تعدّ كتابات الكاتب اللبناني محمد طرزي متميّزة دائمًا، فهو مؤلف لروايات جيدة فنيًّا، ومهمة من حيث المواضيع المُتناولة فيها، وتتمثّل أعماله في:
- ثلاثية الحلم الأفريقي، وهي: (1) رواية "جزر القرنفل"، صدرت في عام 2013، و(2) رواية "ماليندي: حكاية الحلم الأفريقي"، صدرت في عام 2019، و(3) رواية "عروس القمر"، صدرت في عام 2021.
- رواية "رسالة النور: رواية عن زمان ابن المقفع"، صدرت في عام 2016.
- رواية "أفريقيا: أناس ليسوا مثلنا"، صدرت في عام 2018.
- رواية "نوستالجيا"، صدرت في عام 2019.
- رواية "سر الطائر الذي فقد صوته"، صدرت في عام 2022.
- رواية "ميكروفون: كاتم صوت"، صدرت في عام 2023.
يتناول المقال مناقشة رواية الكاتب الأخيرة التي صوّر فيها ظروف بلده لبنان مؤخّرًا سياسيًّا واقتصاديًّا؛ وهي رواية "ميكروفون: كاتم صوت"، التي وردت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد: (فرع المؤلف الشاب)، للدورة الثامنة عشرة؛ وتصوّر الرواية في واحد وخمسين فصلًا تلك الظروف، من خلال قصة حب ربطت بين الشاب الفقير سلطان أبو حجر ووداد رائف كرم الدين الشابة الأرستقراطية. والمدّة الزمنيّة المتناولة في الرواية تمتد من عام 2019 قبل بداية وباء (كوڤيد 19) إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2020.
ولأنَّ المرحلة المحدّدة في الرواية تعدّ مرحلة مفصليّة في تاريخ البلاد، ومهمّة من حيث الأحداث التي ألمّت بلبنان، فقد حاول الكاتب أنْ يضمِّن روايته كلّ أحداث تلك المدّة، وتوضيح أثرها على الإنسان اللبناني من خلال انعكاسها على قصة الحب المذكورة في النص الروائي ما بين البطلين ومحيطهما، ولا سيَّما محيط البطل. وتتمثّل تلك الأحداث التي مرّت بها البلاد، في:
- الثورة اللبنانية المعروفة "بكلن يعني كلن"، التي بدأت بتاريخ: 17/10/2019، وكانت تنادي بقيام دولة تخلو من الفكر الطائفي المتمثّل في الأحزاب السياسية اللبنانية، واستمرّت هذه الثورة من عام 2019 إلى 2021.
- انهيار الليرة اللبنانية، الذي تلا الثورة، وإقفال البنك المركزي في لبنان وكل البنوك الأخرى، وكان ذلك تقريبًا بتاريخ: 15/11/2019.
- انفجار مرفأ بيروت بتاريخ: 4/8/2020.
- نتيجة للأحداث السابقة، برزت ظاهرة الهجرة غير المشروعة من البلاد، التي كانت تتمّ في غالبيتها عن طريق البحر بمساعدة مهربين استغلوا الناس ماديًّا، ممَّا تسبَّب في موت كثير منهم غرقًا.
لن يُدهش قارئ محمد طرزي، من اهتمام الكاتب بالناحية التاريخية المعاصرة للبلاد؛ لأنَّ الكاتب شديد الاهتمام بهذه الناحية -الأحداث التاريخية المفصلية- في غالبية أعماله الروائية؛ فيمكن عدّه من الروائيين الذين يهتمّون بتحليل الظرف التاريخي للمواضيع التي يتناولون مناقشتها؛ ومن وجهة نظري يعدّ ذلك نقطة قوة في كتابات طرزي، فاهتمامه بذكر الجوانب التاريخية للمواضيع المُناقشة في رواياته، توسّع دائرة قرائه المهتمين بفهم تلك القضايا المصوّرة في رواياته بأبعادها المتعدّدة كلها؛ والمُلاحظ أنَّه يفعل ذلك دون أنْ يتجاهل الناحية الفنية/ التخيليّة المرتبطة بالبنية السردية للنص الروائي، فهو يسعى إلى التوفيق بينهما دائمًا. ومن أهم الملاحظات الإيجابية الموجودة في هذه الرواية من وجهة نظري، هي:
- استخدام أداة "الميكروفون" في الرواية، كأداة لنعي الموتى من قبل طوائف معينة في مدينة صور، وهذا الفعل يوحي بتطابق منسجم مع العنوان الرئيس للرواية وهو: "ميكروفون: كاتم صوت"؛ فالإيحاء الذي يشير إليه العنوان الرئيس للنص الروائي يعكس إلى حد كبير الحدث الذي كان يُستخدم فيه جهاز "الميكروفون"، فكأنَّ الموت هو الثقافة المحتفى بها في لبنان؛ فقد كان الجهاز يستخدم لغرض النعي من قبل الطوائف، مع شرط أنْ يُقال النعي بطريقة معينة لا يحيد عنها، ممّا يشير إلى عدم تمكّن الإنسان من استخدام ذلك الجهاز لأيِّ غرض آخر، فحتى النعي لا يحقّ للناعي أنْ يقوله إلّا بالطريقة المحددة له؛ للتأكيد على سطوة الطوائف السياسية على جوانب الحياة كلّها في لبنان؛ وعندما استُخدم "الميكروفون" من قبل ثوار ثورة تشرين للتنديد بالطائفية السائدة في لبنان، تمّ اسكات أصواتهم المندّدة بالطائفية عن طريق التشكيك في وطنيّتهم. هذا هو المفهوم الذي أراد الكاتب الإيحاء به من خلال عنوان الرواية رابطًا إيّاه بحدَثَي النعي والثورة، وأجد أنّه قد وفّق في التعبير عن ذلك.
- تصوير الكاتب للطبقية الاجتماعية الموجودة في لبنان من خلال علاقة سلطان بوداد التي انتهت بافتراقهما، فقد وفِّق بتجسيد الجانب الاجتماعي القبيح فيما يخصّ العلاقات الإنسانية في مجتمعه؛ بسبب تلك الفوارق الاجتماعية، وقد تمكّن من فعل ذلك بطريقة تجعل القارئ يتعاطف مع الطرفين، اللذين في حقيقة الأمر كانا ضحية لتركيبة البلاد السياسية/ الاجتماعية.
- تجسيد الكاتب لعمق بعض العلاقات الإنسانية في مجتمعه، وعدم فقدانها لبراءتها وصدقها بالرغم من التشوهات السائدة كلّها في المجتمع؛ بسبب الظروف السياسية/ الاقتصادية الصعبة، من خلال تصويره للمحبّة العميقة التي ربطت سلطان بصديقه الكهل حسن وبريتا؛ وفي رأيي أنَّ الكاتب تمكّن من خلال تركيزه على طبيعة علاقة هؤلاء الثلاثة ببعضهم البعض من إيصال فكرة تعاضد المنتمين إلى قاع المجتمع اللبناني بطريقة تمكّنهم من مواجهة المصاعب.
- صورة الزعيم التي كانت تطالع القارئ في مواضع شتّى في الرواية وفي مواقف مختلفة سياسيًّا واجتماعيًّا، استُخدمت رمزًا لزعماء الطوائف في لبنان، للإشارة من خلال تكرار ظهورها في مواقف متنوّعة في النص الروائي إلى مدى سيطرة الأحزاب السياسية/ الطائفية في لبنان على حياة الناس ممَّن ينتمون إليها.
- حُبكة الرواية كانت مفتوحة في نهايتها، التي استقرأتُ من خلالها أنّه يهدف إلى تأكيد الفكرة التي أوحى بها الموقف الذي جمع سلطان بغيداء أخت صديقه المتوفي لوركا في المقبرة؛ وهي -الفكرة- أنَّ الإنسان اللبناني لا خيار أمامه سوى أنْ يقاوم السلطة الطائفية في المجتمع بشكل متوار، أو أنْ يهاجر إلى خارج البلاد سعيًا إلى بناء حياة أفضل.
أمَّا بالنسبة للملاحظات التي أسجلها على الرواية، فهي أنّها أوردت تفاصيل لم يكن لها داعٍ في بداية سرد الحكاية ولا ترتبط بوضع البلاد المُناقش في النص، ولا تساعد في تطوّر الأحداث والشخصيات السردية في بناء الحكاية من الناحية السردية. وهذه التفاصيل تتلّخص في المواقف الآتية:
- موقف البطل مع الطفلة ابنة صديقه قاسم الراغب في الهجرة إلى ألمانيا عن طريق البحر، بعد أنْ منحها عشرين دولارًا في لقائه الأخير بصديقه وأسرته، وإسهابه لطريقة تبادلهما النظر -البطل والطفلة- لتبريره منحه إيّاها المبلغ، إضافةً إلى ما ورد في الموقف ذاته على لسان السارد العليم غير المشارك المتماهي مع الكاتب في هذا الموقف من تصويره للطفلة -التي أصبحت جدة- وهي في بلاد الغربة تحكي لحفيدتها عن وطنها الأم ومغامرة تركها مع أُسرتها لوطنها متذكِّرة دور البطل -غير المباشر- في تلك المغامرة؛ فالرواية استخدمت في هذا الموقف ما يُعرف في الخطاب السردي بتقنية الاستباق؛ تمهيدًا لتصوير الخطر الذي تعرّضت له الأسرة أثناء المغامرة التي خاضتها المتمثّلة في هجرتها إلى ألمانيا، وكيفية تخلّصها من ذلك الخطر الذي وقعت فيه بفضل مبلغ العشرين دولارًا الذي منحه البطل للطفلة ابنة صديقه قاسم؛ لكن من وجهة نظر القارئ المتميّز، يعدّ هذا الموقف الذي استُخدم تمهيدًا لموقف تالٍّ بفضل تقنية الاستباق، غير واضح فنيًّا، بسبب أسلوب الوصف الوارد على لسان البطل في موقفه من/ مع الطفلة، المتَّسم بالغموض؛ مع تقدّم هذا الموقف بشكل كبير عن الحدث الذي يمهّد له وهو حدث ورد متأخِّرًا في الرواية، ممّا يجعل القارئ ينسى هذا الموقف -موقف البطل مع طفلة صديقه- الذي ورد في بدايات الرواية.
- موقف انتظار البطل لبدء الجلسة الأولى -بالنسبة له- في نادي القراءة بمقهى "أميغوس"؛ خارج المقهى، حيث جلس على الصخور المطلّة على البحر بالقرب من المقهى. فالكاتب توسَّع في هذا الموقف بوصف ردة فعل البطل تجاه الجو الحار الرطب الذي كان سائدًا في ذلك اليوم، ومن وجهة نظري قارئةً، أرى أنَّ ذلك الوصف لم يسهم في تطوّر الحدث أو الشخصية المعنيّة، فقد كان وصفًا زائدًا لا ضرورة له.
- الموعد الأول بين البطل والبطلة في مقهى "أميغوس"؛ فاستئذان البطل المفاجئ من البطلة عند أول وصولها للسبب الذي ذُكر، لم يكن مبرّرًا أو مقنعًا، ولم يخدم تطوّر الحدث الأساسي في الرواية بأيّ طريقة.
وأخيرًا فإنّي أتصوَّر بوصفي قارئةً متخصِّصة في الرواية، ومع كلِّ الإيجابيات التي سبق ذكرها في رواية "ميكروفون: كاتم صوت"، إلَّا أنَّ الروائي في هذه المرة -ومع أهمية الموضوع المُتناول في النص الروائي- قد افتقد إلى وجود رؤية متماسكة لديه، وهذا أثَّر في طريقة صياغة خطابه السردي، وربّما يعود سبب ذلك إلى تفاعله مع أحداث بلده بشكل انفعالي، ممّا جعله يلغي المسافة المفروضة بينه وبين القضية التي يناقشها؛ ليتمكَّن من الكتابة عنها بأسلوب محايد؛ يظهر ذلك من تركيزه بأسلوب متوارٍ على انتقاد طائفة واحدة اتخذها رمزًا لكلّ التحزّبات الطائفية في لبنان، على الرغم من أنَّ المشكلة اللبنانية أكثر تعقيدًا من ذلك تاريخيًّا. وهذا الرأي لا يقلِّل من قيمة الرواية من حيث مضمونها أو فنيتها.