يمكن أيضاً أن نعتبر الكتاب مونولوغاً داخلياً طويلاً، يستبصر به علاء خالد ذاته وتجربته، وقد جعل من أفلام داود مرآة لتلك الذات ولتجربتها، ليس فقط المحقّق منها في الواقع، بل أيضاً لما هو غير محقّق منها. بعضها عاشه علاء داخل حلم، باعتبار الحلم هو المجاز الذي اختاره لتوصيف عالم السينما.

طبقات هامشية وأبطال هامشيون

علاء خالد عن سينما داود عبد السيد

أحمد الفخراني

 

يمكن أن نعتبر كتاب "دواد عبد السيد... سينما الهموم الشخصية"، كتابة متبصّرة داخل عالم أفلام المخرج الكبير، ولكن لأن كاتبها هو علاء خالد، أحد أهمّ كتابنا المعاصرين وأحد رموز جيل التسعينيات، فيمكن أيضاً أن نعتبره مونولوغاً داخلياً طويلاً، يستبصر به علاء خالد ذاته وتجربته، وقد جعل من أفلام داود مرآة لتلك الذات ولتجربتها، ليس فقط المحقّق منها في الواقع، بل أيضاً لما هو غير محقّق منها. بعضها عاشه علاء داخل حلم، باعتبار الحلم هو المجاز الذي اختاره لتوصيف عالم السينما، وقد توقف طويلاً أمام فكرتين: رحلة الفرد وعلاقته بالجماعة في أفلام داود، والصعلكة إذ هي خروج عن الإطار المفروض.

يقول علاء في مفتتح كتابه: "بدأت علاقتي بسينما المخرج داود عبد السيد مع فيلمه الروائي الأول (الصعاليك) الذي عرض عام 1985، ظهرت فيه شوارع الإسكندرية بعين الصديقين الصعلوكين مسرحاً إغريقياً، تُعرض عليه دراما فاجعة عن صعودهما الطبقي إلى أعلى السلم الاجتماعي، ثم الهبوط والموت".

ومن يعرف القليل عن حياة علاء خالد، الذي فضّل العيش في الإسكندرية حياة هادئة متأمّلة ومتمعّنة، سيفهم أن الإسكندرية أيضاً قد تبدو لمتأمل مثله كمسرح، وهو متفرّج لا بمتورّط أو منخرط، هناك دائما مسافة بينه وبين آخر.

كما أن الكثير أيضاً مشترك بين تجربة داود وعلاء، ابني الثمانينيات والتسعينيات، الفترة التي شهدت بدايات تعرّض مصر لهزائم عميقة، اقتصادية وفكرية وروحية، ومن بين جيل داود، يبدو هو أقربهم لروح الأدب، إذ إن أسئلته تجاوز مفهوم الواقعية والرصد كما كانت عند عاطف الطيب مثلاً، أو حتى البعد الجمالي عند محمد خان، أو تقديم ذلك الواقع مقلوباً كنيجاتيف من خلال الفانتازيا كرأفت الميهي، كما أن عوالم داود تمتاز عنهم جميعاً بأنها مخلوطة "بطاقة شعرية وبصورة حسيّة مشبعة، تجعل السينما والطبقة الاجتماعية في مكان حلمي، معلق بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والأسطورة".

أسئلة داود هي أسئلة وجود، تتجاوز الواقع لتواجه الميتافيزيقا. أسئلته هي معنى الحياة والموت، مجابهة واضحة، يقول علاء: "هناك ملمس وجودي صريح لطبقات هامشية، وأبطال هامشيين، غير مسيّسين، يُردّ إليهم الاعتبار ليس بسبب نظرة أخلاقية/ سياسية مسبقة لهم، وليس الفقر وأعراضه عاهتهم، أو مصدر أزمتهم في الحياة أو هدفاً جوهرياً لسعيهم اليومي، ولكن النزوع إلى الحرية والتحرّر، والصدق مع النفس".

وإن كانت أسئلة الوجود الكبرى قد طرحت على يد نجيب محفوظ، فسؤال الفرد وعلاقته بالجماعة، كان سؤال الأجيال التي تلت جيل الستينيات، الذي ظلّ مشغولاً أكثر بالسياسة والتحولات التي جرّتها الهزائم، وكان السادات وعبد الناصر حاضرين بقوّة في أعمالها، أما سؤال جيل التسعينيات المحوري، والذي حضر بقوة في الأدب المصري، فكان سؤال الفرد وعلاقته بقيم الجماعة، لذا كان من الطبيعي أن يتلمّس علاء خالد تلك الرابطة في أفلام دواد عبد السيد، ليظهر "الفرد الاستثنائي، وفي الوقت نفسه ليس مفارقاً أو رافضاً لواقعه وجموعه، ربما لأن هناك واقعاً جديداً ابتكره له ويتحرّك فيه، داخل مساحات شعورية جديدة، تضعه على قدم المساواة مع الآخرين".

هنا يكتشف الوجود الثري للفرد الذي ليس منفصلاً عن واقعه، لكن بإمكانه دوماً أن يعيد ابتكاره خارج الأطر المفروضة عليه. فرد غير مسيس، ليس انعكاساً للمجتمع، ولكن الفرد هو الذي يعكس "مجتمعاً موازياً".

*****

من أجل ذلك يخوض الفرد رحلة، والرحلة بالمفهوم الحديث مرتبطة بالفردانية، ما يحضر في تلك الرحلة هو الذنب، والذنب في مجتمعاتنا العربية له سطوة هي الأكثر حضوراً ونفاذاً في عظامه. عند نجيب محفوظ، تبدو رحلة ذلك الفرد المطحون تحت وطأة ذنب أساسي، تيهاً عميقاً في محاولة التحرّر منه، أما عند داود فالرحلة هدفها التصالح مع ذلك الذنب "بعد اكتشاف عجزنا وضعفنا"، بتعبير علاء خالد، لا تتحرّر من فكرة الإيمان بالله، لكن تعيد اكتشاف ذلك الإيمان بمنظور آخر وفي مكان جديد، كأنه "رسالة إنسانية تتقدم مشروع الفردانية وتسوقه"، وهو مفهوم حاكم كإطار مرجعي خفي في أفلام داود عبد السيد، ويصل ذلك المفهوم ذروته ونضجه في فيلم "أرض الخوف"، بعد أن تبدّى في أوجه عدة، كالذنب الاجتماعي في "الصعاليك"، أو الذنب الديني في "سارق الفرح".

والرحلة إذ تتم، ورغم أنها في أفلام داود رحلة وجدانية في الأغلب، لا تتم إلا من خلاص الصعلكة، أي الخروج عن المسارات المؤطرة، وابتكار الواقع بإعادة تركيبه عبر تهشيمه أولاً، كما أن التصعلك دائماً هو ابن الهامش، هوامش المدن والأماكن والشوارع، وفيه، بين العوالم المختلفة، تُفقد الهوية الأصلية من أجل استعادة هوية أخرى أكثر تمرداً وأصالة.

*****

يقول داود في حوار مع علاء خالد: "أقرب بطل لي في أفلامي هو (يحيى) بطل (رسايل البحر)"، وهو فيلم شديد الليبرالية لشخص لا يعرف كيف يتلاءم مع مجتمعه، تم تمثيل عدم التلاؤم بهذه التأتأة التي تلازمه طول حياته، وتكون مصدر سخرية له من البعض.

اللافت هو انتباه علاء خالد العميق لشركاء تجربة داود، أنسي أبو سيف، مهندس الديكور، والمؤلف الموسيقي راجح داود، اللذين أفرد لهما حوارين مستقلين في نهاية الكتاب، يستكمل بها فهم عالم داود عبد السيد.

 

عن (رصيف 22)