مع قرب انتهاء العام الفائت بدأت بعض المواقع الإلكترونية، ووسائل الإعلام الإسرائيلية، تسلّط الأضواء على الأضرار الجسيمة التي ألحقتها الحرب بالآثار التاريخية والممتلكات الثقافية في قطاع غزة. وكان من أبرزها تقرير نشرته صحيفة هآرتس يوم 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023 من إعداد موشيه جلعاد، محرر الشؤون السياحية والمواقع التاريخية والأثرية، تحت عنوان "المواقع التاريخية في غزة مستباحة الآن بشكل مطلق". ويمكن ملاحظة أن هذه التقارير تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عليها، غير أنها من خلال طرحها توسّع الدائرة حول ما تقوم به إسرائيل في هذا الصدد، كما أنها تضيء على النزعات التي تقف وراء ذلك في الوقت الحالي، بما يشي بالرغبات الدفينة.
يبدأ التقرير بنقل ما أورده موقع ميدل إيست مونيتور Middle East Monitor عن قيام إسرائيل بالتدمير العامد لعشرات المواقع الأثرية والقديمة في جميع أنحاء قطاع غزة. ففي مقالة طويلة، تحدث الموقع بالتفصيل عن تدمير متعمد لثمانية متاحف، بما في ذلك في رفح وخانيونس. وأشار أيضًا إلى أضرار لحقت بعشرات المساجد والكنائس ومواقع التراث الثقافي في مدينة غزة وبـ21 مركزًا ثقافيًا أيضًا. ويشير جلعاد إلى أنه في ظل استمرار الحرب في غزة، ما زالت المعارك في مختلف أحياء المدينة قاسية وطويلة. وخلال المعارك، قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص وهُجّر مئات الآلاف من منازلهم. وفي مثل هذه الحالة، نادرًا ما يتم الالتفات إلى الإضرار بالتراث أو المباني الدينية أو الثقافية أو الأثرية. ومع أنها قضايا تبدو الآن هامشية تقريبًا، فالاهتمام يجب أن يُوجّه إليها أيضًا. كما يشير إلى أن الدعوة الواضحة، التي كانت في الماضي تعتبر شبه بديهية، إلى حماية قيم التراث الثقافي والحفاظ عليها، يبدو الآن أن لا مكان لها.
وبرأيه فإن إسرائيل، ربما باختيارها، أو لعدم اهتمامها، أو حتى عن قصدٍ، تقوم اليوم بتدمير المواقع الثقافية القديمة القيّمة للغاية. وكل مقالة تتناول الأضرار التي لحقت بالمواقع الثقافية في غزة تبدأ بالمسجد الكبير، المسجد العمري في غزة الذي يعدّ رمزًا. ففي بداية كانون الأول/ ديسمبر 2023، تعرض مبنى أقدم مسجد في المدينة إلى الدمار في قصف نفذه الجيش الإسرائيلي، وادعى بيان الجيش بأنه تم استخدام المسجد كبنية تحتية لـ "الإرهاب" وجرى العثور على فتحة نفق فيه. وفي مقال نشره عالما الآثار الإسرائيليان ألون أراد وطاليا إزراحي من منظمة "عيمك شافيه" (منظمة لعلماء آثار وناشطين اجتماعيين يعملون في مجال الحفاظ على حقوق التراث والمواقع الأثرية كملكية عامة)، في موقع "سيحا مكوميت" الإلكتروني الإسرائيلي (موقع معارض) جاء: "من دون الخوض في مسألة من المسؤول، فإن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمسجد (العمري) هي في حد ذاتها أضرار مأساوية لموقع تاريخي ذي قيمة دولية".
وتم بناء الجامع الكبير على أساس كنيسة بيزنطية، في الموقع الذي كان فيه معبد فلسطيني قديم. وجرى بناؤه في أوائل العصر الإسلامي، وعاد مع الاحتلال الفرنجي ليصبح كنيسة. وفي العصر المملوكي في القرن الثالث عشر تم بناؤه مرة أخرى كمسجد. وقام العثمانيون بتجديده في القرن السادس عشر. وقد وصفه الرحالة الكبير ابن بطوطة، المولود في القرن الرابع عشر، بأنه "المسجد الجميل". واستمزج التقرير د. دوتان هليفي، وهو مؤرخ وزميل بحث في دراسات ما بعد الدكتوراه في "معهد فان لير" في القدس، ومنذ 15 عامًا يبحث تاريخ مدينة غزة. وتناولت أطروحته للدكتوراه تاريخ المكان بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. وعدّد هليفي المواقع التي تتوفر أدلة موثوقة على أنها تضررت خلال الحرب، وأوضح أنه يجب التفريق بين المواقع التي يتم استخدامها يوميًا، مثل المساجد والكنائس، وبين المواقع الأثرية، التي لا يتم استخدامها بانتظام.
ويوضح هليفي، فيما يتعلق بالمسجد العمري، أن الخوف هو ليس فقط من الأضرار التي لحقت بالمبنى نفسه، ولكن أساسًا بالمكتبة الموجودة هناك. فهي إحدى أكبر المكتبات الفلسطينية للمخطوطات الإسلامية. ولقد تضررت في الحروب السابقة وتم جمع مخطوطاتها لسنوات عديدة. ويضيف هليفي: "إذا كان هناك ضرر بالفعل للمكتبة، فهو برأيي أصعب من الضرر الذي لحق بالمبنى نفسه". و"نحن نحاول التحقق من مدى الضرر الذي لحق بالمكتبة وهذا أمر بالغ الأهمية لأنها قاعدة بيانات لمخطوطات مهمة للغاية، والتي تشمل الأدب الإسلامي الكلاسيكي". ويذكر في هذا السياق مشروع إنقاذ المكتبة البريطانية، إذ قام المشروع EAP —Endangered Archives Program (برنامج الأرشيفات المهددة بالانقراض) في السنوات الأخيرة بتمويل عملية المسح المنهجي، ورقمنة المخطوطات الموجودة في مكتبة المسجد. كذلك، فمن المحتمل أن تكون السوق المسقوفة المجاورة للمسجد، وهي مبنى يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر، قد تضررت أيضًا.
موقع بارز آخر تضرر إلى جانب الجامع الكبير، هو كنيسة القديس برفيريوس، والتي تعرضت إلى أضرار، ولكنها ربما لم تدمر بالكامل. هذه كنيسة أرثوذكسية يونانية من القرن الخامس الميلادي في حي الزيتون. وتعتبر كنيسة برفيريوس أقدم كنيسة نشطة في المدينة ومن أقدم الكنائس في العالم المسيحي. وبحسب التقارير، تعرضت قاعتان فيها إلى أضرار بسبب غارة جوية إسرائيلية يوم 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وقد وصفت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية الأضرار التي لحقت بالمبنى بأنها "جريمة حرب".
ومن بين المواقع الأخرى التي تضررت قصر الباشا، المعروف أيضًا باسم قصر الرضوان وقلعة نابليون. وشكّل الموقع خلال العصرين المملوكي والعثماني قصرًا كبيرًا، وفي العصر البريطاني تم استخدامه كمركز للشرطة. أما في السنوات الأخيرة، فينشط متحف في هذا المجمع حيث تم عرض الآثار والاكتشافات من العصور القديمة. ومؤخرًا، عُرض هناك تمثال حجري عمره 4500 عام للإلهة عنات - إلهة الجمال والحب والحرب في الميثولوجيا الكنعانية. هناك علامات استفهام كثيرة تحوم حول مبنى آخر – تل أم عامر في النصيرات. هذا هو دير القديس هيلاريون – من أوائل رهبان الصحراء في المسيحية من القرن الثالث. وتعتبر الموجودات الأثرية للدير البيزنطي أحد المواقع المسيحية الرئيسية في قطاع غزة. ولقد تم ترميم المكان في السنوات الأخيرة، وفي الأسابيع الأخيرة ناشدت السلطة الفلسطينية منظمة اليونيسكو الاعتراف به في إجراء طارئ كموقع بملكية ثقافية عالمية.
وبحسب هليفي، فإن هذا النداء قد يشير إلى أنه لم يتم تدمير الدير بالكامل، على الرغم من الأضرار التي لحقت به. وهناك تقارير أخرى تشهد على تدمير المقبرة الرومانية في غزة. ومن بين المواقع الأخرى التي من المحتمل أن تكون قد تضررت، هناك موقع التنقيب الإنثيدون – ميناء غزة القديم. وأفيد عن تعرض الموقع للأضرار، ولكن يصعب العثور على دليل على ذلك. وفيما يتعلق بهذا الموقع، فقد كانت هناك أدلة على تعرض آثاره إلى أضرار جسيمة في الأعوام السابقة للحرب. ومن بين المباني الحديثة ذات القيمة التاريخية التي تضررت، يشير هليفي أيضًا إلى المركز الثقافي الذي يحمل اسم رشاد الشوا (رئيس بلدية غزة في سبعينيات القرن العشرين الفائت). وهذا المبنى الخرساني الوحشي العاري هو من تصميم المهندس المعماري سعد محفل (سوري)، واكتمل بناؤه قبل 30 عامًا وأصبح رمزًا في غزة. وتم تخصيص هذا المبنى ليكون مقرا للبرلمان الفلسطيني بعد قيام الدولة.
لأجل الروح
عندما سئل دوتان هليفي عن مشاعره تجاه هذه الأدلة، صمت للحظة، ثم أجاب: "يوجد الآن حزن عميق. حزن على التراث الذي يتم تدميره، ولكن أيضًا على حقيقة أن أشخاصًا من غزة قد أخبرونا في الأعوام الأخيرة أن إسرائيل تقوم بتدمير كل ما هو جميل. إسرائيل تدمر كل ما يمكن أن نجد فيه بعض العزاء والراحة. أنا لست عسكريًا ولا أعرف أي السلوكيات مبررة أو لا، ولكن الأمر محزن. في الماضي كانت هناك عمليات عسكرية يشارك فيها مختصون ويشيرون خلالها إلى ما لا ينبغي تدميره. أما اليوم فالانطباع السائد هو أن الأمر لا يجري بهذا النهج، مع أنه من المهم أن نترك شيئا للعقل والروح والتاريخ".
غزة مجرّد "ثقب أسود"
ولدى سؤاله عما إذا كانت إسرائيل عمومًا تتعامل مع غزة كمدينة ذات تاريخ وثقافة وسكان؟ أجاب: "إننا [يقصد الإسرائيليين] بكل بساطة لا نفكر في غزة بتاتًا. لقد أقمنا جدارًا فاصلًا، وقررنا أنها كيان معادٍ، ومنذ ذلك الحين لا نفكر في ما يوجد هناك. بالنسبة إلينا، إنها ثقب أسود. يعيش هناك مليونا إنسان، أشبه بدولة صغيرة. وجهة نظري أنا محدودة أيضًا، ولكن من خلال البحث ومعرفتي بالناس أرى غزة مكانًا حيًّا وديناميكيًا، وهي مكان تمكن الناس من العيش فيه بطريقة طبيعية نسبيًا. والأماكن التي يتم تدميرها الآن تعيش في ذهني". وتابع: "لا يوجد في الخطاب العام الإسرائيلي أي تفريق بين سكان غزة وحركة حماس. الجميع هم حماس أو أن الجميع يدعمون حماس، مع أن هذا غير صحيح في الواقع. أنظر إلى التقسيمة العمرية في قطاع غزة وستدرك فورًا أن نصف السكان ولدوا في ظل حكم حماس. وهذا يعني أنهم لم يستطيعوا اختيار أحد آخر. في إسرائيل يعرفون القليل جدًا عن غزة ويطبقون حماس على كل شيء. أعتقد أن إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو إخفاق في الوعي. نحن لا نعرف شيئًا عن هذا المكان ولذا لا نعرف كيف نتوقع ما سينتج منه".
أما عالم الآثار ألون أراد، المدير العام لمنظمة "عيمك شافيه" (منظمة لعلماء آثار وناشطين اجتماعيين يعملون في مجال الحفاظ على حقوق التراث والمواقع الأثرية كملكية عامة)، فيؤكد أنه "من الصعب وصف الصورة الكاملة للوضع في القطاع، ولكن نقطة الانطلاق هي أنه منذ اللحظة التي أعلنت فيها إسرائيل نيتها إسقاط حكم حماس، فقد شملت بهذا بُنى الحكم ورموز الثقافة والحكومة. هذه الأماكن هي محور أساسيّ في بناء الهوية. وهي مصدر للفخر الشخصي والوطني. بمجرد إعلانك أن هدفك هو تفكيك الهوية الحماسية فهكذا ستفكك الهوية الغزية أيضًا. ليس هناك اليوم من يدافع عن الممتلكات الثقافية في غزة".
وسئل فيما إذا كان الضرر الذي لحق بالمواقع متعمدًا أم تم بشكل عرضي؟ فأجاب قائلًا: "هذا سؤال مركّب. يبدو أن هناك نهجًا متعمدًا، ولكني لا أعرف القول من أين يأتي. هل هناك، على سبيل الافتراض، عارضة لدى رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي تقول ’هذه هي الممتلكات الثقافية لغزة وإذا قمنا بتدميرها فسنلحق الضرر بالعدو’؟ أم أن ضابطًا برتبة دُنيا في الميدان هو من يقرر أن بعض المباني تبدو له حماسية وبالتالي يقوم بتدميرها؟ إن روح القائد واضحة للجميع: تدمير حماس، وكل ما يرتبط بها. وفيما عدا ذلك، نحن في عالم الأضرار الجانبية التي تنبع من الجهل".
وبرأيه "يمنع القانون الدولي في السياقات المتعلقة بالتراث استخدام مواقعه كبنية تحتية عسكرية. ويحظر بناء نقاط تحكّم واستحكام عليها، ومن ناحية أخرى يحظر أيضًا الإضرار بها عمدًا. ومن الواضح لنا جميعًا أنه في اللحظة التي تتعرض قوة ما لهجوم من داخل المسجد، فإنها ترد بإطلاق النار. وأنت لا تتوقع من ضابط برتبة دُنيا أن يقول لجنوده ’لا، لا، هذا مبنى من القرن الخامس، وحتى لو أطلقوا النار علينا، فإننا لن نقوّضه’! ومع ذلك فالقانون الدولي يتحدث عن التناسب، وإذا تم إطلاق بضع رصاصات من داخل مسجد، فلا نسقط عليه قنبلة بوزن طن"!
ولدى سؤاله فيما إذا تغيّر شيء ما في الحرب الإسرائيلية الحالية ضد غزة؟ أجاب: "إن الانطباع العام هو أن الجيش الإسرائيلي يعمل بمعايير متساهلة أكثر بكثير مما كان في الماضي. نحن نرى الدمار الواسع النطاق في غزة. والمواقع التراثية ليست مستثناة من الدمار. والانطباع العام هو أن المواقع التاريخية في غزة مستباحة الآن بشكل مطلق، لأنه لا يوجد من يطالب بالحفاظ على سلامتها. الاهتمام ينصب على الغذاء والوقود والماء، وبالتالي فإن مقدار الاهتمام الذي يمكنك توجيهه للحفاظ على فسيفساء أقرب إلى الصفر. هناك عدد من الهيئات الدولية التي عملت في القطاع، لكنها لا تستطيع منع الدمار. حتى هيئة مثل منظمة اليونيسكو ليس لديها تفويض وليست لديها قدرة فعلية، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن هناك ثلاثة مواقع مدرجة على القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي - ميناء غزة القديم، وتل أم عمار، ومنطقة وادي غزة".
عن (ضفة ثالثة)