوحي مسرحي فرنسي آخر هو ليوني بيرنيه Leone Pernet عمله المسرحي (ثلاثية 72 Trilogie 72) من حياة المغني الانجليزي الشهير دافيد باوي David Bowie، أما ريبيكا شايون Rebecca Chaillon وعرضها (بطاقة سوداء اسمها الرغبة Carte Noire nommee Desir) فإنها تستخدم فيها ثمانية ممثلاث سود لاستكناه حيواتهن الخاصة أمامنا على خشبة المسرح، وكيف يتحول شخص المرأة السوداء إلى موضوع للرغبة وللرفض معا. بينما تقدم لنا ماتيلدا مونييه Mathilde Monnier عملا بعنوان (أضواء سوداء Black Lights) يعتمد على نص كتبته عشرة نساء من مختلف أنحاء العالم تتحدث كل واحدة منهن عن حدث حقيقي عاشته شخصيا، وشكّل نوعا من العنف ضدها. في محاولة للكشف عن ثراء تنويعات العنف والقهر التي تعيشها المرأة حول العالم. وهناك إلى جانب هذا كله عروض فرنسية أخرى، بعضها مشترك مع بلجيكا أو ألمانيا، والآخر مع هولندا أو بولندا.
أما فضاء المهرجان الرئيسي وهو قاعة الشرف في القصر البابوي والتي تتسع لألفي مشاهد فسيبدأ بعرض فرنسي أيضا بعنوان (الرعاية الاجتماعية Welfare) لجولي ديليكيه Julie Deliquet والذي يقدم يوما في حياة المقهورين الذين تمتلئ بهم الآن جنبات أوروبا ممن يعيشون في الشوارع، والعاطلين عن العمل، والأمهات اللواتي يَعُلن أطفالهن وحدهن وسط ظروف قاسية، ومن لا جنسية لهم والمعوذين إلى حد البحث في المزابل عن شيء يأكلونه. أما العرض الثاني الذي حظي بهذا الفضاء الضخم الجميل فهو من الولايات المتحدة بعنوان (الروميو The Romeo) لتراجال هاريل Trajal Harrell، لما يطرحه من مواجهة بين فن الدراما المسرحية الذي خلد به شكسبير هذه الشخصية، ومكنها من أن تكون علما على حب المراهقة العنيف حتى الموت عبر العصور والثقافات، وبين فن الرقص الحديث الذي يسعى عبره هاريل إلى إعادة خلق تلك الحكاية الإنسانية الخالدة عبر وسيط مغاير، آمل أن تكون على قدر الفضاء الرحب من ناحية، وعلى قدر عملاق المسرح الانجليزي وليام شكسبير من ناحية أخرى.
ويحفل برنامج المهرجان كالعادة بعروض من مختلف البلدان الأوروبية، ومن عدد من دول غير أوروبية كذلك، بصورة يبدو معها أن مدير المهرجان الجديد لم يستكشف بعد خرائط عوالم المسرح خارج أوروبا، أو يسعى لارتياد آفاقها كما فعل سابقوه. فهناك عرض من كندا بعنوان (مارجريت الحمقاء) لإيميل مونيه، وعرضان من البرازيل: أولهما بعنوان (العروس وتصبحين على خير يا سندريللا)، والثاني برازيلي أوروبي مشترك بعنوان (أنتيجون في الأمازون) وعرض مسرحي واحد من الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان (بولدوين وبكلي في كيمبريدج) فضلا عن عرض الرقص الحديث (الروميو The Romeo) الذي جاء في الواقع من بازل بسويسرا، مع أن مصمم رقصاته أمريكي كما ذكرت. فضلا عن عمل يتشارك فيه مسرحيون من كل من ألمانيا وبلجيكا وأسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وسويسرا وتركيا بعنوان (تشاركات فلاحية: سبعة أعمال بين الحقول والغابات Paysages Partages: 7 Pieces entre Champs et Forets)
ضوء على المسرح الانجليزي:
أما عروض المسرح الانجليزي والتي جعلها بؤرة اهتمام مهرجان هذا العام، وجاء إلى لندن ليحتفي بهذا الأمر مع ثلاثة من مؤلفيها، أولهم تيم كروتش Tim Crouch الذي سيجيء بعرض (شجرة بلوط An Oak Tree) وهو دراسة للحزن، وفقدان أب لابنته بصورة تغير معه عالمه رأسا على عقب. وبعرض آخر بعنوان (الحقيقة كلب لابد من حبسه في موئله Truth’s a Dog Must to Kennel) والتي يسعى فيها للإجابة على سؤال: لماذا ترك المهرج مسرحية شكسبير الشهيرة (الملك لير)؟ ألأنه عجز عن انقاذ العالم عبر المرح والتهكم؟ وكان هناك معه في ندوة المركز الثقافي الفرنسي بلندن كاتب ثانٍ هو أليستر ماكدوال Alistair McDowall الذي يسعى مسرح (الرويال كورت) اللندني العتيد لتسليط الضوء على أعماله ككاتب مسرحي صاعد، وما ينطوي عليه عالمه المسرحي من رغبة في استقصاء حِراك تغير المنظور المسرحي دراميا، مع تثبيت الممثلة والمخرج، وكتابة ثلاثة منولوجات لها عليها أن تؤديها بثلاثة طرق مختلفة، وذلك في عرض بعنوان (الأمر كله All of it). أما الكاتب الثالث فهو ألكسندر زيلدن Alexander Zeldin والذي سيجيئ للمهرجان بعمل جديد/ قديم بعنوان (الاعترافات Confessions) التي يتقصى فيها حياة أمه، وكيف أن عالمها الحقيقي لايزال خافيا على أقرب الناس لها: ابنها نفسه الذي شاقه أن يضعه لنا على المسرح، بعدما استخدم ساعات طويلة من الحديث إليها والسعي إلى الغور في أعماقها. أما العرض الرابع الذي سيجيئ من بريطانيا، ولكن لم يستطع مبدعه وهو تيم إيتشيلز Tim Etchells حضور ندوة المركز الثقافي الفرنسي، وإن كان سيجلب إلى المهرجان عملا بعنوان (الفاتورة L’Addition) عن عبثية المداولات اليومية ولعبة تبادل الأدوار المستمرة فيها. وهو عمل سيتغير موقع عرضه كل يوم، في نوع من جعل الارتحال جزءا أساسيا من بنيته.
تيم كراوتش في مشهد من مسرحيته
والواقع، أنني كمتابع للمسرح الانجليزي هنا منذ عقود، شعرت بخيبة أمل كبيرة حينما حضرت تلك الندوة، وتعرفت عن كثب على من سيمثل المسرح الانجليزي في مهرجان هذا العام عبرها. خاصة وأنني ما زلت أعتبر أن المسرح أحد أهم الفنون الأدبية، وأن الركن الأساسي فيه هو النص المسرحي. منذ نصوص عمالقة المسرح الإغريقي ايسخيلوس وسوفوكليس ويروبيديز وحتى متون المسرح في مختلف اللغات الأوروبية الحديثة. كما أن المسرح الانجليزي خاصة يعي بأنه ينحدر من أصلاب شكسبير، وأن على أي موهوب يطمح لأن ينتمي إليه أن يقدم نصوصا جديرة بتاريخ هذا المسرح الذي يربو على خمسة قرون. وقد كان باستطاعته أن يستضيف منه الكثير كي يمثل ما يعج به المسرح الانجليزي من إضافات مهمة، وخاصة على صعيد النص المسرحي الجديد، ومن رسخوا مكانتهم فيه ككتاب بارزين. وسأقدم هنا عينة صغيرة من المعاصرين منهم والذين رسخوا مكانتهم فيه، من هاوارد برينتون Howard Brenton (1942-)، وكريستوفر هامبتون Christopher Hampton (1946-)، وهاورد باركر Howard Barker (1946-)، ودافيد هير David Hare (1947)، ودافيد إدجار David Edgar (1948-) وفرانك ماجينس Frank McGuinness (1953-) وغيرهم. وهو الجيل الذي تبعه جيل آخر تمثله سارة كين Sarah Kane (1971-1999) التي انتحرت، وهي في أوج الشباب، ومارك رافينهيل Mark Ravenhill (1966-) ومارتن كريمب Martin Crimp (1956-) وباتريك ماربر Patrick Marber (1964-) ودافيد هارووار David Harrower (1966-) ودافيد كريج David Greig (1969). وهما الجيلان اللذان أكدا أن مسيرة المسرح الانجليزي كنص مهم – تلك التي أرساها شكسبير نفسه – لا تزال حية ومتواصلة عبر العقود القليلة الماضية، وقد غابوا جميعا عن اختياراته.
أما مدير المهرجان نفسه – تياجو رودريجز – فقد أراد بمشاركته في أول مهرجان ينظمه أن يقول لمتابعي المهرجان من أمثالي أنه قد تعلم درس أوليفييه بي. فقد كان متابعو المهرجان المخلصين لمسيرته – في فرنسا وخارجها على السواء – يجأرون بالشكوى من تسخير بي للمهرجان لخدمة نصوصه التي كان يعرض أكثر من نص فيها بكل مهرجان من ناحية، ولإبعاد كثير من الموهوبين من كبار مخرجي أوروبا المعاصرين عن ساحته، غيرة من استحواذهم على اهتمام جمهور المهرجان ونقاده على الانتباه والاهتمام دونه. ولذلك فقد آثر التواضع. ولكن هيهات! فالتواضع الفني عمل صعب وخاصة في مجال المسرح، وبالنسبة لمخرج يريد أن يبهر المشاهدين بلغته الإخراجية المختلفة، كما فعل رودريجيز نفسه في عرضه لإفيجينيا يوربيديز الذي قدمه في مهرجان العام الماضي. فمع أنه يقدم عملا لليلة واحدة، بعنون (عن ظهر قلب By Heart)؛ ولكنه برمج هذه الليلة بالطبع على مسرح قاعة الشرف في القصر البابوي. وهو عرض يبدأ – كما يقول لنا البرنامج – بعشر مقاعد خالية على تلك الخشبة العملاقة التي تمتد لأكثر من ثلاثين مترا. ويدعو عشرة من المشاهدين كي يصعدوا إلى الخشبة للجلوس عليهم، وحفظ نص بعينه عن ظهر قلب. وهو عمل حجزت مقعدي لمشاهدته، لأنه عمل مسرحي يمزج كما يقول روح الشعر الذي يسري في النص، بإمكانيات المسرح المرتجل من ناحية، والمسرح الخام غير الحرفي من ناحية أخرى. وسوف أعرض على القراء عددا من هذه العروض.
بين الارتجال والتوثيق وسيولة العرض:
إذا كنت قد أنهيت النظرة العامة على برنامج المهرجان لهذا العام، والندوة التي عقدها مديره في المركز الثقافي الفرنسي في لندن، بنقدي لاختياراته الممثلة للمسرح الانجليزي، لأنه تجاهل الكثير من الكتاب الذين رسخوا مكانتهم فيه، وجلب للمهرجان من هم أقل منهم قيمة وقامة؛ فقد أكد العرض الأول الذي شاهدته منه في المهرجان عقب وصولي لأفينيون كل ما قلته عن تلك الاختيارات. صحيح أن هناك من بين نقاد المسرح الانجليزي المعاصرين من يعتبرون تيم كراوتش من أهم كتاب المسرح الانجليزي في القرن الحادي والعشرين، ومن أكثرهم حرصا على التجريب فيه، وعلى طرح الأسئلة الصعبة حول طبيعة النص المسرحي، وضرورة أن يتسم بالسيولة المستمرة والتغيرات العفوية في كل عرض. كما أن الكثيرين يعتبرونه من أبرز المساهمين في إحياء عملية التمسرح نفسها، في تفاعلها المهم بين الخشبة والجمهور. وحتى في إبراز دور المسرح في المجتمع. وهو رأي يختلف عما أعتقده شخصيا من أهمية النص المكتوب في المسرح، وضرورة أن ينفتح على كثير من التصورات أو التأويلات الإخراجية المحتملة له.
لأنني بدأت مشاهداتي هذا العام بعرض تم كراوتش Tim Crouch (1964-) «شجرة بلوط An Oak Tree» الذي عرض في أحد أجمل الفضاءات في أفينيون وهو «دير الآباء السماويين Cloitre des Celestins»؛ وفيه بالفعل شجرتا بلوط عريقتان لم يستخدمهما العرض بأي حال من الأحوال. لأن عرض (شجرة البلوط) الذي جعل من الشجرة مكان وقوع الحادثة التي لا تنسى، لا يسعى لتجسيد حادثة السيارة التي فقدت فيها أسرة ابنتها، وزعزع الفقد الصاعق كلا من الأم والأب، وبدل عالمهما تبديلا. ولكنه يزعم بأنه سيعيد مع الجمهور تمثيل الحدث، من خلال مشاركة الجمهور فيه. واستدعاء أحد أفراد الجمهور ليشاركه عملية مسرحة هذا الحدث، والتعرف على وقعه على الأب خصوصا، والذي لم يستوعب قط أنه فقد ابنته للأبد، في حادث سيارة قتلها فيه أحد الممارسين لعمليات التنويم المغناطيسي. كما يقول لنا في تقديمه للعرض، وهو يتحدث مباشرة للجمهور، بأنه سيختار أحد أفراد الجمهور كي يلعب دور الأب المكلوم، ولن يقدم له إلا الحد الأدنى من النص والتعليمات المسرحية. وأنه سيقوم بنفسه بممارسة دور المنوّم المغناطيسي كي يساعد من اختاره – افتراضيا – بشكل عشوائي من بين الجمهور – دون الاهتمام بكونه رجلا أو امرأة – على تذكر ما جرى، وإعادة عرضه على الجمهور. وقد كان من اختاره ليلة مشاهدتي للعرض امرأة، وحينما أردت الحصول على صور العرض من موقع المهرجان، وجدت أنها كلها لعرض قام فيه رجل بالدور.
مشهد من عرض «شجرة بلوط»
ولكننا سرعان ما نكتشف أنه مجرد زعم مبدأي، لأن الممثلة التي قامت بعبء العمل معه – في هذا العرض الذي شاهدته في أفينيون – كانت جالسة وقت بدء العرض بين الجمهور. وأنها تعرف كل مقتضيات دورها، وتساهم بشكل خلاق في سيناريو محبوك يتأرجح بين الرغبة في تجنب إعادة الحكاية، والكشف عما يتركه وجع الفقد في كل منا من ناحية، والسعي إلى سبر أغوار عملية الحداد المعقدة على فقدان من هم أعزاء علينا من ناحية أخرى. غير أن تعليقات تيم كراوتش المستمرة من تعليمات مسرحية إجرائية على ما تقوم به الممثلة، وما يريد أن يطرحه على الجمهور من خلالها – والتي تتسم بشيء من التعالي الذي يقترب من الوصاية – تخبرنا بأن العرض يسعى إلى سبر أغوار عملية التمسرح ذاتها، وقدرة المسرح على أن يقدم الواقع، أو يتفاعل معه بشكل عقلي وحواري ومبدع. فنحن هنا بإزاء عمل يقع بين افتراضات مسرح الارتجال، ومطامح مسرح التشارك الفعال الذي يزيل الحائط الرابع بين الخشبة والجمهور، دون أن يحقق أي منهما.
حيث تزعم المسرحية من البداية أنها عمل ينهض على المشاركة بين الكاتب الممثل والجمهور، وتبدأ بأن يتوجه تيم كروش – والذي يقوم بالدور الرئيسي في هذا العمل كما في العمل الآخر الذي يقدمه أيضا في مهرجان هذا العام بعنوان «الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه Truth's a Dog Must to Kennel» – إلى الجمهور ويحكي له بعض تفاصيل الحبكة، وتاريخ العرض – الذي كان تاريخيا العمل الثاني الذي كتبه ومثله - والذي بدأ عام 2005 في اسكوتلندا، وطاف به أرجاء بريطانيا وأماكن أخرى في أوروبا، حيث يخبرنا أنه عرضه 360 كانت كل مرة منها مختلفة عن الأخرى. لأنه بالطبع يستخدم كل مرة ممثل/ ممثلة مختلفة، دون أن يمنحها أي نص إلا في أجزاء قصيرة من العرض يطالبها بقراءة أجزاء منه، ويترك لها قدرا كبيرا من حرية الارتجال، والاستجابة وفق مقتضيات موقف مسرحي تحددت تفاصيله بوقائع تلك الحادثة التي راحت ضحيتها ابنته. لذلك كان من الطبيعي – وهذا جزء مهم مما يحققه هذا النوع من المسرح – أن يختلف العرض في كل مرة حيث يقول في أحد الحوارات معه، «إنه كثيرا ما يتطور العرض ضد مختلف تصوراته له، وأن عليه في كل مرة أن يتجاوب مع تلك التغيرات وهذه ميزته الكبرى.» لأنه يسعى في مستوى من مستويات البحث المسرحي إلى سبر أغوار المسرح نفسه. ومعرفة قدرته على أن ينتشلنا من وهاد الحزن والعزلة، ويساعدنا على مواجهة العالم والانخراط في الحياة من جديد.
هذا المستوى الطموح من العمل – والذي لا يصل لكل من يشاهده بسهولة – هو ابن تاريخ سعي هذا الكاتب المسرحي لطرح بعض التجارب التي تتغيا معرفة حقيقة المسرح في واقعنا الراهن من ناحية، وتاريخ العنوان الذي اختاره للمسرحية نفسها من ناحية أخرى. لأن العنوان مستقى من عمل شهير من أعمال الفن المفاهيمي الحديث Conceptual Art للفنان الأيرلندي مايكل كريج مارتن Michael Craig Martin. ويتكون هذا العمل الشهير من كوب من الماء موضوع على رف زجاجي معلق في قاعة العرض، على ارتفاع مترين ونصف، ولوحة تصف العمل بطريقة تعتمد على منطق الإشاريات الحديثة Semiotics التي تفترض أن العلاقة بين الشيء والمفردة اللغوية التي تمثله هي علاقة اعتباطية. حيث تصفه اللوحة بأنه ليس كوبا من الماء وإنما هي شجرة بلوط كاملة. فتجهز على العلاقة المسبقة بين كوب الماء والمفردة اللغوية التي اعتدنا على تسميته بها، وتفرض عليه اسما آخر «شجرة بلوط» أبعد ما يكون عنه. لأن اللون والملمس والوزن والحجم كلها هنا، كما يقول لنا النص المرافق – والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من العمل – أنها ليست رمزا، وإنما شجرة بلوط، لم يغير فيها إلا المظهر، ولكنها لاتزال هنا. وقد يسميها أي من المشاهدين ما يشاء، ولكنها شجرة بلوط.
والواقع أن تأكيد المستحيل في النص القصير المرافق لكوب الماء، هو جوهر العمل الذي ينهض على أهمية مفهوم التأكيد والإحالة والمستقى في موقف الفنان التشكيلي المفاهيمي من جوهر العقيدة الكاثوليكية، ويعرف فيها باسم الاستحالة Transubstantiation أي استحالة القربان – أي الخبز والنبيذ في عملية التناول المقدس في الصلوات الكنسية – إلى جسد المسيح ودمه فعلا في عملية التوحد الإيمانية معه. وقد بدأ الفنان الايرلندي حياته صبيا في كورال الكنيسة يغني الأناشيد الكنيسة في طقوس الأحد الأسبوعية، ومشاركا في أعداد تفاصيل القربان المقدس فيها. وإذا كان عمل مايكل كريج مارتن هذا قد قوبل في بادئ الأمر بالسخرية والاستهجان، إلا أنه سرعان ما تحول – كمبولة دوشان الشهيرة – إلى أحد العلامات الأساسية في الفن المفاهيمي المعاصر. باعتباره عملا يطرح أسئلة أساسية عن طبيعة الفن وما يستخدمه من مواد – كلها في هذه الحالة من زجاج وتمثل الـ substance المتحوّلة والموجودة في وسط تكون المفردة الكنسية المهمة Transubstantiation – وقدرته على استثارة عقل المشاهد، وعلى طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الفن عليه.
هذه الأسئلة الجوهرية من نوعية كيف يمكن تحدى سيطرة الواقعية السيكلوجية على المسرح الانجليزي، وتجاهلها الكامل للمشاهدين؟ أو كيف نستطيع زعزعة تصورات جمهورها السلبي تجاه المسرح؟ أو هل ينهي الواقع الافتراضي الجديد أهمية التشارك الإنساني الذي تنهض عليه التجربة المسرحية في أصولها الإغريقية؟ وأخيرا ماذا علمتنا تجربة جائحة الفيروس التاجي «كوفيد 19» وإغلاقها للمسارح في العالم كله لشهور طويلة عن دور المسرح وأهميته؟ هي ما يحاول تيم كراوتش طرحها وخاصة في مسرحيته الثانية التي جاء بها إلى أفينيون وهي (الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه). وعلى العكس من (شجرة البلوط) التي كانت مسرحيته الثانية وكتبها عام 2005، فإن هذه المسرحية الثانية هي آخر مسرحياته. حيث كتبها عام 2022، وعرضها لأول مرة في مهرجان إدنبرة في العام الماضي. وهي مسرحية من مسرحيات الممثل الواحد – يقوم بها تيم كراوتش نفسه – حيث يدخل إلى المسرح وهو يرتدي نظارة من نظارات الواقع الافتراضي، ويرى فيها ما يدور في عرض مسرحي، لا نراه بالطبع، لمسرحية (الملك لير) الشهيرة لشكسبير من منظور المهرج الذي ترك المسرحية في قسمها الأخير، ويشاهد ما دار فيها من دمار. كأننا بإزاء نوع من المسرح داخل المسرح. المسرح الفعلي الذي يدور فيه العرض، والمسرح الأكبر – العالم الواسع الذي يشير إليه باستمرار، وذلك الذي يمثله العالم الافتراضي في هذه الأيام والذي يعج بالمهرجين والحمقى أكثر مما كان يدور في مسرح شكسبير.
تيم كراوتش في مسرحية «الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه»
حيث ينبهنا من بداية العرض إلى أن البلاد تعاني من الدمار، ليس في هذا المكان الذي نحن فيه أثناء المسرحية، ولكن تلك الأخرى البعيدة التي فقد فيها الحكام السيطرة، ويقتل فيها الناس بلا ذنب أو جريرة، وهناك من أصابه العمى. ليس هنا في هذا المسرح الذي تدور فيه (الملك لير)، والتي يشاهدها المهرج عبر نظاراته الافتراضية ويصفها للجمهور، ولكن هناك في تلك البلاد الأخرى كما تفهمون. أما هنا فكل شيء على ما يرام. وقد ترك المهرج الملك لير قبل أن تبدأ عمليات القتل. ولكنه يعيش هنا على المسرح معنا، ومن خلال تلك المواجهة مع العالم الافتراضي تطرح علينا المسرحية افتراضات أخرى، وعمليات قتل وحشية لا تنتهي. حيث يسعى العرض في الوقت نفسه إلى الربط بين مغادرة المهرج المسرحية مبكرا، ومغادرة الجمهور – اضطراريا في كل انحاء العالم – المسرح إبان جائحة كوفيد. وكيف جعلت تلك الجائحة العالم أكثر تجريدية وصعوبة. وأين موضع المسرح في العالم الرقمي، وقد جردته تلك الجائحة من جمهوره؟ حيث تستخدم المسرحية التوازي بين عالم لير المتصدع والآيل للدمار، وعالمنها الذي لا يقل عنه تصدعا، وإن بشكل مختلف. عالم كان لايزال فيه رغم تصدعاته إيمانا هشّا إلى حد ما بأهمية التجربة الإنسانية المشتركة، وعالم غزت الوحشة والعزلة كل أرجائه. وأصبح الفضاء المسرحي نفسه هو ساحة للصراع من أجل أن نرد للإنسانية إنسانيتها وللعالم ألفته المفقودة.
مشهد لتيم كراوتش في مسرحية «الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه»
«الرعاية الاجتماعية» ومسرحة روائع السينما:
أما مسرحية (الرعاية الاجتماعية Welfare) التي شاهدتها في أهم فضاءات المهرجان، وهو فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي، وحضرت ندوة معدتها ومخرجتها جولي ديليكيه Julie Deliquet عنها ظهر يوم مشاهدتي لها، فإنها لا تقل عن مسرحيات تيم كراوتش أهمية وإثارة للتفكير، وإن كانت أكثر منها اتساعا وشمولا في تناولها للقضايا الفكرية والمسرحية على السواء. لأن المسرحية الفرنسية المرموقة قد بنت كثيرا من شهرتها على مسرحة أعمال سينمائية مشهورة لأبرز سينمائي أوروبا من إنجمار برجمان إلى راينر فاسبيندر. وليست هذه المسرحية الجديدة التي قدمتها لمهرجان أفينيون هذا العام بالاستثناء. لأنها تنهض هي الأخرى على عمل سينمائي وثائقي مهم للسينمائي الأمريكي فريدريك وايزمان Frederick Wiseman (1930-) بالعنوان نفسه. وهو فيلم يعتبره الكثيرون أهم أفلام هذا المخرج الأمريكي المرموق الذي اشتهر بما يعرف بسينما الحقيقة، أو السينما الوثائقية التي تريد حثّ المشاهد على التفكير واتخاذ المواقف.
ولكنه لا يحب أي من هذه التسميات، لأنه كما يقول لنا في أكثر من حوار معه، وفي عدد من المحاضرات التي قدمها عن عالمه السينمائي، أنه يهتم كثيرا بالبنية الدرامية للعمل السينمائي. وأنه قد خلق هذا الفيلم الذي يعتمد على عالم الرعاية الاجتماعية الأمريكية الحقيقي – من وجهة نظر من يتلقون تلك الرعاية، ومن يقومون بالعمل في مكاتب تقديمها في آن – والذي لا يزيد طوله عن الساعتين إلا قليلا من 150 ساعة من التصوير. لأن منهجه في التعامل مع موضوعه هو أن يقوم بتصوير موضوعه طويلا، حتى ينسى من يصورهم أنه هناك كاميرا تسجل ما يقومون به. وحتى يحصل منهم على ما يريد فعلا، وهو غياب أي تمثيل أو وعي به. وإذا كان التصوير يستغرق زمنا طويلا، فإن عملية المونتاج المعقدة تستغرق منه في كثير من الأحيان وقتا أطول حتى تتخلق بنية الفيلم الدرامية التي يتم فيها التفاعل المضمر بين المتجاورات. لأن الفيلم الذي أخرجه من قلب 150 ساعة من المادة المصورة لا يتجاوز الساعتين إلا قليلا، ولكن له بنية درامية بالغة الجمال والتعقيد.
جولي ديليكيه
هنا يبدأ عمل المخرجة والمؤلفة المسرحية جولي ديليكيه التي تنطلق من أفلام أصبحت علامات فنية وجمالية في الجنس الذي تنتمي إليه، لتختبر مدى قدرة المسرح على أن يبث في أشرطتها حياة جديدة، ورؤى معاصرة. ومن البداية نجد أنها أبقت الأحداث في زمنها ومكانها: أميركا نهاية الستينيات وبداية السبعينيات الطالعة بالكاد من الحرب الكورية، والتي لم تتعلم دروسها، لأن أقدامها كانت قد بدأت بالفعل تسوخ وبسرعة في أوحال حرب فيتنام. فقد أنجز فريدريك وايزمان هذا الفيلم ما بين عامي 1973و1975 وعرضه عام 1975. وحينما يتوافد الجمهور إلى فضاء قاعة الشرف في القصر البابوي يجد أن مسرحه الضخم عامر بتركيب يشغل معظم مساحته. كما في الصورة التالية، وأن على جانبي المسرح في اقصى اليمين مقاعد وكأنها دكك المشاهدين في ساحة ملعب لكرة السلة، وفي أقصى اليسار نجد حامل السلة الخشبي الشهير في تلك الملاعب، والذي يصوب إليه اللاعبون كرتهم. فضلا عن بعض المقاعد والأشياء الأخرى.
المشهد الافتتاحي لمسرحية (الرعاية الاجتماعية) أثناء توافد الجمهور
وبينما تكتمل عملية وفود المشاهدين إلى مقاعدهم – ونحن نتحدث هنا عن ألفي مشاهد تقريبا – يقوم عمال المسرح بتفكيك هذا المركّب الكبير الذي يتكون من أربعين غرفة تقريبا مبنية من مجموعة من العصي المعدنية مثبتة في بعضها البعض لتشكيلها للعديد من الغرف، وستائر بلون قماش الدمور تمثل الحوائط، ووضع كل تلك المكونات من عصي/ أعمدة وستائر على عربات سحب تجرها إلى خارج الخشبة. لتبقى الخشبة فارغة أو شبه فارغة يجلب إليها الممثلون بعض ما سيحتاج إليه بعضهم – وخاصة موظفي مكتب الرعاية الاجتماعية – من مكاتب ومقاعد وغيرها. وسرعان ما نكتشف أن المسرح، وقد توزعت في أرجائه بعض تلك الأشياء مرسوم على أرضيته تخطيطات ملعب لكرة السلة، وسوف نلاحظ أن هناك في الناحية اليسرى منه ووسط أكوام أخرى من الأثاث العارضة التي تُعلق فيها السلة عاليا. ويبدأ العرض باستدعاء من عليه الدور ممن وفدوا إلى المكتب، لتتوالى أمام أعيننا – وفي كريشيندو متصاعد من المعاناة الإنسانية – مجموعة من الحالات التي تكشف لنا وبصور صادمة مدى تغلغل الفقر والعوز في بنية الحياة الأمريكية من ناحية، ومدى قسوة البيروقراطية الأمريكية وقدرتها على العصف الممنهج بفقرائها من ناحية أخرى. حيث نكتشف بالتدريج أن القانون الذي يبدو في الظاهر وكأنه يحرص على توفير الوضوح والعدالة في اتخاذ القرار، قد وضع بطريقة تجعل من يستهدفهم هذا القانون أقل الناس قدرة على التعامل معه، ناهيك عن فهم منطقه الذي سنكتشف بالتدريج خطله.
صورة المسرح بعدما اكتمل حضور الجمهور وبدأ العرض
ومن البداية يسهل علينا التمييز بين الموظفين الذين يفدون بحقائبهم الشخصية، وذوي الحاجات الاجتماعية المختلفة الذي يجيئ بعضهم ببؤج من القماش بها أشياؤهم الأساسية. ونبدأ بحالة توشك أن تكون تقليدية لامرأة سوداء حبلى هجرها زوجها، وليس لديها ما تطعم به أطفالها الثلاثة – والرابع في الطريق. ومع أنه من الواضح لكل ذي عينين أنها حامل في شهورها أو أسابيعها الأخيرة، إلا أن التعليمات تقتضي بأن تجلب من المستشفى شهادة بذلك كي تكتمل أوراق ملفها. وأن تثبت أن زوجها لا يعولها كي تحصل على ما يقيم أود أطفالها، الذين تركتهم وراءها جوعى ولا تستطيع العودة إليهما دون طعام. ومع أن أحد موظفي المكتب يتعاطف مع حالتها، ويرى أن في ملفها أوراق كافية لتثبت حاجتها، فإن رئيسته المشرفة على المكتب ترفض هذا التعاطف، لمخالفته للتعليمات. وما أن ننتقل للحالة التالية حتى نجد أننا بإزاء بيروقراطية من نوع آخر لأننا هنا بإزاء رجل وامرأة ربط بينهما فقدان المأوى، والحاجة إلى توفير سقف ينامان تحته، ومبلغ شهري صغير يسدان به رمقهما. ومع أن الرجل كان يعمل طوال حياته، حتى مرض وطالت مدة علاجه بالمستشفى حتى وصلت لسبعة أشهر، وهو ما أدى بشركته إلى فصله من العمل، وبصاحب مسكنه إلى استرداده منه. وكل ما يحتاج له هي مساعدة من حقه حتى يتعافى ويحصل على عمل جديد. كما أن المرأة كانت هي الأخرى في رعاية رجل حتى تركها وطردها من بيته، وهي علاوة على ذلك تعاني من نوبات صرع – حسب شهادة طبية موثقة – ولذلك لا تصلح للعمل. فإن ما تطلبه الإدارة منهما من أوراق يدفعهما إلى اليأس والثورة.