رواية (المسرّات والأوجاع) للروائي فؤاد التكرلي (1927 – 2008)، نشرتها دار المدى للثقافة والنشر في عام 1998 – دمشق، وتقع في 466 صفحة.
ملخص الرواية: تمتد أحداث الرواية لما يقارب من ثمانية عقود، من نهاية القرن التاسع عشر لغاية بداية عقد الثمانينيات حيث اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وهي تتمحور بشكل عام حول عائلة عبد المولى وأولاده وأحفاده، ولكن الرواية تتناول بشكل خاص سيرة حياة (توفيق بن سور الدين بن عبد المولى) باعتباره الشخصية المحورية في الرواية، الذي وُلد ببغداد في عام 1932 بعد أن هاجرت عائلته من خانقين لتستقر للعيش فيها، أكمل دراسته ودخل كلية الحقوق عام 1951 وتخرج منها ليتم تعيينه في إحدى الوزارات، وقعت (كميلة) في حبه فتزوجته، وعندما اكتشفت لاحقاً أنه عقيم طلقته وتزوجت بآخر لتموت أثناء الولادة، وتستمر الرواية في سرد الأحداث التي ترافق حياة (توفيق) العبثية سواء كانت مغامراته النسائية، أو صراعه مع أقربائه، أو تسكعه الذي لم يفصله عن الصعلكة إلا خيط رفيع، والملمح الرئيس في الرواية هو إسراف الكاتب بتوظيف المشاهد الجنسية بصورة مبالغ بها.
هذه هي الرواية موجزة، لم أجد فيها من الإبداع ما يغري للاهتمام بها، فإذا أضفنا لها تلك الهفوات التي سجلناها سنكون أمام رواية عادية جداً لو كتب مثلها أيّ كاتب مغمور لجلده النُقاد بسوطهم الذي لا يرحم!!
يرى الناقد ناطق خلوصي أن رواية (المسرات والأوجاع) تنتمي إلى الأدب الواقعي المحلي، فهي: (تنتمي إلى واقع معاش، وما دام هذا الواقع يحفل بنماذج الشخصيات والأحداث التي ظهرت في مفاصل الرواية، فهي إذاً انعكاس لمثل هذا الواقع وتعبير عنه، ولابد من قبولها والتعامل معها وفق المعايير المعتمد للتعامل مع الواقع بصدق. إن الصدق الواقعي هنا يمنح الروائي الحق في أن يكون صريحاً.) [1]
أما الروائي فؤاد التكرلي نفسه فهو يرى: (لابد للكاتب أن يلتفت إلى بيئته المحلية، باعتبار المحلية مسألة أساسية وخاصة في موضوع الرواية.. وأنا شخصياً اعتبر تجربتي قائمة على المحلية، فإذا كنت تحيا في بيئة تعرفها وتعايشها، يمكنك أن تكتب عنها عملاً ذا قيمة.)[2]
فهل كانت هذه الرواية كذلك فعلاً؟ هل كانت انعكاساً مثلت الواقع العراقي كما يقول الناقد ناطق خلوصي؟ وهل كان الكاتب ملتفتاً إلى بيئته المحلية كما يرى الروائي فؤاد التكرلي كاتب الرواية؟
من قراءتنا للرواية وجدنا غير ذلك! لقد وجدنا أن الروائي فؤاد التكرلي قفز كثيراً على الواقعية المحلية، فعمل على خلق مشاهد وصور لا تنتمي إلى بيئتنا وحياتنا الاجتماعية بصورتها العامة، وقد فرض تلك الصور والمشاهد بشكل تعسفي وقسري في روايته، فضلاً عن تركه بعض الأحداث غامضة وضبابية عند القارئ، فلم نجد تفسيراً لها يناسب تلك الواقعية المزعومة، كما وجدنا في الرواية مشاهد تتكرر بالرتابة نفسها، كمشاهد تردد بطل الرواية (توفيق) إلى المقاهي، وزياراته إلى بيت شقيقه عبد الباري، ولقاءاته وزياراته المتكررة إلى بيت فتحية وهوسه الجنسي معها أو مع غيرها، فقد كان بإمكان التكرلي حذف نصف صفحات روايته من دون أن يؤثر ذلك في بُنيتها السردية.
لن نتكلم عن إسراف فؤاد التكرلي في توظيف الجنس في روايته هذه، فقد تحدث عن ذلك الكثير من النقاد، حتى عُدّ ذلك الإسراف في الوصف الحركي للعملية الجنسية في ثنايا الرواية تجاوزاً للمألوف الاجتماعي والواقع المحلي، وخروجاً على مألوف الرواية الواقعية العراقية، حتى أولئك الذين بدا لهم أن يتعاطفوا مع التكرلي ويدافعوا عن إسرافه في وصف الحركة الجنسية في روايته انتقدوه ضمناً، كما هو حال الناقد ناطق خلوصي: (لا يأتي توظيف الجنس في هذه الرواية مقحماً وإن بدا كذلك في ظاهره أحياناً بسبب الإسراف في التفصيل)[3]
وقبل الخوض في إشكالاتنا المتعددة على رواية (المسرات والأوجاع) أرى أن نستدعي كلمة مهمة لأستاذنا الناقد د. علي جواد الطاهر (رحمه الله) وهو قد سبقنا في تسجيل دهشته من ابتعاد التكرلي عن واقعيته، وهو يستعرض إحدى قصص التكرلي وعنوانها (القنديل المنطفئ) نشرها ضمن مجموعته القصصية (الوجه الآخر) في الستينيات من القرن الماضي، إذ يقول الطاهر:
(غريبة! وفي أيّ محيط؟ إنها ليس مما يقع في العراق، وإذا كانت قد وقعت فعلاً، فإنها لم تقع إلا مرة واحدة! .. إن التقاليد تمنع ما جرى .. ليس ما جرى في القصة من مألوف ما يجري في العراق، وحتى في غير العراق! .. إن هذه القصة لا ينسجم معها قارئ عراقي على أنها عراقية .. إن الشاب العراقي – ولا سيما القروي – لا يعرف مثل هذه الأحداث، ولا يعرف مثل هذا القلق، وأكبر الظن إنه قلق منقول من مخيلة المؤلف المتأثر بقراءات غريبة.)[4]
وأذكر كلمة أخرى للناقد عبدالله نيازي عن رواية التكرلي (الرجع البعيد) :
(أحداث الرواية، معظمها إما مبالغ فيها أو غير مبررة)[5]
نعود إلى موضوع رواية (المسرّات والأوجاع) ونسجّل عليها ما يلي:
1ــ تستفتح الرواية في الصفحتين السادسة والسابعة إعلام القارئ أن عبد المولى الرجل المُعدم الذي يعيش بأطراف نائية من مدينة خانقين، ومهنته تجميع الخشب وبيعه في المدينة، يتزوج وينجب ثمانية أولاد وهم حسب الترتيب: (سمر الدين، منصف الدين، راية الدين، كمال الدين، لطف الدين، ممتاز الدين، سيف الدين، سور الدين) ، ولا شك أن أيّ روائي عندما يخلق شخصياته فهذا يعني أنها ستلعب دوراً ما في أحداث روايته، سواء أكان هذا الدور رئيساً أم ثانوياً؟ وإلا ما معنى خلق ووجود هذه الشخصيات في الرواية أصلاً؟ ، ولكن الروائي التكرلي يفاجئنا في الصفحات التالية بموت سبعة من هؤلاء الثمانية من دون أن يكون لهم أيّ أثر في مجمل أحداث الرواية كما يلي: مقتل سيف الدين ص19 ، وفاة سمر الدين ص26 ، وفاة كمال الدين ص26 ، وفاة راية الدين ص32 ، وفاة منصف الدين ص37 ، وفاة ممتاز الدين ص44 ، وفاة لطف الدين ص55 ، مما يضع علامات استفهام عن سبب وجود هذه الشخصيات في الرواية من دون أن تترك أيّ أثر في أحداث الرواية.
2ــ جاء في الصفحة 19 من الرواية: (كان ذلك عام 1939 ، غبَّ مقتل الملك غازي الأول وقبيل الحرب العالمية الثانية) ، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل توجد شخصية باسم الملك غازي الثاني حتى يُقال: الملك غازي الأول؟ قد يكون مقبولاً أن نقول فيصل الأول لوجود فيصل الثاني، ولكن ما الداعي أن نقول غازي الأول؟!
3ــ سور الدين بن عبد المولى (والد توفيق الشخصية الرئيسة في الرواية) كان قد بلغ الثالثة والعشرين وذلك في عام 1917 (بحسب الرواية صفحة 10) وهذا يعني أنه من مواليد 1894 ، ولكننا نكتشف تاريخاً مغايراً لولادته في الصفحة 45 من الرواية: (توفي سور الدين أواخر شهر نيسان 1955 وكان في الخامسة والستين، شيّعوه إلى مقبرة الشيخ معروف وأقاموا له الفاتحة في دارهم) وهذا يعني أنه من مواليد 1890 وهذا خطأ فني وقع فيه الروائي التكرلي بعدم الدقة في حساب التاريخ.
4ــ وجاء في الصفحة 97 من الرواية: (طلب أبو فتحية إجازة قصيرة للذهاب إلى الصويرة بمناسبة وفاة زوج ابنته .. تمتع أبو فتحية بإجازته القصيرة ورجع من الصويرة منكّس الرأس يتظاهر بالحزن لوفاة صهره، لكنه كما أسرّ لتوفيق كان في غاية السرور لِما ورثته ابنته من زوجها، ولعودتها مع مالها للسكنى معهم.) ، وإشكالنا على هذا المقطع هو التالي:
بما أن هذه الرواية تنتمي إلى ما يُسمّى بالرواية الواقعية، وهي مستمدة من البيئة المحلية العراقية تماماً من خلال الأماكن والشخصيات والتاريخ، وبناءً على هذه الواقعية، فبحسب التعاليم الإسلامية والأعراف الاجتماعية (وهي متشابهة عندنا في العراق تقريباً) عند وفاة الزوج تبقى الزوجة في بيت الزوجية حتى انتهاء فترة الحِداد والعدّة الشرعية البالغة أربعة أشهر وعشرة أيام، فكيف تركت فتحية (هكذا ببساطة) بيت الزوجية في الصويرة ورجعت مع أبيها إلى بغداد وهي في الأيام الأولى لوفاة زوجها، وهي فترة العدّة الشرعية؟ ليس هذا فقط بل جاءت بالأموال التي ورثتها من زوجها!! ونعلم تماماً أن أموال الورثة تحتاج إلى وقت إذا لم يكن طويلاً فهو ليس قصيراً أيضا لتقسيمها بين الورثة حسب الشريعة أو القانون أو العُرف، خصوصاً مع تعدّد الزوجات لدى المتوفى.
5ــ وفي الصفحة 129 من الرواية نقرأ من حديث بين توفيق سور الدين وبين قريبه المحامي ممتاز اللامي حفيد منصف الدين:
(ــ أرجو المعذرة، أستاذ ممتاز...
ــ هذا ما خطر لي أن أقوله لك يا أستاذ توفيق...)
إن توفيق بمنزلة العم للمحامي ممتاز اللامي بحكم القرابة بينهما، فمن غير الواقعية المحلية في هذا الحوار أن ينادي كلا منهما الآخر بالأستاذ، وحسب الواقع الاجتماعي فالأشقاء وأبناء العم والعمة والخال والخالة تُرفع بينهم هذه التكلفة، وهذه المخاطبات الرسمية إنما تكون غالباً ضمن العمل الوظيفي أو المجاملات الاجتماعية بين الأصدقاء غالباً.
6ــ وجاء في الصفحة 194 من الرواية، على لسان كميلة زوجة توفيق: (اذهب إلى أي مكان .. إلى باريس، لعلها لا تزال تنتظرك، قحبتك تلك، قل لها إن رسالتها لم تصل) ، لقد فُوجئ القارئ أن كميلة كانت على علم بعلاقة زوجها الغرامية مع عشيقته (آديل) التي تركت العراق وهاجرت إلى باريس، وكنا نتوقع من الكاتب أن يكشف لنا سر معرفة كميلة لتلك العلاقة التي حاول توفيق أن تكون سرية جداً، وكيف وقعت الرسالة المرسلة من (إديل) إلى توفيق بيد كميلة؟ ولكن بقي الأمر لغزاً محيراً لزوجها توفيق كما هو محيراً للقارئ أيضاً.
7ــ وجاء في الصفحة 208 من الرواية : (كانت فتحية واقفة وسط الغرفة ممسكة بعصا أو بآلة خشبية لم يعرف نوعها، وأمها تركع تحتها رافعة ذراعيها بتوسل إلى الأعلى، تصرخ صرخات حيوان جريح، والأب منكمشاً على أريكة دون حراك)! ، لم يذكر لنا المؤلف المبرر لهذا التعنيف والتوبيخ من قبل فتحية لوالديها، وهل هذا مشهد واقعي في عراق السبعينيات؟
8ــ وجاء في الصفحة 212 من الرواية، في مشهد نزول جاسم الرمضاني وزوجته كميلة (طليقة توفيق) من الطائرة بعد انقضاء شهر العسل في تركيا: (تأخرت عودتهما إلى أرض الوطن حتى نهاية تشرين أول من تلك السنة.. ولولا المعطف الطويل المزرّر بأحكام، لبدا كرش جاسم يفوق في تكوره بطن زوجته الحامل) ، لاحظوا أن الكاتب يتحدث عن مشهد لعراقي يرتدي معطفاً مزرّراً بأحكام في شهر تشرين أول (أكتوبر)، وهو الشهر المعتدل في بيئة مثل العراق، فلا هو بارد جداً يستحق ارتداء المعطف المزرّر بأحكام!، ولا هو بالحار جداً الذي يستحق التخفيف من الملابس، إن هذا المشهد يمكن أن يكون في باريس أو لندن أو برلين أو موسكو، ولكن قطعاً ليس في بغداد!
9ــ وجاء في الصفحة 221 من الرواية: (لقد قلب حياتي ذلك الشيخ زوجي، منذ اليوم الأول الذي أخذني فيه حتى ليلة وفاته، كنت زوجته الثالثة، في السادسة عشرة من عمري.. لقد أدهشتني حرارة روحه والتهاب جسده المثقل بسنواته الست والستين.) نجد في هذا المقطع من الرواية أن عمر زوج فتحية 66 سنة ، بينما في الصفحة 80 يذكر الكاتب: (إن الزوج يقترب من السبعين وقد سبق له أن زوّج أربع مرات وطلّق مرتين.)! وهذا يعني أن الكاتب وقع في خطأ تحديد عدد زوجات الزوج المتوفى.
10ــ ونقرأ في الصفحة 225 من الرواية نصاً غريباً لا يحدث في أيّة رواية عراقية أو عربية ولا حتى أجنبية، والنص عن مجلس الفاتحة بمناسبة وفاة والدة توفيق: (رأى – توفيق– قُبيل انتهاء العشاء، كاسب برهان الدين يقبل نحوه حاملاً بين ذراعه طفلاً وعلى فمه ابتسامة عريضة سعيدة يحاول إخفاءها عبثاً، كان ذلك الطفل الجميل سميّه توفيق بن أنوار، قبّله عديد القبل وخيّل إليه لحظة، أن فيه رائحة أمه، وأن نظراته الهادئة إليه تحمل لقلبه تحيات خفية من تلك المرأة الرائعة، التي لم يستطع رؤيتها، وأسعده أن يفكر بأنها أرسلت له ابنها الوسيم لتذكره بعلاقتهما السرية.)! ..
كان هذا المشهد في بداية سنة 1979 ، وربما لا تعرفون كم هو عمر (الطفل توفيق) عند زيارته برفقة والده إلى بغداد، كان عمره عدة أشهر وفي أحسن الأحوال لا يتعدى سنة، فهل من الواقعية المحلية في مجتمعنا العراقي أو أي مجتمع عربي أن ترسل الأم طفلها الذي لا يتجاوز عمره السنة الواحدة من مدينته (خانقين) إلى مدينة أخرى (بغداد) لكي يراه عشيقها لأنه يحمل اسمه؟ .. ولكَ أن تتخيل عزيزي القارئ المشهد وتحكم بنفسك. إن زيارة والد الطفل إلى بغداد ليست لنزهة أو ترفيه أو سياحة، وإنما جاء لحضور الفاتحة المقامة لوفاة والدة توفيق (عشيق أنوار أم الطفل الصغير توفيق) ، ألا يعد هذا المشهد تكلّفاً من جهة، واستخفافاً من جهة أخرى على الواقعية المحلية ليس له أي مبرر إطلاقاً؟. كان الأولى بالكاتب أن يستدعي مشهداً أكثر واقعية، كأن تكون الأم (أنوار) وزوجها وطفلها في بغداد لحضور العزاء، أو عدم وجود الطفل في هذا المشهد أصلاً، وليس استغفال القارئ بمشهد لا يحدث ولا بالأحلام!
11ــ في الصفحة 245 من الرواية وما بعدها، المشهد بعد منتصف الليل حيث (كاسب برهان الدين) حفيد سمر الدين عم توفيق، موقوف في مركز شرطة البتّاوين، وتوفيق يدخل على محمود معاون الشرطة لغرض التوسط بإطلاق سراح كاسب، والمعاون يلتقي بقاضي التحقيق ليتوسط بإطلاق سراح كاسب، والقاضي يوافق على ذلك، وتوفيق يحرّر كفالة إطلاق السراح، ويكتمل إطلاق سراح كاسب، ويغادران مركز الشرطة عند الساعة الثانية والنصف فجراً، كل تلك الإجراءات تحدث في ساعتين ونصف فقط بعد منصف الليل!!
ونحن نعلم أن إجراءات إطلاق السراح لا تكتمل بهذه الطريقة المتسرعة جداً التي اختصرها الكاتب بساعتين ونصف، ومنها مقابلة قاضي التحقيق بعد منتصف الليل، وتنظيم الكفالة لا يتم ليلاً، كما نعلم (الكافل) في العراق يجب أن يكون موظفاً، فكيف قام توفيق بكفالة حفيد عمه وهو مفصول من الوظيفة بسبب شجاره مع أحد الموظفين المتنفذّين (بحسب الرواية ص185)
12ــ وجاء في الصفحة 260 من الرواية: (كانت في غرفتها ووالداها يعملان في المطبخ بضجة مفتعلة وأحاديثهما لا تنقطع، طرق عليها الباب، كانت متزينة ممشطة الشعر، ترتدي فستاناً أسود تزينه نقوش ذهبية حوالي الصدر، يهصرها هصراً .. أمسكها من خصرها، قبلها في خدّيها، ومن أذنها ورقبتها وشمّ عطرها) ، هذا المشهد تكرر عشرات المرات بين توفيق وفتحية في بيت أهلها أو في شقته التي هي جزء من بيت أهل فتحية، وفي هذه المشاهد نجد توفيق وفتحية يتصرفان بحرية منفلتة على مسمع ومرأى من والديْ فتحية، بل وصل الانفلات عندهما وهما يشربان البيرة ليلة رأس السنة في مجلس يضمهما ووالداها أيضاً وصبي صغير اسمه حسن حشره الكاتب في المشهد من دون مسوّغ (الصفحة 276) ، بل وصل الحال بفتحية أن تنام في غرفته ليلاً حتى في غيابه (الصفحة 335) وتخزن في بيتها قناني البيرة لوقت الحاجة من أجل توفيق (الصفحة 339) ومن دون شك أن مثل هذه التصرفات من الطرفين مخالفة جداً للواقعية المحلية في بلدنا، بل مخالفة أيضاً لمعظم البلدان العربية والشرقية .. والمفارقة الأخرى، وجدنا الفتى غسان وهو في طور الشباب بدا متفهما لحال المجتمع وتقاليده في مجال علاقات الرجال بالنساء، فنجده يتكلم بواقعية أكثر من توفيق الذي يكبره بخمس وعشرين سنة عندما سأله توفيق عن علاقاته النسائية، فأجاب: (لا علاقات عندي، هل تظن مجتمعاً كهذا يسمح بعلاقات مع النساء؟) ص342
13ــ جاء في ص349 من الرواية على لسان توفيق: (جلست فتحية في المارسيدس قرب غسان.. بينما ارتحت أنا في جلستي على أحمد المقاعد الخلفية) ، مشهد آخر بعيد عن الواقعية المحلية، ففي مجتمع مثل مجتمعنا العراقي وفي بداية الثمانينيات لا تجلس المرأة في المقعد الأمامي للسيارة إذا كان السائق غريباً عنها، فما بالك ويوجد في السيارة من هو أكبر منهما (من فتحية وغسان) وهو توفيق الذي أجلسه الكاتب في المقعد الخلفي من دون مسوّغ أو مبرر يدعو لذلك.
14ــ أظهرت الرواية (فتحية) بصورة الفتاة المتحررة جداً حتى وهي في بيت أهلها، فلا تقف بوجهها أية قيود، ولا وجود لأي خطوط حمراء عندها، فجاء في ص363 وما بعدها من الرواية في مشهد جلسة ضمت توفيق وغسان وفتحية في بيت أهل فتحية، في الجلسة كان الشراب المسكر حاضراً كالمعتاد في مشاهد الرواية، وتوفيق هو السارد لهذا المشهد: (ومع كؤوس البيرة المثلجة التي حمل منها غسان معه قناني عدّة، واشتركنا جميعاً بشربها .. كان والد فتحية جالساً كالقنفذ على الأريكة، يشرب بحذر ولا ينبس ببنت شفة .. ورفع كأسه – غسان– فتبعته فتحية، وشربا كأسيهما حتى الثمالة .. أشرتُ إلى فتحية أن تأخذه إلى غرفتي، لكنها أمسكت بذراعه وسحبته بلطف إلى غرفتها)! ، هل من الواقعية في مجتمع كالمجتمع العراقي أن تضم جلسة ما الأب وابنته مع اثنين من الغرباء في بيت الأب ويشربون هكذا بكل بساطة وانفتاح وكأنهم في باريس أو لندن؟ بصراحة هذا ما لم أقرأه في أية رواية عراقية أو عربية، إلا في رواية التكرلي هذه!
وهكذا نجد التكرلي يقفز كثيراً على الواقعية المحلية في بيئة مثل العراق، فحتى بائعة الهوى لا تشرب المسكر في بيتها بوجود والديها بهذه الطريقة الساذجة التي صورها التكرلي في روايته، ولا تسمح لغريب أن يدخل غرفتها بهذه البساطة، فيما بدا والديْ فتحية كما يقول المثل الشعبي (كالأطرش بالزفة)! فهما يغضّان الطرف عما تفعله ابنتهما في البيت وكأنها في ملهى أو بار، فبعد توفيق ومطارحاته الغرامية مع فتحية جاء دور غسان معها وفي غرفتها وفي بيت أهلها ليقضي يوم وليلة في غرفتها من دون حسيب ولا رقيب (سافر إلى المعسكر عند الفجر كما قالت، بعد أن قضى مساء الجمعة وليلة السبت معها) ص375 ، ولا ننسى أن أبي فتحية وعائلته (كما في الرواية) جاءوا من الصويرة إلى بغداد عام 1959 ، بمعنى أن لهم امتدادهم الريفي والعشائري الذي لا ينبغي تجاوزه بهذه السذاجة وهذا الاستسهال الذي بدا فيه الكاتب كأنه يستغفل القارئ، واستدعي هنا مقولة مهمة لأحد أدبائنا الكبار: (نحن نريد أدباً قومياً مطبوعاً بطابع شعبنا الخاص لا أدباً مزيّفاً غريباً عنا)[6]
15ــ تطرقت الرواية إلى اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980، وكان توفيق حينئذ في عمر 48 سنة لأنه من مواليد 1932 كما جاء في الرواية، وكلنا نعلم أن النظام في ذلك الوقت طلب مواليد الاحتياط للالتحاق بالجيش والمشاركة بالحرب، أو الالتحاق بتشكيلات ما يسمى بـ(الجيش الشعبي) ، ولكن الكاتب تجاهل هذا الأمر بالنسبة لبطل الرواية توفيق من دون ذكر أي سبب مقنع وكأنه يعيش في عالم آخر!
16ــ جاء في الصفحة 433 من الرواية على لسان توفيق: (كان الجو بارداً بعد المطرة الخفيفة، والساعة في المقهى الصغير تشير إلى السابعة والنصف، جلستُ وطلبت شاياً، كنتُ الوحيد في المقهى، وكان صاحبه متجهم الوجه، يقوم بأشغاله في خدمة الزبائن.)
إذا كان توفيق هو (الوحيد في المقهى) فما معنى (خدمة الزبائن)؟! ، وإذا كان في المقهى (زبائن) فما معنى (الوحيد في المقهى)؟! .
17ــ لم يقنعنا الكاتب عن سبب إهماله لبقية أحفاد عبد المولى الذين ذكر عددهم في بداية روايته: (وكان عدد أطفال العائلة قد بلغ ستة وثلاثين طفلاً، عشرين ذكراً وست عشرة أنثى.) ص8 ، وبمرور السنين ازداد عدد هؤلاء طبعاً مع زوجاتهم وشكلوا عشيرة، ولكننا لم نجد لهؤلاء طيلة زمن الرواية أي دور يذكر لهم، فقط كان الحديث عن توفيق بطل الرواية وشقيقه عبد الباري وهما ولدي سور الدين، بالإضافة إلى ممتاز حفيد منصف الدين، وكاسب حفيد سمر الدين.
18ــ لم يقنعنا الكاتب عن سبب عدم زيادة راتب توفيق رغم مرور 14 سنة على تعيينه، ورغم ترفّعه إلى منصب مدير قسم كما جاء في الصفحة 92 من الرواية: (ترفّع توفيق وظيفياً في مايس 1968 فصار مديراً لقسم التحرير في الوزارة، غير أنه لم ينتقل من غرفته، بل غيروا القطعة الخشبية الملصقة جنب الباب فقط، كما لم يزدد راتبه.)، من البديهيات في قانون العمل الوظيفي أن الموظف الذي يصل إلى مرتبة مدير قسم في أي دائرة وبعد 14 سنة من الخدمة الوظيفية سيزداد ويتضاعف راتبه قطعاً، شاء الكاتب أم لم يشأ.
19ــ لم يقنعنا الكاتب عن سبب تغيّر معاملة والدة توفيق له، فبعد أن كان مدللاً عندها وتدفع له شهرياً عشرين ديناراً إضافة لتسديد حاجاته المادية الأخرى (كما جاء في ص32) ولم تنقطع هذه المعونة حتى بعد أن أصبح موظفاً يتقاضى راتباً شهرياً، وإذا بها تعامله بجفاء ولا مبالاة، وتُؤثر عليه شقيقه الآخر (عبد الباري) ، حتى دخل الشك قلبه بأن لا يكون هو ولدها: (سألتها بهدوء مبالغ فيه، هل تعتقد بأني لستُ ابنها؟ بهتت ونظرت إليّ لأول مرة، فأعدتُ عليها السؤال مضيفاً بأن تصرفاتها اللامعقولة توحي بأنها تعتقد هذا الاعتقاد الشاذ.) ص114
20ــ لم يقنعنا الكاتب عن سبب تحيّز عمّة والدته في حبها له من دون باقي أفراد العائلة، وأنها (قد تركت له حين وفاتها ميراثاً مقداره ثلاثة آلاف دينار.) ص96
21ــ لم يقنعنا الكاتب عن سبب ميله الواضح لانقلاب 8/شباط/1963 وتسميته بالثورة: (نجحت الثورة ضد عبد الكريم قاسم نجاحاً ساحقاً وجرى إعدامه وترأس عبد السلام عارف جمهورية العراق.) ص71 .. ربما هو الغزل السياسي من الكاتب للنظام السابق، علماً أن شخصيات الرواية الرئيسة والثانوية لا علاقة لها بالشأن السياسي، ولم يكن لهم أي نشاط حزبي أو سياسي كما بدا ذلك من مجمل الرواية.
22ــ لم يقنعنا الكاتب عن سبب اعتقال ووفاة سليم مروان زوج (آديل) عشيقة توفيق في التحقيق بعد أحداث 8/شباط/1963 حيث لم يكن له اتجاه سياسي معيّن يستوجب اعتقاله: (ولم ينته تشرين الثاني حتى تيقنت آديل من وفاة زوجها سليم مروان أثناء وجوده في السجن للتحقيق) ص73
هذه أهم الملاحظات التي سجلناها على رواية (المسرّات والأوجاع) لفؤاد التكرلي، والتي لم يلتفت لها من سبقنا بنقدها، أو ربما التفتوا لها وغضوا النظر عنها! ، ولاحظنا كيف تجاوز فيها الكاتب عن الواقعية المحلية التي زعم أنه يمثلها في كتاباته، والتي بدت برأيي كأنه استغفال من الكاتب للقارئ العراقي وعدم احترام لذائقته من جهة، وتغريب النص من حيث ابتعاده عن البيئة المحلية، كما أن الرواية بشكل عام ذات عنصر درامي باهت وغير واضح المعالم، وفيها الكثير من الأحداث المفتعلة والتفصيلات الزائدة والمكررة التي شوهت هيكل الرواية.
ولا يسعني إلا أن أختم مقالتي بما قاله سابقاً أستاذنا الناقد علي جواد الطاهر رحمه الله: (إن التكرلي أديب شاعر قصاص فنان، ولكنه يستوحي أحداثه وشخوصه وأفكاره من زاوية واحدة، وجانب واحد، وميدان واحد ضيق لا يمكن أن يكون صورة للعراق ولا للشعب العراقي في أي من عهوده .. وهو يبتعد عن طبيعة الفرد العراقي وعن حقيقة البيئة العراقية، إن الشخوص ليبدون أحياناً أجانب مُنحوا الجنسية العراقية والبسوا الزي العراقي.)![7]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات:
1ــ ناطق خلوصي، كتاب (فضاءات السرد الروائي العراقي)
2ــ من حوار مع فؤاد التكرلي منشور على موقع الحوار المتمدن.
3ــ ناطق خلوصي، كتاب (فضاءات السرد الروائي العراقي) ص187
4ــ د. علي جواد الطاهر، كتاب (في القصص العراقي المعاصر) ص20 – 21
5ــ عبدالله نيازي، قراءات نقدية ومقالات أخرى، ص69. دار الشؤون الثقافية، بغداد – 2001.
6ــ الكلمة للأديب محمود أحمد السيد، نقلها الناقد عبد الإله أحمد في كتابه (في الأدب القصصي ونقده) ص26.
7ــ د. علي جواد الطاهر (في القصص العراقي المعاصر .. نقد ومختارات) ص30 ، بيروت – 1965.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الله الميالي
ــ قاص وروائي وباحث / النجف الأشرف/ العراق
ــ نشر قصصه ومقالاته وبحوثه في العشرات من الصحف والمجلات العراقية والعربية, وفي العديد من المواقع الإلكترونية.
من مؤلفاته المطبوعة:
1ــ (رصاص القلم) قصص قصيرة جداً، دار أمل الجديدة، دمشق – سنة 2017.
2ــ (شيزوفرينيا) قصص قصيرة، دار أمل الجديدة، دمشق – 2018.
3ــ (الموروث الشعبي العراقي في ثُلاثية "محطات" للروائي حميد الحريزي) دراسة أدبية، مطبعة حوض الفرات، النجف الأشرف – 2020.
4ــ (العروج الدامي) رواية، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد ــ 2021.
5ــ (النجف والكوفة في حركة الإمام المهدي) مطبعة الغدير، النجف – 2020.
6ــ (أراني أعصرُ حِبرًا) قصص قصيرة جداً، دار أمارجي للطباعة والنشر والتوزيع، العراق – 2023.
ـــ له مؤلفات مخطوطة بانتظار الطبع.
ـــ شارك في ثلاثين كتاباً عراقياً وعربياً في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والمقالة والنقد.
ــ نال المراكز الثلاث الأولى في القصة القصيرة والقصيرة جداً والمسرحية والرواية والمقال والبحث من خلال مشاركته في المسابقات الأدبية المتعددة.
ــ نال المركز الثالث في جائزة دمشق بدورتها الثالثة في عام 2023 لأفضل مجموعة قصص قصيرة جداً في الوطن العربي عن مجموعته (أراني أعصرُ حِبرًا)