بدأت صلة الروائي والحقوقي المصري خالد منصور بالمعالِجة النفسية المصرية عفاف محفوظ (1938- 2023) في العام 2003، عندما اتصل بها إلى نيويورك حيث كانت تعمل، واستشارها في "مدى حاجته إلى علاج نفسي". حدث ذلك "بعد نجاته من هجوم إرهابي دموي" على مقر الأمم المتحدة في بغداد، حيث كان يعمل. وفي 2010 انتقل منصور للإقامة في نيويورك، فنشأت بينه وبين محفوظ علاقة مهنية مدارها جلسات علاجه النفسي التي دامت 3 سنوات، وأدت إلى صداقـتـهما. وهذا ما رواه منصور في ختام سيرة عفاف محفوظ التي كتبها بناء على روايتها.
عزلات كورونا الروائية
بعد تقاعدها من عملها في العلاج النفسي سنة 2018، وانصرافها عن نشاطاتها الأخرى - التدريس الجامعي، مستشارة ثقافية في سفارتي مصر بباريس وواشنطن، ناشطة سياسية مستقلة في المجال المدني والحقوقي، وإقامتها في فلوريدا الأميركية - تواترت بين محفوظ ومنصور أحاديث كثيرة مدارها ذكريات حياتها في مصر.
وفي أيام تفشي وباء كوفيد19 (2019- 2020) وما فرضته من عزلات منزلية قسرية، اقترح الروائي على المعالِجة النفسية "أن نكتب سيرتها الذاتية". ولتشجيعها حاورها مرات، قبل تحول حواراتهما "جلسات عمل منتظمة على مدى عامين". وكان هو يكتب ما ترويه مسجلا بصوتها، فيحرره ويعيد صوغه، ويعرض عليها ما كتبه، ثم يراجعانه معا.
سجل منصور ما روته محفوظ بالعامية المصرية على مدى 60 ساعة. ثم انصرف إلى تأليفه سيرة، تضاهي عملا روائيا أنجزه ونشره لدى دار "الكتب خان" في القاهرة، بعنوان "الخوف من الحرية: رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط". وقبل شهور قليلة من وفاة الراوية صاحبة السيرة في فلوريدا في 15 مايو/ أيار 2023، نُشِر الكتاب.
الأرجح أن فارق السِّن بين الراوية وكاتب سيرتها، وشغفه بالرواية والإصغاء إلى ما ترويه معالِجته النفسية، هما ما عقدا تلك الصلة الخاصة بينهما، بعدما كانت، هي المعالِجة، قد أصغت إليه، هو الكاتب الروائي، مستمعة مديدا إلى ذكرياته وسيرة حياته، وإلى ذكريات سواه ممن عالجتهم. ففارق السن واختلاف تجارب العيش والزمن الاجتماعي بينهما، أتاحا لهما أن يفتحا نوافذ جديدة للأسئلة وللكلام عن تجاربهما وعن العالم، لإمعان النظر والفكير فيه وفي حوادثه وطواياها. هذا ما دام الكلام أصلا وفصلا مصدره وباعثه الفرق والاختلاف والتفاوت، والرغبة في اكتشاف الآخر والغريب.
سيرة ضد الوباء الروائي
هناك أيضا تلك الرغبة التي قد تكون حملت عفاف محفوظ في خريف عمرها على استعادة ذكرياتها وروايتها لمن يصغي إليها شغوفا بإلحاحه عليها بأسئلته لاستدراجها إلى الكلام. وهذا إضافة إلى ما بين الذكريات والتذكّر والرواية والكتابة والتحليل والعلاج النفسيين من وشائج حميمة. ولربما ضاعف اشتراك محفوظ ومنصور في كونهما مصريين، رغبتهما في الكشف عن ملامح وشذرات حيّة من تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي، في طوايا السيرة وظلالها. أي ذاك التاريخ الحي، المستعاد والمفَكّر فيه والمروي، نابضا بتدافع المشاعر والأهواء والأحاسيس والهواجس والأوهام والآلام والتناقضات التي عاشتها امرأة مصرية (محفوظ) واختبرتها في حياتها، بل طوال نحو قرن من الزمن، يبدأ بسيرة أجيال سابقة من عائلتها.
ما أنجزه خالد منصور في كتابته سيرة عفاف محفوظ التي روتها له وسجلها بالعامية المصرية، مبعثرة وبلا سياقات على الأرجح، يرقى إلى عمل روائي حقيقي. فهو - بعدما كتبها كتابة أولى بتلك العامية ممزوجة بعربية فصحى، وأصرّت الراوية صاحبة السيرة على كتابتها بالفصحى - أعاد كتابتها "مترجمة" من ذاك المزيج إلى فصحى عربية مصرية، أو مصرية الروح، وصنع للسيرة سياقا وتماسكا روائيا دراميا خافتا وخفيا.
والأرجح أن المصريين، خلافا لأهل بلاد الشام، تمكنوا من صوغ عربية مصرية الروح وخاصة بهم، قد تكون كتابة نجيب محفوظ الروائية نموذجها الأبرز. وقد يكون سبب ذلك غلبة النثر على الشعر في الثقافة المصرية الحديثة، وقوة الدولة البيروقراطية وديمومتها وتماسكها إلى جانب الوطنية المصرية، وصلة المجتمع المصري التاريخية الحميمة بالتراث الإسلامي، في منأى عن الروح القومية العربية التي تشكل اللغة الفصحى روحها.
ولعل الخراب الثقافي والتعليمي الذي أحدثه النظام الناصري ثم الساداتي، إلى جانب تأميم التعليم وتوسيع قاعدته الاجتماعية بفرضه وتعريبه ليشمل الشعب كله، أدت مجتمعة مع انعدام الحريات الثقافية والسياسية والاجتماعية، إلى الانحطاط الثقافي واللغوي الذي شهدته مصر.
أما في السيرة التي كتبها خالد منصور لعفاف محفوظ، فقد أنجز عملا روائيا رشيقا في لغته ونسيج خيوطه وصياغاته. وخلف روايته كل حادثة من حوادث السيرة وطريقته في سردها، نكتشف قيما ومعايير أخلاقية محدّدة تتحكم بسلوك شخصيات هذه الحوادث وعلاقاتهم الاجتماعية. وتحضر أيضا في سياق السرد ملامح من تحولات الاجتماع المصري الحديث طوال نحو من قرن من الزمن.
وهذا ليس أقل من عنصر درامي يخترق السيرة ويقرّبها من العمل الروائي، على الضد من الطفح أو الوباء الروائي بالعربية، ذاك الذي حوّل الكتابة الروائية إلى "عرض حال" عاطفية بإنشاء لفظي فقير وعديم الدلالة، لا يتجاوز ما يتعلمه تلامذة المرحلة المتوسطة في مادة الإنشاء العربية.
مصر الفئات العليا والمتوسطة
استهلت محفوظ، بل هو كاتب سيرتها من استهل كتابته السيرة بـ"استعداد" صاحبتها "للموت" وتقبّلها فكرته وهي في الثمانين من عمرها. ثم ينتقل فجأة إلى رواية وقائع طفولتها وحياة أسرتها، وملامح وصور وظلال وأطياف وحكايات عائلية "مهموسة" مدارها جَدّا عائلتها المؤسِسَان، الوافدان إلى مصر من المغرب والأناضول، في أواسط القرن التاسع عشر. ومن ثم يتواتر السرد في روايته سيرة الراوية الشخصية، الأسرية والمدرسية والعملية المهنية، وتدافع علاقتها بزمنها الاجتماعي المصري، ليتسع إلى حياة سواها من أهلها ومعارفها ومجايليها، ومصريين كثيرين أمثالها من أبناء النخبة المصرية المقيمة في بلدها والمهاجرة منه طوعا أو قسرا إلى أوروبا وأميركا.
فوق هذا كله تظل مصر حاضرة بقوة في الشغف بالرواية ودافعا إلى سرد السيرة وكتابتها. فمصر - أي الروح المصرية، الهم المصري والمجتمع المصري، وزمن مصر الاجتماعي الحديث وتحولاته - هي ما يشكل الخيط الخفي والحميم الجامع بين الراوِية وكاتب سيرتها. وهي التي تحضر في خلفية السيرة الروائية أو الرواية السِيريّة، وتكوِّن بطانتها الداخلية.
وهذا ما أشارت إليه عفاف محفوظ بأسى في ختام روايتها سيرة حياتها: "تظل مصر منبع جذوري، رغم أن (...) تلك الجذور اختفت تقريبا، في الواقع. ففي القاهرة، عندما زرتُها قبل سنوات، لم أرَ أية جذور حقيقية متبقية. بل لم أستطع حتى التنفس بسهولة، بسبب دخان حرائق قش الأرز، أو ما يسمونه في القاهرة السحابة السوداء. (... وها) أجلسُ الآن على مقعدي في فلوريدا، متذكرة قصة حياتي، بينما أرنو إلى الساحة الكبيرة الخضراء أمام البناية، من خلف النافذة الزجاجية الكبيرة، وأبتسم متخيّلة أحيانا أنني أرى نخيل المنيا على شاطئ بالم بيتش في فلوريدا".
لكن ما روته صاحبة السيرة رواية تفصيلية، وكتبه خالد منصور كتابة روائية، ينطوي في ثناياه على ملامح من سيرة أبناء الفئات العليا والمتوسطة والنخبة الثقافية والبيروقراطية التي تنتمي محفوظ إليها، وعاشت في دوائرها حياتها وعلاقاتها كلها، العائلية والزوجية والشخصية والمهنية.
اكتئاب الكبت العاطفي والذهني
تبدأ السيرة من المنيا بالصعيد، حيث ولدت عفاف محفوظ "على مشارف الحرب العالمية الثانية"، وكانت عائلتها صاحبة مكانة ونسب وثراء، ومتشددة في محافظتها الأخلاقية وفي خوفها على البنات وسمعتهن الاجتماعية. ففي طفولتها كابدت محفوظ زجرا وحصارا وكبتا في بيئتها العائلية المتشدّدة في تربية البنات، وفي رقابتها على سلوكهن وأجسادهن. وهذا ما كابدته أيضا في مدرستها، مدرسة الراهبات "المتشددات في تربية البنات".
في الإسكندرية، حيث درست الحقوق في الخمسينات، "تعاطفتْ (محفوظ) مع جماعة الإخوان المسلمين" وتحجبت، رغم معارضة أهلها ورفضهم تحجّبها. فالمحافظة الأخلاقية المتشددة في بيئتها، لم تكن لتتطلب تحجيب بناتها، بل تتركهن سافرات ذاك السفور الراقي والمحتشم والمسوّر بالخوف عليهن من الانزلاق إلى مسالك ودروب قد تفضي بهن إلى اختبارات وخيارات شخصية وفردية، منها التحزُّب للإخوان المسلمين، أو الدخول في عالم الفن والفنانات، مثلا. وهذا، في مرآة قيم عائلتها المرموقة وشيمها وفضائلها وحسبها ونسبها، سقوط في العوام والمجهول والخطايا.
وحين تزوّجت كان زواجها باردا جافا، وخاليا من الرغبة والعاطفة والهوى والميل. والأرجح أن هذه – باعتبارها مشاعر شخصية وفردية – تخاف العائلات المرموقة المحافظة منها على بناتها وتحرِّمها عليهن. وربما اقتصر هدف الزواج لدى عفاف محفوظ الشابة على حاجتها الملحة إلى الانعتاق من السلطة الأبوية والرقابة العائلية الخانقة، وعلى رغبتها في الخروج من مصر إلى فرنسا بمعية رجل/زوج مبتعث بمنحة دراسية حكومية إلى باريس في مطلع الستينات.
بعد مدة من إقامتها محجبة في باريس الستينات، خلعت حجابها و"نالت شهادة الدكتوراه وتغيرت علاقتها بجسدها وعقلها، بالدين والتقاليد، وبدأت تهتم بالتحليل النفسي". وهذا ما دفعها إلى التردّد على محاضرات جاك لاكان الجامعية، والميل إلى الفكر اليساري الماركسي في أوساط مثقفين ومبتعثين مصريين في العاصمة الفرنسية، منهم مصطفى صفوان، تلميذ لاكان وصديقه. لكن لا يساريتها الماركسية ولا التحليل النفسي قللا بقاءها على قوميتها العربية بنسختها الناصرية، والممزوجة بوطنية مصرية.
تروي محفوظ: "ظللتُ عاطفيا أعيش داخل نفسي وأتصرف بسذاجة (...) أدهشتِ (الآخرين). لم أكن مكبوبة فقط، بل مقموعة تماما، لا تصلني إشارات الآخرين ولا رسائلهم. وفي عشاء مع بعض المعارف جاملني ضابط فرنسي وقال: عيناك جميلتان. صدمت من أن يتحدث رجل عن جزء من جسدي. وكنت لا أزال أرتدي الحجاب". وهذا قبل "تهاوي النظام الحديدي الاجتماعي والعائلي الذي كان مفروضا من حولي في مصر".
أما حين عادت إلى القاهرة، فعملت في "الأهرام"، بعدما "تلقيتُ – تروي - تلك المكالمة الهاتفية العجيبة من السيدة نوال الحصملاوي، سكرتيرة محمد حسنين هيكل تدعوني إلى مقابلة الأستاذ". وكان العمل تأسيس "مركز دراسات حول فلسطين والصهيونية. وقلت لهيكل: لكن الصحف والمجلات التي يحتاجها العمل ممنوعة ولا يمكننا (بدونها) أن نعرف ما يجري في العالم (...) فطمأنني (... قائلا) إني سأكون كبيرة الباحثين. وسيكون رئيسي حاتم صادق، زوج ابنة الرئيس عبد الناصر". وهي روت أن تلك المكالمة الهاتفية التي تلقتها من سكرتيرة "الأستاذ"، لم تحصل إلا لأن زوجها - الذي كانت علاقتها الزوجية والعاطفية به باردة وجافة أصلا، بل متخشِّبة - كان "مقربا من زكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهورية، ولديه شبكة علاقات واسعة داخل الاتحاد الاشتراكي". ولم يكن عملها الآخر، أي التدريس في جامعة حلوان، ليختلف في علاقاته الإدارية والأكاديمية عن العمل في "الأهرام".
ولم يخلُ انفصالها عن زوجها من جرح أليم. وذلك بعد مغادرتهما معا إلى واشنطن وإقامتهما وعملهما فيها، واستغراقها هي في نشاطات "ثقافية وتطوعية" وفي "رحلة التحليل (العلاج) النفسي" من الاكتئاب. ثم اكتشفت أن زوجها "وافق" على العودة إلى مصر لينال وظيفة مرموقة في شركة خاصة دولية في بدايات "سياسات الانفتاح الاقتصادي" في مصر الساداتية. ووافق أيضا على تركها في واشنطن، كي "يعيش حياته بحرية منفردا في مصر، حيث (كان أقام) علاقة عاطفية منذ سنوات، وربما منذ العام 1966".
والعلاقات العاطفية والزوجية التى تروي محفوظ شذرات منها في دائرتها الاجتماعية المصرية، لا يخلو معظمها من برود وكبت وحصر مستفحل في العلاقات الداخلية الحميمة، الجنسية والعاطفية، بين الرجال والنساء، متزوجين وغير متزوجين. وهذا وجه من وجوه غياب الحرية الشخصية والفردية، والامتثال إلى قيم المحافظة الذكورية والأبوية، المظهرية أو العلنية السارية التي تخاف على النساء ومنهن في دوائر الفئات الوسطى والعليا، المنطوية علاقاتها الداخلية أو باطنها "السري" على شتى أنواع الرياء والكذب والدجل المخاتلة الاجتماعية. وينسحب هذا كله على العلاقات المهنية والوظيفية في المؤسسات والأجهزة البيروقراطية الحكومية المصرية، في ما ترويه محفوظ في سيرتها كلها عن مصريين/ات من مجايليها بين مصر وفرنسا وأميركا.
وهي عندما عادت في إجازة من واشنطن إلى القاهرة "اكتشفتُ - تروي - أن أحمد (زوجها) طلقني (غيابيا) فور عودته من واشنطن، وأرسل وثيقة الطلاق إلى عنوان منزلنا في القاهرة (... والذي) أجره من دون أن أتمكن من العودة إليه وجمع حاجياتي" منه.
الحرية و"دكتورة الطلاق
في واشنطن التي عادت إليها مطلّقة، ومكتئبة منذ الطفولة، عملت محفوظ مستشارة ثقافية في السفارة المصرية. وهناك بدأت حياتها الفردية، الحرة والمستقلة. وهذا ما جعل "علاقاتي في السفارة متوترة نسبيا، لأنني امراة مطلقة تخشى من وجودي زوجات الديبلوماسيين (المصريين طبعا، الذين) امتعضوا من سلوكي لأنني أعيش منفردة وأخرج في الليل وأسافر بمفردي. وكان بعضهم ربما يعتقد أنني متعددة العلاقات، منحلّة" أخلاقيا وعاطفيا. (...) فتوقفوا عن دعوتي إلى بيوتهم، ربما خشية من (وعلى) زوجاتهم، لأن المطلّقة دائما مشتبهة". أما هي فكانت للمرة الأولى في حياتها تختبر علاقة عاطفية وغرامية حقيقية، حرة وواعية، برجل. وهو حبها الحر الأول، حينما كانت في الأربعين من عمرها.
لكن علاقتهما لم تدم طويلا، فعادت إلى القاهرة لتبدأ معاناتها المريرة من جديد، بوصفها امرأة مطلقة. وفي نيويورك - بعدما رحلت إليها مع زوجها الثاني، الأميركي الذي كان يعيش في القاهرة منذ 30 سنة، وفيها تزوجا وتحابا حبا وزواجا رصينين ورضيين، وعلى سنة الله ورسوله وبرضى أخويها - احترفت العلاج النفسي واكتسبت "سمعة في مجتمع العرب" النيويوركي باعتبارها "دكتورة الطلاق".
والحق أن هذه ليست سوى مقتطفات سريعة ومكثفة من مسار حياة عفاف محفوظ المتأرجح والمتقلب في سيرتها التي يتكرر في صفحاتها بكثرة لافتة مصطلحا "الاكتئاب" و"التحليل أو العلاج النفسي". وقد تكون معاناتها المديدة من الاكتئاب وتعايشها معه ومجابهته، هي الخيط الذي يخترق سيرتها، ودفعها إلى دراسة التحليل النفسي وامتهانه في سني حياتها الأخيرة، قبل تقاعدها أو تفرغها أخيرا لاستعادة ذكريات حياتها والتفكُّر فيها ورواية مقتطفاتها.
لكن يبدو أن الاكتئاب حالة مصرية عامة على ما تذكر محفوظ: "سلوك الرجال المصريين عموما، وعديد من النساء (...) في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، غارق في النفاق والازدواجية في ما يتعلق بالمرأة وجسدها. (...) وأعتقد أن الكبت الشديد يؤدي إلى حالات هستيرية، ويزيد من وقائع التحرش الجنسي. (...) وأخشى أن نسبة قليلة من رجال مصر أسوياء نفسيا في ما يتعلق بعلاقاتهم بالنساء والجنس".
تسجَّل في هذا السياق جرأة عفاف منصور في روايتها سيرتها – وقد تكون رواية السيرة ساهمت في شفائها المتأخر من اكتئابها - وذكرها أسماء كثيرين ممن تروي وقائع صلتها بهم من النخبة المصرية الناصرية وفي الحقبة الساداتية. وهي وقائع وأسماء تكشف عن وجه عميق من تشوهات تلك النخبة أخلاقيا وعاطفيا وفي علاقاتها المهنية والشخصية والزوجية.
الخوف من الفرد المستقل
يكشف ما روته عفاف منصور في سيرتها عن خيط أساسي يخترق الحياة والعلاقات الاجتماعية في مصر الحديثة، أي مصر الخائفة من الحرية الفردية وكل محاولة ونزوع إلى حياة شخصية ومستقلة عن المثال الجمعي العام وسطوته على حياة المصريين وعلاقاتهم. وهو خوف يبدو أنه يتشبث باللاوعي المصري الجمعي، وكأنه مترسّب في طبقة عميقة من تاريخ مصر. وتكشف السيرة إياها أيضا أن ذلك الخوف من بناء شخصية فردية واستقلالها، شائع بقوة في ذهنية الفئة العليا من الطبقة الوسطى المصرية ووعيها، وهو صنيعة مثالها الاجتماعي وقيمها الاجتماعية المحافظة.
وقد تكون الحواجز الصلبة أو الهوة السحيقة الفاصلة بين الطبقة الوسطى وفئاتها كافة، وبين الطبقة العامّية أو عامة الشعب التي تشكل الأغلبية الساحقة في قاعدة الهرم الاجتماعي في مصر، هي الباعث على ذلك الخوف لدى الطبقة المتوسطة. أي خوفها على أبنائها من الحرية والفردية والاستقلال بحياتهم، لئلا يأخذهم التيه والضياع ويرميهم خارج الحواجز الصلبة التي تسيّج طبقتهم وقيمها. ولا شيء في ذلك الخارج سوى لجة تلك الفوضى العشوائية المتلاطمة التي تغرق فيها الطبقة العامّية السادرة في كثافتها اللجبة وفقرها وهوانها.
وفي نواة الخوف من الفردية والفرد الحر المستقل، ذاك الذي يتشبّث باللاوعي الجمعي المصري المحافظ والقمعي، يكمن خوف هستيري من النساء وعلى النساء. وهو خوف يبلغ حدود اعتماده تدينا اجتماعيا، بلابس الأخلاقيات والعلاقات العائلية، الأسرية، الزوجية، والمؤسسات الاجتماعية. والمجتمع البطريرك الذكوري هو الذي يعمم الخوف من المرأة وعليها، فيخيفها من جسمها ونفسها ومن الرجال منذ الطفولة، ويخنقها ويقصيها ويعزلها. لكن هذا الخوف يشمل الرجال أيضا. غير أنه يجعل حياة النساء أكثر من الرجال مشرعة على اضطراب وحصر واكتئاب وتمزّق أخلاقي وعاطفي، غالبا ما تدوم أعراضها في حياة النساء حتى سنوات نضجهن الأخيرة. وهذه حال عفاف محفوظ في سيرتها "من الخوف إلى الحر
عن المجلة