«إنّ الرّجال الذين العرفُ عيّنهمْ / هُمُ الإناثُ وهُم نفسي وهُم أَملي»
ابن عربي
«Une tragédie n'a pas besoin de finir tragiquement pour être tragique. Seul importe un traitement sérieux
Ulrich von Wilamowitz-Moellendorff
برولـــــــــوغ:
قد نحتاج أحيانا إلى وجود كائن عرفاني.
أو نحتاج دائما كائنا إلهيا (un devin) بلغة التراجيديا يمتلك الحقيقة ويخفيها أو يذيعها فيكون منذورا للعقاب، كائن يرى، من وراء الأشياء والحجب، الأسرار عارية قبل نشوء العراء المحض نفسه. كم نحن في حاجة إلى تريسياس Tirésias العليم كما في الأسطورة يعرف كل شيء عن الأنوثة والذكورة في بدايتها الأركاييكية، بل يعرف التحول من الأنوثة إلى الذكورة ومن الذكورة إلى الأنوثة، لحظة التكشّف دون قصد على الربّة أثينا بلاس Athéna Pallas وهي في كامل عُرْيها تستحم عند النبع في بركتها فتُعاقبه بالعمى ذودا عن أسرارها وخجلها العذري، لكنها بالمقابل تمنحه الحكمة والقدرة على التنبؤ بالحوادث والقراءة في صحف الغيب وطول العمر وفقه لغة الطير، وتمنحه تلك العصا الهرمسية التي تتسلقها ثعابين الفارماكون وفي الفارماكون يتجاور السّم والترياق كالبرزخ عند بناء الحقيقة بلا نسبية ولا ضفاف.
ها نحن مرة أخرى بعد "مارتير" متكئين على الجدار القرمزي في الصف الأخير لقاعة الفن الرابع يحرّضنا العمل المسرحي الأخير «آخر البحر» للمخرج المؤلف الفاضل الجعايبي على خوض غمار نقاش ممكن محاصرين بين خلفيتين: جدار الإتكاء القرمزي الذي يكاد يتحول إلى صفحة بحر خمري، كما البحر ديونيزي الذي تراه ماريا داراكي Maria Daraki والذي يبدو أن صاحبه قد تحول إلى "سيد العنصر السائل" (Kyrios très hygras physeos) وجدار المواجهة القائم كشاشة خلفية لمشهد بحري لا تنقطع أمواجه عن الحراك.
من ذا الذي رمى بك إلى هذه الضفاف؟
ليس للمخرج المؤلف الفاضل الجعايبي في تقاليده، أو في مسيرته المسرحية الطويلة ما يدل على أنه مهتم بتناول ما نسميه بالريبرتوار المسرحي العالمي. قبل هذا العمل المسرحي الجديد "آخر البحر". لقد سبق له وأن ردّد في العديد من المرّات -بحكم معرفتنا النسبية به-أنه كانت تراوده الرغبة الشديدة في تناول رائعة شكسبير "الملك لير" بالإخراج، وهو ما لم يتحقق عنده إلى اليوم. لكن عودته اليوم للمدونة التراجيدية الإغريقية من خلاله تناوله لتراجيديا «ميديا» اليوريبيدية اقتباسا وإعدادا دراماتورجيا تعد من باب الانعطاف المفاجئ لمسار هذه التجربة التي كادت تنحصر في تناول الراهن الاجتماعي التونسي بكل مزالقه اليومية وراهنيته الواقعية وميثولوجيتها الحديثة. وهذا الانعطاف المفاجئ والناشز عن تقاليد المسيرة الجعائبية لا يخلو من غواية لا بالنسبة للمخرج المؤلف فحسب بل للمتلقي الذي استأنس -رُبّما إلى حدّ التعوّد أو رُبّما الملل وانقشاع أفق الانتظار-من طغيانية هذا الاهتمام باليومي عبر مساءلة بُنى المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي يتحرّك ضمنها وفيها ذاك الكائن العزيز على نفسه، والمنتسب إليه والذي يُسمّيه بـ "الكائن التونسي" (l’homo tunisianus).
الثابت أن مسرح فاضل الجعايبي قد ساهم مساهمة عضوية في بناء الوعي عند الجمهور المسرحي وعلى مدى أجيال متواترة، ونجح في إثارة نقاش مستمر ومتقطع في ذات الوقت في دوائر النّخب التونسية حول تقاطعات الفن المسرحي بالشأن العمومي؛ مستحوذا ومُشغّلا بشكل لافت مقولة "مسرح نخبوي للجميع" ربما بلا خلفيات أيديولوجية(1) في ظل غياب شبه كامل لالتزام غالبية المشتغلين في الحقل المسرحي التونسي بقضايا المجتمع والشواغل التي تخص الفضاء العام باستثناء زمرة قليلة منهم.
كما نجح وبشكل لا يدعو إلى الشك في نحت أسلوب مسرحي خاص به يُتبيّن للوهلة الأولى في مجمل أعماله كخيط سري دقيق، يلمحه العارف بمساره الإبداعي متابعة وكتابة نقدية. فالجعايبي كمؤلف لم يحد طوال مسيرته تلك لحظة عن التوغل في مسار صلد حفرا ونحتا لا يكل بالأزاميل التقنية للصّنعة المكتسبة كمهارة تارة، وبالأظافر طورا آخرا في اجتراح شعرية خاصة به لا تخطئها العين البصيرة. وفي ذلك علامة بيّنة على أن الرّجل ليس مُجرّد صانع فرجة ظرفية عابرة، أو هو يقيم ممارسته المسرحية على المتاح المرتجل، أو على التنازل على ما يشكله "المعنى العام" (le sens commun) من ذوقية ثقافية جاهزة أو موضة طارئة أو استجابة لطلبية ما خارجة عن اهتمامه وقناعاته. بل أن مسيرته تلك لا تتجلى إلا ضمن مشروع مسرحي ورؤية للعالم مُحتكمة بدورها لوعيه القائم والحذر الذي ضَمِنَ له الاستمرارية ومكّنه من تشييد عالمه المسرحي الذي شُيّد بالمراكمة والاجتهاد والنفس الطويل حتى كاد أن يتحوّل إلى نوع من "الساغرادا فاميليا" (Sagrada Família) أو "المؤسسة" المسرحية. و"المَعْلَم" الإبداعي الذي لا يمكن تجاهل حضوره الآسر على امتداد ما يقارب النصف قرن لا في السّياق التونسي فحسب بل في السّياق العربي.
غير أن هذا الانزياح أو الانعطاف الطارئ الذي أشرنا إليه في مسيرته والذي تمثله مسرحية «آخر البحر» الملتفت للأصول التراجيدية الموغلة في القدم يمكن أن يُقرأ على أساس أنه استبطان وتجاوز لأزمة في النظام الجعائبي نفسه -ونكاد أقول أزمة الترهل- والذي لمسناه في عمله السابق "مارتير"، الذي عبّر حسب رأينا عن تآكل تلك "الماكينة الجعائبية"، واهتراء ميكانيزماتها من كثرة الاستعمال دون صيانة في التناول، والمقاربة المسرحية عنده حتى كدنا نسلم بانتكاس تلك المسيرة الإبداعية الطويلة (2).
الثابت أن الجعايبي كان في حاجة ماسة إلى وجهة أخرى أكثر هدوء أو عصفا، يجدّد من خلالها نفسه ربما على ضفاف شاطئ ناء ومهجور. وربما كانت التراجيديا الإغريقية بطعم هذا الماء والملح والهواء العاطن برائحة الطحالب الذي يغوي بالترحال والإبحار إلى الأصول حيث تتكثّف فكرة المغامرة البحرية سواء في مثال الأوديسة أو في سردية الأرغونوت Les Argonautes. الثابت. أن التوجه لمواجهة العنصر المائي يُوحي بأن التجربة الجعائبية قد أغلقت في مسارها دائرة منتهية، وأن هذا العنصر المائي بدأ مُلحا هذه المرّة فاتحا بقوّة دائرة جديدة تعبر بشكل ما عن هذا الانعطاف الجديد الذي أشرنا إليه. الثابت أيضا أن الجعايبي كائن أوتوكتوني ترابي وعمراني بامتياز، إذ كل جغرافية أعماله لا تكاد تخرج من فضاء المدينة الحاضرة بعراقتها وحداثتها. ولا تكاد هذه الأعمال أيضا تخرج من جدران العائلة والمؤسسة الاجتماعية أو الرسمية ومن خندق ما يُسمّيه الجعايبي نفسه بـ "الميثولوجيا اليومية" استلافا من فكرة أسطرة الحياة اليومية (la mythologie quotidienne)عند هنري لوفافر Henri Lefebvre ومفاهيم الميثولوجيا الحديثة عند رولان بارط Roland Barthes .
فضاءات مسرح الجعايبي ميالة للانغلاق على نفسها كدلالة خفيّة على التنديد بسلطة الحدود الضيّقة التي تفرضها طغيانية المؤسسات التي يباشرها بالتفكيك. ويبدو أنه مع هذا العمل المسرحي الجديد «آخر البحر» المتكئ على خلفية التراجيديا اليوريبيدية يحاول الخروج إلى حين من أطر هذه الفضاءات الضيّقة إلى أفق أرحب هو أفق المغامرة البحرية بكل هَوْلِها ورَوْعِها وزخمها. وهذا لا يعني أن الجعايبي لم يحلم بأفق البحر كوجهة دلالية ممكنة تحرض على الانعتاق من طغيانية الفضاءات المغلقة، فقد كانت تُراوده الرغبة في هذا الاتجاه المُشْرَعِ على أفق مفتوح حين فكّر مرّة مع جليلة بكار تناول النص الروائي لمارغريت دوراسMarguerite Duras سد في مواجهة المحيط الهادي (Un barrage contre le Pacifique) قبل أن يغيّر وجهته في عمله "جنون" إلى اعتماد مذكرات ناجية الزّمني. ودون ذلك لم يرد البحر وماءه وموجه العاتي إلا في باب الاستعارة (عن الثورة التونسية 14 جانفي) حين عنون أحد أعماله المسرحية باسم «تسونامي» أو تلميحا قديما لصوت النوارس في «غسالة النوادر».
هذا الانعطاف الجديد نحو عنصر الماء كما يتجلى في مسرحية «آخر البحر» والذي يؤكد على حضوره بقوّة المخرج طوال العرض بحضور تلك الشاشة الدائم الباثّة لصورة الأمواج البحرية المتلاطمة طوال مدة العرض وكأننا أمام مرآة مائية، لا نجد له من مبرّر موضوعي حقيقي إلا في ذلك التأويل الباطني المُمْكن في لاوعي الجعايبي، إذا نحن أخضعناه للتحليل النفسي ألا وهو لذة وألم الحنين إلى الأصول، الحنين إلى عودة الكائن في مسار ما من حياته إلى أمواهِ الرّحم الأمومي الأول، الذي يشكل نوعا من الفردوس البدئي، وهو حنين لا يمكن حسب رأينا إلا أن يكون حنينا هوويا يتجاوز الرغبة الليبيدية الأوديبية إلى الأم كلغة قادرة على الاحتضان أو كلغة فردوسية هي بمثابة الملاذ. ولا ندري إذا كان هذا الحنين إلى أمواه الرحم الأمومي مشوب برهاب العودة إلى الحضن الأمومي (L’angoisse du retour au sein maternel) إذا ما اعتبرنا هذا الحنين حسب جاك لاكان نوعا من الرُّهاب المتأتي من خشية ابتلاع الذات من طرف الصورة في المرآة(3) وعلى هذا الأساس يكاد البحر في هذا السّياق أن يكون هذه المرآة المرأة/ الأم المهدّدة.
إن الرّغبة للعودة إلى الأصول وغواية العنصر المائي واستبطان المرآة النرجسية المهددة بالابتلاع وخاصّة الالتفات المفاجئ للميثولوجيا الإغريقية وتحديدا إلى سردية «ميديا» اليوريبيدية لتدفعا إلى درب الحديث على أنه بين المخرج المؤلف بالذات تكمن علاقة غامضة خاصة. وأن الجعايبي سبق له وأن أخرج هذه المسرحية في إحدى المسارح الفرنسية عام 2010 عن كتابة لجليلة بكار. وهو ذا يعود إليها مرّة أخرى، فهل ثمة فعلا علاقة غامضة؟
في متلازمة ميديا
في عرض البحر المتلاطم للميثولوجيا وللتراجيديا الإغريقية شكلت «ميديا» بالنسبة للمسرحيين طوال قرون صخرة صلدة من الفتنة الآسرة التي تجر إليها الشعراء المسرحيين (خاصة الذكور منهم) لفهم الفعل "الشنيع" الذي أقدمت عليه والذي يشكل "عقدة المنشار" لهذه الغواية نفسها التي تمارسها ميديا على هؤلاء الشعراء والتي خلخلت من خلالها مفهوم الفعل التراجيدي المنتسب دائما للبطل الذكوري. بل أن الأمر تجاوز الغواية الشعرية إلى ما هو أبعد حين عادت «ميديا» في الزمن الحديث على يد المشتغلين في حقل علم النفس والتحليل النفسي والطب النفسي في ربط جملة من العوارض المرضية، ونسبها للنموذج ميديا. نعتقد أن هذه الغواية التي تمارسها ميديا على المبدعين الذكور منذ رائعة المخرج السينمائي والمسرحي بازوليني تكاد تشكل عند البعض نوعا من الفونتازم المتكوكب حول تلك الجملة الشهيرة التي كتبها سينيكا Sénèque في ميدياه حين قال: "أنا الآن ميديا" (Medea nunc sum)، والتي تعلن بشكل مربك ميلاد النموذج الجديد من البطل التراجيدي الأنثوي الكاسر إلى كل صورة سابقة أو لاحقة للمرأة التي تحاول الأعراف والقوانين الإلهية رسم مجال أفعالها واندفاعاتها وحضورها في دوائر المقدس والدنيوي.
ويبدو كأننا أمام أن هذا الشغف اللامنقطع عند الشعراء المسرحيين الذكور، نجد أنفسنا أمام ما يشبه "متلازمة ميديا" (Syndrome de Media) أو على الأقل أمام نداء متلازمة ميديا يعترض كبار المبدعين (من يوريبيدس إلى هاينر موللر Heiner Muller مرورا بــ غريلبارزر Grillparzer، وآنوي Anouilh وداريو فو Dario Fo دون نسيان بازولينيPasolini ولارس فون ترايرLars Von Trier) كما تعترض أصوات الحوريات في التغريبة الأوديسية. لعلها الرغبة الجارفة أن تُحوّل ذوات هؤلاء المشتبكين مع ميديا إلى معانقة هذا النموذج الأرخيتيــبــــي والذوبان فيه والالتباس به. وضمن هذه الغواية الآسرة التي تمارسها ميديا أذكر أن المخرج الكويتي سليمان البسام كان يقول كل مرّة على الخشبة في مسرحية "آي ميديا" على لسان شخصية المؤلف المسرحي المعطوب من زيجة فاشلة ومن عدم إنجاح الحداد على علاقته العاطفية مع طليقته (ميديا) أنه تمنى أن يكون ميديا أو أن يمثل دور ميديا، ميديا ذاتها، ميديا يوريبيدس حين شاهدها أول مرة في الرائعة السينمائية لبازوليني.
وإذا كان "سندروم ميديا" يعني في جملة ما يعنيه في الطب النفسي أسلوبا في التحرش السادي يمارسه أحد من الأزواج تجاه القرين الزوجي الآخر، قصد معاقبته ومنعه من حقه في التواصل مع أطفاله(4)، فإنه في مجال الإبداع يرتسم هذا التحرش السادي في منطقة سوداء كثيفة الظلال لا نعرف ضحاياه، فهل هم هؤلاء المبدعون أنفسهم، وهم يكشفون عن بواطن لا وعيهم العاطفي، أم هم مندفعون لا إراديا بإعادة صياغة هوية غيرية لذواتهم تعويضا عن آلام جراح نرجسية، أم أن الأمر يعد صراحة إمكانية لاختراق النظام الحديدي للذهنيات العامة في رسم حدود الجندرية، ودون ذلك ما الذي يفسر كل هذا الشغف بميديا؟ في هذه الحالة من الرغبة أو الفونتازم في التحول من هوية الذكورة إلى الأنوثة رمزيا يحتاج المؤلف إلى نوع من التقنّع أو التنكر (un travestissement) الذي يجعله في مصاف المتنبئ الذي سُلّط عليه العقاب؛ تماما كما هو حال ترسياس في أوديب ملكا ينبت في صدره ثديان متهدلان كثدي السعلاة (الغولة)، تصوروا المؤلف وهو يمتلك ثديين شاحبين، ثديين كعلامة عقاب عن حنث بالقسم، أنها صورة تبعث على القلق والفزع.
"ميديا" ... شهوة، فونتازم، رهان قاتل، لعلها، منذ خمس وعشرين قرنا من حياة الإنسان المتحضر، هي التراجيديا الأكثر غواية وطغيانية في مخاطبة للبسيخي Psyché لا لأنها التراجيديا الأكثر دموية وقسوة وجنونا، بل لأنها التراجيديا التي أزاح من خلالها يوريبيدس مبكرا أكبر ثاني التابوهات البشرية، وهو الرغبة في قتل الأبناء. بعد أن أزاح سوفوكليس في أوديب ملكا أولى تابوهات زنا المحارم وقتل الآباء. لا يستوي التابو إلا بشرط الرغبة المنتصرة على قمع الرغبة، ولا تستوى الرغبة إلا في الاعتقاد بأن الإنسان لا خلاص له إلا بالتخلص من قرين الإثم، والشعور بالذنب والخطيئة الأولى، عبر بناء وعي الحرية، الحرية المطلقة اللا متجزئة. هذا ما فتحته «ميديا» بشكل متوحش دفعة واحدة، وبعنف لا يحتمله العقل المتحضر.
إن غواية "ميديا" التراجيديا الذي تمارسه علينا إلى اليوم كامنة في اختراق الشعور بالعار في مجتمعات العار؛ واختراق الحرام في مجتمعات الشعور بالإثم. وغوايتها أيضا أنها ناهضة إلى اليوم كأمثولة متكررة، تدعو فيما بعد مجتمعات الوثنية، وفيما بعد مجتمعات التوحيد الإعجازي، إلى وضع حد للتناسل البشري.
تراجيديا يوريبيدس أم فاجعة الجعايبي؟
وأنا أسند ظهري للحائط القرمزي في قاعة الفن الرابع لمشاهدة مسرحية "آخر البحر" وأتأمل الخشبة العارية قبل انطلاق العرض استغرقني التفكير في عنوان المسرحية المكتوب على معلقة المسرحية. وانتبهت إلى أن العنوان الفرعي الملحق يقول «عن ميديا: فاجعة أوريبيداس، القرن الخامس قبل الميلاد». وفهمت من ذلك أن مسرحية "آخر البحر" هي اقتباس عن التراجيديا الشهيرة للشاعر الإغريقي يوريبيديس، وأن العنعنة (عن) الواردة في العنوان الفرعي تعني بإن المسرحية هي إقامة سردية جديدة للسردية اليوريبيدية بكل ما تحمله هذه العنعنة من تصرف وتحويل وجهة وتركيب وإضافة وإعادة كتابة أي كل ما تحويه العملية الدراماتورجية من تصرف حر وابتداع تجاه النموذج الأول الذي يظل خلفية ومنطلقا أن لم يكن مجرد تعلة.
ولأن الجعايبي لا يترك الأشياء اعتباطية مهما صغرت أهميتها –وهذه إحدى ميزاته -فكأن عنوان المسرحية يقول في المعلقة السوداء الخالية من كل صورة والمكتوبة بخط أزرق إنها "ميديا" القادمة من القرن الخامس قبل الميلاد كموجة محتضرة قادمة من بعيد من آخر البحر، تماما كما يصل ضوء النجم إلى أبصارنا وقد وصلنا بعد سنوات ضوئية من أفوله في السديم. والمثير للانتباه أيضا أنه تم إبدال عبارة "تراجيديا" والتي تعني الجنسي الدرامي النبيل في الشعر الإغريقي إلى عبارة "فاجعة"، والحال أن عبارة "تراجيديا" هي عبارة متأصلة في اجتهاد الترجمان العربي القديم الذي حافظ على العبارة كما هي في اللغة الإغريقية القديمة "طاراغوذيا" حين حاول ترجمة كتاب البيوطيقا (فن الشعر) لأرسطو، وأن عبارة "تراجيديا" التي نستعملها اليوم هي على قياس ما يستعمل في اللاتينية والجرمانية.
و لا ندري من أين أتى الجعايبي بعبارة "فاجعة" التي لا تضاهي لا في الدلالة و لا في السياق المسرحي ما تعنيه عبارة "التراجيديا" نفسها، ذلك أن عبارة "فاجعة" والتي استعملها بعض المشارقة في ترجمة التراجيديا لا نظنها توفي بالغرض، كما أن هذه العبارة "فاجعة" في حد ذاتها لا تفي بالغرض لحدود دلالتها التي لا تتجاوز عتبة التوجع والتضوّر للرّزية أو المُصيبة، إذ الفاجعة مفرد للفواجع وهي "المصائب المؤلمة التي تفجع الإنسان بما يعز عليه من مال أو حميم"(5) ، كما ورد ذلك في اللسان عند ابن منظور، ولا أظن أن تراجيديا يوريبيدس تنحصر في حدود هذا الدلالة التي تحدها عبارة "فاجعة"، ذلك أن التألم للرّزية أو المصيبة قد يكون أمرا غير محتمل، ولكن ليس بالضرورة تراجيديا.
وعليه لا نظن أن الجعايبي حين اختار هذه العبارة بالذات، أي "فاجعة"، كان اختيارا اعتباطيا إنه يضمر دلالة أخرى قد لا يوحي بها عنوان المسرحية في مجمله للوهلة الأولى، وظننا أنه يتقصّد ذلك كخلق مسافة ما من سطوة "ميديا" يوريبيديس من ضمن استراتيجية نوع من "التغريب الإستباقي" (Distanciation préventive) الذي يسمح له بالتصرف الدراماتورجي والقراءة الجديدة الممكنة لسردية "ميديا" من زاوية رؤى جديدة ممكنة، وبتزيل واختبار التراجيديا على محك الراهن المعاصر. وأمام هذا الاختيار الدلالي الذي يضمره المخرج المؤلف تجاه المنطلق اليوريبيدي فمن الواجب الاحتفاظ بأن قناعة ما حاصلة عنده في كون التراجيديا الإغريقية كما هي في المدونة الخاصة بها قد لا تفي -وإن كانت منطلقا على درجة كبيرة من الغواية والاستفزاز- بالقدرة على الحديث عن الراهن اليوم واستيعابه وإن تردّد عود الأرخيتيبي (l’archétypique) في مثال ميديا في حيوات المجتمعات المعاصرة، وإن تردد كذلك فعل قتل الأمهات للأبناء في كل الأزمان وفي كل الأمكنة. أو ربما كدافع للموت يُستهدف به "الرجل القديم" كما يشير إلى ذلك سارج لوكلار Serge Leclaire (6) أو كأمر محسوب على طيف الأمراض النفسية والتي حاول علم النفس محاصرتها وتفسيرها والطب النّفسي علاجها.
كما أنه من الواجب عمليا في سياق هذا المقال النظر في بنية ميتوس أو حكاية مسرحية "آخر البحر" باعتبارها سليلة بشكل غير مباشر لميتوس "ميديا" يوريبيدس. ولا يمكن إنجاز ذلك عمليا إلا بترصد المفاصل الكبرى للتراجيديا اليوريبيدية في مسرحية «آخر البحر» والوقوف على المنعرجات أو التمفصلات الجديدة التي أنجزنها العملية الدراماتورجية التي قادها الجعايبي مع فريقه. إن هذه العملية شبيهة بتسليك خيوط الذهب من كومة عوسج.
"ميديا" يوريبيدس، ميثوغرافيا مختزلة
من الواجب التذكير أن "ميديا " يوريبيدس هي خلاصة توليفية وليست اجتراحا ابداعيا من لدن الشاعر التراجيدي نفسه. وهو توليف متقن عند يوربييدس الذي وظف مهارته الديالكتيكية بحكم علاقته وتتلمذه المتين على يد سقراط في استيعاب وصهر المتناقضات في الآثار السّابقة له. فيوربيديس كما يشير إلى ذلك نيتشه "كائن نظري l’homme théorique بامتياز(7) يتعامل مع المادة المعروضة أمامه سواء ما سبق من تراث إغريقي أو فيما يخص أعمال زملاءه من الشعراء التراجيديين بعين الناقد العقلاني الذي يتقن الصهر والتركيب والتوليف بشكل احترافي، وكأنه بذلك – وهذا رأينا – يدشن بشكل مبكر العملية الدراماتورجية قبل أوانها وقبل نشوء ما يسميه برنار دورت بخصوص برتولد بريشت بـ "الذّهنية الدراماتورجية". ولا غرابة أن أرسطوفان الشاعر الكوميدي في مسرحيته الشهيرة "الضفادع" وفي سياق الموازنة بينه وبين اسخيلوس يصور بدقة على لسان يوريبيدس نفسه الطريقة المعيارية والعقلانية والإستلافية التي يؤلّفُ بها أعماله(8).
فمسرحية "ميديا" سابقة في الحقيقة لتراجيديا يوريبيدس، بل سابقة أصلا كما يشير إلى ذلك أنطونيو ميليرو Antonio Melero نشوء المسرح الإغريقي ذاته، كما أنها حاضرة في جميع أشكال الشعر المسرحي الإغريقي سواء في الكوميديا أو في الدراما الساطورية أو التراجيديا(9). والثابت أن "ميديا" يوريبيدس استفادت أيما استفادة عن طريق التناص من أعمال سابقة وعلى رأسها مسرحية "ميديا" للشاعر التراجيدي نيوفرون السيقيوني Néophron de Sicyone(10). وهذا يدل مرة أخرى على أن ميديا السردية هي مشاع أسطوري ثقيل ما فتئ الشعراء يستثمرونه على أوجه عدّة. وبقطع النظر عن التدبير التوليفي الذي قام به يوريبيدس في بناء تراجيدية "ميديا" انطلاقا من المواد السابقة التي استفاد منها وصهرها في عمله التراجيدي فإنه لا بد من الإشارة إلى أن ميديا الميثولوجيا تستغرق مدى جغرافية شاسعة تشكل في مجملها ما يسمى بـ ميثوغرافيا (Mythographie) ميديا، وهي كما يشير هنري زولمان Henri Sztulman تتوزع على خمس محطات أساسية تبدأ بمغامرة سرقة الجزة الذهبية، و تنتهي بتأسيس مملكة الميديين، مرورا بارتكاب ميديا قتل طفليها انتقاما من جازون ثم لجوئها إلى أثينا، وهذه المحطات على التوالي هي: محطة كولشيد Colchide ومحطة ثيسالي Thessalie ومحطة كورانثيا Corinthe ومحطة أثينا Athènes ثم محطة النفي والعودة إلى الموطن الأصلي كولشيد(11).
وكما هو جلي فإن هذه ميثوغرافيا التي تحتضن في طياتها سلسلة من الفظائع التي تقدم عليها ميديا هي في شكل دورة (cycle) أو كيكلوس (kyklos) بالمعنى الإغريقي التي تخضع له الملحمية والميثولوجية تبدأ من كولشيد الموطن ثم العودة إليه، وكأن تغريبه ميديا كلها هي عبارة عن فعل واحد هو "عودة الابن الضال" قبل ظهور مفهومه الإنجيلي. والجدير بالتذكير أن يوريبيديس فيما يمكن أن نسميه بدراماتورجيا ميديا قد لخص أهم أفعال هذه الميثوغرافيا في ضربة واحدة، أو في نزول سيل واحد من عل في تراجيديته الشهيرة مسلطا الضوء وبشكل استثنائي على فعل مركزي، هو ارتكاب الفعل الشنيع التي قامت بها ميديا تجاه جازون بقتل طفليهما وحرمانه انتقاما لنفسها منه ومن خيانته للقسم المقدس الذي كان بينهما.
واستطاع يوريبيديس ببراعة وسلاسة سرد كامل تلك الميثوغرافيا الشاسعة عبر الإحالات والتلميحات التي يثيرها هنا وهناك على ألسنة الجوقة أو المرضعة أو الحاكم، وحتى في الحوارات والحوارات الستيكوميسية القائمة في المدونة، سواء بين ميديا وجازون، أو بين ميديا وكريون أو بين ميديا وإيجي أو بين ميديا والرسول. وعملية الصهر الاختزالية تلك التي قام بها يوريبيديس جعلت من بنية تراجيديا ميديا قائمة على مبدأ الطلقة التي لا ترد، والقائم على القرار الفظيع الذي اتخذته ميديا في الانتقام من كل في حدود فضاء كورانثيا المعادي والذي يضيق عليها ويلفظها في ذات الوقت. إن مسار ميديا في تراجيديا يوريبيديس هو مسار تصاعدي لا يقاوم لامرأة قرّرت أن تسترد كرامتها بالمكر والدم.
دراماتورجيا «آخر البحر»، توليف التوليف:
ليس من السهل اليوم إعادة توليف على منوال التراجيديا الإغريقية على خلفية الراهن. فللتراجيديا حدودها ومنطقها الداخلي الذي لا يقبل أي اختراق. إنها ببساطة ليست بمنوال يحتذى، وليس النظام الذي أقره أرسطو في البيوطيقا للنفاذ إلى روح التراجيديا أو إعادة صناعتها بإمكانه أن يعين الدراماتورجيا اليوم بصفتها ممارسة إجرائية. على أن تشيّد "المعمار النبيل" للتراجيديا لأن هذه الأخيرة حوّلت نفسها وبحكم ما أحكمته من قوانين داخلية جعلت منها إلى جنس درامي يتراءى كمساحة حرام. ولم يبق من إمكانية ولوج عوالم التراجيديا إلا التشرد والتهويم في أطرافها أو في متاهتها الصحراوية. وأظن أنه ليس من مخرج من هذا المأزق في مواجهة التراجيديا إلا بتَمَثّلِ وفهم "التراجيدي"(le tragique) لأنه الإرث الوحيد الذي ظل قابلا للتقاسم، تقاسم المحسوس. ونعتقد أن التراجيدي هو البوابة السرية الوحيدة التي يمكن من خلالها استبطان التراجيديا، وعلى المؤلف المعاصر أن يلتقط تلك الفجوة السرية الي تمكنه من الولوج إلى عالم التراجيديا المفترض. إن الجعايبي كمؤلف دراماتورج – سواء بمفرده أو مع جليلة بكار- قد تربّت كتابته المسرحية في إطار أزمة الدراما، فجل أعماله المسرحية تنخرط بشكل ما في دائرة الدراما الحديثة Le drame moderne حيث يكون التمسك بالبنية الدرامية مسألة أساسية مع سعي دائم للتمرد على هذه البنية دون الخروج التام عنه، ولذلك تراه يؤمن إيمانا يقينيا بالخراف، أو ميثوس كقاعدة صلبة لكل مشروع مسرحي.
ولأن الخرافة هنا في مسرحية «آخر البحر» تعتمد سردية ميديا اليوريبيدية فإن المسألة على مستوى الدراماتورجيا ستمثل بالنسبة إليه - وإلينا أيضا كقراء -تحديا كبيرا. فغيره مثلا ذهب إلى التفكيك إلى أقصاه، وعلق كل الخرافة على المونولوغ الواحد لميديا، مثلما هو الحال بالنسبة لـ هاينر موللر Heiner Muller في "ميديا - مواد" Médée-matériau وأجهز على الخرافة الأصلية أصلا، و جعلها مزقا على لسان جسد متوغل في التألق الأدائي أي البرفورمونس تأكيدا لحالة التشظي ودلالة على الانقراض الوشيك للإنسان على شاطئ الاستهلاك و النفايات. كما أن غيره والمثال قريب وهو ما قام به المخرج الكويتي سليمان البسام في دراماتورجيا "آي ميديا" حين عمد بمكر المراوحة بين ميديا يوريبيدس وسينيكا وبين ميديا المعاصرة كاشف على اللعبة الدراماتورجية بكل سخرية ومراوغة تجمع بين التمسك بالخرافة وتدميرها في ذات الوقت استدراجا للتراجيدي.
إن أهم عملية قامت عليها الدراماتورجيا عند الجعايبي للولوج إلى دائرة التراجيدي هو إدراك تردّد النموذج البدئي الأرخيتبي (l’archétypique) بما يحمله هذا الإدراك من مقاربة تعتقد في وجود نموذج قديم أو بدائي يعيد تمظهره في اللاوعي الجمعي (l’inconscient collectif) حسب نظرية كارل يونغ Karl Jung في علم النفس التحليليla psychologie analytique وكذلك تشغيل لرصيد التأويل البسيكولوجي في التحليل النفسي الفرويدي. وهو الذي يجعل من العملية الدراماتورجية في جوهرها استراتيجية تقوم على تكنيك تقريب التماثل لهذا الأرخيتيبي عبر تبيئته acclimatation في الزمن الراهن. وهو ما يعني عمليا بناء سردية "جديدة" لميديا عبر إخفاء الأسس، أي أسس البناء لميثوس muthos ميديا يوريبيدس وبناء صرح درامي جديد قائم على تركيب درامي على بنية قديمة، تم استيعابها وتذويبها بشكل مكتمل الكلية. وهذا يعني عند الجعايبي الحفاظ على عظام الهيكل اليوريبيدي وخاصة مواضع التمفصل بين عظم وآخر. ولذلك فحسب فإن هذه الدراماتورجيا والتي يبدو أن موضوعها راهني ودقيق على المستوى المرجعي، إذ أن أفعال المسرحية تحدث في تونس في سياق العشرية الأخيرة التي شهدت تحولات سياسية على إثر ثورة 14 جانفي 2011 فإنها في علاقة وطيدة ومباشرة بميديا يوريبيدس. ولكن كيف فعل الجعايبي ذلك؟
مُحاسَبَةُ من لا يُحَاسَب:
لا أحد قادر على محاسبة ميديا لأنها ببساطة كائن إلهي فوق جموع البشر الفانين، إنها حفيدة هيليوس Hélios الإله الشمس. في تراجيديا يوريبيدس وبعد أن تنتقم وترتكب فعلها الشنيع تذكّر جازون أنها تملك مركبة قتال هو حصنها هبة من الشمس ضد كل يد عدوة، وفي تراجيديا سينيكا تذكر ميديا في آخر حديث لها أن عربة في الأعالي يجرها ثعبانان مجنحان في انتظارها. هذا ما تؤكده التراجيديا القديمة عن الأسطورة حول طبيعة ميديا. وهو ما يدل على أنها فوق كل عقاب بشري، يمكن أن تواجه به من قوانين البوليس/ الحياة اليومية في كورانثيا.
ولأن الجعايبي كما أشرنا ينظر إلى ميديا التي تحولت في "آخر البحر" إلى عاتقة اليمنية الناهضة من أوحال ثورات "الربيع العربي" بوصفها أرخيتيب يمكن أن يتكرر ظهوره في كل المجتمعات بما فيها مجتمعاتنا العربية الراهنة، أي تردد ظهور نماذج نساء قتلن أطفالهن انتقاما من أزواجهن أو لأسباب أخرى، فإن محاكمة هذه المرأة أو على الأقل مساءلتها عن فعلتها تلك، تظل مسألة ممكنة. وهذا ما قام به الجعايبي وهو يُنزّل ميديا من عربتها الطائرة نحو الشمس إلى حضيض هذا الواقع المتلاطم، وضمن أنظمته وأنساقه الثقافية والاجتماعية وأعرافه الأخلاقية والقانونية السياسية. وهو ما يعني أن هذه الدراماتورجيا القائمة في مجملها على مبدا "توليف التوليف" سوف تجعل الحكاية عنده تبدأ من حيث تنتهي سردية ميديا اليوريبيدية، وسوف تتوسع في اتجاه هذه المساءلة للشخصية المحور، الذي تدور حولها كل الأفعال والأقوال وهي شخصية عاتقة/ ميديا مكتسبة كل مرّة مواطئ مساحات تشد هذه السّردية إلى الواقع وإلى الراهن. وكأن هذه الدراماتورجيا سوف تقوم بمهارة لا غبار عليها لتذكيرنا بالمفاصل الكبرى المؤسّسة لسردية ميديا التراجيديا عبر تدبّر ذكي قائم على التذكير بوصفه تقنية لمح استرجاعية لأهم البؤر الكامنة في التراجيديا اليوريبيدية، وكذلك عبر تكنيك الإبدال أي تسمية الأشياء القديمة بمسميات معاصرة.
وعلى هذا الأساس ولأن الجعايبي خبر تكنيك المساءلة في قالب التحقيق instruction واستثماره في أعمال سابقة نذكُر منها على الأقل أعمالا مثل مسرحية "التحقيق" (ضمن تجربة المسرح في فرقة المسرح الجديد) ومسرحية "فاميليا" (في شخصية المفتش المتسلل لعش الأخوات العوانس) وفي مسرحية "خمسون" (التحقيق والتحقيق المضاد بين الجلاد والضحية) فإنه يعود هذه المرّة لاستعمال نفس تكنيك التحقيق في "آخر البحر" لكنه تحقيق يظل مجرد آلية يعتمد عليها لبناء سردية جديدة. كما أن هذه الدرماتورجيا عنده تراهن أيضا إلى جانب تكنيك التحقيق -الذي يكاد يكون محاكمة-على استعمال تكنيك التوليد الديواني la maïeutique du divan في الطب النفسي القائم على مساءلة الطبيب النفسي للمريض قصد التوغل في نوع من سبر أغوار الشخصية، والكشف عن دوافعها العميقة. وهذه التقنية أيضا سبق وأن جرّبها الجعايبي في مسرحيته "جنون" حيث أن حوار الطبيبة النفسية مع المريض الفصامي "نون" هو جزء من مهمة رسم مسار الشخصية المسرحية. ولقد سبق وأن أشرنا بخصوص هذه المسرحية بالذات كيف أن تكنيك المحاكمة "عملية توليدية وانشائية في نفس الوقت. المحاكمة عند الجعايبي تقنية في استنطاق للشيء الغامض المتكتم على نفسه أو المشكوك فيه"(12).
ويبدو أن الجعايبي يستعمل التقنيتين معا أي التحقيق والتوليد المتوسلتين للاعترافات سواء فيما يتعلق باعترافات عاتقة/ ميديا واعترافات الجازي/ جازون من خلال ما تقوم به محققة الحق العام أو ما يقوم الطبيب النفسي. إذن ما الحكاية في "آخر البحر "؟
علبة باندورا أم دُمى ماتريوشكا؟
من أكبر التحديات في الدراماتورجيا هو تناول ميثوس قديم وجعله ميثوسا حديثا، وإقامة جدلية بين الأول والثاني بالشكل الذي تظل فيه الكتابة الدراماتورجية منشئة لميثوس جديد ممكن. ويبدو أن الجعايبي قد تجرأ على خوض مغامرة مثل هذه في التعامل مع وحش "الهيدرا" l’Hydre de Lerne ذات الرؤوس الأفعوانية التسعة، والهيدرا هنا إنما هي "ميديا" الشخصية التراجيدية الشاهقة بكل انفلاتاتها وعنفها ومفارقاتها. تجرأ على إيقاظ هذا الوحش ومواجهته دون الاتكاء على أية حلول أخرى يمكن حشرها في بازارات التحذلق ما بعد الدرامي، لقد كانت الدراماتورجيا وهي تتقدّم من حال إلى حال، ومن وضعية إلى أخرى تنشئ دراما جديدة دقيقة الصنع والإيقاع، وتستحدث أفعالها الداخلية الناشئة خارج الميثوس اليوريبيدي دون الانفصال عنه.
ونظن وتساوقا مع هذا المثال الاستعاري الذي ذكرنا بخصوص وحش الهيدرا/ ميديا، قد عمدت هذه الدراماتورجيا كل مرّة إلى قطع رأس من رؤوسها وتحويلها إلى نموذج محلي يكاد لقوة حضوره يُلمس بالحواس كلها من فرط ماديتها. فقد تحوّلت ميديا إلى شابة يمنية هي عاتقة موسى سليمان الهاجري اليمنية تنتقم من زوجها التونسي حمادي الجازي الذي أغواها في بلادها، وهرب معها إلى تونس وتزوّجها وأنجب منها طفلين، لكنه قرّر الزّواج من ابنة مُشغّله جلول التبريزي، أحد بارونات الأموال والأعمال الناهضين في سنوات ما بعد الثورة التونسية. ولا يستوي رسم حدود الخرافة في مسرحية "آخر البحر" إلا بتحديد طريقة بسط هذه الحكاية نفسها. ولأن المخرج المؤلف انطلق من ميثوس ميديا اليوريبيدية من أجل فتح مداها على الراهن، مع المحافظة على أفعالها المركزية، فإنه ليس من خيار أمام الدراماتورجيا إلا أن تظل طوال الوقت تبسط أو تستعرض وقائع الأحداث في الراهن المفترض.
وأمام هذه الحالة ليس من خيار للدراماتورجيا إلا أن تختار بين طريقتين: إما طريقة فض علبة باندورا la boite de Pandore دفعة واحدة، أي فتح الباب على مصراعيه لقول كل شيء انطلاقا من تمثل قوس الأحداث وذروتها كما هو الحال في التراجيديا اليوريبيدية، وهذا لن يسمح بتنزيل هذه الحكاية الأركاييكية في سياق الراهن. وإما أن ينتهج طريقة تعليب الدمية ماتريوشكا (matriochka) -أو الدمية الروسية Poupée russe التي تحتوي على دمية أخرى في داخلها تحتضن بدورها دمية أخرى إلى آخر حدود الاحتواء؛ أو أنها تتوسل بطريقة التضمين المتكرر وهي تتقدم طوال المسرحية. ويبدو أن تكنيك تعليب ماتريوشكا هو التكنيك الناجح الذي يسمح بالتضمين والمراوحة بين الأركاييكي والمعاصر وبين الغابر والراهن. وهو تكنيك يمكن أن نسمّيه بـ "التنزيل أو التغريق في الهوّة" une mise en abîme أو التعليب emboitement اللامتناهي لسلسلة من الخرافات الصغيرة والمشكلة في اجتماعها للميثوس الجديد حيث أن ميديا اليوريبيدية تبدو في مسرحية "آخر البحر" كعلامة مائية en filigrane ثم تشربها من طرف الدراماتورجيا الجديدة، تماما كما في رائعة جامس جويس James Joyce "أوديسوس" Ulysse حين نقرأ ما يحدث في دبلن إرلندا، بداية القرن الماضي، ونستذكر في ذات الوقت مفاصل "الأودسية" الملحمة الهوميرية.
كليل طويل ... من التحقيقات والإعترافات:
تتقدم مسرحية "آخر البحر" في انتظام أربع عشرة لوحة متواترة لا يفصل بينها إلا فواصل الظلمة الركحية. والغالب في انتظام هذه المشاهد الصاعدة دراميا وإيقاعيا وهي عبارة عن مواجهات ثنائية (أو ثلاثية في أقصى الأحيان) موزّعة إما بين استنطاق تجريه قاضية التحقيق، وإما مواجهات حوارية بين مختلف الشخصيات فيما بينها. أو بين مساءلات يجريها الطبيب النفساني مع عاتقة/رميديا. فقد حاولت الدراماتورجيا في مشهدها الأول أن تستعرض وبصفة اختزالية في اللقاء الذي تم بين عاتقة وطليقها حمادي الجازي على شاطئ مهجور والذي جاء ليخبرها بوجوب رحيلها إلى بلدها، والتخلي عن طفليها. نفهم من خلال شجارهما أن حمادي قد اقترن بابنة مشغله جلول التبريزي، وأنه تكفل بحضانة الأولاد، وجاء ليعرض عليها مقابل رحيلها قبول مساعدة مالية.
عاتقة أمام شعورها بالهوان ونفاد الأحوال تذكر طليقها بالعهد الذي بينهما، وتحاول يائسة التقرب منه، لكنه يصدها بعنف. فتترجّاه التوسط عند مُشَغّلِه جلول لتمكينها قليلا من الوقت حتى تتمكن من توديع طفليها كما تطلب منه قبول توصيل هدية لعروسه امتنانا له ولصهره مقابل الترفق بها قبل رحيلها إلى بلدها. فبعد هذا المشهد الأول والذي يمكن اعتباره مشهدا فاصلا واصلا بين ميديا يوريبيدس وعاتقة الجعايبي تتوالى المشاهد مترابطة لنتتبع مسار هذه المساءلة العريضة لعاتقة أو ميديا في نسختها العربية الجديدة. فنقف على طريق الآلام الذي ترجلت فيه عاتقة، والذي حملت صليبه وحدها بين صحو وجنون. فتنتصب أمامنا عاتقة بكل جلالها وانكسارها. المرأة الشابة التي أغواها حمادي الجازي تاجر ومهرب الآثار تسرق مخطوط أبيها، وتقرر الهروب معه من اليمن الغارق في حروبه الأهلية إلى تونس التي تعيش أوضاع ما بعد الثورة.
فمنذ المشهد الثاني تتكشّف لنا شخصية حمادي ضمن الاستنطاق الذي تجريه معه القاضية، بخصوص الجرائم التي ارتكبتها طليقته. الجازي الذي يبدو أنه مجرد عميل لأحد البارونات المافيواية التونسية، تحاول القاضية توريطه كشريك في هذه الجريمة على خلفية صناعة القنبلة المفخخة والتي تلتبس عندها بإمكانية انتماء الزوجين، لخلية إرهابية نائمة، تخطط للمس من سلامة الدولة. كما نتعرف على نشاط عاتقة وانخراطها في أنشطة المجتمع المدني كالدفاع عن الأقليات والمهجّرين. ينتهي المشهد بتهديد الجازي للقاضية بسحب الملف أمام اتهاماتها له، ويشعرها بتَنَفُّذِهِ لدى السّلط الحاكمة في البلاد.
يأتي المشهد الثالث ويتمثل في مساءلة القاضية للمتهمة عاتقة عن سبب قتلها لأطفالها فتجيبها بكل ثقة أنها قامت بذلك من أجل انقاذهما من أب ومن قانون ومن مجتمع لا يرحم. كما تجيبها على كيفية صناعة الهدية الفخ وتفاصيل إعدادها لعملية إغراق طفليها علي وهادي والذي تعتبره عاتقة عملية إنقاذ لهما.
ويكون المشهد الرابع مرورا من المساءلة إلى مشهد تشخيص جريمة قتل عاتقة لطفليها تحت إشراف القاضية، وبحضور محامية عاتقة والطبيب النفسي الذي سخرته. وكذلك بحضور الطليق الذي أصرت المتهمة حضوره امعانا في الانتقام منه وإذلاله. تروي عاتقة تفاصيل عملية الإغراق منذ الانطلاق فجرا إلى شاطئ لوكا ببنزرت، إلى لحظة تصويرها لأبنيها وهوما بصدد الغرق.
يأتي المشهد الخامس وهو عود إلى استنطاق القاضية لعاتقة بحضور محاميتها. تخبرنا القاضية أنه تم العثور على جثتين لطفلين مشوهين على سواحل جزيرة جالطة. نتعرف على شخصية المحامية وهي عينة حيّة عن صنف من الناشطات الحقوقيات المزدهرة تجارتهن في سنوات ما بعد الثورة. نفهم من الحوار بين القاضية والمحامية أن عاتقة قد عبرت عن عدم ثقاتها بالقضاء، وأنه سيتم اخضاعها لطبيب نفساني لتشخيص حالتها النفسية والذهنية. وعلى أسلوب النفاق المتبادل بين القاضية والمحامية المزدحم بالشعارات واللغة الخشبية، وضمن هذا الاستنطاق الذي تشارك فيه المحامية بحماس نفهم أن مغامرة الهروب في البحر باتجاه جيبوتي توجت باشتراك عاتقة في قتل شقيقها اللاحق عليها صحبة أفراد عشيرتها لاستردادها والمخطوط. تغادر عاتقة القاعة إلى قضاء حاجتها وأمام اعترافها بالمشاركة في قتل شقيقها تنطلق مشادة تتبادل فيها المحامية والقاضية التهم باستغلال القضية لمصالح شخصية. ولا تنتهي هذه المشادة إلا بتدخل غريب من عاتقة التي تعود وقد أحرقت غصنا من شجر الغار.
أما المشهد السادس، ويشكل مشهدا واصلا فاصلا. فعلى الشاطئ حيث وقعت الجريمة. نلمح عاتقة تتخذ من خيمة بلاستيكية صغيرة سكنا لها، كما يقوم العون المكلف بحراستها بتحويط المكان بشريط حظر عازل لمكان الجريمة.
المشهد السابع، وهو اللقاء الأول بين الطبيب النفساني وعاتقة. سلسلة من الاعترافات التي تستعرضها عاتقة حول حياتها في اليمن. تدرك عاتقة تشابها بين شقيقها خالد (المقتول) وبين الطبيب، فيما يتعلق بالهويته الجنسية. حديث طويل تتحول فيه عاتقة بدورها إلى مستجوبة للطبيب، فيكشف هذا الأخير عن هويته الجنسية وتسترسل عاتقة في الحديث عن الذكورية وهيمنتها على الأنثى، وتعتبر أن الأطفال هم السلاح الوحيد لمواجهة هذه الذكورة الطغيانية، وذلك بوجوب عتقهم عبر وضع حد لآلة النسل. ويختم المشهد بتواري عاتقة في الخيمة البلاستيكية صارخة بوجوب تعقيم النساء.
في مكتب التحقيق يبدأ المشهد الثامن يحاول حمادي غواية القاضية بباقة ورد بلاستيكية. فتستجوبه على ملابسات رحلته إلى صنعاء وقصية المخطوط، وحيثيات تعرفه على عاتقة والهروب بها والتزوج والإنجاب منها والزهد فيها بعد ذلك وإهمالها. ثم حول تورطه في قتل شقيقها وانكاره ذلك متهما عاتقة بالمرض النفسي والانهيار العصبي المزمن. ينتهي المشهد بينهما بالتهديد المتبادل، فحمادي يرى القاضية متحيزة ضده وتعتبره هي فالت من العدالة.
وتنتصب الذروة في المشهد التاسع، في لقاء أخير بين عاتقة وحمادي، لقاء للمحاسبة المتبادلة. لقاء الصاخب بين عشيقين مكتظ بالعاطفة والحنين والكراهية والعنف والندم والهذيان. مشهد يستعيد لحظات اللقاء الأول في صنعاء. مشهد يُذكّر بلعنة المخطوط ولعنة خيانة العهد الذي كان بينهما. مشهد اللقاء المؤجل للموازنة بين الضحية والجلاد. تعود القاضية إلى الاستنطاق المتهمة مرة أخرى في المشهد العاشر، تجريه القاضية مع عاتقة. محاولة تحويل هذه الاستنطاق في اتجاه توريط طليقها في سياق عملية إرهابية وتحريضها عليه في اتهامه بقتل أخيها، وتعدها بمساعدتها في التخفيف من حكم القضاء. عاتقة ترفض ذلك، وتكشف عن نوايا القاضية في استغلال قضيتها. القاضية تخبرها بأن التقرير الشرعي يؤكد على أن الطفلين لم يموتا بالغرق وإنما بالتغريق واستجابة لأسئلة القاضية تسرد عاتقة عملية التغريق تلك بتفاصيلها.
تظهر المحامية في المشهد الحادي عشر، للقاء منوّبتها ولومها على الاعتراف بكل شيء. المحامية قد أدركت أن رهاناتها في استثمار هذه القضية وتوظيفها ضمن نضالها النسوي قد تبخرت، وتبخر معها النموذج الأمثل للمرأة المضطهدة. وندرك ذلك من خلال استرسال المحامية في خطابها الإنشائي حول المسألة النسوية وخيبة أملها في وعود الثورة التونسية التي لم تتحقق. وعن مأساة اليمن وسردية نظرية المؤامرة، وفي الأثناء وطوال خطابات المحامية تنهمك عاتقة باللعب بزوارق ورقية.
يأتي المشهد الثاني عشر، بين الطبيب والقاضية ندرك فيه العلاقة الحميمة بينهما. يخبر الطبيب القاضية بالهجوم الذي حدث لعاتقة في مستشفى الأمراض العقلية، في محاولة قتلها ونجاتها من ذلك. القاضية على علم بمن قام بذلك حيث أن جماعة من اليمن اقتحموا المستشفى بحثا عن عاتقة التي يبدي الطبيب تعاطفه معها محاولا تبرير فعلتها بأنها تعاني من "ساندروم ميديا " وأن لا مسؤولية لها في جريمتها، وتعتبر القاضية تشخيصه قفزا على القوانين.
وفي المشهد الثالث عشر، سعيا لكتابة تقرير طبي قد يساهم في حماية عاتقة من السجن أو الإعدام، سعى الطبيب لمقابلة طليقها لمعرفة طبيعة علاقته بعاتقة قبل ارتكاب جريمتها فنكتشف ما كانت تعانيه من انهيار عصبي، وعدم قدرتها على تسيير شؤون بيت الزوجية وعلاقتها بأطفالها، وعن كوابيسها التي كانت تحوم حول علاقتها بشقيقها الذي قتله. كما نتعرف بينهما على تفاصيل أخرى من حياة حمادي بخصوص طفولته الشقية، وفشله في الدراسة وينتهي المشهد فجأة بانتحار حمادي بإطلاق النار على نفسه.
ثم يأتي خاتم المشاهد وهو الرابع عشر، بين الطبيب وعاتقة في المستشفى. يحاول الطبيب مرة أخرى الاستمرار في استكمال رسم حالة عاتقة النفسية والذهنية لاستكمال كتابة تقريره الطبي. يسألها الطبيب عن حلمها فتطالبه بقطعة قميص ابنها هادي التي علقت بأسورتها. يتورط الطبيب في وحل إجاباتها بخصوص دوافعها في قتل طفليها، وشعورها أو عدمه بالندم والخوف من الإعدام. ونكتشف في هذا السياق طبيعة علاقتها بأمها وشقيقها ووالدها المتوحش. تنهي عاتقة المحاورة وتغادر المكان في اتجاه البحر فيسألها الطبيب إلى أين هي ذاهبة فتجيبه: "ألحق عيالي".
«آخر البحر» أثر يخفي أثرا آخر:
الناظر في متن هذه المشاهد في "آخر البحر" سيدرك عملية التدبير التي قام المؤلف لاستحضار ميدياه المضارعة أمام المتلقي من عمق السردية الأركاييكية. لعلنا قد أشرنا في البداية إلى أن المشهد الأول قد شكل مشهدا واصلا وفاصلا بين سردية ميديا التراجيديا وبين سردية مسرحية "آخر البحر". لكن هذا الفصل الذي أراده الجعايبي مع ميديا يوريبيدس لم يكن إلا فصلا نسبيا إن لم يكن وصلا خفيا. ويمكن أن نلمس عناصره كل مرّة كلما تقدّمنا في مسار السردية الجعائبية. وهو ما يعني أن المؤلف عمد على الاتكاء على المواد الخام اليوريبيدية لبناء صرحه الدرامي وإعادة ترتيبها، وذلك بالاعتماد على تكنيك الإبدال في أسماء الشخصيات كأن يُحوّلَ ميديا Médée إلى "عاتقة" اليمنية، وأن يُحوّل "جازون" Jason إلى التونسي "حمادي الجازي" وأن يُحوّل "كريون" Créon الحاضر الغائب إلى "جلول التبريزي" العرّاب المافيوزي ، ويُحوّل "غلوكي" Glaucé أو كريوسا Créuse ابنة كريون الحاضرة الغائبة إلى "بسمة" ابنة جلول التبريزي، ويُحوّل "أبسيرت" Apsyrte شقيق ميديا المقتول مزقا مزقا في السفينة، وهو الحاضر الغائب أيضا، إلى "خالد" شقيق "عاتقة" المقتول أيضا والذي تنعته بالمخنوث، وأن يُحوّل "إياتيس" Éétès والد "ميديا" إلى الشيخ موسى سليمان الهاجري، صاحب المكتبة في صنعاء والد "عاتقة" ومغتصب والدتها، ويمكن حتى اعتبار والدة "عاتقة" التي فاضت روحها على الشاطئ في اليمن هي "إيديا" Idyie الحورية والدة "ميديا" وعلاقتها العضوية بالبحر.
وهذا الإبدال بدوره يجري أيضا على الشخصيات من تراجيديا يوريبيديس إلى دراما الجعايبي وسيجر في طياته إبدالا آخر في الجغرافيا والأمكنة بالضرورة، وهو ما يمكن التدليل عليه على نحو إبدال بلاد "ميديا" كولشيد (Colchide) البرابرية ببلاد اليمن السعيد، وإبدال كورانثيا Corinthe بتونس الحاضرة، وإبدال البحر الأسود la Mer Noire بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب اليمني. كما يجري هذا الإبدال إلى جانب الشخصيات والأماكن على عناصر مفاتيح في التراجيديا اليوريبيدية حين تتحول هذه العناصر المفاتيح في الدراما الجعائبية إلى مسمّيات أخرى، لكنها تؤدي نفس الوظيفة فتتحوّل مثلا "الجزّة الذهبية" le toison d’or إلى مخطوط قرآن من القرن الأول، وتتحوّل هدية "ميديا" المسمومة إلى عروس جازون من إكليل le diadème وفستان فاخر قشيب إلى قلادة وفستان مُفخّخ.
وإلى جانب هذا الإبدال الذي توخاه الجعايبي في تغيير الأسماء والأماكن والأغراض بأسماء وأماكن وأغراض جديدة يعمد المؤلف في هذه الدراماتورجيا إلى نوع من تكنيك الانتشار أو التشتيت Dissémination بالمعنى الذي يذهب إليه جاك ديريدا Jacques Derrida، ومفاد هذا الانتشار والتشتيت هو أن الدراماتورج وهو يحاول التغلب على السردية الأصل وتذويبها من أجل تقويضها Déconstruction عبر تحقيق فاعلية الدلالة الراهنية، كما يعمد إلى تصريف مفاصل الحكاية الأصلية لميديا من خلال تفعيل تناسلها المتكرر مع المعاني الجديدة المعاصرة والممكنة، كأن ينزع إلى تصريف الطبيعة الغامضة لميديا وتوحشها وعلاقتها العضوية بالقوى المظلمة وبالسحر إلى سلسلة من الاتهامات تطال "عاتقة" اليمنية من تطرف وشبهة بالإرهاب وشيطنة ميزوجينية ووصمها بالجنون والمرض العصبي وذلك ضمن سياق الصراع الزوجي المألوف بينها وبين زوجها حمادي الجازي.
أو اعتبار عدم انضباطها للقوانين واختراقها (قوانين البوليس) راجع كما عبرت عن ذلك القاضية لقلة ثقتها في القضاء التونسي ومعاداة للمبادئ التي نادت بها الثورة التونسية، ومن ذلك استثمار المعنى وفتحه بشكل تناسلي على بناء سردية أيديولوجية وسياسية حقوقية تصل إلى حد السخرية السوداء، حول الأوضاع في المجتمع التونسي بعد الثورة، أو مثلما هو الحال في الانطلاق من لعنة "ميديا"/ "عاتقة" للرحم الإنجابي، انتقاما من "جازون"/ "الجازي" يتم تحويله لبناء خطاب حول السلطة الذكورية في الخطاب النسوي والجندري أو الانطلاق من علاقة ميديا/ عاتقة بشقيقها يكون منطلق في تفعيل بناء خطاب الاختلاف في الهوية الجنسية والمثلية.
وإلى جانب هذا الإبدال وهذا الانتشار والتشتيت الذي أشرنا إليه عمدت العملية الدراماتورجية أيضا في "آخر البحر" إلى تذويب سردية أخرى في سردية الأثر الأصل (سردية ميديا التراجيدية)، ولا ندري إن كان ذلك من باب التّناص Intertextualité أو من الانتحال Plagéat. ونحن نرجّح باب التّناص على باب الانتحال، لا لاعتبارات أخلاقية أو اتهامية بقدر اعتبارنا وتفهمنا لطبيعة العمل والتدبير الدراماتورجي الذي ينطلق عادة من "مواد خام" Matériaux يصنع منها لبنات الصرح الدراماتورجي. كنا قد أشرنا إلى قراءة "العلامة المائية" بخصوص قراءة ميديا يوربيدس في مسرحية "آخر البحر" وكأننا نقرأ الأوديسة في رواية جيمس جويس. وعلى أساس هذه الإشارة تنتصب أمامنا ظاهرة هذا التّناص في مسرحية "آخر البحر" مع نص روائي تونسي هو رواية "قيامة الحشاشين" للروائي الهادي التيمومي(13).
فمسرحية "أخر البحر" تستعيد بشكل ما جملة من العناصر الأساسية لهذه الرواية التي تروي تورط أستاذ تاريخ تونسي في الحصول على مخطوط باطني لفرقة الحشاشين من مكتبة أحد الشيوخ في صنعاء من أتباع هذه الفرقة الباطنية، والعودة به إلى تونس، وحلول لعنة المخطوط على هذا الأستاذ الباحث، وتعرضه إلى مطاردات من أفراد فرقة هذه الجماعة الباطنية "البهرة" ومحاولة قتله. كما أن قصة الحب بين عاتقة وبين حمادي الجازي مشابهة لقصة الحب بين بنت شيخ الجيل الحسن الصباح وبين الشاب السّني القيرواني. وقارئ الرواية سيدرك وهو يقرأ أو يشاهد مسرحية "آخر البحر" مدى التماثل والتشابه بين الأثر المسرحي والأثر الروائي.
وفي سياق هذا التّناص أيضا نقف على صور سردية أخرى مستلفة من نصوص سابقة لمسرحية "آخر البحر". ففي الحلم المتكرر الذي تراه عاتقة كل مرة في فترة انهيارها النفسي كما يرويه زوجها حمادي الجازي على مسامع الطبيب النفسي بأنها: "تحلم بخوها الميبون إللي قتلته/ باش تمنع راسها/ يرضع فيها من صدرها/ وفمه كلو حليب ودم/ ثم ينقلب إلى حنش/ يتلهوث على رقبتها/ يقطع عليها النفس."(14) فإن صورة هذا الحلم هي نفس صورة الحلم الذي نجده عند اسخيلوس Eschyle في مسرحية "حاملات القرابين" Les Choéphores الذي ترويه الجوقة على لسان كليتمنسترا Clytemnestre متحدثة عن ابنها "أورست" Oreste الذي كانت تراه ثعبانا، يرضع من ثديها، وإشارة أيضا إلى حتفها الذي سوف يكون على يده.
وإلى جانب ذلك أيضا نجد الصورة التي تصف بها عاتقة رأس أخيها المقتول وهو يتدحرج بين قدميها وهي في لحظة المضاجعة مع حمادي في جوف السفينة. حين تقول في المشهد الخامس: "وأنا نزلني تحت القبو/ وضاجعني/ وأحنا نتضاجع/ ونرى في راس خويا/ يتكركب / بين ساقينا/ عينيه مرشوقة فيّا/ وفمّه يضحك." هذه الصورة نجدها أيضا في نص "ميديا" Medea للكاتب المسرحي الألماني هانس هاني يان Hans Jenny Jahnn الذي كتبه عام 1920 الذي يشير فيه الكاتب تقريبا بنفس هذه الصورة المتوحشة على لسان ميديا وهي تحدث جازون.(14)
وإلى جانب كل ذلك فيما يتعلق بالتّناص في مسرحية "آخر البحر" من الواجب أيضا التذكير بحضور النص القرآني وسرديته في هذه المسرحية فيما يتعلق بين التماثل بين عملية "انقاذ"/ تغريق عاتقة لطفليها في البحر وبين انقاذ أم موسى للنبي موسى طفلا حين ألقته في اليم، واستحضار ذلك أيضا هو في قلب عملية التناص.
ميديا لماذا الآن؟:
وأمام هذا الانتشار والتشتيت، وأمام هذا اللبوس الإبدالي، وكذلك أمام هذا التناص الجلي يمكن أن نعتبر أنه قد أجبنا حول الكيفية التي "استدرج " بها الجعايبي سردية ميديا وأنزلها منزلة السياق الراهني. ويبدو أن هذا الاستدراج أو "العصرنة" لميديا وتحويلها إلى حالة راهنة لم تتم في الحقيقة إلا من خلال تجريد ميديا - الأرخيتيب من كل ما يجعلها أرخيتيبا، أي نزع كل أسلحتها القديمة وتجريدها من صفتها الإلهية التي تكون بها كائنا علويا وتراجيديا في آن. وهو ديدن كل من قارب دراماتورجيا في عصورنا الحديثة النماذج التراجيدية. والتي يرى في هذه النماذج أصواتا خفية قادرة على رواية قصة هذا الحاضر. غير أن هذه الكيفية - أي كيفية العصرنة - لا تكون في المحصلة إلا التعبير الأليم للقراءة الراهنة التي يقوم بها القارئ أو المفسر المعاصر للتراجيديا نفسها، أو كما يقول جورج شتاينر Georges Steiner في حديثه عن قراءة التراجيديا - في نموذج أنتيغون عنده - هو ذلك "الفهم المتأرجح بين قطب الآني، وقطب المنفلت".(15)
وهذا الذي قام به الجعايبي ليس بالأمر الهين، لأنه متحاوز لمجرد إخضاع الحالة، إخضاعها لإكراهات المحاسبة والمساءلة والتحقيق وحتى التحليل والفهم، وهو ما يدل عليه استقراء المشاهد جميعها التي تشكل هيكلية هذا المتن الدرامي الموغل في التركيب. وهو ما يعني أن الجعايبي على قناعة من أنه بالإمكان محاسبة وفق شروط التيار الواقعي أو الطبيعي أو المادي الجدلي شخصية تراجيدية ثقيلة وموغلة في الظلمة اللاتاريخية مثل شخصية ميديا وتجريدها من رأسمالها الأساسي وهو جانبها أو جوهرها الإلهي والذي تكون به تراجيدية.
«آخر البحر»، الفرجة:
عرض مسرحية "آخر البحر" عرض يبدأ ولا يبدأ، وهو أيضا عرض ينتهي ولا ينتهي. لكأنه يضع المتلقي على عتبة الرحيل أو العودة. ذاك ما نلمسه لأول وهلة حين ندخل قاعة العرض فكأن العرض بدأ وانتهى في ذات الوقت. في قاعة الفن الرابع وعلى ركحها لا شيء يلفت الانتباه غير شاشة كبيرة على اتساع إطار جدار خلفية الركح حيث تبث صورة فيديو متحركة لموج بحري على شاطئ ما. شاطئ يمكن أن يكون في أي مكان. شاطئ بديهي، عادي لا هو بالمنظر السياحي ولا هو بالصورة الإغزوتيكية المستجدية للغرابة، ولا هو بالمنظر الباروكي أو العجائبي. شاطئ خلفي وذهني وتجريدي يكاد يكون لا وجود له في الحقيقة السينوغرافية، شاطي خلفي في تنافر حقيقي مع البعدية الثلاثية للركح، شاطئ نشاز، مستفز في استحواذه على الإطار الخلفي ومنقطع مع أي تواطئ بصري يمكن أن يقيمه المتلقي مع بقية المشهد فوق الركح.
والأمر صادم للوهلة الأولى ومدعاة للسخرية من بدائية أو سذاجة الإخراج الذي لم يعتمد مرة واحدة ولم يتكئ في مسيرته الاحترافية الطويلة على متمم من متممات التكنولوجيا المستشرية في إخراجات مسارح ما بعد الدرامي. هو صورة الفيديو لمشهد بحر الشاطئ في خلفية الركح، مشهد مستفز يوحي للوهلة الأولى بقلة ذوق تكاد تلمس الكيتش kitsch وتكاد تشفق على المخرج من سذاجة هذا الاختيار، بل تشفق من سذاجتك كمتلق. كسر الإخراج منذ الملامسة الأولى لمشهد الركح قوس ذاك الجسر الجمالي الذي شيد منذ سنين بينه وبين تلك الجمالية الجعائبية طوال سلسلة طويلة من الأعمال. ولكن حين ينطلق العرض ويبدأ الشريط الخلفي لأمواج الشاطئ في التبدل والتلون ستدرك أن هذا الاختيار لم يكن ساذجا بل كان اختيارا متعمّدا له علاقة أخرى لا علاقة لها بسينوغرافيا ممكنة.
سينوغرافيا الإغراق والاستغراق:
مسرح فاضل الجعايبي مسرح لا يُحبّذ تدخل أي نوع المتمّمات التقنية القادمة من فنون أخرى كفن السينما وفن الفيديو وتفرعاته التصميمية والتشكيلية. مسرح يعوّل في احترافيته العالية على الإمكانيات الداخلية للمسرح نفسه، وفي مقدمتها الإنارة والتقشف في كل ما من شأنه أن يعطل عمل الممثل في المساحة الفارغة. عودنا الإخراج عنده دائما على التعامل مع الركح على أنه ورقة بيضاء، لا تتأسس كفضاء إلا بحضور الممثل وعمله. الإنارة والظلمة هما الأدوات النحوية والصرفية الوحيدة لبناء أسلوب العرض، وربط إيقاعه، وتركيب معانيه؛ دون التفريط في علاقة ذلك بالموسيقى كتجريد عضوي مصاحب وفاعل في صياغة هذه الجمالية الإخراجية.
سؤال الأصول عند الجعايبي في المسرح كامن في قيام المسرحة théâtralité ولا شيء دونها، لكنها مسرحة باطنية لا تعلن عن نفسها لا بشكل ملحمي ولا باستنساخ تيار جمالي بعينه من تيارات الإخراج، مَسرَحَتُه لا تعلن عن نفسها إلا بشكل مكتوم. إنها مسرحة لا تترك أثرا لها لحظة العرض، لأنها ببساطة هي العرض نفسه، ولذلك لا ترى الإخراج تعبيرا عن صنعة أو تقنية أو مهارة يمكن نقلها أو النسج على منوالها، إنها خفيّة "كالرّشم" في "صناعة الحسن".
على الركح، ودوننا والخلفية المتحركة لصورة الشاطئ البحري بأمواجه، لا شيء يدل على قيام سينوغرافيا بمعناها الملموس حتى بالنسبة للنظام الإخراجي عنده بمسحته الأرشيتاكتونية (الجدار الخلفي ووظائفه المتاهية). فلا شيء فوق الركح غير طاولة كراسي مقلوبة. مشهد بلاستيكي في غاية البساطة يكاد يكون تجريديا بلا عمق ولا مرجعية بعينها. الطريقة التي تم فيها تنصيب هذا الأثاث المقلوب يحيل مباشرة إلى دلالة المكان القفر المهجور ليس بعيدا عن تلك الدلالة التي تذكرنا بـ "عشاق المقهى المهجور"، لكنه مقهى شاطئ في قلب الشتاء -ولا غرابة أن المسرحية استندا للتلاوة القاضية في الاستنطاق الأول كان بتاريخ 27 جانفي 2024- لا يبشر بأن شيئا طارئا سيحدث. تكثيف هذه اللامبالاة الدلالية وهذه الكروماتيكية الباردة شيء غير مألوف في إخراجات الجعايبي الذي عادة ما يفتك بالمتفرّج من أول مشهد في أعماله المسرحية الماضية. إن هذا الأثاث المتواضع (الطاولة وبعض الكراسي) سيتحول طوال العرض إلى إشارات مكانية من شاطئ مهجور إلى مكتب تحقيق، ومن مكتب تحقيق إلى مكان ما من أمكنة السجن تارة أو مستشفى الأمراض العصبية.
وضمن هذا المشهد الركحي العام تحتل الشاشة - الخلفية لشريط الفيديو الذي يبث مشهد الشاطئ البحري مكانة أساسية في هذه السينوغرافيا التي أرادها الفاضل الجعايبي استفزازية للمتلقي، وقد قامت وهي تستعرض علينا المشهد البحري في حالاته المختلفة على مفارقة عجيبة بين الطبيعي الحقيقي والمزيف انطلاقا من علاقة المسرح نفسه بالطبيعة. و في هذا الصدد يشير جورج بانو Georges Banu إلى وضعية المسرح حين يكون على محك الطبيعة إلى : "أن مادية الطبيعة في سياقي السينوغرافي المزيف تبدو كأنها استفزاز لأنها تمزق وتربك وتحير المسرح الذي يميل إلى الانطواء على نفسه كمجال آخر تخييلي بمعزل عن الواقع ضمن تعبيراته الأكثر تحديدا."(16)
غير أن هذا الاستفزاز في هذه السينوغرافيا وهي تعتمد المزيف (شريط الفيديو لمشهد أمواج البحر) لتدلل على الطبيعة، هي في الحقيقة تعمّقُ الشّعور بأن ما يحدث فوق الركح ليس مجرد زيف مسرحي قائم على المحاكاة، بل هو الواقع الحقيقي نفسه الذي يحدث أمام أعيننا رغم إكراهات وزيف الفرجة. وبالرغم من أن هذه الشاشة -الخلفية شكلت عنصرا نافرا يكاد يكون وجوده مستقلا على حيز الركح الذي تولد فيه الأقوال والأفعال الدرامية، إذ يمكن -افتراضيا- الاستغناء عنه كدلالة عن المكان والاكتفاء بمجرد الإشارة إليه، إلا أنه أن هذا العنصر سيبرهن طوال العرض على عضويته الكاملة، وانصهاره البليغ مع حيز الركح، بصريا ودراميا، من خلال سلسلة من الوظائف الكبرى يمكن تحديها في النقاط الوظيفية التالية:
أولا: إن هذا التنافر البصري البين الذي أشرنا إليه بين ما تمثله الشاشة – الخلفية المحتضنة لحالات شتى لصورة البحر (الهدوء والاضطراب والهيجان) وبين حقيقة الركح المادية ما هو في الحقيقة إلا تنافر سطحي في الطبيعة الحيزين المتجاورين (الشاشة والركح) أي بين اصطناع الحقيقة الفيلمية المسجلة، وبين آنية الركح العارية لحظة العرض أمام المتلقي. ووظيفة هذا التنافر في الحقيقة هي وظيفة تكاد تكون تغريبية لأنها تفصل حسب رأينا بين الزمن الدرامي لمسرحية "آخر البحر" وهي تنهض بأفعالها وأقولها أمام أعيننا وبين الزمن التراجيدي المستحيل تحقيقه في المسرحية، لأنه زمن قديم أركاييكي، أو بلغة موزيس ليفي Moses Lévy "زمن مظلم " Temps obscure وبالتالي فإن مشهد صورة البحر في حالاته تلك تكاد تقوم مقام السّد المنيع الذي يفصلنا عن السردية اليوريبيدية لميديا التراجيدية والميثولوجية. فلا الممثلون قادرون على اختراق هذا الجدار المائي ولا ماء البحر يندلق على الركح ويغمر الصالة. ورغم هذا التنافر وطوال زمن المسرحية تكاد تشعر أن الشاشة التي تبث صورة هذا البحر ليست شاشة، وإنما البحر بصورته الآسرة تحوّل إلى حضور حقيقي ضمن علاقة إيقاعه الجدلي مع إيقاع الأحداث، وتتطور الأفعال عند الشخصيات. ونعتقد أن هذه الوظيفة تؤسس في هذا العمل المسرحي لسينوغرافيا تقوم على المستحيل.
ثانيا: ويقابل هذا التنافر البصري الذي ذكرنا بين الشاشة والركح حضور تآلف خفيّ متعلق بملكة التلقي عند المتفرج في المسرحية. تآلف من صنف التأثير البصري والنفسي الدائم على المتفرج طوال العرض. لقد عمد الإخراج إلى تشغيل الشاشة طوال الوقت الذي يستغرقه العرض (والذي يقارب أكثر من ساعتين ونصف)، وهي خلفية مائية لامحالة قائمة بجلالة صورة الأمواج المهيبة هادئة أو غاضبة تنفذ إلى لاوعي المتلقي فتأسره مهما قاوم ذلك وتنسيه أنها عنصر اصطناعي. لكن حضور الشاشة-الخلفية طوال الوقت يتحول إلى حقيقة يراها المتفرج بشكل لاوعي، فتنطبع باطنيا في وجدانه كأنها حقيقة، كلما تقدم العرض، مما يحول لحظة التلقي طوال العرض إلى نوع من "الحلم اليقظ" Rêve éveillé على حد تعبير Ernest Bloch(17)، حلم يعاش وبشكل يكاد يكون ملموسا. بل إن توظيف الشاشة بهذه الطريقة تكاد تقترب من طريقة "حلم اليقظة المُوَجّهِ" (Rêve éveillé dirigé) الذي يكاد يقوم بوظيفة علاجية نفسية كما هو حالة الطريقة عند المعالج النفسي روبار دوسوايRobert Desoille وفي سياق هذا العمل فإن "الحلم اليَقِظ" الممكن معايشته من طرف المتلقي في العرض هو رهان من رهانات الإخراج في جعل المتلقي معلق بين حقيقتين حقيقة الصورة الحالمة التي تشكلها الصورة المائية وحقيقة العرض فوق الركح الذي قد ينسى المتلقي أنه مجرد لعب مسرحي. وعليه فإن وظيفة هذه الشّاشة هو خلق عوالم باطنية متخيّلة لدى المتلقي قد يكون موطئها فوق الركح مستحيلا.
ثالثا: إن هذه الاختيار السينوغرافي القائم على هذا التنافر بين الشّاشة-الخلفية وبين الواقعية المادية للركح هو في قلب مسألة المسرحة الخاصة بهذا العمل. فهذا الاختيار يقوم بخلق نوع من الإيهام، لكنه ايهام مزيّف ينشأ عنه أثر في التلقّي يمكن أن نسميه بـ "إيهام الإيهام" أو بعبارة أدق "الإيهامُ المَبْتُور" une illusion tronquée وهو ما يعني أنه كلما تم هذا الإيهام رسوخا في ذهن المتلقي يتم تقويضه، وعليه فأن هذا "الإيهام المبتور" هو جزء من هذه المسرحة وغير منفصل عن دور تغريبي، ناهيك أن الإخراج يذكر أثناء العرض أن الشاشة مجرد وهم من خلال تصوير بعض الشخصيات (القاضية أو الطبيب) بصدد الجري على شاطئ البحر.
رابعا: إن الحضور الكثيف للشاشة-الخلفية وأثرها على المتلقي طوال العرض كرّس من خلال حقلها الدلالي السائل أو طبيعته المائية مساحة عاكسة تجعل من الشاشة عبارة عن مرآة مائية تبتلع الشخصيات وتبتلع المتلقي، بحيث أنه من الصعب تشتيت انتباه هذا المتفرج الذي يظل طوال الوقت مشدودا لهذا العرض.
خامسا: ولعل أهم هدف لهذا الاختيار السينوغرافي من خلال توظيف الشاشة الخلفية هو كون تصريف حالات صورة البحر لعبت دور ضابط لإيقاع العرض، فتلك الحالات كانت متساوقة ومتناغمة مع حالات الشخصيات أو طبائع المواقف، خاصة مع الشخصية المركزية عاتقة/ ميديا حيث انعكاس أفعالها وحالتها الشعورية والنفسية من هدوء إلى انقلاب قد انطبع بشكل مباشر في حالة صورة حركة أمواج البحر المنتقلة من الهدوء إلى الانفجار الكبير. ولقد تعامل الإخراج في هذا السياق مع المادة الفيلمية لصورة البحر في الشاشة على أساس أنها نوع من تنفيذ لمدونة في كراس موسيقي (Partition musicale) بتنويطها العاطفي والدرامي، بل أن المسرحية كلها بدت كأنها تدوينة لتأليف موسيقي.
وخلاصة القول فإن هذه السينوغرافيا في "آخر البحر" بدت وكأنها أفرغت الفضاء من كل شيء قدر الإمكان لا تقشفا بل لترك المساحة أكثر توغلا في التجريدية رغم الواقعية الحاضرة فوق الركح، تجريدية ذهنية تسمح للمتلقي بالقدرة على الاستغراق الاستبطاني والتأملي للسردية الدرامية المعروضة أمامه، وكأنه أمام عمل أوبيرالي ولكن دون غناء. إن بلاغة هذه السينوغرافيا، ومرآتها المائية المتموجة هي سينوغرافيا قائمة على وظيفة تجاه المتفرج، وظيفة مزدوجة لإغراقه في الدراما واستغراقه فيها للتفكر ... إنها باختصار شديد سينوغرافيا التنويم (l’hypnose) للاستيقاظ باطنيا كما في الحلم اليقظ.
ميثولوجية الجديدة لدَكّ الحصون:
"عاتقة" كما يدل اسمها القديم في لغة الضاد وهي المرأة المُحَرِّرَة، أي مُحرّرة الرّقاب وليست تلك التي تم تحريرها. وهذا الاكتناز الدّلالي للاسم وللوظيفة الذي يدلل على إرادة الحرية والنبالة والسّيادة والمنعة و"الفحولة الأنثوية" يكفي لأن يكون عنوانا صريحا على ثقل هذه الشخصية التي يجترحها الجعايبي كميثولوجيا جديدة. الثابت أن "عاتقة" الهاجري هي نموذج ممكن لامرأة يمنية معاصرة، وفي بحر هذه العشرية أو تزيد من التاريخ الراهن العربي العام والتونسي الخاص واليمني الأخص. هكذا أرادها مؤلفها، وهي ليست بالنموذج (أو النماذج) التي أفرزها الحراك في برهة "الربيع العربي". فهي مثلا ليست توكل كرمان (جائزة نوبل للسلام 2011) التي صنعتها ماكينة الثورات والحراك السّياسي والحقوقي -وإن اشتركت مع "عاتقة" في الموطن والنشاط- بل هي المرأة العتيقة القادمة من بكارة المجتمعات العربية القديمة التي لا تزال تحافظ في جيناتها الوراثية على ذكرى المجتمعات الأمومية، حيث تلعب المرأة دورا أساسيا في تلك المجتمعات. ويكفي فقط أن نذكر ببعض النساء وحضورهم الآسر في شؤون الجماعة الاجتماعية في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده حتى نتمثل شجرة القرابة التي تنتمي إليها عاتقة الهاجري بثقله السّياسي والديني. بل حتى المرأة في التاريخ اليمني القريب نفسه مثل أروى الصليحي وهند بنت أبي الجيش ودونك بلقيس السبئية القديمة التوراتية القرآنية.
لقد أرادها الجعايبي صُنْوَةً للنموذج الأركاييكي الذي تمثّله ميديا في قسوتها وتصرفها الغضبى، وبديلا ثقافيا آخر قد ينسِفُ أو يُجدّد حضور ذاك النموذج تحت أقنعة أخرى. الجعايبي في هذا المقام مُتسلحا بتكنيك التحقيق وجدال المساءلة والتي مكّنته من التخلص من ثقل ميديا/ الأرخيتيب قدّم نموذجه الجديد للمرأة الإشكالية الطارئة والرافضة لكل شيء عبر شخصية "عاتقة" اليمنية لينفذ إلى مجادلة جوانب مظلمة وخفيّة أخرى لهذا النموذج الآسر، ويجعله حصان طروادة ليقتحم ما تبقى من المسلمات في الوعي الجمعي راهنا. وكأننا بلسان حاله يقول لا تزال حصون أخرى "قروسطية" من الواجب هتك أسوارها. ويبدو أن ميديا الأركاييكية والتي عمد الجعايبي إلي رسم خرائط رحلتها من خلال عمليات الإبدال والانتشار والتناص التي ذكرناها لم تكن إلا مجرد تعلة، بل تعلة ماكرة، لتصفية التركة الثقيلة والمعطلة لما تراكم من أوهام بعد خيبة الثورات العربية، ولينفذ مباشرة في اتجاه المسائل الجوهرية التي لم تناقش بشكل جدي في غياب الفضاء العمومي التونسي.
وعليه فإن النظر في الميثولوجيات الحديثة بالمعنى الذي يذهب إليه رولان بارط في "ميثولوجيات" ويُكرّره جيروم غارسان Jérome Garcin في "ميثولوجيات جديدة"(18) ضروري لكشف الأوهام المتراكمة التي تحجب رؤية الحقائق عارية ضمن سياقاتها. إن الانتباه إلى الميثولوجيات الحديثة هو جزء من الوعي النقدي التاريخي للراهن الاجتماعي والسياسي واستعداد لمواجهته وفهم تلوّناته. ومن أهم هذه الميثولوجيات التي يُواجهها الجعايبي في "آخر البحر" هو هذا النوع من الخطاب النسوي المزدهر في سياق هذه السنوات التي أعقبت "الثورات" العربية، وخاصة على مستوى الخطاب النسوي الجاهز والمُنتعش في العمل الجمعياتي في تونس، المدافع تحت عناوين وشعارات تحوم حول حقوق المرأة أو الدفاع عن الأقليات، وما يوظفه هؤلاء الناشطون (طبعا بعضهم وليس جميعهم) للحصول على التمويل والتّمعش من المنظمات الدولية والمؤسسات الليبرالية الغربية لـــ"المجتمع المفتوح" وما يقف وراء هذه المنظمات والمؤسسات من أجندات جيو-سياسية. ومثل هذا الخطاب هو ما يمثله في المسرحية وبشكل بليغ خطاب شخصية المحامية "نادرة بالحاج" (سهام عقيل) والذي وجد في نموذج "عاتقة" غنيمة يمكن استثماره والمتاجرة به في سوق الإعلام والعمل الجمعياتي والحقوقي.
غير أن "عاتقة" هذه تحوّلت إلى صخرة صمّاء تتكسّرُ عليها كل سرديات المطالبة بالحق في تحرّر المرأة في الخطاب النسوي، ومن خلالها يُعرّي الجعايبي بسخرية لاذعة حقيقة هذا الخطاب وزيفه، ويكشف عن رهاناته الحقيقية من خلال رفض "عاتقة" الراديكالي لأي محاولة لإقحامها واقحام ما اقترفته تحت أي طائل أو إطار قانوني أو حقوقي. فـ"عاتقة" وضعت من خلال موقفها الرافض ذاك كل الخطابات النسوية والحقوقية في التسلل أو في سلة مُهملاتها الغامضة. وإلى جانب تعرية هذا الخطاب النسوي الزائف القائم على الشّعارات وظّف الجعايبي أيضا هذه الشخصية لمواجهة مؤسّسة القضاء التونسي وتبيان أزماته من خلال اصطدام الخطاب القضائي أمام راديكالية "عاتقة".
فخطاب شخصية القاضية المكلفة باستنطاق "عاتقة " لا يخلو بدوره من منطق المضاربة حول القضايا التي يتناولها. ولا يخلو أيضا من الشّعارتية الفجّة الحائمة حول الثورة والعدالة والاستقلالية والنزوع الشّعبوي للدّفاع عن المبادئ والالتزام والوطنية. وهو أيضا ذات الخطاب الذي يكشف مدى تواطئ القاضية "زينب" في ارتباطاتها مع الطبقة السّياسية الجديدة الحاكمة، ومحاولتها الصريحة – شأنها كشأن المحامية – في استغلال قضية عاتقة وعدم النظر إليها من زاوية "التّفهم" الموضوعي لامرأة ترفض بشكل جذري كل المنظومة القضائية المترجمة لتصور ذكوري سياسي، وتوجيه مسار القضية برمّتها في اتجاه شبهة ارتباط "عاتقة" بشبكة الإرهاب الدولي. وأخطر ما تكشف عنه مسرحية "آخر البحر" في شخصية القاضية تلك العداوة النسوية المتأصلة للنسوية، وهو ما نستشفه في شخصية القاضية نفسها حين نتكشّف على جانب من شخصيتها المعطوبة عاطفيا واجتماعيا، ونلمس تعاملها الانتقامي مع "عاتقة" وكأنها تستكثر عليها أنوثتها وقوّتها واستقلاليتها.
ويُستتبعُ دكُّ حصون هذه المَدَنيّة الواهية من خلال تعرية المجتمع الحقوقي وزيفه خطابه الجندري، والكشف عن كافكاوية مؤسسة القضاء والعدالة، بتناول مؤسّسة "المُراقبة والمُعاقبة" من خلال تواطئ مؤسّسة الطب النفسي مع الرّهانات الخفيّة للقضاء، وضعف تناوله لحالة "عاتقة" التي يحشرها في تشخيص مرضي جاهز. هذا الجهاز الطبي النفساني الذي ظل بشكل مؤسف أداة للعقاب والتواطؤ مع منظومة كاملة للقمع والترويع المؤسساتي الذي توظفه الدولة العمياء لسحق أية فردانية أو اختلاف أو غيرية. وفي المسرحية ندرك حجم التواطؤ بين مؤسسة القضاء التحقيقية والتشريعية والسجنية وبين مؤسسة الصحة النفسية. فالطبيب النفسي "رشّاد المناعي" (حمادي البجاوي) يتذرع بكتابة تقريره الطبي لتشخيص حالة "عاتقة" وهو في الحقيقة ذراع من أذرعة هذه الآلة السلطوية، وفي الحقيقة نراه يستكمل ما بدأته القاضية من تحقيق واستجواب، ولا يجد من تشخيص لحالتها إلا ما وجده جاهزا في أدبيات علم النفس التحليلي (la psychanalyse) والطب النفسي (la psychiatrie) في كون "عاتقة" تعاني من عقدة ميديا (Medea Complex) المنسوبة كفرضية نظرية لأدوارد شتارن Edward S.Stern(19). ولعلي بالجعايبي في هذا السّياق وهو يذكر بالعلاقة الخفيّة بـ "ميديا" يوريبيدس، يسخر بشكل خفيّ من عجز الطب النفسي العجول عن فهم حالة "عاتقة" وبأن المنظار الفرويدي ليس بالضرورة منظارا قادرا على فهم حالة "عاتقة" التي كلما اقتربنا منها بعدت وتكثّفت. وبأن حذاء "عقدة ميديا" ضيّق على قدمي "عاتقة".
أما آخر الحصون التي يتوجه إليها الجعايبي من خلال "عاتقة" فهو الحصن الجندري نفسه من خلال تعرية المسلمات بخصوص الهوية الجنسية. فلقد جعل الجعايبي من "عاتقة" أداة فعالة للكشف عن الفحولة والأنوثة المتخيلة الراسخة في الوثوقية الذهنية في مجتمعاتنا. ومن خلال "عاتقة" فحسب ننزل إلى قاع المسكوت عنه في مسألة تنشئة الفرد بين هوية الذكورة والأنوثة في مثال المجتمعات التقليدية المغلقة. حين تسرد علينا "عاتقة" سيرة شقيقها خالد "المخنوث" وطبيعة الجحيم الذي كان يعيش فيه في الوسط العائلي المحكوم بالفحولة السلطوية للأب العتيق المهيمن على كل شيء. وكيف أن الأنوثة هي التي تتولى استيعاب هذا الاختلاف إلى درجة الاقتراب من علاقة سفاح المحارم (Inceste) أو ما يسميه بوريس سيرولنيك Boris Cyrulnik بــ "عطر السفاح " (Parfum d’inceste)(20) بين الأخت والشقيق تكون الملجأ الفردوسي الوحيد لهذا الاختلاف في الهوية الجنسية.
وإلى جانب ذلك تكون "عاتقة" أيضا أداة ناجعة للكشف عن الجحيم الذي يعيشه المِثليُّون في تونس من خلال استنطاقها للطبيب النفسي ومعاناته من قوانين رسمية منكلة بهذا "النوع" من الذوات، وفي ظل مجتمع يرفض كل اختلاف بما في ذلك عائلته القريبة من خلال اعترافاته التي يسردها على "عاتقة" بعد أن حشرته في زاوية أسئلة التفريق بين الذكورة والأنوثة. فهل في خطاب الجعايبي ما يدل على إمكانية إقامة مرافعة للدفاع عن الاختلاف في الهوية الجنسية؟ لما لا؟ فليكن الأمر كذلك.
الـ Homo Sacer أو ترميم الأنوثة:
لا شك أن الجعايبي يدرك حجم كثافة الظلمة الذي تَكْتَنِفُ ميثولوجيته الجديدة "عاتقة" التي لم تبح بكل أسرارها. ولا شك أيضا أنه يُقّر بعجز المقاربة النفسية تحليلا وتطبيبا نفسيا في الإحاطة بهذا الكائن الفينومونولوجي الذي تمثله "عاتقة" بثقلها الثقافي والأنثروبولوجي المجهول. لكن الثابت أن الجعايبي يتقصّد جعل هذه الميثولوجيا الجديدة عصيّة عن الفهم ومٌغرية لمزيد من الحفر في هذا النموذج الفريد الذي يحيل على الموقع الحقيقي والمُغيّب للمرأة ودورها في مجتمعات ما بعد الكولونيالية والتّثبت من صحّة أو زيف الخطاب (أو الخطابات) حول المرأة. ومهما يكن من أمر، فليس بالإمكان اليوم لإنسان سويّ في سياق مجتمع أو ثقافة سويّة يمكن أن يتماهى مع نموذج "عاتقة"، حتّى وإن كانت تُشكّل هذا النموذج المكلّل بالسّحر والغواية والقوّة التي لا تُقاوم.
فكل القوانين الطبيعية والدينية ترفض رفضا قطعيا هذا النموذج القاتل أو الآثم الذي يُلغي أحقية الحياة (قتل الأبناء) ويرفض استمراريتها (قطع الأرحام). وعليه فإن هذه "العاتقة" باعتبارها قد تحوّلت إلى ميثولوجيا جديدة معاصرة (على الأقل على المستوى الدرامي المسرحي) قد حُقّ لها التواجدُ في هذا السّياق الاجتماعي من خلال هذه الميثولوجيا الجديدة في شكل في مثير للقلق لأنه تواجد ملتبس بالأساس بالمقدّس، ولأن فعل قتل الأبناء كحدث اجتماعي عائلي، ومهما كان التسلح بالعقلانية وبالمقاربات الموضوعية "الباردة" لتحديد حواف هذا الفعل (فعل القتل)، فإنه لا يمكن التنصّل في استيعاب هذا الفعل و تمثّله خارج دائرة المقدّس (Le sacré) . وهو ما يحوّل الجاني مرتكب فعل القتل (قتل أطفاله) مكتسبا هالة من القداسة المثيرة للقلق والخوف. فهذه "العاتقة" اكتسبت نموذج "المنبوذ" أو "الكائن المقدس" (l’Homo Sacer) بالمعنى الذي يشير إليه الفيلسوف جورج أغامبن Giorgio Agamben والذي يعني تحوّله إلى كائن "مهيب وملعون وفي نفس الوقت جدير بالتقدير ومثير للرّعب."(21)
وبهذا المعنى فإن "عاتقة" الجعايبي تتحوّل إلى مرتبة "المنبوذ"(22) الذي يشكل نوعا من الالتباس في مفهوم المقدس نفسه الذي يجعل منه كبش فداء Bouc émissaire سواء بمحاكمته أو بالتخلص منه بالقتل (الإعدام) كضرورة اجتماعية لدرء الشر ولصدّ الفتنة وإرباك النواميس؛ وفي نفس الوقت يحوّله إلى معيار للتشكيك في أحقية القوانين وأصالة الوعي الجمعي والاحتجاج على النظام الأخلاقي والسلطوي (الأبوي) الذي أوصل هذا النموذج إلى مرتبة "المنبوذ". ومهما يكن من أمر فلا يكفي أن نرى في "عاتقة" امرأة مغدورة تنتقم أو زوجة مخدوعة ترد الفعل من خلال الغضب الأعمى، أو مجرّد بطل تراجيدي لامس الشطط أو "الهيبريس" (Hybris) حسب الفهم الأرسطي لفعل البطل التراجيدي، بل أنها في هذه الميثولوجيا الجديدة التي اجترحها الجعايبي تدعونا إلى إعادة النظر في أوجه أخرى خفيّة لـ"عاتقة"، أي في أوجه أركاييكية لا من ناحية انتسابها لـ"ميديا" بقدر اتصالها أنثروبولوجيا بعالم آخر باطني متعلق بنظام بناء الأنوثة، ومن خلفها الأمومة في الحضارة التي تنسب إليها.
ويبدو أن "عاتقة" هذه تدعونا إلى إعادة النظر في أسطورة الذكورة التي قامت عليها كل السردية الحضارية في النموذج الشرقي، ووجوب استدعاء فجر المجتمعات الأمومية المندثرة تحت وطأة وهيمنة النظام الأبوي. فمن الواجب النظر في الخطاب الصرخة المفزعة التي تطلقها "عاتقة" في المسرحية حول "الذكر" حين تسأل الطبيب: "وإنت ماعندكش/ مشكلة مع الذّكر/ وأمّك ماعندهاش/ مشكلة مع الذّكر/ وأختك/ وأبوك الذّكر ما عندﻩ/ مشكلة مع الذّكر/ ما ثمّة حتّى فكرة/ ما نتعارضش فيها مع الذّكر/ في هالدّنيا الكلبة."(23) لنتمثل حجم المعركة المؤجلة مع الفحولة الباطرياركية في التاريخ الثقيل الذي يصنع قدرية الجماعات البشرية، ويهندس معمار نظام القرابة فيه، وبناء المخيال والذهنيات والأفكار الوثوقية، والمعتقدات والاقتصاد السياسي والرمزي على حساب الأنثى التي تظل في كل الحالات "كبش الفداء" يقدم على مذبح الفحولة بطغيانيتها ونفاقها العقدي.
هذا ما تصرخ به "عاتقة" الضمير المحرّم حين تعيد بناء الأنوثة أو ترميمها على أنقاض الإرث الثقيل لدور الرجل - الذكر في بناء الحضارة البشرية على حساب كينونة المرأة - الأنثى: "لأن الرّاجلْ بنى العالمْ/ على حساب قياسَهْ/ أفكارهْ/ قوانينَهْ/ القيم حقّه/ مصالحهْ مخاوفهْ/ مثانته البولية/ ذكوريتَهْ البحتة/ التي لا تناقشْ/ ولا تباعْ ولا تشترى/ تقبِل هكذا/ كما سنّها وفرضها/ على الكبيرْ والصغيرْ/ وخاصة على المرأة/ العورة / القاصِرة زريعة إبليسْ/ في بلادكم والحٌرمة في بلادنا/ التاريخ صنعوه الرّجال على حساب النساء/ المُقدسْ والمُدنسْ/ خلقوه/ وضعُوه/ وفرضُوه/ الحرام/ العِيبْ/ الممنوعْ/ بأنواعه وأشكاله/ الأخلاقي/ واللاّأخلاقي/ كلها صنيعة الذكر/ الأفكار/ الحكم / القانون/ العادات/ القرارات/ كلها طريزتك يا ذكر."(24)
الناظر في هذا الخطاب على لسان "عاتقة" قد ينجرّ وراء هذا الخطاب السهل الذي يحصر العلاقة بين الذكورة والأنوثة في هذا الصدام القديم والأبدي بين الجنسين، فهذا الخطاب قد يكون لمباشرته خطابا مكرورا قام عليه الخطاب النسوي في صيغته الشعبوية الذي يؤكد على هذه "الثنوية" (manichéisme) التقليدية في تناول الصراع بين الأنوثة الذكورة. هذا ما يبدو للوهلة الأولى. لكن خطاب "عاتقة" يخبئ في الحقيقة خطابا آخر أكثر تعقيدا يحوم حول إعادة الاعتبار لا للأنوثة من حيث هي غيرية ضدية للذكورة، بل للأنوثة من حيث هي مبدأ أصلي ثابت ومغيّب، تمّ التخلي عنه تاريخيا ومبكرا عند ابتكار السّياسيle politique في المجتمعات البشرية الذي جاء ترويضا للعنف وإدارة الصراعات والأزمات، وهو ابتكار جاء على حساب طرد المرأة من دائرة السياسي، ولدينا في أطروحة الباحثة نيكول لورو Nicole Loraux ما يفسر هذا التحول من دائرة القرابة إلى دائرة السياسي في مسألة التمييز في الجنس.(25)
ولا غرابة أن "عاتقة" تذكرنا في لحظة تجل ونفس مُفاخر بتاريخ انتمائها الذي لا يخلو من صور شعرية ملحمية بذلك التناغم (le symbiose) أو الألفة المفقودة بين الأنوثة والذكورة في العلاقات الزوجية في اليمن التقليدي، حين ترسم لنا صورة أخرى مختلفة بامتياز لهذه العلاقة بين الأنوثة والذكورة. أو تحديدا لعلاقة المرأة والرجل وضمن كودات متفق عليها خارج معيار تلك الثنوية التي أشرنا إليها، فالمرأة والرجل في اليمن في اتحاد عضوي واحد زمن الأزمات و الحروب، وكل مكمل للآخر، لا يستمد الواحد قوّته إلا منه، وكأن أكليل الغار الذي بينهما هو الرباط المقدّس أو القسم السريّ لهذه العلاقة الذي يذوب فيها الواحد بالآخر خلال اختلاط العرق والدم والعطر والمني في مغامرة العيش المشترك. وذلك عندما تستعيد "عاتقة" على أسماعنا، وهي تصف لنا فضائل غصن الغار أو اللاورا، لحظة الانصهار العنيف بين المرأة و الرّجل حين تقول: "رندة/ لاورة/ أوراق سيّدنا موسى/ مباركة.من عمر الإنسان/ في القديم كانوا النساء/ يبخّرو بها منازلهم لطرد الحزن/ يغلونها كمسكّنات/ من الألم والأرق/ يستخلصو منها العطور/ ويقطّرو منها الزّيوت/ يدْهنُو بيها شعرهم/ وينسجُو منها تيجانْ وأكاليل/ يحضّروها لرجالهم المروحيّن مالحرب/ رمزيّة للإنتصار والعزة والقوّة/ يجي الرّاجل بعرق وغبار المعارك وإيديه مازالو بالدّمْ/ تعرّض له المرأة في إيديها تاج/ هي تقرب له باش تحطّل له التاج/ وهو يخطفها من شعرها/ ويحشي لها رأسها بين ساقيه/ ويرفع عينيه للسماء/ يحلم بالانتصار والمستقبل/ ويشمّ في عطر اللّاورا/ وهي عينيها مغمومين/ تبلع وتغصّ وتشمّ في ريحة العرق/ والدّم والمنيّ."(26)
"المكان الذي لا يُؤنث لا يُعَوّلُ عليه":
تدور مسرحية "آخر البحر" حول معنى أساسي هو معنى "العتق"، ومنه إسم الميثولوجيا الجديدة "عاتقة " التي اجترحها الجعايبي. وكان بإمكان أن تكون المسرحية عنوانها "عاتقة" إمعانا في التأكيد على ميلاد هذه الميثولوجيا الجديدة التي أشرنا إليها، والحائمة حول مفهوم "العتق." وهو كلمة مصدر كثيفة الدلالة في ثقافتنا العربية الإسلامية، وسُمّيت النساءُ الحرائرُ بالعواتق أو العواتك حتى أنّ جَدّاتِ الرسول سُمّين بالعَواتْك.(27) و"عتق" من أَجًلّ وأشرف الأفعال التي يمكن أن تتمثلها الميتافيزيقيا الإيمانية، حين "يعتق" الله الرّقاب من النار، وأجل الأفعال دنيويا حين يرتبط معناها بالحريّة والتحرير. و"عاتقة" من معانيها حسب اللسان المرأة البكر التي لم يمسسها أحد دلالة عن المنعة والبكارة.
ولا أظن هنا الحرية إلا دلالة على البكارة الأولية أو الأصلية المرافقة للوجود الإنساني. وأظن أن معنى عاتقة كما أشرنا هي المرأة التي تقوم بتحرير الرّقاب أي اخراج الذات من العبودية وإلى الحرية وفي هذا المعنى ما فيه من أليغورية يمكن أن ترمز إلى الحرية. قيل أيضا حسب اللسان المرأة المضمخة بالعطر والطيب. فهل جاء حديث "عاتقة" الجعايبي عن أوراق الغار كمادة للعطر اعتباطا؟ وإذا كان اسم عاتقة مثقل بمعنى التحرير والحرية فمن أي شيء سوف تحرّرنا هذه العاتقة، وعن أي نوع من الحرية تعنيه هذه الدلالة؟ لا شك أن التحرير والحرية في تماس عضوي مع السياسي مطلقا. وفي تماس مع ما ترشح به المسرحية من إحالات على السياسي Le Politique. لكن هذا السياسي لا يمكن النظر إليه إلا من خلال علاقته الإشتباكية مع التراجيدي Le tragique.
أن تناول مفهوم الحرية والتحرر في هذا السياق من شأنه أن يوضح لنا مفهوم هذا التراجيدي الذي منع الجعايبي من مسايرة التراجيديا اليوريبيدية في اتجاه فهم جديد يحقّق راهنية هذه السّردية (سردية ميديا) في الواقع التونسي والعربي. وعليه فنحن نتوسّل بمفهوم التراجيدي كما يراه المنظر بيتر زوندي Peter Szondi عند الفيلسوف شيلينغ Schelling حين يعتبر التراجيدي وعيا جدليا يدور حول "القبول بحرية العقاب من أجل جريمة لا يمكن تلافيها، من أجل التعبير عن الحرية الذاتية، من خلال فقدان هذه الحرية نفسها."(28) ونعتقد أن هذا الفعل "الشنيع" الذي اقترفته "عاتقة" ليس فقط مرده إلى حاجتها للانتقام ممن خان "القسم" كما في التراجيديا بقدر ما هو اشتباك وتصفية حساب راديكالي مع السياسي وهو يتوغل إلى أقاصي الفعل العدمي Acte nihiliste.
فالمتأمل في نهاية "عاتقة" في آخر المسرحية بعد أن ترفض كل شيء وكل معونة وكل شفقة بما في ذلك إمكانية حصولها على شهادة عدم مسؤوليتها في ارتكاب ما اقترفته من خلال تقرير الطبيب النفسي، وتختار في الأخير التوجه إلى البحر لتختفي في أمواهه، يمكن قراءة هذا الفعل كإرادة العود إلى الأصول في التحامها بالماء باعتباره العنصر الأولي الذي يحن إليه الإنسان بوصفه مياه رحمية. كما يمكن أن يقرأ تأويلا على أساس أن طبيعة "عاتقة" طبيعة مُثلى من ناحية الإنماء الجنسي، فهي ليست بالأنثى ولا بالذكر وإنما هي مزيج عنصري من هذا و ذاك أي أنها نوع من "الخنثى" الكائن الأفلاطوني الأول في حُجُب عالم المُثل، أو هي "الخنثى" الأندروجين l’androgyne التي ليست في حاجة إلى التزاوج، وهو ما يفسر صرختها المدوية في المسرحية ودعوتها لقطع الأرحام والنسل.
ولدينا في المأثور الميثولوجي أن المكان الطبيعي للخنثى أو الهرامفروديت l’hermaphrodite هو الماء. حتى أن الفيلسوف الطبيعي الروماني بلين العجوز Pline l’Ancien يقول إذا ولدت الخنثى فارموها في البحر، لكن هذا الأمر يستقيم منطقيا عند "عاتقة" خاصة و أنها حرّرت شقيقها "المخنوث" بقتله وبتقطيعه ورميه إلى رحم ماء البحر وعملية التقطيع عملية أركاييكية موغلة في القساوة الطقسية عند الإغريق وتعرف بــــ "السباراغموس" sparagmos وهي ذات أصول برابرية في الطقس الديونيزي.(29). ويمكن اعتبار توجه "عاتقة" للتوغل في مياه البحر تذكيرا بهذا، كما أنه يعد انتحارا بمحض الإرادة باعتباره رفضا راديكاليا. لكن هذا الرفض الراديكالي الذي يتجاوز مفهوم الشطط، والذي تُشغّله "عاتقة" والذي يبدو رفضا أصوليا أو بدئيا (Originel) ليس في الحقيقة إلا رفضا للبوليس (Polis) كنظام من القوانين والأحكام والأعراف التي لا يمكن أن تكون إلا بطرياركية ابتكرت البوليس مفهوما ونظاما، سواء كانت هذه البوليس صنعاء أو تونس.
ولأن دين عاتقة هو "الحريّة"، هذا الشرط الوجودي الذي ينقلب جدليا إلى التراجيدي حين يكون مجلبة للكارثة التي لا مرد لها، ذلك أن رحلة "عاتقة" الحقيقية ليست إلا اختبارا لهذا المطلب العضوي والحيوي، وقد خبرت فشلها الذريع في البحث عن هذه الحرية هروبا من الموطن العتيق (اليمن السّعيد) إلى الملجأ الجديد (تونس) التي لم تكن فيها الحرية إلا وهما وسرابا خُلّبٌا. وهو إحباط مرير تعبّر عنه المحامية "بشرى بالحاج" في جمل بليغة حين تقول عن "عاتقة": "كانتْ تحلم بتونس/ تحلم ببورقيبة/ نزع الحجاب والسفساري/ ومجلة الأحوال الشّخصية/ ومنع تعدّد الزّوجات/ "أفطروا لتقووا على أعدائكم"/ والطاهر الحداد/ وتوحيدة بالشيخ/ ورجاء بن عمار/ وأحلام بالحاج/ ومية الجريبي/ ولينا بن مهني/ تونس الديموقراطية/ والحريات الفردية/ للدستور الكوني.../ طالبة اللجوء/ هاربة من جحيم حرب/ ما حبتش توفى/ تلقى روحها في حرب أخرى." (30)
ولعله وفقا لباراديم التراجيدي والسياسي ومن خلال هذا الإحباط حول سرابية الحرية هذه وزبفها يؤبن الجعايبي من خلال خطاب "عاتقة" ومن خلال خطاب المحامية "بشرى بالحاج" فشل المشروع التحديثي التونسي، وفشل تحقيق أهداف الثورة في تونس، وبل أهداف "ثورات الربيع العربي" كلها" التي لا تنتج إلا مزيدا من الخراب المؤسساتي، والبؤس الاجتماعي، والفساد السّياسي، والزيف الفكري. وبناء على هذا التأبين لفشل المشروع التحديثي التونسي المسكون بالارتداد إلى غيلان الماضي السّحيق، فإن المرأة ضمن هذه المجتمعات التي عاشت هذه الثورات هي الضحية الوحيدة والأخيرة، التي تدفع ثمن هذه الخسارة الفادحة، وعليه فإن هذا التأبين وهو أحد تجليات هذا التراجيدي لا يكون مرفوقا إلا بإقامة الحداد على هذا الفشل الذريع.
والمرأة وحدها هي التي سوف تتولى إقامة هذا الحداد، وأظن أن نساء "آخر البحر"، "عاتقة" و"بشرى بالحاج" ، و"زينب" فهن مهما كانت اختلافاتهن من أقمن هذا الحداد، والحداد هو الشيء الذي لا ينسى، ويظل موشوما في الذاكرة، وذاكرة الأنثى لا تمّحي لأنها هي اللغة. وفي ذلك ما يتوافق مع تذهب إليه حنا أرندت Hanna Arendt حين تعتبر أن حداد النساء بعد فشل الثورات (وهي تتحدث الثورة المجرية) هو الفعل الثوري الوحيد من زاوية نظر سياسية. لأن الحداد يعبر بشكل مثالي عن جوهر التراجيدي و عن جلال الثورة la sublimité de la révolution ، فمن يستطيع أن ينسى ذلك؟"(31) يقول محي الدين ابن عربي: "المكان الذي لا يُؤنث لا يُعَوّلُ عليه". وعليه فإن التراجيدي الحقيقي يبدأ فعليا حين تغادر "عاتقة" المكان في اتجاه المجهول البحري. والمكان المقفر بلا أنثى هو التراجيدي ذاته، وهو مكان بلا لغة، إنه الخراب عينه.
الأداء، رابسوديا ترويض الأرواح والأجساد:
يعوّل الفاضل الجعايبي في مسرحه على الممثل لا بوصفه ممثلا فحسب بل على شخصيته الحقيقية بملامحها وتفاصيلها الدّقيقة في الحياة، وعلى قدراته الجسدية والفكرية، وهو عادة ما يتمكن في سياق تعامله مع الممثل من استثمار كل ما يخدم الشخصية المسرحية الناشئة في المشروع المسرحي. فكأن مرور الممثل في تجربة مسرحية من تجارب الجعايبي هي بمثابة "طقس عبور" يمرّ به الممثل من الشخصية إلى الدور ومن الدور الذي يظل تعلة إلى ذات الممثل نفسه فيزداد عمقا أو يظل عالقا في حرج المرور من الشخصية إلى الذات. فلا أحد من الممثلين (أو الممثلات) من الذين اشتغلوا معه ولم تترك عندهم تلك التجربة طالت أو قصرت أثرها في ذواتهم إما بشكل تطوّري فعّال أو ارتكاسي. وعلى مدار خمس عقود استفاد الجعايبي كمخرج ومدير أداء من "طبائع" الممثلين والممثلات لصالح أعماله أكثر من استفادتهم منه، إلا من كان منهم متسلحا بالمعرفة والشّغف والاستعداد الفطري للتّطور. وكم من ممثل عمل معه وظل بعد تلك التجربة حبيس تلك الحالة النكوصية التي تتجلى في محاولة إعادة انتاج ما تعلمه بشكل عاقر وببغائيّ فيتعثر في الطريق.
ويبدو أن الجعايبي في هذه التجربة "آخر البحر" قد تخلى بشكل ملموس على تلك النمطية والأسلوب الذي يحصر الممثل في دائرة الانفعالي والتوتر الأدائي لصالح النظام العام للعمل المسرحي وإيقاعه ورهاناته الجمالية. ويبدو لي أنه قد أعطى ضمن هذا المغامرة المسرحية الجديدة "آخر البحر" الثقة الكاملة لممثليه الجدد ومكّنهم من هامش كبير في المساهمة في بناء الشخصيات وطرائق الأداء وقوّة الاقتراح الدراماتورجي والأدائي. واستفاد الجعايبي بدوره من ثرائهم ومعرفتهم ومهارتهم المسرحية العالية كما يدل ذلك في تعامله وتعاونه مع المسرحية المتألقة سهام عقيل على مستوى البحث والتفكير والعمل الدراماتورجي في إعداد هذا المشروع، ومساهمتها أيضا في الأداء والمساعدة في الإخراج. والجليّ أن أداء الممثلين لأدوارهم كان مُعبّرا انخراط كليّ في هذا المشروع. وباستثناء الممثلة صالحة النصراوي التي سبق لها وأن عملت مع الجعايبي منذ أكثر من عشرين عاما في مسرحية "جنون" فإن بقيّة الممثلين مثل محمد شعبان وسهام عقيل وريم عياد وحمادي البجاوي يعاملون لأول مرّة معه في "آخر البحر".
إنّ هذه النضارة الحاصلة في أداء الممثلين في مسرحية "أخر البحر" مكنّت الجعايبي هذه المرّة وبشكل ملفت من التعامل مع مُهَج الممثلين أكثر من تعامله المألوف مع الممثلين بوصفهم مجرّد مواد يصوغها كالصلصال كيف ما يشاء. وأكاد أجزم أن الجعايبي وهو يتعامل ويدير فريقه التمثيلي قد بلغ مرتبة من المرونة والعمق والقدرة إلى النفاذ إلى بواطن الممثلين من خلال أدائهم للشخصيات تذكر بإدارة أنغمار برغمان Ingmar Bergman لممثليه في شريط "برسونا" أو في شريطه "الصمت" أو في "صراخ وهمسات".
والمقصود هنا بالتعامل مع الممثلين كمُهج هو استفادة المخرج من المخزون النوعي الفكري والعاطفي والشعري عند بعضهم والذي شكل تربة الاستعداد الأساسية لاحتضان المشروع، وفي هذا السّياق أعتقد أن الجعايبي عرف كيف يستفيد من الثراء والذكاء المعرفي للممثل محمد شعبان وخاصة من معرفته وقربه من عوالم التراجيديا والميثولوجيا الإغريقية بحكم تعمقه الدراسي في شؤونها، وإدراكه من زاوية الممثل الواعي لصعوبة الحديث عن شيء سحيق وأركاييكي بلغة الراهن. وهو ما لمسناه في طريقة أدائه لشخصية صلاح الجازي بكل تلك البلاغة في التعامل مع مفارقات الشخصية بين الفحولة والهشاشة المثيرة للشفقة، وبكل ذاك الاكتناز العميق لصورة الرجل الخاسر المُتمرّغ في الحضيض الأخلاقي والبؤس العاطفي. وأظن أن محمد شعبان استطاع بدقة وهو ينأى عن أيقونية جازون التراجيدية أن يرسم لنا الصورة البليغة لنموذج ذاك الكائن التونسي الراهن المزدحم بالمكبوتات التي يواجهها بالسّخف أو الإيغال في التحذلق ثم الانهيار المفاجئ والكلي.
لقد برهن محمد شعبان على قدرة هائلة في تلوين هذا الدور بما يليق بهذه الشخصية الباروكية. ولعل مساهمته في بناء مشروع مسرحية "آخر البحر " يعد قيمة مضافة لمسرح الجعايبي. ونعتقد في هذا السياق أن محمد شعبان كممثل مسرحي يشكل ذلك النوع من الممثلين النادرين الكبار القادرين على حمل مشروع مسرحي حقيقي. وهو يشيد مساره المسرحي كممثل نوعي بتؤدة وتبصر منذ "سوق سوداء" لـعلي اليحياوي و "تائهون - دارك سايد " لـنزار السعيدي. محمد شعبان ممثل خام من أرومة مختلفة، لم تلوثه "النُزهات" أو "الإستجمامات" التلفزيونية أو إغراءات النجومية الزائفة. وعلاقته بالمسرح علاقة عضوية وإيتيقية وعرفانية.
وبالقدر الذي نأى فيه محمد شعبان عن أيقونية جازون سعيا وراء نحت شخصية درامية جديدة لها مرجعها التيبولوجي التونسي، فإن الممثلة صالحة النصراوي من خلال أدائها لشخصية "عاتقة"، استبطنت بشكل أدائي فريد كل الصور الممكنة لـ"ميديا" القادمة من ظلمة التراجيديا، وصهرها في قالب واحد. وقد منحت للشخصية الجديدة "عاتقة" تلوّناتها وأبعادها النفسانية والباطنية المتغيّرة من الصمت المطبق إلى اللامبالاة إلى الانهيار العاطفي إلى الغضب المشط إلى التمرد الانفجاري إلى السّكينة اليقينية. وذلك تساوقا مع مسار التحولات التي فرضتها المواقف الدرامية المتجلية في الموجهات والاستنطاق والاستنطاق المضاد والسّخرية اللاذعة التي تمارسها على الجميع. والجوهري في أداء صالحة النصراوي أنه أداء متقن غاية الإتقان وذلك في قدرته على التّجوال الخفيّ و المرور السّلس بين شخصية "ميديا" التراجيدية في مضارب شغفها العاشق لجازون وانكسارها تحت كلكل الخيانة وقرارها في الانتقام لنفسها أو تحنانها تجاه أطفالها وسردية قتلها لهم؛ وبين انتصاب هذه الشّخصية "عاتقة" التي أرادها الجعايبي في ميثولوجيته الجديدة، والتي تحوّلت إلى شخصية "شاهدة" على كل هذا الانحطاط والحضيض الذي يعيشه الجميع، الزوج الفاسد والقاضية الحقودة والمحامية السمسارة ''العكعاكة"، والطبيب النفسي المتواطئ المعطوب. ويمكن المجازفة بالقول أيضا أن الممثلة صالحة النصراوي قد أدركت أن شخصيتها "عاتقة" هي حمّالة خطاب، وهو خطاب المخرج المؤلف الفاضح لهذه "الميثولوجيا اليومية" وما ترشَحُ به من خراب اجتماعي وسياسي في الراهن التونسي.
ولعل هذا الإدراك عند النصراوي تجاه شخصيتها كونها رافعة لخطاب المخرج المؤلف جعل أداءها ينحو نحو "التغريبية" في التحكم الاقتصادي البليغ في الإشارات والعلامات والحركات التي تجعلنا نستوعب مسافات الاتصال والانفصال بين الممثلة وبين شخصية "ميديا" وبين الممثلة وشخصية "عاتقة" من جهة، وبين الممثلة وبين الشخصيتين في تقاطعهما. ونعتقد أيضا أن الممثلة صالحة النصراوي قد منحت من نفسها لشخصية "عاتقة" ذلك التفوق في الحضور الذي يمكن ان نسميه تجاوزا بـنوع من "الكاريزما الأدائية" المتوافقة مع الثقل التراجيدي للشخصية، خاصة على مستوى إحالة هذه الشخصية على مرجعية ثقافية ولغوية وحضارية بعينها وهي المرجعية الشرقية اليمنية، بكل ما يحيط بها من غواية وفرادة وبهاء شعري وغموض. ونعتقد أن مرد ذلك كون الممثلة قد سعت ضمن سيرورة بناء هذه الشخصية إلى استيعاب محصلة جهد البحث حول خصوصية المرأة وطبيعة الثقافة في المرجعية اليمنية ولا شك أن زميلتها سهام عقيل كان لها دورا في البحث والغوص المرجعي الذي لا ينكر. فمقطع حديث "عاتقة" عن الغار أو اللاورا وعلاقته بالعطر والأكاليل والبطولة الحربية وعلاقة النساء بالرجال المحاربين يظل مقطعا أنطولوجيا على درجة كبيرة من الشعرية العالية والدراية الدقيقة بثقافة اليمن السعيد.
وإلى جانب هذا الأداء شبه التغريبي لصالحة النصراوي تأتي سهام عقيل لتتقمّص بشكل ملفت شخصية المحامية "بشرى بالحاج" وهي شخصية سنتعرف من خلالها على إضاءات حول سيرة "عاتقة" وظروف تواجدها في تونس. كما أنها الشخصية التي سوف تحدّد لنا السياق السياسي والاجتماعي العام الذي تعيشه تونس بعد سنوات قليلة من الثورة. لذلك سوف يكون دورها مفصلي في إفهام وإنزال السردية اليوريبيدية إلى السّياق التونسي. دور المحامية مفصلي لأنه جانب منه سوف يعكس لنا الرأي العام التونسي تجاه قضية "عاتقة" وسيرسم لنا حالة "المضاربة" التي سوف تحوم حول هذه القضية من طرف النخب انطلاقا من عالم المحاماة والنضال الحقوقي، ولا غرابة أن الشخصية تحمل إسم "بشرى بالحاج"، وهو اسم مركب يذكرنا بعلمين من النساء التونسيات المنخرطات في النضال النسوي والحقوقي (بشرى بالحاج حميدة وأحلام بالحاج).
والملفت للانتباه في تقمص سهام عقيل لدور المحامية أنها حوّلت هذه الشخصية "المُتهافة" بحكم الإيغال في خطاب دفاعها الشّعارتي الذي لا يخلو من لغة أيديولوجية جاهزة إلى ما يشبه الشخصية الكوميدية البورلاسكية دون السقوط في الشخصية الكوميدية الغروتسكية، وهو من المهام الأدائية الصعبة في الدراما. ولا شك أن دور المحامية من أصعب الأدوار لأن الشخصية فيها مركبة بشكل دقيق ومفارق إلى درجة أنه يلتبس علينا أن ما تقوله شخصية المحامية هل هو محاكاة لخطاب الدفاع عند المحامين الحقوقيين أم أن هذا الخطاب جاء بصيغة ساخرة تقترب من البارودي (Parodie) خاصة في مضامين وأسلوب الخطاب الحقوقي النضالي. ونظن أن تقمّص سهام عقيل لشخصية المحامية يحمل هذا الافتراض ويتقصد هذا الالتباس بمكر مخاتل ليذكّر المتلقي بازدهار هذا الخطاب الحقوقي الذي بات خطابا شعبويا بامتياز. ونظن أن سهام عقيل كمثقفة ومناضلة خبرت جيدا هذا المناخ السياسوي والحقوقي واستطاعت أن تصوغ لنا الأوجه الخفية لفاعليه في دوائر النضال النسوي والحقوقي.
ومن السياق البارودي في الأداء عند سهام عقيل يأتي الأداء الواقعي عند ريم عياد في أدائها لشخصية القاضية "زينب". وقد جاء هذا الأداء على قدر وظيفة الشخصية في الدراما باعتبارها أداة للاستنطاق الذي سوف تشكل أسئلته المحرك الأساسي لتقدم سردية القضية في المسرحية. ونعتقد أن المخرج اختار الممثلة ريم عياد لكونها إلى جانب ممارستها للتمثيل المسرحي هيّ في الأصل تشتغل في مجال المحاماة، وهي بذلك ليست غريبة عن مناخ العدالة والقضاء وقد يكون ذلك قد ساعدها وساهم في بناء شخصية القاضية "زينب". وأن يكن أداء ريم عياد أداء واقعيا وتقريريا وأكثر جفافا وصرامة بدون أي تلوين من بداية المسرحية إلى آخرها فهو استجابة لهذه الوظيفة المحايدة التي تدعي الحفاظ على الحقوق وتحقيق العدالة وحفظ النظام. هذا وقد اعتمدت الممثلة في أدائها خاصة على مستوى الصوت تلك النبرة المتعالية والزاجرة في نفس الوقت التي أعطت للشخصية صرامتها وعنفها الباطني. ومن المفارقات أن هذا الصوت الصارم لدى ريم عياد لا يخلو من تلك النبرة أو المسحة الأنثوية الغاوية في مفارقة جلية لصوت القانون ونبرته الجزائية الصارمة وهو مربك في حد ذاته بقدر إرباك أداء سهام عقيل لشخصية المحامية.
أما الممثل حمادي البجاوي فقد أسبغ في أدائه لشخصية الطبيب النفساني شيئا من ذاته العميقة وخاصة ذاك الهدوء وتلك الهشاشة التي ارتسمت على الشخصية المعطوبة التي تعاني مشاكلها الداخلية بصمت. تجاربه المسرحية السابقة كممثل خاصة مع آسيا الجعايبي في "فلاغرانتي" ثم مع حاتم دربال في "شوق" جعلته يتقن هذه الأدوار "النحيفة " الحائمة حول موضوع الاختلاف في الهوية الجنسية. فرهافة الممثل وطريقة تحركه فوق الركح بالشكل الذي يجعله في بعض الأحيان يتحوّل إلى شبح أو خيال وسمت حضوره بالغياب الحضور. طريقة أدائه البرانية ساهمت في تكثيف الدلالة على العطب الخفيّ الكامن في الشخصية وهو ما مكّنه من تأدية دور الطبيب المثلي باتقان دون تحذلق أو تصنع.
وخلاصة القول فإن الفاضل الجعايبي ومن خلال فريق ممثليه الجدد ربما يبشر بالانتقال من مرحلة سابقة إلى أفق جديد كما هو جلي في "آخر البحر". لعلها مرحلة التخلي التدريجي عن الانفعال على مستوى أداء الممثلين إلى مرحلة أكثر تأملا واختزالا وتعبيرا جوّانيا كما عند بيتر برووك Peter Brook أو كلاوس مايكل غروبر Klaus Michael Grüber حيث الصمت أهم من الكلام والإشارة للفعل أبلغ من الفعل نفسه وهي مرحلة الحكمة التي تتوّج النضج، النضج كاملا. وأعتقد أن لابد من دارسي مسرح الجعايبي الوقوف على بداية هذا التّحول والذي ربما يكون هذا العمل "آخر البحر" تدشينا له.
إيبيلوغ
يعود مسرح الفاضل الجعايبي في/ من "آخر البحر" إلى/ من ينابيع قصيّة. هي ينابيع الشّعر ... الشّعر المحض ... كأوديسيوس في الأودسية لازال يحتفظ في مسامعه بأصوات الحوريات ولا زال يتذكر لسانه طعم زهرة اللوتس. يعود أكثر حكمة وتوهّجا ليؤسس جماليته النّحيلة في مسارات مائية من باب المندب إلى غرب المتوسط، على قدر ما يحتاجه المسرح في زمن التهافت من نحالة ونحافة واكتفاء بأدواته التقليدية والفقيرة. فالشعر وحده المنقذ من ضلال من اندثار المسرح. ولأن المسرح قُدّ في جوهره كالوجود من: تراب وماء ونار وهواء، فإن الشّعر في كيميائيته يُوحّدُ هذه العناصر الأربعة في اللغة، وهو قد يتنزّل على صاحبه من عَلٍ في أبهى صُوره وشاهِقاتِ معانيه، يتربّصُ بلحظة فارقة تقول كل شيء.
والجعايبي في "آخر البحر" اقتنص اللحظة تنبُّؤية و رؤيويّة في ذات الوقت حين أحرقت "عاتقة" ورق الغار فتضوّع المعنى، وحين شرعت "عاتقة" لاهية بالزّوارق الورقية إحالة خفيّة على ما يحدث اليوم من بطولات أحفاد الأسلاف في مضيق البحر الأحمر، وبذلك كأن الجعايبي يفتحُ مسرحه على "عاصفة" شكسبير التي احتفت بالمرأة في حفيدات ديدون، في شخوص أميرات تونس العواتق اللابسات البروكار. في "آخر البحر" أعلن الجعايبي عن جماليته الشّعرية الجديدة جاعلا كما يقول الشيخ الأكبري محي الدين ابن عربي من "الزّمان مكانا سائلا، و(من) المكان زمانا متجمِّدا" ومردّدا معه مرّة "المكان الذي لا يُؤنث لا يُعَوّلُ عليه".
تمكن الفاضل الجعايبي من القفز فوق حرج الهويّة الجنسية -سواء في نكوصها أو عبورها -واختراق الخرائط الجندرية الناهضة على خلفية قتل الأب البدائي المتحوّل إلى طوطم على خلفية المعركة القضيبية التي أرادها سيغموند فرويد S.Freud معيارا لقراءة الميثولوجي والتراجيدي ...بل لقراءة كل شيء. ثمة فراديس أو "فتنة " أخرى قد يَعلمها الحعايبي ... رُبّما لم يحن وقتها بعد للتعبير عنها أو صياغة سرديتها ... فراديس في اللغة بعيدا عن رهاب الخصي وسلطة القضيب المفقود أو المتخيل. فراديس تتجاوز معركة الأنوثة والذكورة التي لا تتم حسب جاك لاكان J.Lacan إلا في اللغة. أجل اللغة بوصفها البداية والنهاية والمهاد الحيوي لكل هويّة ... أجل اللغة، تلك الثاوية ربّما في "الفتوحات المكية" والتي تآخي بشكل حاسم بين الأنوثة والذكورة ... أجل اللغة تلك التي رُبّما هي مُندسّة في خط المَسْنَدِ الحِمْيريّ على أطراف جنّة عدن هناك حيث النّار في تخوم اليمن السّعيد.
فيفري 2024
الهوامش والإحالات:
(1) – أنظر نص مداخلتنا تحت عنوان: "مقولة "مسرحٌ نُخبوِيٌّ للجميع" طوباوية المطلب وواقعية الشّعار" التي قدمناها في الندوة الفكرية الدولية لمهرجان أيام قرطاج المسرحية في دورته 24، ديسمبر 2023.
(2) – أنظر مقالنا النقدي "مارتير" لفاضل الجعايبي انفجار عدمي في بنية ميتة"، جريدة الصحافة، جانفي 2021.
(3) –Gilbert Diatkine, Le Séminaire, X : L'angoisse de Jacques Lacan (in) Revue française de psychanalyse 2005/3 (Vol. 69).
(4) – Antonio Andreoli , Le syndrome de Médée, parcours sadique de la perte d’amour, Revue Médicale Suisse,n°236, Février 2010.
(5) – أنظر مادة "فجع" (باب الفاء)، لسان العرب لأبن منظور، الجزء السابع، ص 30، دار الحديث القاهرة 2003.
(6) – Serge Leclaire, On tue un enfant, Seuil, Paris 1975.
(7) – Michel Haar, Nietzche et Socrate, (in) L’Herne, n° 73, Editions de l’Herne,Paris 2000,p,196 .
(8) – voir le dialogue entre Eschyle et Euripide sous l’assistance de Dionysos dans Les Grenouilles d’Aristophane, (in) Aristophane, Théâtre complet 2, Traduction de Marc-Jean Alfonsi, GF/Flammarion, Paris 1966, pp, 273-274.
(9) – Antonio Melero, Les autres Médées du théâtre Grec, (in) Pallas,n°45/1996,Médée et la violence .pp.57-68.
(10) – Ibid., p, 64.
(11) - Henri Sztulman, Le mythique, le tragique, le psychique : Médée. De la déception à la dépression et au passage à l’acte infanticide chez un sujet état – limite .In Pallas, 45 /1996.pp,128 – 130.
(12) – أنظر مقالنا النقدي "ملامسة الفصام الجماعي في مسرحية جنون للفاضل الجعايبي"، جريدة الصحافة عدد 16 فيفري 2001.
(13) – أنظر رواية " قيامة الحشاشين " للهادي التيمومي، مسكلياني، تونس 2020.
(14) – Hans Henny Jahnn, Medea , (in) Jean – Claude Ranger , Violence, nature et divin chez Médée,(in) Pallas 45, 1996,pp, 229- 294.
(15) – Georges Banu ,Le théâtre ou l’instant habité, L’Herne , Paris 1993,p,138.
(16) - Georges Steiner, Les Antigones, Folio/Gallimard, Paris 1986, p, 219.
(17) – Ernest Bloch, Le principe Espérance, I, Gallimard, Paris 1976, p, 125.
(18)- Voir l’essai de Jérôme Garcin, Nouvelles Mythologie, Le Seuil, Paris 2007.
(19) – Alain Depaulis, Le complexe de Médée, Quand une mère prive le père de ses enfants, Edition de Boeck Université, Bruxelles 2008.p,73/
(20) – Boris Cyrulnik, Les nourritures affectives Edition Odile Jacob, Paris, 1993, p, 178.
(21) – Giorgio Agamben, Homo Sacer, L’integrale 1997- 2015, Coll. Opus, Seuil, Paris 2016, p, 69.
(22) – يترجم الفيلسوف التونسي عبد العزيز العيادي مفهوم Homo Sacer لـعبارة أو صفة منبوذ في ترجمته لجزء من أطروحة جيورجيو أغامبن، أنظر ترجمته: جيورجيو أغامبن، المنبوذ، السلطة السياسية والحياة العارية، منشورات الجمل، بغداد – بيروت 2017.
(23) – الفاضل الجعايبي، نص "آخر البحر".
(24) – نفس المصدر.
(25) – Irène Théry, La Distinction de sexe, Une nouvelle approche de l’égalité, Odile Jacob, Paris, 2007, pp,316 – 320 .
(26) – الفاضل الجعايبي، نص "آخر البحر".
(27) – أنظر مادة "عتك " في لسان العرب لأبن منظور , الجزء السادس باب العين ، ص 77, مرجع مذكور .
(28) - Peter Szondi, Essai sur le tragique, coll/ Penser le théâtre, Circé, Paris 2003, p, 17.
(29) – عبد الحليم المسعودي، الأغورا والأوركسترا، التراجيديا الإغريقية وشواغلها السياسية، دار الجنوب، تونس 2023 ص 52.
(30) – الفاضل الجعايبي، نص آخر البحر " .
(31) - Katerina KarounIa, Le rôle du tragique dans le rapport entre l’art et la politique : Hannah Arendt contre Carl Schmitt ,(in) Philonsorbonne, 13 | 2019, 39-56.