في مواصلة (الكلمة) الكشف عن ازدواجية الفكر الغربي، والسياسة الغربية من ورائه، وفضحهما على أرض معركة الإبادة الصهيونية الدائرة الآن في غزة، ننشر هنا هذا المقال المهم عن مفكرين بارزين، عرى الانحياز للسردية الصهيونية الكثير من أطروحاتهما الفكرية، ومواقفهما السابقة من الحق والعدل والإنسانية.

فلاسفة الغرب وفلسطين: هبرماس وسارتر

فــؤاد إبــراهـيـم

 

على طريقة جمهرة من الفلاسفة والباحثين والإعلاميين في الغرب في مقاربة العدوان الإسرائيلي على غزة، بفصل «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر عن سياقه التاريخي، أي خارج سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في بتر متعمّد للصيرورة التاريخية وتحوّل رد الفعل الدفاعي إلى فعل ابتدائي هجومي. وفي انتقائية مقصودة لوضع الواقعة خارج سياق المقاومة المشروعة على فعل الاحتلال الممتد لأكثر من سبعين عاماً، وتالياً نزع دمغة المقاومة، وإحلال دمغة الإرهاب، يتصدّر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، ورفاقه في مدرسة فرانكفورت، رهطَ الفلاسفة الأوروبيين في تسويغ «التضامن» مع الكيان الصهيوني وإحالته واجباً أخلاقياً، ليكون «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» حقاً لا مراء فيه، وهو كفيل بتوفير الذريعة باستخدام كل الوسائل لحماية نفسها من تكرار الخطأ الأخلاقي الألماني.

تواصلية هابرماس مشروطة بالتماهي مع إسرائيل
هابرماس، الذي أمّل قارئيه بالفكاك من قبضة التمركز الأوروبي، ما يلبث أن يصدم جمهوره بموقف انقلابي. لم ينحبس انقلابه في بعده الفكري بعد امتطائه موجة الحداثة المبتورة التي عارضها حين تكون ناقصة وانتقائية، بل ضمّ إليها بعداً أخلاقياً في خطابه التواصلي الذي لطالما سحر به المحبطين من هيمنة خطاب الهيمنة والتفوّق العنصري الأووربي. في رد فعل على ما يجري في فلسطين المحتلة منذ السابع من أكتوبر سنة 2023، بعد عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها حركة «حماس»، وما أعقب ذلك من حملة عسكرية إسرائيلية على قطاع غزّة غير مسبوقة على مستوى العالم، شارك هابرماس في 13 تشرين الثاني 2023 مع مجموعة من الفلاسفة الألمان ينتمون إلى مدرسة فرانكفورت النقدّية التي تأسست سنة 1923، وهم: نيكول ديتلهوف، راينر فورست وكلاوس غونتر، في بيان بعنوان «مبادئ التضامن»، نشر على الموقع الإلكتروني لمركز أبحاث النظم المعيارية بجامعة غوته في فرانكفورت.

توقّف البيان عند ما وصفه «هجوم حماس الوحشي الذي لا مثيل له» ليبني عليه موقفاً أخلاقياً، متجاوزاً ما وصفه البيان «وجهات النظر المتضاربة»، وينتقل إلى ما حسبها مبادئ تشكّل «أساس التضامن المبرر مع إسرائيل ومع يهود ألمانيا». اختار الموقّعون على البيان مصطلحات مدجّجة بدلالات سيكولوجية وتاريخية لتبرير انتقام إسرائيل، مثل «المذبحة» و«تدمير الحياة اليهودية». لم يتوقف البيان عند أعداد الضحايا من الجانب الفلسطيني، ولا الهجوم الهستيري على الأحياء السكنية وهدم المباني على ساكنيه،ا والمجازر الجماعية التي بلغت حتى يوم صدور البيان 1142 مجزرة، سقط فيها 11180 بريئاً، بينهم 4609 أطفال، و3100 سيدة، بحسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية.

اختار البيان أن يتجاهل، عن سابق عمد، القلق على «مصير السكان الفلسطينيين»، بحجة أن «معايير التقييم تخرج تماماً عن المسار عند نسب نوايا الإبادة الجماعية إلى العمل الإسرائيلي». تجتمع حالة الإنكار والانتقائية في توظيف شعار «معاداة السامية» لتحصين يهود ألمانيا من أي ردود فعل محتملة إزاء ما وصفها البيان «تصرفات إسرائيل» وليس جرائمها! بل ربط البيان المفهوم الديموقراطي لجمهورية ألمانيا الاتحادية باحترام كرامة الإنسان، ولكن ليس أي إنسان، وإنما المفهوم المرتبط بثقافة سياسية تعدّ «الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين فيها» وهذان العنصران جزء جوهري من الالتزام الألماني في سياق «التكفير» عن جرائم الحقبة النازية.

كانت قصة الهولوكست مكوّناً حاضراً بكثافة في السردية الألمانية السياسية والتاريخية لتخرج في هيئة تحذير ذاتي: «لن يحدث ذلك مرة أخرى». فرسالة هابرماس ورفاقه عكست المزاج السياسي العام في ألمانيا، ولا سيما وسط أحزاب اليسار، والأحزاب الليبرالية المنضوية في حكومة شولتس الائتلافية. هذه الحكومة التي أبدت سلوكاً راديكالياً إزاء بقية المكوّنات الاجتماعية في ألمانيا، كما ظهر في المطالبة بسحب الجنسية الألمانية من المتّهمين بنشر الكراهية ضد اليهود، ووقف تمويل المؤسسات الثقافية التي تدعم حركة مقاطعة بضائع الشركات الداعمة لإسرائيل. وفي النتائج، فإنّ بيان هابرماس ورفاقه يندرج في سياق التشجيع على إسكات الانتقادات المشروعة للسياسات الإسرائيلية. أثار البيان جدلاً واسعاً في أوساط أكاديمية أوروبية، وصدمة في أوساط أخرى ثقافية وأكاديمية عربية وعالمية، بفعل الانحياز غير المبرر لموقّعي البيان لمصلحة إسرائيل، وخصوصاً لجهة صدوره بعد أكثر من شهر على بدء الهجمات الوحشية والمجازر المروّعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد سكّان قطاع غزة.

في بيان مضادّ صدر في 22 تشرين الثاني 2023 عن مجموعة من الباحثين الأوروبيين، أكّدوا فيه أن مبدأ الكرامة الإنسانية لا يقبل القسمة ويجب أن ينطبق على جميع الناس. لفت البيان إلى أن انتقائية هابرماس ورفاقه في التعامل مع مبدأ الكرامة الإنسانية التي «لا تشمل المدنيين الفلسطينيين في غزة وهم يواجهون الموت والدمار، ولا يتم تطبيقه أو توسيعه على المسلمين في ألمانيا الذين يعانون من تزايد كراهية الإسلام». وجّه البيان نقداً لنفي هابرماس ورفاقه انطباق مسمّى «الإبادة الجماعية على تصرفات إسرائيل» مع أنّ الموقّعين على البيان تحفّظوا على إطلاق الإبادة الجماعية على القتلى بأعداد كبيرة في قطاع غزة بسبب عدم استيفاء المعيار القانوني للإبادة الجماعية، إلا أنّهم حذّروا من «إمكانية حدوث إبادة جماعية». وعبّر الموقّعون عن القلق من إغفال مرجعية القانون الدولي في الحرب لناحية، «حظر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثل العقاب الجماعي والاضطهاد وتدمير البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة».

في حقيقة الأمر، إنّ بيان هابرماس ورفاقه أكّد التحيّز الغربي ولا أخلاقيته في التعاطي مع قضايا شعوب العالم الثالث. لقد أطاح هابرماس بموقفه التحيّزي رمزيته وسحرية تراثه الفكري ولا سيما فلسفته التواصلية في بعدها الأخلاقي. إنّ استحضار قصة «الهولوكست» في كل مرة يكون العنصر اليهودي طرفاً فيها، يراد منه «معاقبة» العالم بأسره على جرم لم يشارك فيه، وتحويلها أداة تبرير كما فعل البيان لعمليات الإبادة التي انتهجها الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، ببساطة لأنّ ما يقوم به هو تصرف على كره اليهود. إنّ بقاء الألمان عالقين في عقدة الذنب إزاء اليهود لا يبرّر مواقف معنوية داعمة للكيان الإسرائيلي، بل تستكمل بتقديم كل أشكال الدعم المادي والعسكري له، من أجل نيل المغفرة منه وإنزال العقوبة في خصمه.

هابرماس لا ينتقم من الفلسطينيين لخصومة سابقة معهم، ولكن لعقدة ذنب إزاء خصومهم، أي الصهاينة. فقد رافقته العقدة إزاء اليهودي منذ كان طالباً جامعياً حين كان يلحظ النزعة الإقصائية إزاء كل ما هو يهودي. شأن الألمان عموماً، فإنّ «عقدة الذنب الألماني» أو «الذنب الجماعي» على خلفية محرقة هولوكوست، كما أسهب في شرحه كارل ياسبرز في كتابه عن «مسألة الذنب الألماني» الصادر سنة 1947، وربط عقدة الذنب بالمسؤولية السياسية، وليس بالمعنى الأخلاقي والميتافيزيقي، وليس أيضاً الجنائي. حين يرسّخ الذنب إزاء اليهود في السردية الألمانية يحيل منه فريضة ثابتة ودائمة، فهو مطالب بالتكفير عن هذا الذنب، كلما دعت الحاجة.

وهنا نواجه تفوّقين، أوروبي ويهودي (إسرائيلي)، إذ ثمة معاملة خاصة تستوجب موضعة اليهودي - الإسرائيلي في مرتبة تتفوق على غير،ه ضمن مقتضيات طلب المغفرة والتكفير عن الذنب، والذي يجعل الألماني، السياسي والفيلسوف على وجه الخصوص، محبوساً في الماضي الذي لن يخرج منه، طالما بقيت سردية الهولوكست منغرسة في الوعي الجمعي الألماني، وجعلها مجهر الرؤية لكل ما يحسبها تهديداً «للحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود» كما جاء في بيان هابرماس ورفاقه. التحيّز السياسي لدى هابرماس ليس مفصولاً عن تحيّزه الفلسفي، وكلاهما يلتقيان عند عقدة الذنب الألماني، وأراد نحل اليهود امتيازات استثنائية فلسفية وعرقية، لتكون جزءاً من التعويض النفسي.

نلحظ في كتابه «الفلسفة الألمانية والتصوّف اليهودي» إرجاعه نشأة ابستمولوجيا العلوم الحديثة إلى الإشكالية الصوفية اليهودية، وإعلاء الدور الفكري للطليعة في المجتمع الألماني، بناءً - حسب دعواه - على مفهوم الخلاص الصّوفي الكابالي بصفته أساس نظرية المعرفة الإنسانية والفلسفة الوجودية، بل والدعوة الإنسانوية الماركسية. وعلى خلاف موقفه من الدين عامة، ووصمه بالعقم في حركة الفلسفة، وفي عموم التراث المعرفي الإنساني، صاهر هابرماس بين اليهودية والفلسفة، وخلص إلى أن مفهوم العقل بصفته المصدر الأول برز أول مرة من خلال أقوال الأنبياء اليهود. كما جعل الروحية اليهودية حاكمة على علم الاجتماع الألماني منذ عصر لودفيك غومبلوفيتش. مع أن هابرماس التزم موقفاً متشدّداً من الفكر الإسلامي الذي أدرجة موصوماً في خانة «الأصولية» وعدّ أيّ محاولة يقوم بها الفكر الإسلامي للإسهام في دورة المناقشات الفكرية المعاصرة انتهاكاً لحرمة الحداثة.
في بيان «مبادئ التضامن»، انقلب هابرماس على كونيّته، ويقينيّاته في الفلسفة التواصلية، بل وحتى على منهجه في الانفتاح على الفلسفات والمدارس الفكرية الأخرى، بانحيازه إلى اليهود الألمان ضد من سمّاهم «أولئك الذين يقيمون في ألمانيا» بنزع صفة المواطنة عن الأجانب الذين هاجروا إلى ألمانيا، وحصلوا على جنسيتها، ولكن «معاداة السامية» أصبحت مبرراً لإلغاء حقوق المواطنة والجنسية، وكأنه يمنح فئة من الناس حق التعبير والتواصل في الفضاء العام وسلبه من فئات أخرى. انقلاب هابرماس على فلسفته التواصلية، بما تتضمنه من دعوة حوارية مفتوحة وتلاقٍ بين الثقافات والأديان عامة دون افتئات أو مصادرة من طرف لآخر، عطّل إمكانية الركون إليها عبر الانزياح غير الأخلاقي، وهو ما سمّاه المفكر المغربي محمد المعزوز «مُضمر التّجنيد العرقي» وراء اليهودية.

لا فصل بين هابرماس فيلسوف الأخلاق التواصلية وهابرماس المواطن الألماني المسكون بعقدة «الهولوكوست»، فلم يُعهد عنه مناصرته لأيّ قضية عادلة على الرغم من خلفيته الماركسية. فقد تصرّف هابرماس من موقعه الألماني وليس الكوني، على عكس آينشتاين الذي اختار عالميته على يهوديته برفضه العرض الذي قدّمه له بن غوريون سنة 1952 بتولّي رئاسة الكيان الإسرائيلي. وهذا ما لفت إليه المفكر المغربي محمد المعزوز الذي طالب بخلق مسافة نقدية مع فلاسفة الغرب، وشدّد على إنسانية المعرفة بانتصارها للقيم الثابتة للبشرية.

يصعب نبذ الحمولة الفلسفية والفكرية التي قدّمها هابرماس، ومساهماته الفارقة في تزخيم العقل عبر نظرية اجتماعية متطوّرة تستدمج فخر المنتجات المعرفية الإنسانية على ضروبها في نظام معرفي جامع. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن التنازل عن قيم إنسانية سحقت في العدوان الإسرائيلي على غزة، وأن انحياز هابرماس ضد قضية عادلة وشديدة الوضوح ليس مجرد سقطة عابرة، بل هو عن سابق إصرار ودراية، وهو عار أخلاقي لا يمحى بسهولة. أثبت هابرماس أن العقل الإقصائي الأوروبي لا يزال سادراً في نسيج تفكيره، هذا العقل الذي يقسم العالم إلى «نحن وهم»، و«نحن» هنا التي تمنح الشرعية وتصوغ الرؤية حول العالم وتعدّ قوائم الأخيار والأشرار، ومن لهم حق الحياة ومن يحكم عليهم بالموت، وهنا نستخدم أدوات هابرماس نفسه في التواصلية حيث يحتجب آخرون عن رؤيته التواصلية والديموقراطية التداولية والحوار غير المشروط أمام حضور كثيف للأنا الإقصائية، الأوروبية وملحقاتها. إنها «البوصلة الأخلاقية الملتوية» كما سمّاها المفكر الأميركي من أصل إيراني آصف بيات، التي تتوكأ على استثناء ألماني محمولاً على معايير تفاضلية تجعل من بعض الناس جديراً بالحياة، وبعض آخر جدير بالموت والفناء.

سارتر: إسرائيل أولاً، وفلسطين عاشراً!
في أرشيف فيلسوف الوجودية الفرنسي جان بول سارتر (1905 - 1980) تجربة عريقة في النضال ضد الاستعمار الفرنسي والأوروبي عموماً، فكانت له مواقف فارقة في دعم قضايا الشعوب، ولا سيما الشعب الجزائري في نضاله ضد الاستعمار الفرنسي. وكان عمله المسرحي «الذباب»، الذي نشره في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، يُصنّف في أدب مقاومة الاحتلال. وقد أثار بعد عرضه في مسرحية حفيظة السلطات الألمانية التي أوقفت العرض بعد أن تنبّهت إلى رسالته التحريضية. ومع أنّ شخصيات المسرحية تعود إلى أزمنة غابرة، يونانية على وجه الخصوص، فإنّ طبيعة الحوارات التي دارت بين شخصيات المسرحية تحمل رسائل سياسية معاصرة، وذات دلالة، مثل القول بأن القاتل هو من يستولي على الحكم. ويشدّد في هذا العمل على قيمة الحرية، ولا سيما الحرية الفكرية، ويطالب بأن يمسك الفرد زمام أمره بيده وبإرادته الحرّة، ويذكّر قارئه بأنّه حر، والواجب على الحر أن يمارس حريته بانتزاع كل القيود المفروضة عليه، لأنّ الحرية مثل العدوى. وحسب وصفه، فـ«إن رجلاً حراً في المدينة هو أشبه بعنزة جرباء في قطيع، فهو سوف يصيب بالعدوى كلّها...». وينبّه إلى القوة الهائلة التي ينطوي عليها الإنسان الحر «حين تنفجر الحرية يوماً في قلب إنسان، فإن الإلهة لا يملكون إلا العجز تجاه هذا الإنسان.»

نشر سارتر روايات مسرحية وأعمالاً فكرية أخرى عن الحرية بخلفية سياسية، وله كتاب «مواقف» عارض فيه الحرب الهندية الصينية، ودافع عن الناشطين من شعراء وكتّاب، وكان وقوفه إلى جانب الثورة الجزائرية معلماً فارقاً في سيرته النضالية. وكتب مسرحية «أسرى ألتونا» وألتونا هي بلدة في هامبورغ على نهر إلبه، تناول فيها قصة تعذيب الفرنسيين للجزائريين، بتقميص ضابط ألماني، فرانتز، دور الضابط العائد من القتال والمسكون بعقد نفسية والمتعطش للتعذيب وقهر الآخرين. ولكن، في المقلب الآخر، ثمة درج في أرشيف سارتر يخفي فيه وصمة التماهي مع المشروع الصهيوني، وأقول «يخفي» لأنه تعمّد ذلك حتى لا يفقد المقروئية الواسعة التي يتمتع بها في أوساط المناضلين من أجل الحرية، والشريحة التي آمنت بأيديولوجيته الوجودية.

في سنة 1944 كتب سارتر مقالة بعنوان «حول المسألة اليهودية»، وشرح موقف اليهود في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وبدا متأثراً بالدعاية الصهيونية بل تحوّل إلى أداة فيها. أعاد سارتر إنتاج صورة اليهودي المضطهد، الذي ساقته ظروف قاهرة في البلدان التي عاش فيها إلى خيارات اضطرارية وامتهان حرف ممقوتة. فقد نقل اليهودي من سياقه الفرنسي لتبرير خياره في الهجرة إلى أرض فلسطين واستيطانها واضطر إلى احتراف الربا، مع أن الربا كان حرفة اليهودي منذ القدم. في إنكلترا في القرن الثاني عشر كان نصف المرابين فيها من اليهود. ولكن سارتر قارب المسألة اليهودية من موقع اليهودي المضطهد، ونفى أن تكون المسألة اليهودية يهودية الطابع، ولكنّها مسألة فرنسية، لأنّ المجتمع فشل عن سابق تصميم في استدماج اليهود.

لا يكفّ سارتر عن تحميل المجتمع المسيحي الأوروبي مسؤولية اللعنة الاقتصادية التي أصابت اليهود، فلم يكن بإمكانهم امتلاك الأرض، أو الخدمة في الجيش، فقد تاجروا بالمال، وهو المجال الذي لا يمكن للمسيحي الانخراط فيه، لأنّه مجال مدنّس بحسب العقيدة المسيحية (والإسلامية أيضاً). ولذلك، يذهب إلى أن المسيحيين هم الذين صنعوا اليهودي من خلال نبذه وإجباره على اختيار وظيفة نجح فيها منذ ذلك الحين. ويحمّل المجتمع مسؤولية جعل اليهودي مشكلة، وإجباره على خيارات، ضمن هذه المشكلة، وهو يختار حتى وجوده من خلالها. ويمضي سارتر في تحميل المجتمع مسؤولية المشكلة اليهودية، لأن الاندماج في المجتمع هو جهد اجتماعي تماماً كما أن النبذ هو قرار اجتماعي، وعليه، وفي النتيجة، فإن اللعنة التي حلّت على اليهودي لعنة اجتماعية. في نهاية المطاف، فإن سارتر يحمّل المجتمع مسؤولية ما أصاب اليهودي من مشاكل وإجباره على الاشتغال بالتجارة، وبدلاً من سؤال اليهودي عن هويته يجب أن يسأل المسيحي عمّا أحدثه من مشاكل لليهودي.

يذهب سارتر إلى أن معاداة السامية سمة البرجوازية، وهي سمة راسخة وموروثة جنباً إلى جنب المال والعقار. وهنا سارتر يفكر بعقل يهودي، لا فرنسي أو حتى إنساني، وينظر إلى اليهودي كقيمة عالمية ولكن كان ضحية جناية جماعية. ومع ذلك، فهو ينظر إلى معاداة السامية لا بكونها فكرة، بل كعاطفة جيّاشة وشغف، ويفترض دائماً أن ثمة من يتربّص باليهودي للنيل والكيد له، وأنّ أكثرهم اعتدالاً هو من يفصح عن مشاعره بهدوء إزاء اليهودي ولا يلعب دوراً عاماً وازناً. يتوقف سارتر عند أزمة الهوية اليهودية، حيث يستعرض الخصائص التي يمكن أن تميّزها عن باقي الهويات، ربطاً بتميّز اليهودي عن باقي البشر، سواء بالعرق، أو الدين، أو القومية. ويزعم سارتر أن ثمة مجتمعاً دينياً وقومياً يسمى «إسرائيل» كان قائماً في الماضي البعيد، ويلمح في ذلك إلى فلسطين. ولكن تاريخ هذا المجتمع كان تاريخ انحلال على مدى خمسة عشر قرناً، حيث فقد سيادته مبكراً، ثم كان السبي البابلي والهيمنة الفارسية، وأخيراً الغزو الروماني. ويفترض سارتر أن فلسطين كانت وطن اليهود، ولكنّها بسبب لعنة الجغرافيا - إذ تقع على مفترق الطرق التجارية في العالم القديم - فإنها تعرّضت لسحق الإمبرطوريات الكبرى القديمة، الأمر الذي أفقدها القوة بشكل بطيء.

أدرك سارتر حقيقة أزمة هوية اليهودي، بين أن يكون عضواً في جماعة وطنية عابرة للأديان كأن يكون مواطناً في الأمة الفرنسية، وبين أن يكون يهودياً أي عضواً في جماعة دينية خاصة. ولحسم التناقض يدعو سارتر إلى التوفيق بين الانتماءَين وجعلهما متكاملين لكونهما مندكّين في الواقع اليهودي اليومي والمباشر. ومع ذلك، ذهب سارتر إلى أن اليهود في حال خُيّروا بين القدس وفرنسا، فستختار الغالبية العظمى من اليهود الفرنسيين البقاء في فرنسا، وأن عدداً صغيراً سوف يختار الذهاب إلى فلسطين. هذا لا يعني، بحسب رأيه، تخلي اليهود عن فلسطين، فهي سوف تمثل«نوعاً من القيمة المثالية، ورمزاً»، ويميل سارتر إلى منح المجتمع اليهودي الفرنسي وضعاً خاصاً.

زار سارتر مصر سنة 1967 وانتقل إلى فلسطين المحتلة وحصل على تكريم من جامعة أورشليم، وهناك تعرّف إلى مأساة الشعب الفلسطيني ونقل عنه: «أحس إحساساً عميقاً بمأساة اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في ظروف بائسة... إنني أعتبر أن حق الفلسطينين القومي في العودة إلى البلد الذي كانوا يعيشون فيه لا تجوز مناقشته إطلاقاً...». ولكن ثمة ما تبدّل في موقف سارتر، بعد حرب يونيو 1967، حين أعلن تضامنه مع الكيان الإسرائيلي، وأحدث صدمة وسط مناصري مدرسته الوجودية، بل إن رمزيته وسط الثوّار الجزائريين تحوّلت إلى لعنة، فبعد أن كان صديقاً للثوّار، أصبح منبوذاً وقام طلاب جزائريون بإحراق كتبه وتكرّرت الظاهرة في العراق أيضاً، وبعد أن كان يتحدّث سارتر عن عار فرنسا في الجزائر تحوّل هو نفسه إلى عار وسط الجزائريين.

إنّ الصدمة التي أحدثها سارتر لرفاقه في النضال، وخصوصاً بعد توقيعه على بيان تأييد للكيان الإسرائيلي، دفعت جوزي فانون، أرملة المناضل فرانز فانون (التي وصفت توقيعه بأنه عمل خائن، كما فضحت الشخصية الحقيقية لليسار الفرنسي بأسره)، وفي مقالة افتتاحية غاضبة في صحيفة «المجاهد» الجزائرية الناطقة بالفرنسية (وكانت تغطي أخبار الثورة الجزائرية وتنطق بقضية جبهة التحرير الوطني) إلى إدانة، وبشدة، موقف اليساري الفرنسي العنصري المعادي للعرب. وكتبَت أن سارتر تحوّل من معسكر فانون إلى «المعسكر الآخر، معسكر القتلة، المعسكر الذي يقتل في فييتنام، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية». بل طلبت جوزي فانون من دار النشر التقدمية - ماسبيرو، إزالة مقدّمة سارتر الشهيرة لكتاب فانون «معذبو الأرض»، وامتثل مدير الدار فرانسوا ماسبيرو، المناهض للاستعمار، لطلبها في الطبعة التالية التي ظهرت من دون مقدّمة سارتر.
في الواقع، إن الغطاء الثوري الذي غمر فترة من حياة سارتر كان بمنزلة الغمامة التي سترت كثيراً من الحقائق والأسرار، وفي طليعتها تأييده للحركة الصهيونية وإنشاء دولة يهودية في فلسطين. فقد شارك في عامي 1947 و1948 مع المثقفين الفرنسيين من اليمين واليسار في تأييد إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وأنّ من شأنها أن «تعطي الشرعية لآمال ونضالات اليهود في جميع أنحاء العالم». وعليه، فإن تأييد الكيان الإسرائيلي لم يكن طارئاً في سيرة سارتر، بل يعود إلى بدايات تشكّله، وقد كتب رسالة في 25 شباط 1948 إلى «الرابطة الفرنسية من أجل فلسطين حرّة»، تشتمل على اتهام للحكومة البريطانية بتسليح حرب فلسطين وتشجيعها على قتل اليهود لتبرير بقاء بريطانيا في فلسطين. وقد انضم سارتر مع سيمون دي بوفوار إلى الرابطة التي أنشأها نشطاء الإرغون عام 1947 وضمّت كبار المشاهير في ذلك الوقت، مثل كلوديل وفيركور ورموند آرون وإيمانويل مونييه، ولويس جوفيه وإدغار فور. وقدّم شهادة لمصلحة أحد طلابه المتهم بحيازة متفجرات نيابة عن مجموعة شتيرن، حيث أعلن: «أنا أعتبر أن واجب غير اليهود هو مساعدة اليهود، والقضية الفلسطينية» (أي قضية يهود فلسطين).

بدا سارتر مخادعاً بحياديته في قضية فلسطين، وبقي حتى حرب 1967 مراوغاً ويتفادى الإفصاح عن موقفه الداعم للصهيونية خشية خسارة جمهوره العربي. حتى إنّه رفض التصريح عن موقفه من الصهيونية لصحيفة إخبارية عربية خشية الإضرار بموقفه الحيادي المخاتل، وطلب من أحد رفاقه، وهو فلابان أن يكتب إلى صحيفة «لوموند» أن «سارتر لم يعبّر عن رأيه حول الصهيونية التي يراها شأناً داخلياً للشعب اليهودي»، وتبرير سارتر كان أنّ مثل هذه الخطوة من شأنها أن تبقي العرب منخرطين في حركته.

صمته عن إفصاح موقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي طوال الخمسينيات وحتى الستينيات إلى وقت اندلاع حرب يونيو 1967، كان محمولاً على اصطفافه إلى جانب الثوار الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، الذي وهبه شعبية ومقروئية عالية، وصارت كتبه واسعة الانتشار في العواصم العربية وتُرجمت أعماله وأصبحت متداولة وسط المثقفين العرب. كان على سارتر أن يختار بين وعيه السياسي والأكاديمي وعاطفته الإثنو-دينية، وبدا حيادياً في البداية، فجمع بين موقفين متناقضين: إدانة الأوضاع المعيشية المزرية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون وفي الوقت نفسه تأييد إقامة دولة يهودية ذات سيادة. وهكذا، حين يكون في لحظة ما حاسمة كان على سارتر أن يختار فاختار عاطفته التي أطاحت التزامه الأخلاقي وقناعاته السياسية السابقة.
كتب المؤرّخ الفرنسي يوآف دي كابوا في كتابه «لا مخرج»، الصادر سنة 1970، عن زيارة سارتر للمنطقة سنة 1965، فكانت زيارة فاصلة في تحديد خياراته السياسية، وفيها تعرّف عن قرب إلى طبيعة الصراع الدائر في فلسطين المحتلة. وقبل أن يفصح عن رأيه بعد جولته الشرق أوسطية، كان يتطلع لأن يحصل على رأي طرفَي الصراع وأن يفرد مساحة وازنة له في مجلته «الأزمنة الحديثة» (Les Temps modernes) ولكنّ الطرفين امتنعا عن تلبية طلب سارتر، وقد تكون خدعة حيادية سارتر هي السبب في ذلك. ولكن بعد عامين قرّر سارتر، وبرفقة زميليه بوفوار ولانتسمان، زيارة القاهرة، وكان على سارتر أن يختار بين عالميته وموقفه السياسي المضمر، فكان اختباراً أخلاقياً فاصلاً، وفي قضية لا تحتمل المراوغة والحياد، ولن ينجو هذه المرة كما فعل في الزيارة السابقة.

وهنا يكون سارتر أمام معتقده الفلسفي ونضاله السياسي السابق، وأنّ الغبش الذي رافق الزيارة الأولى قد زال في زيارته الثانية، إذ مكّنته من مشاهدة الحقائق على الأرض وبالعين المجرّدة. لا يبدو أن سارتر خرج من الامتحان منتصراً، فقد تخلى عن شعاراته في مقاومة الاحتلال والاستعمار وبدت صورة اليهودي المضطهد في الغرب غالبة وحاكمة على صورته كمحتل لأرض ومتورّط بارتكاب جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية، وكان عليه أن ينحاز إلى رواية ما. وحقيقة الأمر، أن سارتر، كما هي قناعة كثير من قرّائه العرب، كان منذ البداية داعماً للحركة الصهيونية ولمشروع الدولة الإسرائيلية، وهذا ما نقله المفكر الفلسطيني إدوار سعيد عن دراسة الفيلسوف الفرنسي الصهيوني برنارد ليفي الذي كتب عن سارتر ما نصّه: «سجلّ سارتر في ما يتعلق بإسرائيل كان مثالياً: لم ينحرف أبداً وبقي داعماً كاملاً للدولة اليهودية».

ونقرأ في كتاب ليفي عن سيرة سارتر ما نصّه: «لم يضعف أبداً في دعمه المبدئي للدولة التي ظهرت إلى الوجود في السنوات التي تلت المحرقة». ذهب سارتر في دعمه غير المشروط للكيان الإسرائيلي، بحسب تعبير ليفي، إلى حد الدفاع عنه في المحافل الدولية، ووقّع في عام 1974 مع آرون ويونسكو وآخرين احتجاجاً ساخطاً ضد مواقف «اليونسكو» المناهضة للصهيونية! وأخرى، في العام التالي، مع فرانسوا ميتران، وبيير مينديز فرانس، وأندريه مالرو، ضد قرار الأمم المتحدة بتصنيف الصهيونية كحركة عنصرية. وذهب سارتر بعد عامين إلى السفارة الإسرائيلية في باريس لتلقي واحدٍ من الأوسمة القليلة جداً التي قبلها على الإطلاق، والذي مُنح له على وجه التحديد بسبب صداقته لإسرائيل وكفاحه المستمر ضد معاداة السامية. كما شارك مع آخرين في التوقيع على عريضة نُشرت في صحيفة «لوموند» الفرنسية في تأييد الصهيونية.

تنبّه سارتر، وإن متأخراً، إلى أن انحيازه التام إلى الكيان الصهيوني مكلف جداً، وسوف يدفع ثمنه من مصداقيته وشعبيته، وقرّر إعادة ضبط مواقفه، والانتصار للحرية، نسبياً على الأقل، ولذلك لم يعارض نضال الفلسطينيين بالمطلق، ولكنه في عملية ميونيخ في عام 1972، استنكر قتل الرياضيين الإسرائيليين ولم يعارض أصل العملية. كما أدان استخدام إسرائيل قنابل النابالم المحرّمة دولياً واصفاً إيّاها بـ«العمل الإجرامي»، بل ووصف الجنرال موشيه ديان بمجرم حرب لاستخدامه هذه القنابل. ومع ذلك، لم يقطع سارتر صلاته بالكيان الصهيوني، وفي عام 1976، وبعد أن رفض جائزة نوبل للسلام، قبل شهادة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة من الجامعة العبرية في القدس. ويفسّر إيلي بن غال، طالب سارتر السابق ومرشده السياحي في إسرائيل، ذلك بالقول: «لقد كان سارتر مؤيّداً جداً لإسرائيل وأيضاً مؤيداً جداً للفلسطينيين». هذا التناقض يلخّص سيرة سارتر السياسية والتي عكست نفسها على أيديولوجيته الوجودية.

كاتب من الجزيرة العربية

عن (الأخبار) اللبنانية