مضاوي الرشيد باحثة مرموقة من الجزيرة العربية، وصوت قوي معارض يقدم هنا تحليلا لأداء السلطة السعودية، وكيفية تمسرح ما وراء احتكاراتها لركن من أركان الإسلام. وتتناول تعالق الأسرة المالكة مع الديني والسياسي، الأمر الذي يعكس في العمق أزمة شرعية حكمها.

الحج: مهرجان السياسة المأزومة

مضاوي الرشيد

لقد تحول الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام إلى مهرجان سياسي إعلامي، يعكس أزمة القيادة السعودية التي تتبنى شعار خدمة الحرمين الشريفين. ولا بد أن نعترف أن السلطة السياسية، التي تهيمن على مراكز عبادة المسلمين من الشرق إلى الغرب، منوطة بمسؤوليات جسيمة تفرضها المعطيات الجغرافية، ومتطلبات المسؤولية السياسية، والواجب الديني تجاه قبلة المسلمين، ومحطة حجهم السنوي، وزياراتهم خارج موسم الحج المعروف. ومع الأسف تحوّل الحج إلى مهرجان سياسي، تستغله القيادة السعودية في تثبيت شرعية إسلامية، تتخطى الحدود الجغرافية للقطر السعودي. يفعل موسم الحج في الخطاب السياسي من خلال توظيفه أولاً كمسرح تستعرض فيه السعودية مدى إنفاقها على مراكز الحج، فتكثر الإحصاءات والأرقام، التي تستعرض على العالم الإسلامي وكأنها هبة القيادة التي تغوص في جيوبها الخاصة، وتتصدق على الأماكن المقدسة بغية تطويرها وتوسيعها خدمة للعالم الإسلامي.

ثانياً تفصّل القيادة مشاريعها التنموية الهادفة إلى توسيع الحرم وزيادة استيعابه للحجاج، وتنسى أنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن تشويه ليس فقط أرض مكة المكرمة، بل حتى سمائها بفنادق شاهقة، وإعلانات تافهة، ومبان مستوردة التصميم والمظهر لا تتوافق مع قدسية المكان، أو جوّه الروحاني، أو هدفه الديني. إن مشاريع التوسيع وهدم المباني الأثرية واستبدالها بمراتع سياحة، لا يستطيع المسلم العادي أن ينتفع منها بسبب تكاليف الإقامة الباهظة بها، إلى جانب بقائها حكراً على القيادة السعودية ذاتها، تجعل هذه المشاريع نقطة جدل ورفض ليس فقط من قبل أهل مكة أنفسهم، بل ومن العالم الإسلامي بأجمعه.

ثالثاً تتقمص القيادة السعودية من خلال مؤسساتها وسفاراتها في الخارج مهمة الحاجب الذي يقرر وفق متطلباته واحتياجاته هو من يدخل إلى الأماكن المقدسة وتناط بهذه المؤسسات مهمة استبعاد غير المرغوب بهم تحت ذريعة ما يسمى بالكوتا. وهي عملية حسابية يجري على أساسها تحديد عدد الحجاج القادمين من كل بلد حسب نسبة تقررها القيادة، ويستغل هذا النظام في عملية انتقائية تستبعد من يصنف وكأنه غير مرغوب فيه. ومعظم الاستثناءات تبنى على أساس سياسي تفرضه المرحلة وعلاقة السعودية بفئات مسلمة أو بلدان إسلامية. هذه العملية الانتقائية يعاني منها ليس فقط المسلمون الذين يصنفون بالمشاغبين في قاموس السعودية السياسي، بل السعوديون المقيمون في الخارج وخاصة أولئك الذين يعارضون السعودية بشكل أو بآخر. نستطيع أن نجزم أن جميع المعارضين السعوديين في بريطانيا ممن سحبت جوازات سفرهم السعودية لم يستطيعوا ولن يستطيعوا في المستقبل تقديم طلبات فيزا للسفارات السعودية من أجل أداء فريضة الحج. وينضم إلى هؤلاء طيف كبير من المسلمين المعروفين بآرائهم المناهضة للسياسة السعودية. وتعاقب السعودية جاليات مسلمة أخرى من خلال عرقلة وصولهم الى مكة، والضجة الأخيرة حول حجاج غزة ما هي إلا حلقة أخيرة في سلسلة من الإقصاءات السابقة التي تعرض لها بعض الحجاج الإيرانيين والعراقيين في السابق.

رابعاً: تتبنى السعودية وتروج لخطاب ديني ينفي وجود المقدس في أماكن أخرى. وتحاول هذه القيادة أن تحصر المقدس في مكة رغم أنها قد لا تقبل بكل الحجاج الراغبين في زيارتها خلال موسم الحج. ورغم أن مكة تبقى متصدرة للمكان المقدس الأول، إلا أن هناك أماكن أخرى ذات أهمية عظيمة، ومن أهمها القدس التي لا تعطيها القيادة نفس الوزن السياسي رغم أن ثقلها الديني للمسلمين معروف للجميع. نعم تبقى مكة المحجة الأولى لركن جوهري، ولكن تطلع المسلمين في الماضي والحاضر إلى زيارات مهمة لأماكن مقدسة فرضه التطور الديني للإسلام خلال القرون السابقة وقد نمت هذه الأماكن وتطورت من خلال عملية تراكمية ووجد زوارها فيها تجربة روحانية لا تعوضهم عن زيارة مكة ولكنها متممة ومكملة للزيارة الجوهرية. لا تنفي السعودية أهمية الأماكن الأخرى فحسب، بل هي تشجب وتدين المكان الآخر وزواره وفي نفس الوقت تمارس عملية انتقائية للحجاج تحت ذريعة تأمين الخدمات، وتسهيل مرورهم، والطاقة الاستيعابية لمكة والمدينة.

خامساً: تحول الحج تحت ظل القيادة السياسية السعودية إلى عملية تطهيرية، هدفها تنقيح إسلام المسلمين من شوائب تعتبرها البيروقراطية الدينية السعودية أنماطاً من الكفر والشرك، حتى تحول الحج إلى زيارة محفوفة بالمخاطر، والخوف من سوط الرقيب الذي نصب نفسه مطهراً للإسلام والمسلمين. لقد وثق الكثير من الحجاج المسلمين تجربتهم في كتب ووثائق، آخرها كتاب عالم الأنثروبولوجيا المغربي المعروف عبدالله حمودي، والدكتورة الباكستانية قنتا أحمد حيث نجد في الكتابين سرداً لتجربة قاسية بدل أن تكون رحلة تقرب بين العبد وربه. ونتساءل لماذا لم يشكر هؤلاء وغيرهم القيادة السعودية على تشويه أرض مكة، والخدمات الصحية المزرية، وأهرام النفايات المتكاثرة؟!! ولماذا لم يطهر هؤلاء إسلامهم من بدع تعلموها في بلادهم، ولم يدخلوا في الاسلام السعودي من جديد نافين بذلك خصوصية عباداتهم وشعائرهم كما تربوا عليها؟!! وقد يتساءل بعض المسلمين لماذا لم تسلمهم السلطات السعودية جثث أقرباء لهم لقوا حتفهم خلال موسم الحج منهم من ينتظر منذ أكثر من 29 سنة رداً على استفسارات عن ظروف وفاة أب أو أخ أو أخت!!

يطرح الكثير من المسلمين تساؤلات كبيرة حول تدبيرات السعودية المتعلقة بالحج وهيمنتها على تلك التجربة الدينية التي يتوق لها الملايين، ومنهم من يموت قبل أن تتاح له الفرصة التي قد تصبح خطوة نحو الموت. وإن كانت الأرقام أو تعداد الحجاج هي المشكلة، فالكل يعلم أن كثيراً من مراكز الحج المتعلقة بديانات أخرى كالهندوسية مثلاً، تتلقى في مواسم معينة أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الحجاج المسلمين لمكة. ناهيك عن كون بعض محطات القطارات في المدن الصناعية الكبرى تستوعب الملايين من المسافرين، أو من يقوم برحلات يومية إلى مكان عمله وبخاصة بين المدن والضواحي دون أن يركل أو يدهس تحت الأقدام. وفي حال حدوث الكوارث خلال موسم الحج تستنجد السعودية والناطقون بإسمها بمقولات تحمّل الحجاج وجهلهم وتخلفهم مسؤولية مصائبهم، وتظهر الاستعلائية السعودية الرسمية بأبشع صورها عندما تتبجح بعبارات تستحضر صورة بشعة ومتخلفة ونعوتاً تلصق بأفقر شعوب العالم، الذين لا يسافرون في سبيل النزهة أو العلاج إلى الخارج بل يجمعون حصاد عمرهم لزيارة في سبيل الله.

عندما حوّلت القيادة السعودية موسم الحج إلى مهرجان سياسي يستجدي الشرعية من المسلمين فتحت الباب على مصراعيه أمام مهاترات سياسية واتهامات تقابلها اتهامات مضادة من ملايين المسلمين الذين يتوقون إلى حجة واحدة في العمر. وإن كانت السعودية تستمر في استغلال الحج بهذه الطريقة البشعة فالأحرى بقيادتها أن تسلّم مهام الحج والإشراف عليه إلى لجنة عليا تتكون من الدول الإسلاميّة المعنية بالأمر رغم أنها ستظل تدفع فاتورة الحج الباهظة ليس لأنها دولة غنية، بل لأنها تروج نفسها خادماً للحرمين الشريفين، ومن مسؤولية السعودية، التي تقع مكة والمدينة داخل حدودها المعترف بها دولياً، أن تتحمل تكلفة هذا الرمز، والمسؤولية المرتبطة به المالية والدينية، إذ أنها أيضاً منتفعة من هذا الموسم الديني الذي كان قبل عصر النفط المصدر الأول الذي صادرته القيادة لصالحها، وصالح تجارها والمرتبطين ببروقراطيتها ومؤسساتها من مطوف الى صاحب فندق.

لقد سئم العالم الاسلامي من عملية استغلال الحج الموسميّة وتحوّل هذه الشعيرة الى ملعب كرة تتقاذفه من جهة السعودية ذاتها ومن جهة أخرى قوى سياسية تريد تصفية حسابات سياسية مع السعودية. إن تفكك العالم الاسلامي بالإضافة إلى سحر الثراء السعودي قد أعميا بصائر الكثيرين عن حقيقة المهرجان السياسي السنوي والحملة الاعلامية المرافقة له، التي تنظمها الأجهزة الإعلامية السعودية علّها بذلك تؤصل لعملية التضليل والاستغلال. وإن انتقد المسلمون بعض جوانب التقصير السعودية، فهذا لا ينطلق من كونهم ناكرين للجميل غير معترفين بصدقات وهبات القيادة السعودية، بل لأنهم يقرون بمسؤولية الدولة الحاضنة للحج، ويتضايقون من أطروحات التمنين والصدقة.

ليقتنع من يقوم ويشرف على شؤون الحج أن هذا الركن ليس بمشروع تنمية، أو مدينة صناعية، أو عملية تطهيرية لمعتقدات وشعائر المسلمين، أو محاولة بائسة لمحو مراكز ومحطات مهمة جغرافية قد أبادتها السعودية ودمرتها، تحت ذريعة محاربة الشرك أو ضرورات التوسع وزيادة استيعاب الحجاج، أو حركة استئصاليّة لذاكرة المسلمين الجماعيّة، وتاريخ مكة القديم ومبانيها التي انتهت واندثرت أمام المعول السعودي الهدام. الكل يعلم أن تاريخ مكة لم يبدأ عام 1932، وتقع المسؤولية أولاً وأخيراً على أهل مكة لأنهم أدرى بشعابها، ولكنهم مع الأسف استسلموا للمعول السعودي. أما بقية المسلمين فحدث ولا حرج، إذ أن القوة الشرائية السعودية قد أعمتهم في المحافل الإسلامية العالمية، حيث نجد التزلف والاستجداء يتسيدان المواقف الخانعة المتملقة. ويدفع ثمن حالة الركود هذه المسلم الحاج، الذي يظل طيلة حياته غير قادر على اتخاذ مواقف قد تعطل طلب فيزا للحج أو العمرة يقدمها للحاجب وحارس الإسلام أو من نصب نفسه لاعباً مراوغاً لهذا الدور. عندما حولت السعودية الحج إلى مهرجان سياسي في دولة مأزومة، نجدها فتحت الباب على مصراعيه أمام الاتهامات والاتهامات المضادة، ولا يسعنا إلا أن نقول أن البادئ أظلم.