كعادته كل عام يتابع محرر (الكلمة) مع قرائها مهرجان أفينيون وما يدور فيه من استقصاءات مسرحية ومحاولات لتوسيع أفق العرض وجمالياته وقدرته على التأثير. يسعى إلى عرضها على المهتمين بالمسرح والعاملين فيه في عالمنا العربي، كي نكون على معرفة بأحدث ما يدور في عالم المسرح الساحر، وفنونه المختلفة.

مهرجان أفينيون السابع والسبعون

مشاهدات واستقصاءات

صبري حافظ

 

مقدمات وتأملات استهلالية في البرنامج
انعقد مهرجان أفينيون السابع والسبعون في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يوليو (5 - 25 يوليو 2023)؛ ولكن تحت إشراف وإدارة مدير جديد للمهرجان، هو المخرج والكاتب المسرحي البرتغالي تياجو رودريجزTiago Rodrigues. وقد اختار هذا المدير الجديد للمهرجان أن يجعل بريطانيا ضيف شرف أول مهرجان ينظمه، ومجال اهتمامه حيث يفرد له فيه خمس عروض مختلفة، تتسم كلها بالجدة والتجريب. بل جاء إلي لندن في نهاية أبريل 2023 ليطلق المهرجان من المركز الثقافي الفرنسي بها، مع مجموعة ممن قرر استضافتهم أو استقدام أعمالهم المسرحية إلى مهرجان هذا العام. وقد استطعت حضور هذا الاحتفال، وطرح بعض القضايا فيه، وهو الأمر الذي سأشرك فيه القارئ بعد قليل. ومع أن ناقد جريدة الجارديان الانجليزية المسرحي، هو الذي قدم الحفل، فإن رودريجز هو الذي سيطر عليه بحماسه ورغبته الشديدة في أن يطرح رؤيته المتميزة في إدارة هذا المهرجان، باعتباره أول مدير غير فرنسي له، وبعد أن أداره لأكثر من سبع سنوات الكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي أوليفييه بي.

كما أن وعيه بأن تميزه كمخرج مسرحي أوروبي معاصر هو الذي أهله للحصول على هذا المنصب المرموق في عالم المسرح الأوروبي، هو الذي جعله يرد – في حديثه في المركز الثقافي الفرنسي، وحتى في برنامج المهرجان المطبوع لهذا العام – فكرة إنشاء المهرجان إلى جان فيلار. وهو الأمر الذي صححته له في تعقيبي على حديثه في تلك الندوة. لأن فكرة المهرجان تعود في الأصل للشاعر والمفكر الفرنسي الكبير رينيه شار (1907-1988). فهو الذي صاغ فكرة المهرجان وبلورها بعد الحرب العالمية الثانية، كي يرد لمدينته أفينيون، التي ولد في إحدى القرى المجاورة لها «جزيرة على نهر السورج L'Isle-sur-la-Sorgue» وتلقى تعليمه الثانوي بها، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي في مارسيليا، دورها وأهميتها. فقد كانت هذه المدينة الجميلة في العصور الوسطى أهم الحواضر الأوروبية، ومستقر البابا الذي كان يحكم أوروبا باعتباره ظل الرب على الأرض، لأكثر من قرن من الزمان. وهو الأمر الذي رقش آثاره في بنية المدينة وجغرافياها المتميزة. وقد قام رينيه شار بهذا الأمر من منطلق فلسفي – فهو أحد أكثر شعراء القرن الماضي غنى بالرؤى الفلسفية والعمق. لأن له شذرات فلسفية لا تقل أهمية عن أشعاره المهمة التي بقيت في ضمير الأدب الفرنسي؛ إلى الحد الذي جعل مارتن هيدجر (1889-1076) يزوره أكثر من مرة، وهو يبلور نظريته الفلسفية عن الشعر. وقد أنشأ شار المهرجان كي يطرح عبره الفن – أو بالأحرى أبو الفنون، أي المسرح – في مواجهة الحرب وما تجلبه من دمار.

فقد قاد رينيه شار المقاومة الفرنسية في جنوب فرنسا أثناء الاحتلال النازي لها، وهو الأمر الذي أكسبه مكانة معنوية خاصة في تاريخها الحديث. وعاش ما تتطلبه تلك المقاومة الباسلة من شجاعة وتضحيات ودمار. وكان قد تحقق أدبيا قبلها، ومنذ الثلاثينات بعدما تأكدت مكانته الشعرية، في الأوساط الثقافية في باريس. حيث صادق أبرز كتابها من ألبير كامي وجورج باتاي وموريس بلانشو، وشعرائها من أراجون وإلوار وبريتون، ورساميها؛ فقد رسم قصائده التي نشرت في دورياتها في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي ماتيس وبيكاسو وبراك وميرو وفييرا دي سيلفا. كما كان جان فيلار – الممثل والمخرج المسرحي الأشهر وقتها – صديقا شخصيا له. فقرر أن يستقدمه إلى أفينيون – حيث يحج إليها الفرنسيون في الصيف بشكل طبيعي – كي يقدم عددا من العروض لمدة أسبوع واحد، بينما كانت الأصابيح تعج بالشعر ومناقشات عروض الليلة الماضية، في مناخ ثقافي يطرح الثقافة كفضاء مثالي – أو بالأحرى يوتوبيا مبتغاة – لأرقى طاقات الإنسان على التسامي على شرور العالم ومشاكله. وهو الأمر الذي أخذ يتنامى ويزدهر على مر السنين. وهكذا بدأ المهرجان عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام 1947.

يقول مدير المهرجان الجديد في تقديمة لبرنامج هذا العام «إن هذه اليوتوبيا الثقافية المثالية هي ما يبتغي المهرجان في دورته السابعة والسبعين أن يحققه من جديد. لأن تاريخ هذا المهرجان ليس إلا سيمفونية يعاد عزفها كل عام؛ وإن بأدوات وشركاء وعازفين مختلفين في كل مرة. يجهزون طوال العام لتحقيق هذا التجمع الفني الفريد لفنون العرض المختلفة من شتى أنحاء العالم. وللاحتفاء بالكشوف الجديدة واستشراف الآفاق المجهولة، أو التنقيب في أغوار الذاكرة من أجل التوجه للمستقبل. لأن مهرجان أفينيون ينهض على الوحدة بين الفنانين والجمهور، من أجل الرغبة في سبر أغوار ما تنطوي عليه الحياة من تعقيدات، والحفاظ في الوقت نفسه على الحرية الفنية والعمل من أجل ديموقراطية الثقافة، والاحتفاء بكل ما هو جديد ومختلف.»

ثم يؤكد مدير المهرجان في ترجيع لأفكار رينه شار المؤسسة «إن مهرجان أفينيون حدث فني وسياسي في آن. واحتفالية حضارية يتزاوج فيها التأمل ولذة الاستمتاع بقدرة الفن على التسامي بنا، وما يفرزه التجمع البشري الخلاق معا من وعي بأهمية حرية التفكير في أوروبا التي تتهددها على الدوام الحرب والنزعات الشعبوية وفقدان العدالة والمساواة. فهو حدث متعدد اللغات، يدعو اللغات المختلفة إلى التداخل بفرح في معمعة الترجمات وهي تجتاح الحدود الجغرافية وتتجاوزها كي تشعل شرارة الأمل بمستقبل أفضل.»

A person standing in front of a poster

Description automatically generated

بوستر المهرجان مع مديره الجديد

وإذا كان مدير المهرجان قد جاء إلى لندن كي يطلق مهرجانه منها لأنه يحتفي بالمسرح الانجليزي كضيف شرف لهذا العام، فإن أي قراءة متفحصة لكتاب/ برنامج المهرجان المطبوع، والذي يضم أكثر من أربعين عرضا، تكشف لنا عن أن العدد الأكبر من عروض المهرجان جاء من فرنسا، وليس من بريطانيا التي جعلها ضيف الشرف فيه، وأنه احتفى بتجارب المسرح المهمة في فرنسا. وهو الأمر الذي وجد أن عليه أن يبرزه في أول دورة له، كمدير غير فرنسي لهذا المهرجان العتيد. حيث يفتتح المهرجان بعرض فرنسي (جروف Groove) لبنتو ديمبلا Bentou Dembele يمزج بين فنون الشعر الاحتجاجي، والإلقاء السريع Hip-Hop والموسيقى الجديدة والرقص الحديث. وثمة عرض فرنسي آخر لا يقل عنه جدّة وتجريبا هو (نيندرتال Neadertal) للمخرج والمسرحي الفرنسي دافيد جيزيلسون David Geselson عن حيوات العلماء الذين يفكّون الشفرات الوراثية للإنسان وتقطعاتها مع أبحاثهم، وعن حياة سفانتا بابو Svante Pääbo الفائز بجائزة نوبل لاكتشافه النيدرتال. وهو أمر لا يقل تعقيدا عن ذلك الذي يسعى مسرحي فرنسي آخر هو فيليب كيسنا Philippe Quesne للقيام به في عرض بعنوان (حديقة المسرات الأرضية Le Jardin des Delices) والتي يصفها بأنها ملحمة مستقبلية تتقصى كلمات لم تُخلق بعد في عالم خيالي يقع على التخوم بين رسوم هيرونيموس بوش، ووحشية العصور الوسطى، وعوالم الخيال العلمي وأفلام الكاوبوي الأمريكيةـ والذي سيعرض في محجر بولبون الشهير خارج أفينيون، والذي شهد ميلاد (مهابهاراتا) بيتر بروك الشهيرة.

وثمة عرض فرنسي ألماني مشترك بعنوان (انقراض Extinction) لجوليان جوسيلين Julien Gosselin مأخوذ عن إحدى مسرحيات آرثر شنيتسلر وتوماس برنارد. كما تستوحي المسرحية الفرنسية بولين بيل Pauline Bayle من أعمال فرجينيا وولف عملا مسرحيا بعنوان (اكتبي حياتك Ecrire sa Vie)، ويستوحي مسرحي فرنسي آخر هو ليوني بيرنيه Leone Pernet عمله المسرحي (ثلاثية 72 Trilogie 72) من حياة المغني الانجليزي الشهير دافيد باوي David Bowie، أما ريبيكا شايون Rebecca Chaillon وعرضها (بطاقة سوداء اسمها الرغبة Carte Noire nommee Desir) فإنها تستخدم فيها ثمانية ممثلاث سود لاستكناه حيواتهن الخاصة أمامنا على خشبة المسرح، وكيف يتحول شخص المرأة السوداء إلى موضوع للرغبة وللرفض معا. بينما تقدم لنا ماتيلدا مونييه Mathilde Monnier عملا بعنوان (أضواء سوداء Black Lights) يعتمد على نص كتبته عشرة نساء من مختلف أنحاء العالم تتحدث كل واحدة منهن عن حدث حقيقي عاشته شخصيا، وشكّل نوعا من العنف ضدها. في محاولة للكشف عن ثراء تنويعات العنف والقهر التي تعيشها المرأة حول العالم. وهناك إلى جانب هذا كله عروض فرنسية أخرى، بعضها مشترك مع بلجيكا أو ألمانيا، والآخر مع هولندا أو بولندا.

أما فضاء المهرجان الرئيسي وهو قاعة الشرف في القصر البابوي والتي تتسع لألفي مشاهد فسيبدأ بعرض فرنسي أيضا بعنوان (الرعاية الاجتماعية Welfare) لجولي ديليكيه Julie Deliquet والذي يقدم يوما في حياة المقهورين الذين تمتلئ بهم الآن جنبات أوروبا ممن يعيشون في الشوارع، والعاطلين عن العمل، والأمهات اللواتي يَعُلن أطفالهن وحدهن وسط ظروف قاسية، ومن لا جنسية لهم والمعوذين إلى حد البحث في المزابل عن شيء يأكلونه. أما العرض الثاني الذي حظي بهذا الفضاء الضخم الجميل فهو من الولايات المتحدة بعنوان (الروميو The Romeo) لتراجال هاريل  Trajal Harrell، لما يطرحه من مواجهة بين فن الدراما المسرحية الذي خلد به شكسبير هذه الشخصية، ومكنها من أن تكون علما على حب المراهقة العنيف حتى الموت عبر العصور والثقافات، وبين فن الرقص الحديث الذي يسعى عبره هاريل إلى إعادة خلق تلك الحكاية الإنسانية الخالدة عبر وسيط مغاير، آمل أن تكون على قدر الفضاء الرحب من ناحية، وعلى قدر عملاق المسرح الانجليزي وليام شكسبير من ناحية أخرى.

ويحفل برنامج المهرجان كالعادة بعروض من مختلف البلدان الأوروبية، ومن عدد من دول غير أوروبية كذلك، بصورة يبدو معها أن مدير المهرجان الجديد لم يستكشف بعد خرائط عوالم المسرح خارج أوروبا، أو يسعى لارتياد آفاقها كما فعل سابقوه. فهناك عرض من كندا بعنوان (مارجريت الحمقاء) لإيميل مونيه، وعرضان من البرازيل: أولهما بعنوان (العروس وتصبحين على خير يا سندريللا)، والثاني برازيلي أوروبي مشترك بعنوان (أنتيجون في الأمازون)  وعرض مسرحي واحد من الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان (بولدوين وبكلي في كيمبريدج) فضلا عن عرض الرقص الحديث (الروميو The Romeo) الذي جاء في الواقع من بازل بسويسرا، مع أن مصمم رقصاته أمريكي كما ذكرت. فضلا عن عمل يتشارك فيه مسرحيون من كل من ألمانيا وبلجيكا وأسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وسويسرا وتركيا بعنوان (تشاركات فلاحية: سبعة أعمال بين الحقول والغابات Paysages Partages: 7 Pieces entre Champs et Forets)

ضوء على المسرح الانجليزي:
أما عروض المسرح الانجليزي والتي جعلها بؤرة اهتمام مهرجان هذا العام، وجاء إلى لندن ليحتفي بهذا الأمر مع ثلاثة من مؤلفيها، أولهم تيم كروتش Tim Crouch الذي سيجيء بعرض (شجرة بلوط An Oak Tree) وهو دراسة للحزن، وفقدان أب لابنته بصورة تغير معه عالمه رأسا على عقب. وبعرض آخر بعنوان (الحقيقة كلب لابد من حبسه في موئله Truth’s a Dog Must to Kennel) والتي يسعى فيها للإجابة على سؤال: لماذا ترك المهرج مسرحية شكسبير الشهيرة (الملك لير)؟ ألأنه عجز عن انقاذ العالم عبر المرح والتهكم؟ وكان هناك معه في ندوة المركز الثقافي الفرنسي بلندن كاتب ثانٍ هو أليستر ماكدوال Alistair McDowall  الذي يسعى مسرح (الرويال كورت) اللندني العتيد لتسليط الضوء على أعماله ككاتب مسرحي صاعد، وما ينطوي عليه عالمه المسرحي من رغبة في استقصاء حِراك تغير المنظور المسرحي دراميا، مع تثبيت الممثلة والمخرج، وكتابة ثلاثة منولوجات لها عليها أن تؤديها بثلاثة طرق مختلفة، وذلك في عرض بعنوان (الأمر كله All of it). أما الكاتب الثالث فهو ألكسندر زيلدن Alexander Zeldin والذي سيجيئ للمهرجان بعمل جديد/ قديم بعنوان (الاعترافات Confessions) التي يتقصى فيها حياة أمه، وكيف أن عالمها الحقيقي لايزال خافيا على أقرب الناس لها: ابنها نفسه الذي شاقه أن يضعه لنا على المسرح، بعدما استخدم ساعات طويلة من الحديث إليها والسعي إلى الغور في أعماقها. أما العرض الرابع الذي سيجيئ من بريطانيا، ولكن لم يستطع مبدعه وهو تيم إيتشيلز Tim Etchells حضور ندوة المركز الثقافي الفرنسي، وإن كان سيجلب إلى المهرجان عملا بعنوان (الفاتورة L’Addition) عن عبثية المداولات اليومية ولعبة تبادل الأدوار المستمرة فيها. وهو عمل سيتغير موقع عرضه كل يوم، في نوع من جعل الارتحال جزءا أساسيا من بنيته.

A person holding a microphone

Description automatically generated

تيم كراوتش في مشهد من مسرحيته

والواقع، أنني كمتابع للمسرح الانجليزي هنا منذ عقود، شعرت بخيبة أمل كبيرة حينما حضرت تلك الندوة، وتعرفت عن كثب على من سيمثل المسرح الانجليزي في مهرجان هذا العام عبرها. خاصة وأنني ما زلت أعتبر أن المسرح أحد أهم الفنون الأدبية، وأن الركن الأساسي فيه هو النص المسرحي. منذ نصوص عمالقة المسرح الإغريقي ايسخيلوس وسوفوكليس ويروبيديز وحتى متون المسرح في مختلف اللغات الأوروبية الحديثة. كما أن المسرح الانجليزي خاصة يعي بأنه ينحدر من أصلاب شكسبير، وأن على أي موهوب يطمح لأن ينتمي إليه أن يقدم نصوصا جديرة بتاريخ هذا المسرح الذي يربو على خمسة قرون. وقد كان باستطاعته أن يستضيف منه الكثير كي يمثل ما يعج به المسرح الانجليزي من إضافات مهمة، وخاصة على صعيد النص المسرحي الجديد، ومن رسخوا مكانتهم فيه ككتاب بارزين. وسأقدم هنا عينة صغيرة من المعاصرين منهم والذين رسخوا مكانتهم فيه، من هاوارد برينتون Howard Brenton (1942-)، وكريستوفر هامبتون Christopher Hampton (1946-)، وهاورد باركر Howard Barker  (1946-)، ودافيد هير David Hare (1947)، ودافيد إدجار David Edgar (1948-) وفرانك ماجينس Frank McGuinness (1953-) وغيرهم. وهو الجيل الذي تبعه جيل آخر تمثله سارة كين Sarah Kane (1971-1999) التي انتحرت، وهي في أوج الشباب، ومارك رافينهيل Mark Ravenhill (1966-) ومارتن كريمب Martin Crimp (1956-) وباتريك ماربر Patrick Marber (1964-) ودافيد هارووار David Harrower (1966-) ودافيد كريج David Greig (1969). وهما الجيلان اللذان أكدا أن مسيرة المسرح الانجليزي كنص مهم – تلك التي أرساها شكسبير نفسه – لا تزال حية ومتواصلة عبر العقود القليلة الماضية، وقد غابوا جميعا عن اختياراته.

أما مدير المهرجان نفسه – تياجو رودريجز – فقد أراد بمشاركته في أول مهرجان ينظمه أن يقول لمتابعي المهرجان من أمثالي أنه قد تعلم درس أوليفييه بي. فقد كان متابعو المهرجان المخلصين لمسيرته – في فرنسا وخارجها على السواء – يجأرون بالشكوى من تسخير بي للمهرجان لخدمة نصوصه التي كان يعرض أكثر من نص فيها بكل مهرجان من ناحية، ولإبعاد كثير من الموهوبين من كبار مخرجي أوروبا المعاصرين عن ساحته، غيرة من استحواذهم على اهتمام جمهور المهرجان ونقاده على الانتباه والاهتمام دونه. ولذلك فقد آثر التواضع. ولكن هيهات! فالتواضع الفني عمل صعب وخاصة في مجال المسرح، وبالنسبة لمخرج يريد أن يبهر المشاهدين بلغته الإخراجية المختلفة، كما فعل رودريجيز نفسه في عرضه لإفيجينيا يوربيديز الذي قدمه في مهرجان العام الماضي. فمع أنه يقدم عملا لليلة واحدة، بعنون (عن ظهر قلب By Heart)؛ ولكنه برمج هذه الليلة بالطبع على مسرح قاعة الشرف في القصر البابوي. وهو عرض يبدأ – كما يقول لنا البرنامج – بعشر مقاعد خالية على تلك الخشبة العملاقة التي تمتد لأكثر من ثلاثين مترا. ويدعو عشرة من المشاهدين كي يصعدوا إلى الخشبة للجلوس عليهم، وحفظ نص بعينه عن ظهر قلب. وهو عمل حجزت مقعدي لمشاهدته، لأنه عمل مسرحي يمزج كما يقول روح الشعر الذي يسري في النص، بإمكانيات المسرح المرتجل من ناحية، والمسرح الخام غير الحرفي من ناحية أخرى. وسوف أعرض على القراء عددا من هذه العروض.

بين الارتجال والتوثيق وسيولة العرض:
إذا كنت قد أنهيت النظرة العامة على برنامج المهرجان لهذا العام، والندوة التي عقدها مديره في المركز الثقافي الفرنسي في لندن، بنقدي لاختياراته الممثلة للمسرح الانجليزي، لأنه تجاهل الكثير من الكتاب الذين رسخوا مكانتهم فيه، وجلب للمهرجان من هم أقل منهم قيمة وقامة؛ فقد أكد العرض الأول الذي شاهدته منه في المهرجان عقب وصولي لأفينيون كل ما قلته عن تلك الاختيارات. صحيح أن هناك من بين نقاد المسرح الانجليزي المعاصرين من يعتبرون تيم كراوتش من أهم كتاب المسرح الانجليزي في القرن الحادي والعشرين، ومن أكثرهم حرصا على التجريب فيه، وعلى طرح الأسئلة الصعبة حول طبيعة النص المسرحي، وضرورة أن يتسم بالسيولة المستمرة والتغيرات العفوية في كل عرض. كما أن الكثيرين يعتبرونه من أبرز المساهمين في إحياء عملية التمسرح نفسها، في تفاعلها المهم بين الخشبة والجمهور. وحتى في إبراز دور المسرح في المجتمع. وهو رأي يختلف عما أعتقده شخصيا من أهمية النص المكتوب في المسرح، وضرورة أن ينفتح على كثير من التصورات أو التأويلات الإخراجية المحتملة له.

لأنني بدأت مشاهداتي هذا العام بعرض تم كراوتش Tim Crouch (1964-) «شجرة بلوط An Oak Tree» الذي عرض في أحد أجمل الفضاءات في أفينيون وهو «دير الآباء السماويين Cloitre des Celestins»؛ وفيه بالفعل شجرتا بلوط عريقتان لم يستخدمهما العرض بأي حال من الأحوال. لأن عرض (شجرة البلوط) الذي جعل من الشجرة مكان وقوع الحادثة التي لا تنسى، لا يسعى لتجسيد حادثة السيارة التي فقدت فيها أسرة ابنتها، وزعزع الفقد الصاعق كلا من الأم والأب، وبدل عالمهما تبديلا. ولكنه يزعم بأنه سيعيد مع الجمهور تمثيل الحدث، من خلال مشاركة الجمهور فيه. واستدعاء أحد أفراد الجمهور ليشاركه عملية مسرحة هذا الحدث، والتعرف على وقعه على الأب خصوصا، والذي لم يستوعب قط أنه فقد ابنته للأبد، في حادث سيارة قتلها فيه أحد الممارسين لعمليات التنويم المغناطيسي. كما يقول لنا في تقديمه للعرض، وهو يتحدث مباشرة للجمهور، بأنه سيختار أحد أفراد الجمهور كي يلعب دور الأب المكلوم، ولن يقدم له إلا الحد الأدنى من النص والتعليمات المسرحية. وأنه سيقوم بنفسه بممارسة دور المنوّم المغناطيسي كي يساعد من اختاره – افتراضيا – بشكل عشوائي من بين الجمهور – دون الاهتمام بكونه رجلا أو امرأة – على تذكر ما جرى، وإعادة عرضه على الجمهور. وقد كان من اختاره ليلة مشاهدتي للعرض امرأة، وحينما أردت الحصول على صور العرض من موقع المهرجان، وجدت أنها كلها لعرض قام فيه رجل بالدور.

A person sitting on a chair with a microphone in front of another person

Description automatically generated

مشهد من عرض «شجرة بلوط»

ولكننا سرعان ما نكتشف أنه مجرد زعم مبدأي، لأن الممثلة التي قامت بعبء العمل معه – في هذا العرض الذي شاهدته في أفينيون – كانت جالسة وقت بدء العرض بين الجمهور. وأنها تعرف كل مقتضيات دورها، وتساهم بشكل خلاق في سيناريو محبوك يتأرجح بين الرغبة في تجنب إعادة الحكاية، والكشف عما يتركه وجع الفقد في كل منا من ناحية، والسعي إلى سبر أغوار عملية الحداد المعقدة على فقدان من هم أعزاء علينا من ناحية أخرى. غير أن تعليقات تيم كراوتش المستمرة من تعليمات مسرحية إجرائية على ما تقوم به الممثلة، وما يريد أن يطرحه على الجمهور من خلالها – والتي تتسم بشيء من التعالي الذي يقترب من الوصاية – تخبرنا بأن العرض يسعى إلى سبر أغوار عملية التمسرح ذاتها، وقدرة المسرح على أن يقدم الواقع، أو يتفاعل معه بشكل عقلي وحواري ومبدع. فنحن هنا بإزاء عمل يقع بين افتراضات مسرح الارتجال، ومطامح مسرح التشارك الفعال الذي يزيل الحائط الرابع بين الخشبة والجمهور، دون أن يحقق أي منهما.

A person standing in a stone courtyard

Description automatically generated

حيث تزعم المسرحية من البداية أنها عمل ينهض على المشاركة بين الكاتب الممثل والجمهور، وتبدأ بأن يتوجه تيم كروش – والذي يقوم بالدور الرئيسي في هذا العمل كما في العمل الآخر الذي يقدمه أيضا في مهرجان هذا العام بعنوان «الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه Truth's a Dog Must to Kennel» – إلى الجمهور ويحكي له بعض تفاصيل الحبكة، وتاريخ العرض – الذي كان تاريخيا العمل الثاني الذي كتبه ومثله - والذي بدأ عام 2005 في اسكوتلندا، وطاف به أرجاء بريطانيا وأماكن أخرى في أوروبا، حيث يخبرنا أنه عرضه 360 كانت كل مرة منها مختلفة عن الأخرى. لأنه بالطبع يستخدم كل مرة ممثل/ ممثلة مختلفة، دون أن يمنحها أي نص إلا في أجزاء قصيرة من العرض يطالبها بقراءة أجزاء منه، ويترك لها قدرا كبيرا من حرية الارتجال، والاستجابة وفق مقتضيات موقف مسرحي تحددت تفاصيله بوقائع تلك الحادثة التي راحت ضحيتها ابنته. لذلك كان من الطبيعي – وهذا جزء مهم مما يحققه هذا النوع من المسرح – أن يختلف العرض في كل مرة حيث يقول في أحد الحوارات معه، «إنه كثيرا ما يتطور العرض ضد مختلف تصوراته له، وأن عليه في كل مرة أن يتجاوب مع تلك التغيرات وهذه ميزته الكبرى.» لأنه يسعى في مستوى من مستويات البحث المسرحي إلى سبر أغوار المسرح نفسه. ومعرفة قدرته على أن ينتشلنا من وهاد الحزن والعزلة، ويساعدنا على مواجهة العالم والانخراط في الحياة من جديد.

هذا المستوى الطموح من العمل – والذي لا يصل لكل من يشاهده بسهولة – هو ابن تاريخ سعي هذا الكاتب المسرحي لطرح بعض التجارب التي تتغيا معرفة حقيقة المسرح في واقعنا الراهن من ناحية، وتاريخ العنوان الذي اختاره للمسرحية نفسها من ناحية أخرى. لأن العنوان مستقى من عمل شهير من أعمال الفن المفاهيمي الحديث Conceptual Art للفنان الأيرلندي مايكل كريج مارتن Michael Craig Martin. ويتكون هذا العمل الشهير من كوب من الماء موضوع على رف زجاجي معلق في قاعة العرض، على ارتفاع مترين ونصف، ولوحة تصف العمل بطريقة تعتمد على منطق الإشاريات الحديثة Semiotics التي تفترض أن العلاقة بين الشيء والمفردة اللغوية التي تمثله هي علاقة اعتباطية. حيث تصفه اللوحة بأنه ليس كوبا من الماء وإنما هي شجرة بلوط كاملة. فتجهز على العلاقة المسبقة بين كوب الماء والمفردة اللغوية التي اعتدنا على تسميته بها، وتفرض عليه اسما آخر «شجرة بلوط» أبعد ما يكون عنه. لأن اللون والملمس والوزن والحجم كلها هنا، كما يقول لنا النص المرافق – والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من العمل – أنها ليست رمزا، وإنما شجرة بلوط، لم يغير فيها إلا المظهر، ولكنها لاتزال هنا. وقد يسميها أي من المشاهدين ما يشاء، ولكنها شجرة بلوط.

A person holding a book next to another person

Description automatically generated

والواقع أن تأكيد المستحيل في النص القصير المرافق لكوب الماء، هو جوهر العمل الذي ينهض على أهمية مفهوم التأكيد والإحالة والمستقى في موقف الفنان التشكيلي المفاهيمي من جوهر العقيدة الكاثوليكية، ويعرف فيها باسم الاستحالة Transubstantiation أي استحالة القربان – أي الخبز والنبيذ في عملية التناول المقدس في الصلوات الكنسية – إلى جسد المسيح ودمه فعلا في عملية التوحد الإيمانية معه. وقد بدأ الفنان الايرلندي حياته صبيا في كورال الكنيسة يغني الأناشيد الكنيسة في طقوس الأحد الأسبوعية، ومشاركا في أعداد تفاصيل القربان المقدس فيها.  وإذا كان عمل مايكل كريج مارتن هذا قد قوبل في بادئ الأمر بالسخرية والاستهجان، إلا أنه سرعان ما تحول – كمبولة دوشان الشهيرة – إلى أحد العلامات الأساسية في الفن المفاهيمي المعاصر. باعتباره عملا يطرح أسئلة أساسية عن طبيعة الفن وما يستخدمه من مواد – كلها في هذه الحالة من زجاج وتمثل الـ substance المتحوّلة والموجودة في وسط تكون المفردة الكنسية المهمة Transubstantiation – وقدرته على استثارة عقل المشاهد، وعلى طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الفن عليه.

هذه الأسئلة الجوهرية من نوعية كيف يمكن تحدى سيطرة الواقعية السيكلوجية على المسرح الانجليزي، وتجاهلها الكامل للمشاهدين؟ أو كيف نستطيع زعزعة تصورات جمهورها السلبي تجاه المسرح؟ أو هل ينهي الواقع الافتراضي الجديد أهمية التشارك الإنساني الذي تنهض عليه التجربة المسرحية في أصولها الإغريقية؟ وأخيرا ماذا علمتنا تجربة جائحة الفيروس التاجي «كوفيد 19» وإغلاقها للمسارح في العالم كله لشهور طويلة عن دور المسرح وأهميته؟ هي ما يحاول تيم كراوتش طرحها وخاصة في مسرحيته الثانية التي جاء بها إلى أفينيون وهي (الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه). وعلى العكس من (شجرة البلوط) التي كانت مسرحيته الثانية وكتبها عام 2005، فإن هذه المسرحية الثانية هي آخر مسرحياته. حيث كتبها عام 2022، وعرضها لأول مرة في مهرجان إدنبرة في العام الماضي. وهي مسرحية من مسرحيات الممثل الواحد – يقوم بها تيم كراوتش نفسه – حيث يدخل إلى المسرح وهو يرتدي نظارة من نظارات الواقع الافتراضي، ويرى فيها ما يدور في عرض مسرحي، لا نراه بالطبع، لمسرحية (الملك لير) الشهيرة لشكسبير من منظور المهرج الذي ترك المسرحية في قسمها الأخير، ويشاهد ما دار فيها من دمار. كأننا بإزاء نوع من المسرح داخل المسرح. المسرح الفعلي الذي يدور فيه العرض، والمسرح الأكبر – العالم الواسع الذي يشير إليه باستمرار، وذلك الذي يمثله العالم الافتراضي في هذه الأيام والذي يعج بالمهرجين والحمقى أكثر مما كان يدور في مسرح شكسبير.

A person holding a microphone in front of a stone arch

Description automatically generated

تيم كراوتش في مسرحية «الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه»

حيث ينبهنا من بداية العرض إلى أن البلاد تعاني من الدمار، ليس في هذا المكان الذي نحن فيه أثناء المسرحية، ولكن تلك الأخرى البعيدة التي فقد فيها الحكام السيطرة، ويقتل فيها الناس بلا ذنب أو جريرة، وهناك من أصابه العمى. ليس هنا في هذا المسرح الذي تدور فيه (الملك لير)، والتي يشاهدها المهرج عبر نظاراته الافتراضية ويصفها للجمهور، ولكن هناك في تلك البلاد الأخرى كما تفهمون. أما هنا فكل شيء على ما يرام. وقد ترك المهرج الملك لير قبل أن تبدأ عمليات القتل. ولكنه يعيش هنا على المسرح معنا، ومن خلال تلك المواجهة مع العالم الافتراضي تطرح علينا المسرحية افتراضات أخرى، وعمليات قتل وحشية لا تنتهي. حيث يسعى العرض في الوقت نفسه إلى الربط بين مغادرة المهرج المسرحية مبكرا، ومغادرة الجمهور – اضطراريا في كل انحاء العالم – المسرح إبان جائحة كوفيد. وكيف جعلت تلك الجائحة العالم أكثر تجريدية وصعوبة. وأين موضع المسرح في العالم الرقمي، وقد جردته تلك الجائحة من جمهوره؟ حيث تستخدم المسرحية التوازي بين عالم لير المتصدع والآيل للدمار، وعالمنها الذي لا يقل عنه تصدعا، وإن بشكل مختلف. عالم كان لايزال فيه رغم تصدعاته إيمانا هشّا إلى حد ما بأهمية التجربة الإنسانية المشتركة، وعالم غزت الوحشة والعزلة كل أرجائه. وأصبح الفضاء المسرحي نفسه هو ساحة للصراع من أجل أن نرد للإنسانية إنسانيتها وللعالم ألفته المفقودة.

A person wearing a virtual reality headset

Description automatically generated

مشهد لتيم كراوتش في مسرحية «الحقيقة كلب عليه التوجه لمأواه»

«الرعاية الاجتماعية» ومسرحة روائع السينما:
أما مسرحية (الرعاية الاجتماعية Welfare) التي شاهدتها في أهم فضاءات المهرجان، وهو فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي، وحضرت ندوة معدتها ومخرجتها جولي ديليكيه Julie Deliquet عنها ظهر يوم مشاهدتي لها، فإنها لا تقل عن مسرحيات  تيم كراوتش أهمية وإثارة للتفكير، وإن كانت أكثر منها اتساعا وشمولا في تناولها للقضايا الفكرية والمسرحية على السواء. لأن المسرحية الفرنسية المرموقة قد بنت كثيرا من شهرتها على مسرحة أعمال سينمائية مشهورة لأبرز سينمائي أوروبا من إنجمار برجمان إلى راينر فاسبيندر. وليست هذه المسرحية الجديدة التي قدمتها لمهرجان أفينيون هذا العام بالاستثناء. لأنها تنهض هي الأخرى على عمل سينمائي وثائقي مهم للسينمائي الأمريكي فريدريك وايزمان Frederick Wiseman (1930-) بالعنوان نفسه. وهو فيلم يعتبره الكثيرون أهم أفلام هذا المخرج الأمريكي المرموق الذي اشتهر بما يعرف بسينما الحقيقة، أو السينما الوثائقية التي تريد حثّ المشاهد على التفكير واتخاذ المواقف.

ولكنه لا يحب أي من هذه التسميات، لأنه كما يقول لنا في أكثر من حوار معه، وفي عدد من المحاضرات التي قدمها عن عالمه السينمائي، أنه يهتم كثيرا بالبنية الدرامية للعمل السينمائي. وأنه قد خلق هذا الفيلم الذي يعتمد على عالم الرعاية الاجتماعية الأمريكية الحقيقي – من وجهة نظر من يتلقون تلك الرعاية، ومن يقومون بالعمل في مكاتب تقديمها في آن – والذي لا يزيد طوله عن الساعتين إلا قليلا من 150 ساعة من التصوير. لأن منهجه في التعامل مع موضوعه هو أن يقوم بتصوير موضوعه طويلا، حتى ينسى من يصورهم أنه هناك كاميرا تسجل ما يقومون به. وحتى يحصل منهم على ما يريد فعلا، وهو غياب أي تمثيل أو وعي به. وإذا كان التصوير يستغرق زمنا طويلا، فإن عملية المونتاج المعقدة تستغرق منه في كثير من الأحيان وقتا أطول حتى تتخلق بنية الفيلم الدرامية التي يتم فيها التفاعل المضمر بين المتجاورات. لأن الفيلم الذي أخرجه من قلب 150 ساعة من المادة المصورة لا يتجاوز الساعتين إلا قليلا، ولكن له بنية درامية بالغة الجمال والتعقيد.

A person looking up with a red background

Description automatically generated

جولي ديليكيه

هنا يبدأ عمل المخرجة والمؤلفة المسرحية جولي ديليكيه التي تنطلق من أفلام أصبحت علامات فنية وجمالية في الجنس الذي تنتمي إليه، لتختبر مدى قدرة المسرح على أن يبث في أشرطتها حياة جديدة، ورؤى معاصرة. ومن البداية نجد أنها أبقت الأحداث في زمنها ومكانها: أميركا نهاية الستينيات وبداية السبعينيات الطالعة بالكاد من الحرب الكورية، والتي لم تتعلم دروسها، لأن أقدامها كانت قد بدأت بالفعل تسوخ وبسرعة في أوحال حرب فيتنام. فقد أنجز فريدريك وايزمان هذا الفيلم ما بين عامي 1973و1975 وعرضه عام 1975. وحينما يتوافد الجمهور إلى فضاء قاعة الشرف في القصر البابوي يجد أن مسرحه الضخم عامر بتركيب يشغل معظم مساحته. كما في الصورة التالية، وأن على جانبي المسرح في اقصى اليمين مقاعد وكأنها دكك المشاهدين في ساحة ملعب لكرة السلة، وفي أقصى اليسار نجد حامل السلة الخشبي الشهير في تلك الملاعب، والذي يصوب إليه اللاعبون كرتهم. فضلا عن بعض المقاعد والأشياء الأخرى.

A large building with a crowd of people in the background

Description automatically generated

المشهد الافتتاحي لمسرحية (الرعاية الاجتماعية) أثناء توافد الجمهور

وبينما تكتمل عملية وفود المشاهدين إلى مقاعدهم – ونحن نتحدث هنا عن ألفي مشاهد تقريبا – يقوم عمال المسرح بتفكيك هذا المركّب الكبير الذي يتكون من أربعين غرفة تقريبا مبنية من مجموعة من العصي المعدنية مثبتة في بعضها البعض لتشكيلها للعديد من الغرف، وستائر بلون قماش الدمور تمثل الحوائط، ووضع كل تلك المكونات من عصي/ أعمدة وستائر على عربات سحب تجرها إلى خارج الخشبة. لتبقى الخشبة فارغة أو شبه فارغة يجلب إليها الممثلون بعض ما سيحتاج إليه بعضهم – وخاصة موظفي مكتب الرعاية الاجتماعية – من مكاتب ومقاعد وغيرها. وسرعان ما نكتشف أن المسرح، وقد توزعت في أرجائه بعض تلك الأشياء مرسوم على أرضيته تخطيطات ملعب لكرة السلة، وسوف نلاحظ أن هناك في الناحية اليسرى منه ووسط أكوام أخرى من الأثاث العارضة التي تُعلق فيها السلة عاليا. ويبدأ العرض باستدعاء من عليه الدور ممن وفدوا إلى المكتب، لتتوالى أمام أعيننا – وفي كريشيندو متصاعد من المعاناة الإنسانية – مجموعة من الحالات التي تكشف لنا وبصور صادمة مدى تغلغل الفقر والعوز في بنية الحياة الأمريكية من ناحية، ومدى قسوة البيروقراطية الأمريكية وقدرتها على العصف الممنهج بفقرائها من ناحية أخرى. حيث نكتشف بالتدريج أن القانون الذي يبدو في الظاهر وكأنه يحرص على توفير الوضوح والعدالة في اتخاذ القرار، قد وضع بطريقة تجعل من يستهدفهم هذا القانون أقل الناس قدرة على التعامل معه، ناهيك عن فهم منطقه الذي سنكتشف بالتدريج خطله.

 

A group of people playing volleyball in a large building

Description automatically generated

صورة المسرح بعدما اكتمل حضور الجمهور وبدأ العرض

ومن البداية يسهل علينا التمييز بين الموظفين الذين يفدون بحقائبهم الشخصية، وذوي الحاجات الاجتماعية المختلفة الذي يجيئ بعضهم ببؤج من القماش بها أشياؤهم الأساسية. ونبدأ بحالة توشك أن تكون تقليدية لامرأة سوداء حبلى هجرها زوجها، وليس لديها ما تطعم به أطفالها الثلاثة – والرابع في الطريق. ومع أنه من الواضح لكل ذي عينين أنها حامل في شهورها أو أسابيعها الأخيرة، إلا أن التعليمات تقتضي بأن تجلب من المستشفى شهادة بذلك كي تكتمل أوراق ملفها. وأن تثبت أن زوجها لا يعولها كي تحصل على ما يقيم أود أطفالها، الذين تركتهم وراءها جوعى ولا تستطيع العودة إليهما دون طعام. ومع أن أحد موظفي المكتب يتعاطف مع حالتها، ويرى أن في ملفها أوراق كافية لتثبت حاجتها، فإن رئيسته المشرفة على المكتب ترفض هذا التعاطف، لمخالفته للتعليمات. وما أن ننتقل للحالة التالية حتى نجد أننا بإزاء بيروقراطية من نوع آخر لأننا هنا بإزاء رجل وامرأة ربط بينهما فقدان المأوى، والحاجة إلى توفير سقف ينامان تحته، ومبلغ شهري صغير يسدان به رمقهما. ومع أن الرجل كان يعمل طوال حياته، حتى مرض وطالت مدة علاجه بالمستشفى حتى وصلت لسبعة أشهر، وهو ما أدى بشركته إلى فصله من العمل، وبصاحب مسكنه إلى استرداده منه. وكل ما يحتاج له هي مساعدة من حقه حتى يتعافى ويحصل على عمل جديد. كما أن المرأة كانت هي الأخرى في رعاية رجل حتى تركها وطردها من بيته، وهي علاوة على ذلك تعاني من نوبات صرع – حسب شهادة طبية موثقة – ولذلك لا تصلح للعمل. فإن ما تطلبه الإدارة منهما من أوراق يدفعهما إلى اليأس والثورة.

A person and person standing next to each other

Description automatically generated

أما الحالة الثالثة فإنها أسوأ منهما، لأن صاحبها بعد أن أطاح الفقر بكل ما لديه عقب فقدانه للعمل بعد سبعة وعشرين عاما من العمل ودفع الضرائب، لم يبق له إلا سرقة ما يستطيع أن يأكله من السوبر ماركت. والنوم في سجون مراكز الشرطة حينما تضبطه المحلات التي يسرق منها. وهو الأمر الذي أدخله في دوامة من الحبس المؤقت الذي يحول بينه وبين الحصول على عمل، وفقدان المأوى الضروري كي يكون له عنوان ثابت يمكن أن يتلقى عليه شيكات الضمان الاجتماعي. وهو لا يختلف في هذا كثيرا عن الحالة الرابعة، التي تستحق بالفعل الضمان الاجتماعي، وتصل إليها شيكاته، إما متأخرة وبعد فقدان وقت صلاحية صرفها، أو لا تصل على الإطلاق لإرسالهم إياها على العناوين الخطأ، وإلى الفنادق التي تبيت فيها بعدما تكون قد طردت منها لأنها لم تدفع أجرتها، ولم تصلها الشيكات التي تنتظرها. وكل ما تريده هو الحصول على ما لم تصرفه من شيكات مرتدة، كي تدفع أجر الغرفة التي تبيت فيها، وكي تستطيع أن تحصل على ما يسد رمقها من طعام. ولكن هيهات! إذ تحول البيروقراطية دون تسليمها أي من تلك الشيكات فتنهار أمامنا.

A group of people on a sports court

Description automatically generated

وهناك حالة خامسة لذلك الذي يعتبر نفسه من المحاربين القدماء. لأنه ما أن جُند في الجيش حتى أرسل للمشاركة في الحرب الكورية قبل انتهائها بشهور ستةـ ليشارك فقط في عمليات الانسحاب بعد الهزيمة الأمريكية فيها. ثم عاد إلى الوطن وتم تسريحه، ومن حقه أن تحظى حالته بالأولوية التي تستحقها حالات المحاربين القدماء، وقد التقى برئيس المكتب وسلمه ملفه في الزيارة السابقة، ولذلك يطلب منه الموظفون – حينما حان دوره – الانتظار حتى يجيء رئيس المكتب. فيعود من جديد إلى دكك المنتظرين. وثمة حالة سادسة لشاب أسود أُطلق سراحه بعد سجن دام لإحدى عشر سنة، بسبب قتله لشخص ما، ولا يزال تحت المراقبة لأربع سنوات أخرى، ويحتاج إلى الضمان الاجتماعي حتى يحصل على مسكن ويبدأ في البحث عن عمل. وقبل أن يصل تتابع الحالات أمام المشاهدين إلى حد التكرار الذي قد يحيل التوتر الدرامي إلى الملل، يعلن أحد الموظفين أنه قد حان موعد استراحة الموظفين، والعودة للمكتب بعد الظهر، للنظر في الحالات المتبقية، والتي كان أصحابها يجلسون على المقاعد الموضوعة في أقصى الجانب الأيمن من المسرح. وأن الدور لازال على هذا السجين السابق الذي سينظرون في حالته بعد العودة من الاستراحة.

هنا تتغير دينامية التفاعل بين الممثلين/ الشخصيات. فيتجمع البعض حول المرأة السوداء الحامل والمرأة الأخرى البيضاء التي انهارت، حينما أبلغوها باستحالة حصولها على أي من أموالها التي لم تُصرف. وتتخلق آليات جديدة لا يشارك فيها إلا الشرطي الأسود – لدلالة التقسيم اللوني في المجتمع الأمريكي – المنوط به حماية النظام. والذي بقي بعد انصراف كل الموظفين البيض مع أصحاب الحاجات المنتظرين لدورهم، ومن مر عليهم الدور ولكنهم لم يحصلوا على جواب ويرفضون المغادرة. أقول تبدأ دينامية حراك جديد بينهم، حيث يلعب الشاب الذي خرج من السجن مؤخرا كرة السلة – وهي من أكثر الرياضات شعبية في المجتمع الأمريكي كما هي كرة القدم عندنا مع الشرطي بمرح؛. بينما يكيل المحارب القديم له السباب العنصري الذي يحرص بحكم وظيفته على ألا يثيره أو يخرجه عن دوره الحيادي في حماية النظام. بينما تتخلق أواصر التعاطف بين ضحايا بيروقراطية النظام ممن ترفضان الاستسلام للبيروقراطية الجائرة.

لكنه إذا ما كان الناقد المسرحي الانجليزي الشهير كينيث تينان هو من كشف عن سر درامية مسرحية صامويل بيكيت (في انتظار جودو) حينما رد على منتقديها بأنها مسرحية لا يحدث فيها شيء، بالقول: إنها مسرحية لا يحدث فيها شيء مرتين! فغيرت هذه المقولة تلقيها ونظر المشاهدين لها، فإن جولي ديليكيه تدرك أهمية التكرار الدرامية. فبعد الكشف عن إنسانية كل الحالات التي لم نشهد إلا إحباطاتها وعنفوان يأسها، يحين الدور لعودة الموظفين بعد الاستراحة وممارسة المزيد من تجليات المواجهة بين حاجة الفقراء الماسة، وصلف أو بالأحرى غطرسة البيروقراطية ضدهم. لكن التكرار هذه المرة، لا يكشف فحسب عن تنويعات مغايرة على اللحن السابق، وإنما يكشف عن مدى تغلغل الإحباط أيضا في أغوار الموظفين الذين يعملون في هذا المجال. وقد سبق أن عبر بعضهم في القسم الأول من العرض عن ضيقه بغباء البيروقراطية، ولكننا نكتشف هذه المرة أن المشرفة على المكتب، وأكثر الموظفين تمسكا بحرفية الإجراءات لا تقل إحباطا ويأسا عن الآخرين، وإن على صُعد مختلفة. لأنها تكشف لنا عن خواء ما يُعرف بقصة النجاح الأمريكي، وأرض اللبن والعسل التي تروج لها تلك المقولة. وعن أن كل ما فعلته للترقي في عملها، وما نجحت فيه من دورات تدريبية ومهنية مختلفة لم يتح لها الترقي الذي تنشده.

ولأن العمل يهتم كثيرا بجماليات المشهد المسرحي، ولأن خشبة مسرح ساحة الشرف في القصر البابوي تتيح لمن يحسن استخدامها أن يجسد ذلك أمام المشاهدين، فقد استطاعت جولي ديكيليه أن تحيل هذا الفضاء الواسع، بعد انتهاء النص المكتوب، وباستخدام موسيقي كان جالسا في أقصى اليسار منذ بداية العرض، إلى فضاء تعمره أشباح كل ما جرى حتى اليوم. فقد أخذت الحالات التي تعرفنا على يأسها تفد إلى هذا الفضاء وقد عمرته موسيقى ذات أصداء مخيفة كأشباح تجلب معها أمثالها من أي مكان في العالم. وتعيد المشاهدين، بعد انتهاء المباراة – مباراة كرة السلة والمباراة المسرحية بين الجانبين معا – إلى مشهد البداية التفكيكي من جديد. كي تحثنا على التفكير من جديد في كل ما رأيناه. لكن على العكس من التفكيك الأول الذي أسفر عن ملعب وفضاء عامر بالجدل والصراع؛ فإن هذا التفكيك الثاني يردنا – دون كلمات – إلى ما يدور في عالمنا المعاصر من جدل حول العدل والمساواة: وهما مفردتان ترددتا كثيرا على ألسنة بعض الشخصيات، وعلى جانبي حلبة المباراة معا.

الوقوف على حافة المستحيل:
كما أن عملية التفكيك الفعلية منها ورديفتها الرمزية التي جسدتها لنا جولي ديليكيه في عملها الجميل ذاك توشك أن تتصادى مع تلك المفاجأة التي خبأها المهرجان لمديره الجديد. فقد خطط أن يطرح نفسه كنقيض لمدير المهرجان السابق، أو كما يقول لنا في أحد الحوارات التي دارت معه بشأن برمجة مسرحية له في آخر لحظة، أنه أراد أن يضع إمكانياته وعمله المسرحي في خدمة المهرجان، وليس العكس. لأن الكثيرين من متابعي المهرجان – وأنا منهم – كانوا يشتكون من تكريس مدير المهرجان السابق، أوليفييه بي، المهرجان لخدمة مشروعه المسرحي المحدود، وبرمجة أكثر من عمل له كل عام، وفي أهم فضاءات المهرجان، بما في ذلك أعمال طويلة يستغرق عرضها ما بين الست والعشرة ساعات، تحكي أمشاجا من سيرته الذاتية. فقد كانت المفاجأة، وهي أمر نادر في التخطيط لمثل هذا المهرجان، وغيره من المهرجان ذات الإعداد الجيد، أن يسحب المخرج والمسرحي البولندي المتميز كريستيان لوبا Krystian Lupa عمله الذي طوّره وأنتجه مع مسرح Comedie de Geneve وبرمجه تياجو رودريجز في كتاب المهرجان المطبوع، والذي يظهر في أبريل/ مايو من كل عام، وحصلت على نسخة منه في ندوة لندن في المركز الثقافي الفرنسي.

A person with glasses and a beard

Description automatically generated

المخرج المسرحي كريستيان لوبا

إشكاليات الكتابة الركحية والبرمجة المسبقة:
وسوف أتريث قليلا عند هذا الحدث لأكثر من سبب. أولها أنني عهدت في الكتابة عن هذا المهرجان المهم أن أكتب للقارئ العربي، وللحركة المسرحية العربية التي يهمني أمرها في المحل الأول. وثانيها أن تلك القضية التي أدت إلى إلغاء عرض لوبا في اللحظات الأخيرة ظلت لفترة غير قصيرة مشكلة قابلة للانفجار! وقد عرفت بعض تجلياتها في المسرح التونسي وانشقاقات فرقة المتتالية. وثالثها أن هذا الحدث كشف بعض الجوانب الإيجابية في شخصية مدير المهرجان الجديد وقدراته على الحفاظ على قيمة المهرجان ومصداقيته، يمكن أن تستفيد منها الحركة المسرحية العربية. ذلك لأن مسرحية كريستيان لوبا والمعنونة (المهاجرون Les Emigrants) والتي يقول تقديمها في البرنامج أنها تعتمد على نص الكاتب الألماني المرموق و. ج. سيبولد W. G. Sebald (1944-2001) كانت قد شاقتني، حينما قرأت عنها في برنامج المهرجان لأهمية الكاتب الألماني ورواياته، وكانت من بين المسرحيات التي طلبت حجز تذاكر لها.

كما أن الوعي بأهمية كريستيان لوبا (1943 - ) والذي يعتبره البعض أحد أهم مخرجي المسرح المعاصرين في أوروبا، إن لم يكن أهمهم، كان وراء برمجة مسرحيته تلك التي كان لايزال يعمل عليها في أحد أهم مسارح سويسرا، وبميزانية أوروبية ضخمة. وإذا كان كريستيان لوبا قد رسخ مكانته في المسرح بمنهجية الإخراجية المتميزة – تعود أصولها إلى إسهامات المسرح البولندي في اللغة المسرحية والإخراجية منها بشكل خاص على يدي المنظر المسرحي الكبير جيرزي جروتوفسكي (1933-1999) وتلاميذه في ا لمسرح البولندي – وتقترب كثيرا مما يدعوه إخواننا التوانسة بالكتابة الركحية التي تدور على خشبة المسرح أثناء البروفات قبل تثبيت أفضل نتائجها. وهي منهجية تمتزج فيها مفردات اللغة الإخراجية، بنوع من الكتابة الجديدة أو المشاركة الجمعية في بلورة النص في صورته المسرحية النهائية – فإن تلك المنهجية تتطلب الكثير من الممثلين، وضرورة تطويع أنفسهم لما يريد المخرج تحقيقه. كما تتسرب إليها الكثير من عناصر الارتجال المسرحي، والتي قد يتصور بعض الممثلين أنها إسهام منهم في عملية التأليف ذاتها.

ويبدو أن كريستيان لوبا، وقد بلغ الثمانين من عمره، وحظي بكل ما ناله من جوائز أوربية ودولية كبيرة واعتراف بدوره ومكانته، أصبح يضيق بعدم استجابة الممثلين لما يريده منهم، ويعاملهم بقدر من الخشونة، بما في ذلك طرد بعضهم من العرض. وهو ما دفعهم – في زمن تعاني فيه أوروبا من صوابية ضرورات احترام حقوق الآخرين الحرفية أحيانا – إلى رفع قضية عليه أمام القضاء السويسري في شهر يونيو، وقبل افتتاح العرض في كوميدي جينيف قبل سفره في يوليو إلى أفينيون. وتزعم القضية المرفوعة أنه أساء إليهم لفظيا، كما أساء استخدام سلطته المعنوية ضدهم. فليس في وسع مخرج في الثمانين من عمره، يشارك معهم في العرض إلا استخدام الكلمات، مع ممثلين أصغر منه عمرا وخبرة بالطبع، وأقوى منه جسديا. وكان رد فعل لوبا على رفع بعضهم لتلك القضية ضده، أن اعتذر لهم عن ضيق صدره بتكرار أخطائهم، ولكنهم أصروا على مواصلة التقاضي. مما عقّد الوضع كثيرا، وجعل لوبا يشتكي بدوره من عدم قدرتهم على المساومة والتواصل الخلّاق معه، وهو أمر ضروري لأي إبداع فني حقيقي. وإزاء تأزم هذا الوضع اضطر مسرح كوميدي جينيف – المؤسس على غرار الكوميدي فرانسيز الشهير في باريس – إلى إلغاء العرض في جينيف نفسها – وبالتالي في أفينيون – حتى يحكم القضاء في الأمر.

هنا أريد أن أفتح قوسا – قد يطول قليلا – للحديث عن أسلوب كريستيان لوبا، والذي عرفنا تنويعات كثيرة عليه في المسرح التونسي لدي كل من محمد إدريس وتوفيق الجبالي وفاضل الجعايبي، وإلى حد ما في المسرح الجزائري لدي الشهيد عبدالقادر علولة (1939-1994). لأنني من الذين يهتمون بالنص المسرحي كثيرا. وقد اقتربت كثيرا من كل من توفيق الجبالي وفاضل الجعايبي والراحل عزالدين جنون، عندما أقمت عدة شهور في تونس لدراسة هذا المسرح الجديد في مطالع تسعينيات القرن الماضي، وتعرفت عن كثب على تجربة كل منهم فيما يسمى بالكتابة الركحية والتي تتدرج من ورشة للتأليف المسرحي، تواصل العمل على نص هلامي على درجة كبيرة من السيولة، ويعتمد كثيرا على الارتجال، إلى محاولة دؤوبة لتحويل رؤية مسرحية كامنة لدى المؤلف/ المخرج إلى نص مسرحي يتجاوب مع حاجات الخشبة المسرحية، وتقنيات العرض المختلفة، ويتم تثبيته قبل بدء العرض رسميا. وهو أسلوب تمتد جذوره في تجربة الدراماتورجية الألمانية من ناحية، وتجربة جروتوفيسكي في تطويع الممثل وفنون الإخراج المسرحي من ناحية أخرى. وقد تجلى في أحد أبرز وجوهه في تجربة إريان ميشكين ومسرحها الشهير في «الكارتوشري» مصنع الذخيرة القديم في باريس.

ذلك لأنني لاحظت في السنوات الأخيرة ومع ترددي المستمر على مهرجان أفينيون – و هو أهم مهرجان مسرحي في أوروبا في حدود علمي – أن كثيرا من المخرجين، وقد أخذوا يزاحمون المؤلف المسرحي على موقعة، يلجأون إلى تلك الكتابة الركحية بدرجات مختلفة. وأن ذلك يدفع الكثيرين منهم إلى مسرحة الروايات الأدبية الشهيرة، أو حتى الأفلام الكلاسيكية الكبيرة كما رأينا في تجربة أيفو فان هوفا – أحد أهم مخرجي هولندا وفيلم (الملعونون) لفيسكونتي قبل بضعة أعوام. وها نحن قد تعرفنا على تعامل جولي ديليكييه مع فيلم (الرعاية الاجتماعية) لفريدريك وايزمان. وسنكتشف حينما نتمعن مع ما حدث مع كريستيان لوبا، أنه هو الآخر لجأ إلى التعامل مع روايتين من روايات الكاتب الألماني الكبير سيبولد، لتحويلهما إلى عمل مسرحي. وها هو زمن الصوابية السياسية والأخلاقية يطرح على هذا النوع من الكتابة المسرحية/ الإخراجية إشكالياته. لأن تحويل الممثلين – وهم بشر لهم مطامحهم المبررة أو غير المبررة – إلى أدوات للكتابة الركحية، كان لابد له من أن يخلق مثل هذا الصدام.

A person standing in a field

Description automatically generated

لوبا في مشهد من عرض «المهاجرون»

والواقع أنه حتى بالعودة إلى موقع المهرجان – الأن وبعد انتهاء دورته السابعة والسبعين – فإننا سنجد أنه مازالت به بعض الصور لعرض لوبا (المهاجرون)، الذي أُلغي في اللحظة الأخيرة. وأن التغيير الذي جرى في البرنامج حدث في الأسبوع أو الأسبوعين الأخيرين قبل افتتاح المهرجان، لأن انسحاب عمل في آخر لحظة، لا يترتب عليه فجوة في البرنامج فحسب. وكان العمل –لأهمية موضوعه ومكانة مخرجه – قد تمت برمجته في أحد أهم فضاءات العرض في أفينيون، وهو مسرح الأوبرا الكبيرOpera Grand Avignon  بالمدينة، أي أهم مسارحها المبنية على الطراز القوطي القديم، والذي يتسع لما يقرب من الألف مشاهد، ولمدة تسعة أيام من العرض. ويزيد ثمن التذكرة فيه عن الثلاثين يورو، وقد حجزت معظم تذاكر العروض التسعة مقدما. أي حوالي تسعة آلاف تذكرة. وهو الأمر الذي يجعل خسارة المهرجان المادية وحدها، بهذا الإلغاء المفاجئ، تزيد عن الربع مليون يورو. ولكن إلغاء عمل كهذا، ومن أعمال المهرجان الكبيرة لا ينال من سمعة المهرجان فحسب، ولكن له عواقبه المادية الضخمة كما ذكرت.

فمسرح كوميدي جينيف لا يستطيع أن يتحمل خسارتين كبيرتين في وقت واحد: إلغاء العمل في اللحظة الأخيرة من مسرحه، وبالتالي القضاء على إمكانية عرضه لتلك العروض التسعة في مهرجان أفينيون. كما أن علي مهرجان أفينيون، ومديره الجديد أن يجد عملا بنفس حجم العمل الملغي وقيمته كي يبرمجه بدلا منه، ويعوض به من حجزوا تذاكر فيه. ويبدو أن الحظ كان في جانب مدير المهرجان الجديد. لأنه كان هو الآخر، وبسبب مكانته الإخراجية التي أهلته لأن يكون أول مدير غير فرنسي للمهرجان، قد سبق وطلب منه مسرح كوميدي جينيف أن يقدم له مسرحية جديدة. وكان لديه مشروعا لتلك المسرحية، أخذ يشاغله قبل اختياره لإدارة مهرجان أفينيون، ولكنه لم ينجزه له بعد، وأجل التفكير فيه. ولم يكن هناك أي مخرج من الأزمة التي يعاني منها كل من مسرح كوميدي جينيف ومهرجان أفينيون جراء هذا التوقف القسري لمسرحية كريستان لوبا غير أن يعمل تياجو رودريجز نفسه على مسرحيته المؤجلة تلك، وبسرعة تقتضي الانتهاء منها قبل المهرجان. وبدا الأمر وكأنه ضربة حظ إجبارية بالنسبة لكوميدي جينيف، ولتيجو رودريجز معا.

فقد كان على رودريجز – وله عمل مدرج في برنامج كوميدي جينيف لشهر أكتوبر القادم بعنوان (كورس/ أو جوقة العشاق Chœur des amants) – كان عليه أن يبرمج في اللحظة الأخيرة مسرحيته (عند حافة المستحيل Dans la Mesure de L’Impossible). وأن يجعل المهرجان يكتب لمن حجزوا تذاكر في مسرحية لوبا (المهاجرون) بأن باستطاعتهم استبدال تذاكرهم لمسرحيته الجديدة. أو ردها للمهرجان واسترداد ثمنها. وهو الأمر الذي حافظ على مصداقية المهرجان، وأتاح لمن خسروا فرصة مشاهدة مسرحية لوبا بديلا معقولا. بل إنني أستطيع الآن وبعد أن شاهدت (عند حافة المستحيل) وتعرفت على موضوع (المهاجرون) أن أقول وكنت ممن حجزوا تذاكر في مسرحية لوبا، واستبدلتها بمسرحية رورديجز، أن البديل كان أفضل من حيث الموضوع، ولا يقل أهمية من حيث لغة العرض وتجربة الفرجة المسرحية، عما كنت أنتظره من لوبا الذي شاهدت من قبل أكثر من عرض له. بل إن اختيار أن يقدم مسرحية (عند حافة المستحيل) بدلا من المسارعة في تجهيز (جوقة العشاق) كان مدفوعا بالحرص على أن يكون للعمل بعده السياسي المهم، كما هي الحال في مسرحية لوبا الملغاة.

A group of people standing on a stage

Description automatically generated

مشهد من «عند حافة المستحيل»

صحيح أن عرض لوبا الملغى كان يقوم على عملين من أعمال سيبولد أحد أهم الكتاب الألمان المعاصرين وأكثرهم عمقا وتجديدا برغم أنه عاش جل حياته العملية في انجلترا منذ عُين فيها عام 1970 مدرسا للأدب الأوروبي المعاصر في جامعة إيست أنجليا University of East Anglia، وظل يعيش فيها بعدما حصل على كرسي الاستاذية في موضوعه حتى مات بها عام 2001. لكن أعماله الأدبية التي يمتزج فيها السرد الروائي المتدفق، بالصور الفوتوغرافية القديمة، بالأحداث التاريخية الحقيقية، هي التي وضعته في تلك المكانة الأدبية المهمة في الأدب الألماني المعاصر. أما العملان اللذان استقى منهما لوبا مسرحيته، فهما رواية سيبولد الأخيرة (أوسترليتز  Austerlitz) التي ظهرت عام وفاته 2001، وروايته السابقة عليها (المهاجرون) التي نشرها عام 1992. حيث استخدم سعي بطل الرواية الأخيرة لتجميع أمشاج حياة صاغتها تحولات تواريخ أوروبا المأساوية في القسم الأكبر من القرن العشرين، في تحويل موضوع الرواية السابقة عن المهاجرين الأوربيين إلى انجلترا طوال القرن الماضي، إلى عمل يتصادى مع ما تعيشه أوروبا الآن – بمعايرها المزدوجة التي عرّتها الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة – تجاه المهاجرين الذين يتدفقون عليها في زمن مغاير وضمن سياقات مختلفة.

مأساة أفريقيا على حافة المستحيل:
أما عمل تياجو رودريجيز فيوشك أن يكون مقلوب (المهاجرون)، دون أن ينفصل كلية عن هذا الموضوع الملح على أوروبا المعاصرة، لأنه ينهض على تجربة وشهادات مجموعة من العاملين في مؤسسات الإغاثة المختلفة في القارة الأفريقية. ولابد ألا ننسى أن كثيرا من تلك المؤسسات مدفوعة بإبقاء ضحايا النيوليبرالية المتوحشة في القارة الأفريقية بعيدا عن القارة الأوروبية، والقضاء على دوافع هجرتهم من أفريقيا إليها. دون القضاء على آليات نهب ثروات القارة المستمرة. وعندما ندخل إلى المسرح، نجد أن الستارة مفتوحة – فنحن في مسرح تقليدي البناء – على خشبة شبة مغطاة بملاءة سميكة ضخمة رُفعت بعض أجزائها فبدت وكأنها عدة خيم بدائية متداخلة. وحينما يبدأ العرض تدخل على التوالي شخصياته الأربعة: أمرأتان ورجلان أحدهما أسود. سنعرف أثناء العرض وبسرعة أنهم يعملون جميعا في مؤسسات إغاثة مختلفة في أفريقيا. وقد اختارت المسرحية أن تكون مزدوجة اللغة/ حيث تتكلم المرأتان باللغة الانجليزية، بينما يتكلم الرجلان اللغة الفرنسية. وهناك لوحتان للترجمة واحدة أعلى الناحية اليمنى من المسرح والأخرى أعلى الناحية اليسرى تظهر عليهما ترجمة ما يُقال باللغة الأخرى. كي يتلقى النص أكبر جمهور ممكن. خاصة وقد كانت الجالسة بجواري قادمة من المسرح الروسي، الذي كانت تعمل فيه بأحد أكبر مسارح موسكو حتى فصلت منه قبل ستة أشهر لتوقيعها على بيان ضد الحرب الروسية الأوكرانية.

A group of people on stage

Description automatically generated

مشهد آخر من «عند حافة المستحيل»

وتبدأ هذه الشخصيات الأربعة في تقديم نفسها مباشرة للجمهور. حيث تتحرك في مقدمة المسرح، وتتحدث في ميكروفون – مثبت في عمود أو يمسكه الممثل في يده – متوجهة إلى الجمهور. لأن العمل يعتمد كما يقول لنا مؤلفه/ ومخرجه تياجو رودريجيز، على مجموعة من الشهادات الحقيقية التي جمعها حول الموضوع، وعلى كيفية مسرحة تلك الشهادات وتقديمها على الخشبة، بطريقة تعتمد على خلق علاقة تفاعل جدلية بين الممثل والجمهور. لأن المسرح بالنسبة له ليس ذلك الذي يسعى لوضع شريحة تشبه الحياة الواقعية على الخشبة أمام الجمهور، كما في مسرح الواقعية الاجتماعية؛ وإنما على خلق علاقة فعالة بين الممثل، والكلمة، والجمهور. يلعب فيها كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة دوره في تخليق تجربة ترهف وعي الجميع بما يعيشونه في واقعهم المعاصر. لأن ما يريد تحقيقه في هذا العمل هو خلق تلك المتاهة الشعرية الخصبة التي تضع فيها التجربة جميع أطرافها الثلاثة: الممثل والكلمة والجمهور. متاهة تتخلق عبرها الأسئلة والاحتمالات التي يعيش عبرها الجميع تجربة إنسانية مترعة بالتحولات المستمرة التي تعيشها في عصرها، بوعي أو بدون وعي. دون الوقوع في فخ أن تتحول العملية إلى تجربة في لعبة الديموقراطية الزائفة أو الشكل الدرامي.

حيث يؤكد لنا في برنامج المسرحية المطبوع أنه كان يصرّ على تنبيه الممثلين كل يوم أثناء البروفات: «لا تتخيلوا أن تضعوا أنفسكم مكان الشخصيات التي تمثلونها. أو أن تعيشوا القصص التي ترونها، أو أنكم جزء من الديكور المحيط بكم على الخشبة، وإنما أن تواجهوا الجمهور وتتحدثوا إليه وجها لوجه.» لأن المسرح بالنسبة له – حسب تعبير جان جاك روسو – هو حفل مدني. فالمسرحية لا تريد أن تتعامل مع العاملين في مؤسسات الإغاثة الإنسانية باعتبارهم أبطالا، وإنما تحرص على أن تضعهم في مكانهم الطبيعي والتقليدي في السلم الاجتماعي، وتموضعهم في اللحظة التاريخية معا. بطريقة تسعى إلى أن تخلق لنا تلك المساحة النقدية الحرة لتأمل عالمنا وذواتنا من خلال العرض، وهو يطرح علينا تعقيدات حياتهم ومواقفهم وتناقضاتها، ومن خلال أزماتهم وأخطائهم وحتى من خلال رغباتهم في الاهتمام بنا. وتروي كل منها على التوالي – وبشيء من القطع والتداخل – كيف أدت بها حياتها أولا إلى أن تكون في هذا الموقع أو ذاك من القارة الأفريقية الشاسعة، من رواند إلى الكونغو، ومن السودان إلى زيمبابوي وغيرها.

بصورة تقدم لنا أولا خلفية بعض من يذهب من الأوربيين للعمل في مؤسسات الإغاثة تلك: إما هربا من اللامعنى الذي عاشته إحدى الشخصيات، أو بحثا عن هدف مثالي نبيل يمنح حياتها قيمة ما، كما هو الحال مع أخرى، تلك التي وجدت نفسها وهي في مطالع العشرينات من عمرها، وقد وصلت إلى أحد مجاهل أفريقيا حيث المجاعة والحرب الأهلية، مسؤولة عن توزيع تلك الكميات الشحيحة من المساعدات على أعداد وفيرة لمن هم في مسيس الحاجة إليها، ووسط غابة من تراتبات قبلية يتوغل فيها الفساد. وهو الوضع الذي جعلها تجابه في ذلك العمر الغض كيف ينقسم العالم بحدة بين الممكن والمستحيل كما تقول لنا. أو حتى هربا من فخ البطالة الذي كان وقع فيه ثالث الشخصيات بعدما تخبط بين أعمال مختلفة، في انتظار عمل في تخصصه المحدود. وبعض ما عاشه أو عاشته كل منها من تجارب أثناء العمل وضعتها على «حافة المستحيل» كما يقول عنوان المسرحية. تلك التي تجد عليها فيها أن تختار بين الممكن والمستحيل. ولا يفوت العمل أن تكون أحد الشخصيات من القارة الأفريقية نفسها، وكأنه يخبرنا بأن ربع من يعملون في تلك المؤسسات الإغاثية المختلفة من أبناء البلاد التي تسعى لإغاثتها.

A group of people on a stage

Description automatically generated

مشهد من «عند حافة المستحيل»

وكان من لعب دور أبناء القارة الأفريقية ممثلا من إحدى بلدان غرب أفريقيا التي تتكلم الفرنسية بطلاقة. وقد بقي أحد المواقف التي وضعته على «حافة المستحيل» يطاردني بعد العرض لأيام. فقد قدمت إلى المستشفى أو المصحة، التي يعمل فيها لإنقاذ ضحايا الحرب الأهلية والمجاعة، أربعة حالات من الأطفال تحتاج كلها بشدة إلى نقل دم لإنقاذ حياتها. ولم يكن في المستشفى غير كيس دم واحد. وكان عليه أن يختار من بين الأطفال الأربعة من يعلق له هذا الكيس كي ينقذ به حياته. كان أول الأطفال رضيع لم يفطم بعد، يعاني مع أمه من الجوع وفقر الدم، وكان الثاني في الثالثة من العمر ومصاب بدوسنتاريا حادة جعلته ينزف قسما كبيرا من دمه، وكان الثالث هزيلا نزف الكثير بعدما أصابته شظية واستقرت في جسده، أما الرابع فكان في السادسة من العمر، يعاني هو الآخر من قطع في ساقه، وجفاف شديد. وقد اختار أن ينقذ هذا الأخير بمنطق من يعرف قسوة الحياة في ذلك الجزء من العالم، وكثرة وفيات الأطفال فيه. فمن تمكن من أن يبلغ هذا العمر في تلك الظروف الصعبة، وأن يتغلب على ما واجهته به الحياة من عنف وقسوة لسنوات ست، هو من علق له كيس الدم الوحيد، واختار به الممكن الوحيد، حينما كان المستحيل سيد الموقف.

وقد سبق له كما نعرف منه فيما بعد، أن تبرع بدمه حينما كان صبي آخر في حاجة إلى دم، ولم يكن باستطاعة أسرته أو حتى المستشفى توفير أي دم له، عندما اكتشف أن فصيلة دمه كانت من نفس النوع الذي يحتاجه الصبي. وظلت أسرته التي كان كل أفرادها معه محتفظة له بهذا الجميل، وإن لم تستطع رده أو مكافأته عليه. وجاءت المكافأة بعد ذلك بعام أو أكثر ومن حيث لا يحتسب. فقد أضطره رئيس هيئة الإغاثة إلى التوغل في أحد المناطق الخطرة، رغم تحذيره له من ذلك لخطورة الحرب الأهلية الدائرة فيها. ووقع هو ومن كانوا معه في أيدي أحد الفرقاء المتحاربين في المنطقة كرهائن؛ وإذا بقائد هذا الفريق يعرفه، لأنه كان جد هذا الصبي الذي أنقذ حياته حينما تبرع له بدمه. وهكذا ومن خلال تراكم التجارب التي عاشها كل منهم وخاصة في القارة الأفريقية وما اكتشف فيها من فقر ودمار، ومن عنف وفساد، لا تنجو منه منظمات الإغاثة المختلفة هي الأخرى. وخاصة حينما تدفع الحاجة الماسة للواقع الأفريقي المحزن العاملين للتساؤل عن نسبة ما يصل مما تجمعه مؤسسات الإغاثة تلك من أموال في أوروبا إلى من استهدفتهم تلك التبرعات، وكيف تضيع نسبة كبيرة منها على من يديرون تلك العملية في أوروبا نفسها. ناهيك عما تتعرض له النسبة الصغيرة التي تصل إلى أفريقيا من آليات الفساد التي تسود في الكثير من تلك البقاع.

A group of people standing in a tent

Description automatically generated

إننا بإزاء عرض يتحدث عن الواجب، ولكنه واجب اختياري، فقد اختارت كل شخصية من الشخصيات الأربع أن تقوم بهذا الواجب، ولم يفرض عليها بأي دوافع اجتماعية أو تقليدية. وإن وجدت بعضها أنها اختارت مأزقا بالغ الصعوبة والتعقيد، أو أن اختياراتها كانت ضد ما يحيط بها من ظروف. فلم يفرض على أي منها أن يكون طبيبا أو محاميا مثلا، وإنما هي كلها اختياراتها الحياتية. وإن كان اختيار العمل في منظمات الإغاثة في حد ذاته ينطوي على قدر من التضحية الكبيرة بالنسبة للحياة الشخصية، والكينونة الفردية وحتى الصحة العقلية. وعلى قدر آخر من الرغبة الحميمية في المشاركة في إدارة العالم والفاعلية فيه. وهو في الوقت نفسه عرض يطرح نوعا من المسرح الجديد الذي يتغيا التفاعل بين الخشبة والجمهور، دون أن ينسى أن للمسرح جمالياته البصرية منها والحركية على السواء. حيث استخدم العرض تلك الملاءة التي يحركها الممثلون أمامنا كي تتكشف بالتدريج – وفي توقيتات بعينها لها دلالاتها على التفاعل بين ما ترويه كل منها – عن تكوينات بصرية وتشكيلات جمالية من ناحية، وتكشف عن عازف مختلف الآلات الموسيقية التي ساهمت في العرض من ناحية أخرى. وكأن المسرحية كلها لم تكن في مستوى من مستوياتها إلا محاولة للكشف عما تعنيه تلك الموسيقى التي كانت تصدر من تحتها، وتعبر عما يجيش في نفوس كثير من شخصياتها.

مسرحية «كله» وتجربة «الرويال كورت»:

توشك مسرحية (كله All of It) أو (الأمر كله) أن تكون النقيض الكامل لمسرحية تياجو رودريجيز. لأنها ترتد بنا من الفضاء العام وهموم العالم المعاصر، كما تتجلى على مرايا ما يدور في القارة الأفريقية بأكملها، إلى الفضاء الشخصي المغلق على ذاته في الواقع الإنجليزي الراهن، وإلى معاناة الذات الفردية الوجودية، وتجربة العزلة حينما تُفرض على الإنسان، كما جرى قبل عامين مع جائحة الفيروس التاجي «كوفيد 19». فهي من المسرحيات التي جلبها رودريجيز من بريطانيا ضمن برنامجه لاستضافة حاضر المسرح الانجليزي في مهرجان هذا العام. وجلبت معها مسرح «الرويال كورت» ودوره التاريخي في بلورة التجارب الجديدة، ورعاية الواعدين من كتاب المسرح الانجليزي خاصة. في محاولة للتذكير بدور هذه المؤسسة المسرحية اللندنية العتيقة في تطوير الكتاب والممثلين/لات الجدد وبلورة مهاراتهم/ هن في مهرجان هذا العام. لأن تلك المؤسسة «الرويال كورت» التي بدأت عام 1956 مع جيل الغضب الشهير – جون أوزبورن وهارولد بنتر وإدوارد بوند وآرنولد ويسكر وغيرهم – طرحت نفسها منذ ذلك التاريخ رائدة للكتابة الجديدة والمسرح المعاصر. وتواصل دورها في تطوير الكتاب الجدد جيلا بعد جيل. فهي التي قدمت كارول تشيرشل ودافيد هير وكريستوفر هامبتون وغيرهم من كتاب جيل الستينيات، وصولا إلى مارتن كرمب وساره كين ومارك ريفينهيل وجيلهم من كتاب أواخر الألفية الثانية. ولازالت تواصل ذلك الدور مع كتاب الألفية الجديدة. كما أن المسرح الانجليزي تعرف عبرها على كتابات المسرح الجديد في كل من أوروبا وأمريكا. حيث كانت أول من قدم برتولد برخت وصامويل بيكيت ويوجين يونسكو وآرثر ميلر ودافيد ماميت وغيرهم من كتاب المسرح الجديد خارج بريطانيا.

وها هي تجيء إلى مهرجان أفينيون بأحدث أجيال الألفية الجديدة – أليستير ماكدوال Alistair McDowall الذي ولد عام 1987 في ريف شمال بريطانيا؛ وما أن اكتشف المسرح في المدرسة حتى التهم أعمال صامويل بيكيت وهارولد بنتر وساره كين وعشق المسرح، وتفرغ له. ثم كتب مسرحيته الأولى (جين العادية Plain Jane) عام 2010 وعرضها مسرح مدينة مانشستر القريبة. ثم انتقل إلى مسرح الرويال كورت بمسرحيته الثانية (مغامرات رائعة Brilliant Adventures) التي عرضت فيه ضمن مهرجان الأصوات المسرحية الجديدة، ولفتت لموهبته الإنظار، ونال عنها الكثير من الجوائز عام 2012. ثم توالت بعدها مسرحياته (برنامح دردشة Talk Show) عام 2013 و(X) عام 2018، و(توهج Glow) عام 2022 برعاية هذا المسرح الذي يهتم بتعهد المواهب الجديدة حتى تتطوّر. بل تجيء بآخر تجديدات كاتبها ذاك والذي أتاحت له التفرغ للكتابة، بمسرحية (الأمر كله) وهي آخر ما كتب. وربما أكثر كتاباته المسرحية حتى الآن مغامرة مع التجديد. لذلك أخرجتها مديرة مسرح الرويال كورت الفنية فيكي فيذرستونVicky Featherstone  مع مساعدها في إدارة هذا المسرح سام بريتشارد Sam Pritchard لتكون ممثلة لجهود «الرويال كورت» كما يقدمها برنامج المهرجان. وهو أمر يكشف عن رغبتهما في دعم تجربة هذا الكاتب المسرحي الجديد.

A person with a beard and mustache

Description automatically generated

ألستر ماكدوال

ذلك لأن أليستير ماكدوال يعود بنا في هذه المسرحية الجديدة إلى عوالم بيكيت وبنتر، ويهتم فيها بشعرية النص المسرحي وقدرته على سبر أغوار النفس البشرية، والتعرف على الهموم الذاتية والوجودية للشخصية الانجليزية المعاصرة، بأطوارها الغريبة. وخاصة في معاناتها من تغيرات الواقع التي تطيح تدريجيا بطموحاتها، وتكشف عن انسداد الأفق من حولها. لأن هذه المسرحية الجديدة تفكك بنية النص المسرحي التقليدية – التي كانت تعتمد على فصول ثلاثة متتابعة يكتمل عبرها الحدث الدرامي – وإن حافظت على ثلاثيتها. إذ تتكون من نصوص ثلاثة، أو بالأحرى منولوجات ثلاثة طويلة، مكتوبة لنفس الممثلة – وهي في هذه الحالة كيت أوفلين Kate O’Flynn – لا يربط بينها الحدث الدرامي، وإنما الممثلة الواحدة التي تؤديها بالتتالي. وحمل كل نص منها عنوانه الخاص: Northleigh و 1940 و In Stereo. كما يربط بينها خيط درامي مراوغ، هو المرأة في تجليات دالة على حالها الراهن، بعد كل محاولاتها طوال العقدين الأخيرين لاختراق مختلف أشكال التحيّز المرئية واللامرئية ضدها، أو ما يسمى في اللغة الانجليزية سقف زجاجي Glass Ceiling، قد يبدو لا مرئيا ولكن الجميع يعرفون قدرته على منع من يريد تجاوزه.

وتعود بنا هذه المسرحية إلى أهم تقاليد المسرح الانجليزي العتيقة، وأكثرها رسوخا ألا وهو مركزية الكلمة/ النص المسرحي وأهمية شعريته اللغوية. كما تعود بنا أيضا إلى العرض الذي يعيد الحائط اللامرئي الرابع بين الخشبة والجمهور، وليس إزالته كما فعل رودريجيز. كما أنها تعيدنا بطريقتها الخاصة إلى مسرح صامويل بيكيت، وتركيزه على حصر الإنسان في مساحة ضيقة – فليس أمانا على الخشبة طوال النصوص/ الفصول الثلاثة إلا امرأة وحيدة – تردنا في النص الأول إلى تجسيد للتابوت أو الكفن. ولا تزيد المساحة المحيطة بها في النصوص الأخرى عنه إلا قليلا. وهو أمر جديد على هذا الكاتب الذي دارت مسرحيتاه الأخيرتان (X) و (توهج) في عالم القصص العلمي المثير، بشخصياته الكثيرة، وتبعات مسيرة الزمن بنا، أو مسيرتنا به وتبددنا عبره. كما ترد النص زمنيا إلى لحظة محددة في حياة تلك المرأة/ لحظة تأمل أو استعادة «لفتافيت» من حياتها، تتناثر أمامنا أو تتسلل من بين أصابعها فيزيدها الأمر إحباطا. إنه نص يوشك أن يكون ابنا لعام – أو عامي – العزلة التي فرضتها علينا جائحة الفيروس التاجي «كوفيد19» وإغلاقها للمسارح والفضاءات العامة. نص يحاول أن يطرح أسئلة عن معنى أن تكون كاتبا في هذه اللحظة من تاريخ بريطانيا، وتاريخ الإنسانية معا، أو بالأحرى معنى أن تكون إنسانا بالمطلق!

A person standing in a room

Description automatically generated

لأن المنولوج الأول في هذه المسرحية، والمعنون Northleigh – وهي كلمة انجليزية تستخدم اسما لمكان، شارع أو منزل أو حتى مدرسة، قد يقع شمالا من شيء ما، ربما يريد بها الكاتب أن يشير إلى المنطقة التي جاء منها في ريف شمال مانشستر – يدور في غرفة ضيقة بها مائدة طويلة. قد تكون مائدة سفرة، تشغل الحيز الأكبر من الغرفة الخشبة التي ضُيقت حوائطها من حولها، بصورة تجعل الممثلة تتحرك حولها بصعوبة، وهي دائما محشورة بينها وبين الحوائط المحيطة في القسم الأول من هذا المنولوج. ولكن بدلا من الأرجل سنكتشف أن ما تقوم عليه هو صندوق زجاجي، سرعان ما ستنام فيه الممثلة – في القسم الثاني، فيتحول إلى ما يشبه التابوت – وهي تواصل إلقاء منولوجها الطويل عن حياتها التي لا يحدث فيها شيء يستحق الحياة، وعما تعانيه من إحباطات يومية متكررة. لكنها لا تتوقف عن التملص منها، أو على الأقل تروي علينا محاولاتها لذلك، رغبة منها في أن تجعل لحياتها معنى ما دون جدوى. حيث تبدو في بعض أجزاء ذلك المنولوج الأول، وكأنها تطل علينا، أو بالأحرى على حياتها من القبر الذي ستؤول إليه نهايتها المحتومة، بالرغم من أنها لم يتقدم بها العمر إلى هذا الحد، وقد عاشت أمها عمرا مديدا. ونتعرف في هذا المنولوج على أصداء من تجربة العزلة التي فُرضت على الجميع في بريطانيا أثناء الجائحة، والتي ردت الكثيرين إلى إعادة تأمل حياتهم ومعنى وجودهم.

A person standing in front of a chair

Description automatically generated

أما المنولوج الثاني والمعنون 1940 فإنه يرتد بنا إلى بعض أحلك لحظات الحياة اليومية في بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية، وخاصة في شمال بريطانيا الفقير، الذي عرف صنوفا من الجوع والفاقة. حيث يتغير المشهد إلى حجرة صغيرة تعمرها الرطوبة وينتشر على حوائطها العفن الأخضر بروائحه العطنة. وليس ثمة ما يحميها من البرد والرطوبة التي تزيد الأمور سوءا. وكيف وجدت النساء في ريف بريطانيا الفقير أن عليهن العمل في الغيطان وحتى في المحلات والمصانع بعد أن أخذت الحرب الرجال بعيدا إلى ساحات المعارك، وتقطعت أو شحّت أخبارهم. ولم يعد ثمة من يجلب الفحم من المناجم كي يساعد في تدفئة البيوت التي سكن البرد القارس حوائطها. ناهيك عن تقنين الحصول على الكثير من المواد الغذائية الأساسية من خبز وشاي وزيت وسكر في ذلك الوقت. بصورة يتحول فيها هذا المنولوج إلى نوع من الاسطوانة المشروخة التي تتردد فيها أصداء تلك الشروخ العميقة التي عانى منها المجتمع الانجليزي ولا يزال حتى اليوم.

لكننا ما أن ننتقل إلى المنولوج الثالث In Stereo حتى يتغير المشهد مرة ثالثة، دون أن يزيد اتساعا عن أي من الغرفتين السابقتين. ويتغير معه الزمن أيضا. حيث نبارح زمن تواريخ الحرب العالمية الثانية ومشكلاتها، ونعود إلى الواقع الراهن الذي بدأنا به في المنولوج الأول، في نوع من حركة الزمن البندولية في العرض. وإن أصبحنا في غرفة طالبة جامعية، استطاعت بتفوقها أن تكون أول من يدخل الجامعة من أبناء أسرتها. وأن تحصل على غرفة في مساكن الطلبة، بها كل ما تحتاجه، ولكنها تشارك المطبخ مع بقية زملائها في الشقة، وما ينجم عن تلك المشاركة من مشكلات صغيرة تتكرر في مثل تلك المساكن، كأن يأكل أحدهم/هن الوجبة التي عاد صاحبها جائعا، ومعتمدا على وجودها، فلم يجدها. هنا نكتشف قدرات الممثلة البارعة على التحول مشهديا وجسديا – حيث تبدو لنا فعلا وكأنها طرحت عن كاهلها أعباء السنوات التي نائت بحملها في القسمين السابقين. فبدت لنا هنا وبشكل مقنع وكأنها طالبة في العشرين من عمرها. تسعى إلى الاستقلال ومواصلة التكوين المعرفي، والاعتماد على نفسها، ومواصلة مسيرتها نحو التقدم. وإذا كانت بنية العرض الزمنية ذات طبيعة بندولية، فإن حركة المنولوج الثالث في المكان تتسم هي الأخرى بالانتقال المستمر بين ما تعيشه في غرفة الطالبة الجامعية، وما يدور في أسرتها في ريف شمال بريطانيا، وما تركته وراءها من مشاكل لا نجاة لها منها.

A person holding a microphone

Description automatically generated

والواقع أن هذه المسرحية استطاعت أن تقدم لنا – وبشكل درامي راق استقطب إعجاب من شاهدها – أفضل أو أحد أفضل ما يقدمه الجيل الجديد من مسرحيي الألفية الثانية في بريطانيا، وأن تمنح مسرح «الرويال كورت» حقه من الاهتمام كمطوّر للمواهب الجديدة. ليس فقط أنها ارتدت بالمسرح إلى أهمية اللغة الشعرية ومركزية النص والكلمة في العرض، وهو تراث انجليزي منذ زمن شكسبير؛ ولكن أيضا لأنها ردتنا من جديد إلى المسرح الذي يعتمد على إمكانيات الممثلة ومهاراتها المدهشة في تقمص دورها. بصورة ندرك معها أن شكل العمل المسرحي التقليدي لا يزال قادرا على تقديم عمل يكشف لنا عن أعصاب اللحظة التاريخية العارية التي تعاني منها بريطانيا زمن كتابتها من ناحية، وعما يدور في الواقع الإنساني العريض الذي عانى فيه البشر من العزل والعزلة لزمن غير قصير من ناحية أخرى. ذلك لأن لغة المسرحية الشعرية تتيح لنا التعرف على طبقات متعددة من المعنى في كل منولوج، وتكشف لنا بحق معنى أن تكون كاتبا مسرحيا، وأن تكون إنسانا في هذا العقد الثالث من القرن الجديد.