أثارني اكتشاف كتاب "التفسير السوسيولوجي للأحلام" لعالم الاجتماع الفرنسي برنارد لاهير بشكل كبير، وتركت قراءته في نفسي من الأسئلة أكثر مما عثرت فيه على الأجوبة الناجعة. فالأحلام، مثلها مثل الصور، مهما أخذناها بالمفرد، تنظيرًا وسعيًا لإدراكها وفهمها، تظل دوما بصيغة الجمع؛ لا لأن الحلم والصورة لا يمكن الحديث عنهما بالإفراد، ولكن لأن الصورة كما الحلم منبصمان بالتعدد الأصل، وبالمواربة وبالانفلات من التحديد. وليس من قبيل المصادفة، أو الغرابة، أن تكون الأحلام عبارة عن صور بدورها، تخترق نومنا كما يقظتنا، وتتصل بأوهامنا وأمانينا حتى أضحى الحلم مجازًا للمستقبل بعد أن كان صورة للماضي.
تخوم هائمة
التوجّس الذي أثاره هذا الكتاب في حفيظتي يتعلق بثلاثة أمور: انزياح علم الاجتماع بشكل مطّرد عن موضوعاته التقليدية، من جهة، وتنطعه لموضوعات ظلت تحسب على التحليل النفسي كالعواطف، من جهة ثانية، وسعيه لدراسة عنصر نفسي حميم يتصل باللاوعي من جهة ثالثة. وهو انزياح تليد يجد أصله في الممارسة السوسيولوجية لدوركهايم مؤسس علم الاجتماع (والأنثروبولوجيا)، وليس نابعًا من رغبة علماء الاجتماع المحدثين فقط. فدراسة الانتحار لدى دوركهايم قد نقلت بشكل ما مجال علم الاجتماع من الاجتماعي إلى الذاتي ووضعت رجلًا هنا وأخرى هناك، وهو ما كان في أصل نشأة الأنثروبولوجيا.
ليس برنارد لاهير أول عالم اجتماع يتنطع للأحلام في طابعها المغرق في الذاتية والحميمية والفردية. فقد قاربها قبله بعض علماء الاجتماع، لعل أهمهم عالم الاجتماع المنسي موريس هالبواش (1877 ـ 1945)، تلميذ دوركهايم الذي يمكن أن يكون مع مارسيل موس أهم علماء الاجتماع الفرنسيين في النصف الأول من القرن العشرين، وأكثرهما استكشافًا للموضوعات الجديدة، فهو نظرًا لتكويناته المتعددة (اقتصاد، حقوق، علم نفس) حرر مسألة الذاكرة من الفلسفة (برغسون) وقد كان تلميذً له، والأحلام من مجال التحليل النفسي (فرويد)، وترك لنا كتابات مؤسسة في هذا المضمار تعرضت للنسيان والتهميش.
بين علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة، كان مسير الرجل يتطور نحو تداخل للتخصصات سابق لعصره. ففي الوقت الذي نحا فيها مارسيل موس نحو الجسد مؤسسًا بشكل واضح مبادئ الأنثروبولوجيا، كما نعرفها اليوم، أضحى ميل هالبْواش لعلم نفسٍ يمكن أن نسميه اجتماعيًا يتجذر تدريجيًا. فقد حظي بكرسي "السيكولوجيا الجماعية" عام 1943 (سنتين قبل مقتله في معسكرات التعذيب الألمانية) ونشر في آخر حياته تفسيرًا لأحلامه الشخصية وترك مسودات عن تفسير الأحلام من وجهة نظر سوسيولوجية. لم يكن فرويد صاحب "تفسير الأحلام" الشهير الوحيد الذي نشر أحلامه (وأحلام مرضاه) وقام بتعبيرها وتفسيرها وتأويلها، فهالبواش، كباحث متعدد التخصصات، وكعالم اجتماع، قام بتدوين أحلام شبابه وأحلام أقربائه وتفسيرها بطريقته الخاصة، بحثًا عن معانيها السياقية الاجتماعية. يقول هالبواش في هذا الصدد: "ففي تلك الفترة من عمري، كنت حريصًا على تفحصها [الأحلام]، قصد التعرف فيها على ذكريات سياقية ومفصلة حدثت في الليلة الماضية، وعلى مشاهد كاملة مستقاة من الواقع ونسخَها الحلمُ حرفيًا بدقة تامة (...). وأنا الآن أعيد قراءة كافة تلك الأحلام التي أثبتها كتابةً. والتفسيرات التي منحتها إياها، أثارت في ذهني كمًّا هائلًا من ظروف حياتي في فترة العشرين، وعددًا من الشخصيات نسيتها، ومن الأحداث لم أعد أذكرها؛ وها هي تنبثق فجأة في ذهني كما لو أني أقرأ يوميات دوّنتُ فيها بأمانة كاملة كل تفاصيل حياتي اليومية، لا فقط منها الأحداث الهامة وإنما الحوادث الثانوية النافلة، والأفكار الهاربة، وأقوالًا لا يهتم بها المرء إلا في اللحظة ذاتها. كل هذا يشكل المادة التي يمتح منها الحلم كافة إبداعاته" (ص11 ـ 12). وفي هذا يكون عمل هالبواش أيضًا امتدادا لكتابات ألفريد موري (1817 ـ 1892) الذي، وإن كان فقط عالم نفس هاويًا، ترك لنا كتابًا عن "النوم والأحلام" قرأه فرويد وهالبواش، وأردفه بكتاب عن الدلالات الدينية والرمزية للأحلام عبر العصور.
كانت استقصاءات هالبواش موزعة إذًا بين رأي أستاذه دوركهايم الذي عدها ظاهرة من ظواهر الذاكرة، ورأي أستاذه برغسون الذي يرى أن ماضينا كله يحافظ على نفسه تمامًا في شكل صور، خاصة في الأحلام (المادة والذاكرة، 1896). لقد أكدت النصوص المنشورة بعد وفاة هالبواش أنه كان يسعى إلى بناء سوسيولوجيا نفسانية تعتمد على فرويد، وتنحو في الآن نفسه إلى التأويل الاجتماعي للأحلام.
وهكذا يتبدى أن هذه الانزياحات الاستكشافية هي التي أدت بهالبواش إلى زرع البذور الأولى للإمساك بالحلم الحميم اجتماعيًا، وهي التي جعلت بورديو يحلل المبادلات اللغوية سوسيولوجيًا، وينتزعها من الحضن الأمين للسانيين، وجعلت فوكو الحائز على دكتوراه في علم النفس، يحلل السلطة والمعرفة والجنس إبستمولوجيًا وتاريخيًا، وجعلت سوسيولوجيًا من قبيل دافيد لوبروطون ينأى عن السوسيولوجيا، أو بالأحرى يدمجها في مسير أنثروبولوجي باهر قارب العواطف أنثروبولوجيًا بعد أن كانت حكرًا على علم النفس.
الأحلام: من تفسير لآخر
حين كنا صغارًا، كان الكبار يفسرون أحلامنا بما يُتداول من تعْبير الأحلام لابن سيرين. وكان هذا الكتاب من أشهر المؤلفات الشعبية إلى جانب كتاب "دلائل الخيرات" للإمام الجزولي، وكتاب "الروض العاطر" للشيخ النفزاوي، والتي تباع بأبخس الأثمان. وحين اكتشفتُ فرويد وتفسيره للأحلام وجدته يرجع أغلب الأحلام إلى مرحلة الطفولة، وإلى الرغبة والغريزة. وهو يعتمد في آليات اشتغالها على التكثيف، والتحديد المتعدد العوامل، وعلى الانتقال والانعكاس. ونحن نجد بعض هذه العناصر لدى ابن سيرين، غير أن الاختلافات بين تفسير ابن سيرين (الذي يعد مجرد نقل لكتاب ترجمه بن حنين إسحق لليوناني أرتيميدس الإفسي) قد تكون باعثة على الضحك. من ذلك أن المرء إذا رأى في منامه أنه يسبح ويصارع الموج، ثم يفيق من نومه ويظل ذلك شاغلًا لتفكيره، فإن ابن سيرين سيقول له: "من رأى [في المنام] كأنه غرق، وجعل يغوص مرة ويطفو مرة، ويحرك يديه، فإنه ينال ثروة ودولة". أما فرويد فهو سيفسر ذلك بقوله: من يحلمون كثيرًا بالسباحة ويجدون فيها متعة كبرى وهم يصارعون الموج، فهم عادة من الأشخاص الذين كانوا يتبولون نيامًا في الفراش وهم صغار ويبللون فراشهم. وشتان بين التبول نومًا واكتساب السلطة والمال!
ولحسن حظنا أننا لا نحلم في النوم فقط، وإنما نحلم يقظة. بل إن أحلامنا إذا كانت حسب فرويد، الطريق الملكي لاكتشاف اللاوعي، فإن أحلام اليقظة حسب باشلار هي الطريق الملكي للشاعرية. فحسب باشلار، إذا كان "حلم الليل ليس في ملكنا ولا ينتمي إلينا"، فإن حلم اليقظة قابل للتحليل. ونحن ننتقل معه من الحلم إلى حلم اليقظة، من الأنطولوجيا إلى الفينومينولوجيا.
لكن ما الذي سيدفع بعالم اجتماع يعتد المنهج الكمي والاستجوابات والتحريات والاستطلاعات ويؤمن بالموضوعية، من قبيل برنارد لاهير، إلى أن يحول ما جعله فرويد سبيلًا لاكتشاف مجهول حياتنا، أي اللاوعي الخارج عن ذاكرتنا، مجالًا للدراسة السوسيولوجية؟ منذ مدة ترجمت كتابًا صغيرًا لإيزابيل أرنوف بعنوان: كيف نحلم؟ (مشروع كلمة، 2012) تربط فيه أنواع الحلم بالنوم العميق والخفيف، وغيره، وتستعيد فيه معطيات علم النفس العصبي. ثمة أحلام كثيرة ترتبط بما يسميه فرويد بـ"البقايا، أو الرسوبات النهارية"، وهي حسب المجاز الشهير له "وسائط الحلم"، التي تمنح اللاوعي موطن التجذّر الضرورية للتحويل، أي لآلية اشتغال الحلم. في هذه البقايا التي ينتقل فيها اليومي إلى أحلامنا، ويتغير فيها، ويشتغل فيها الحلم حسب رغبتنا، يستعيد الحلم تلك اللحظات ليعيد بناءها. إنها اللحظات التي عدها دوركهايم صور الذاكرة، من غير أن يشير إلى التغييرات التي تطرأ عليها، والتي اشتغل عليها بشكل أوضح موريس هالبواش.
بعيدًا عن الحذر الإبستمولوجي لهذا الأخير، يقوم برنارد لاهير في نظرنا بغزوة إرادوية لمجال الحلم كي يطوعه تطويعًا لمجال السوسيولوجيا. وهو على ما يبدو واقع تحت تأثير الإنسانيات الأميركية التي تضرب أحيانًا ذات اليمين وذات الشمال. لذا نراه يفاجئنا بقوله ذي النبرة الوضعانية: "إذا كانت تمثيلاتنا الذهنية، الواعية واللاواعية، تهيكلها علاقات السلطة، فيمكن للحلم أن يشهد على وجود علاقات من قبيل تلك. إن العالم الاجتماعي، الذي تنسجه علاقات الهيمنة وصراعات من أجل السلطة ذات طابع متنوع، تنفذ إلى عالم الأحلام. تلكم على كل حال الفرضية التي أقترح البرهنة عليها من خلال فتح ورشة الدراسة هذه" (ص 135). إنها فعلًا ورشة غير مضمونة العواقب. هذه النبرة العلموية، مهما كانت قدرتها على فتح مجاهيل الأحلام أمام السوسيولوجيا، لا يمكن إلا أن تقف عند حدود الطابع "اليقظ" لأحلام النهار، والطابع اليومي للأحلام التي يسميها فرويد "البقايا النهارية"، والتي تشكل في واقع الأمر فقط وسيطًا لاشتغال آلية الأحلام.
لهذا كان لا بدّ لبرنارد لاهير لتحقيق مشروعه من أن يمر بإعادة تعريف اللاوعي لكي يتملكه سوسيولوجيًا وموضوعيًا، ليرى من ثم أنه لا يتشكل فقط من التجارب المكبوتة. ذلك أن عناصر هذا اللاوعي، المتبنية اجتماعيًا، يكون وراء انبثاقها عناصر من حياتنا الحاضرة التي تتمظهر في أحلامنا. بهذا المعنى لا يغدو اللاوعي موطنًا لحرية الأحلام، لأن عالم الاجتماع (بالضرورة) يجعل الفكر الذي يتمظهر في الأحلام محكومًا ومتبنيًا بالتجارب الاجتماعية للحالم. وإذا كان فرويد يتعامل مع أحلام مرضاه ويحللها ويؤولها، فإن الأحلام التي يدرسها برنارد لاهير هي أحلام مستجوبين عاديين ليسوا بمرضى.
الحلم كما هو معروف كيان من الصور الحميمة التي نترجمها باللغة. ووساطة اللغة هنا من الأهمية بحيث إن الترجمة تسعى جاهدة لوضعنا في صورة الحلم. من ناحية أخرى ليست أحلامنا كافة قابلة للترجمة باللغة، لأن عددًا منها يغدو في الصحو مبتورًا. فالحلم كيان زائل وعرضي إن هو لم يترجم مباشرة باللغة، وإن لم يُدوَّن كتابة. وكثيرون منا لا يتذكرون أحلامهم، أو لا يتذكرون منها سوى تلك المتصلة بالكوابيس، أو بلحظة النوم الخفيف لا العميق، أو لا يحتفظون منها في ذاكرتهم سوى بالأثر النفسي الذي تتركه. تلكم بعض الصعوبات التي تواجه عالم الاجتماع الذي يرغب في تملك الأحلام سوسيولوجيًا. والبحث في العناصر السياقية الاجتماعية الباعثة على الحلم، كما مساءلة إطار النوم الذي تتشكل فيه الصور المتحركة للحلم (نفسه، ص 97)، أمور قد لا تفسر بالضرورة أحلامنا. فلأن ثمة زمنية خاصة بوعينا لا تخضع للزمنية الاجتماعية، ولأن "حاضر" أحلامنا ليس هو حاضر واقعنا الشخصي، يصعب أحيانًا الربط بين الحلم وبواعثه الاجتماعية. وهذا بالضبط ما أدركه فرويد وإن بشكل يمكن مناقشته. صحيح أننا لا يمكننا ردّ كل أحلامنا للطفولة، أو للجنس والرغبة. ثم إن الشخص النائم يعيش حلمه بنفسه في غياب الآخرين. فالحلم تواصلٌ بين الذات ونفسها، والفرد منا لا يتحكم في أحلامه مقدار تحكمه في أفكاره وأفعاله. فكيف ستتدخل المؤسسات والجماعات والعلائق الاجتماعية والسلطة في هذه اللحظة التي لا يتدخل فيها حتى الشخص نفسه في أحلامه؟ يرى لاهير في حوار معه أن "سوسيولوجيا الأحلام هي سوسيولوجيا الهموم، أو المخاوف. وأن الحلم يظل غير قابل للفهم إذا ما نحن عزلناه باعتباره ظاهرة نفسية ملغزة". ألا يستعيد هذا التحليل، في نهاية المطاف وبشكل "علمي"، مقاصد ابن سيرين الذي تملّك الحلم بمنحه (على عكس الرؤيا) طابعًا اجتماعيًا مرتبطًا بالرغبة الاجتماعية (الثروة، الجاه، العلاقات الاجتماعية من صراع وعدوان وفقدان وموت وغيره)؟
عن ضفة ثالثة