لم يعد ثمة شك في أن ما يقوم به العدو الصهيوني في غزّة العزّة هو إبادة جماعية للبشر والحجر. حيث يحاول من خلال ما يفعله طمس تاريخ غزة القديم، وهذا ما بات واضحاً من القصف المتواصل والمتعمد للمراكز والمكتبات والمواقع التاريخية المنتشرة في مختلف مناطق القطاع.

إسرائيل تتعمد تدمير الكنوز التاريخية والثقافية

خلال حربها على قطاع غزة

إسماعيل عـبدالـهادي

 

لم تكتف إسرائيل خلال حربها المستعرة على قطاع غزة بتدمير البنى التحتية والأحياء السكنية والمنشآت التجارية والاقتصادية فقط، بل أن المواقع الأثرية والثقافية العريقة في محافظات عدة من قطاع غزة، كانت هدفاً للتدمير من قبل الطائرات الحربية والمدفعية، حيث تعمدت إسرائيل وفق مراقبين استهداف المعالم والرموز التاريخية، بهدف طمس التاريخ الحقيقي للشعب الفلسطيني، وكيّ وعيه الثقافي وقطع الصلة بينه وبين تراثه وتاريخه.
وكان قطاع غزة مركزاً مهماً للثقافة والتجارة على مدى قرون طويلة مروراً بالحقبة الكنعانية والرومانية والبيزنطية، انتهاءً بالعديد من الحضارات القديمة التي تركت آثاراً تدل على عمق وعراقة المكان، لكن الحرب الإسرائيلية دمرت العديد من هذه المواقع التاريخية والثقافية المدنية، حيث كشفت الهدنة عن حجم الدمار الهائل الذي أصاب المواقع الأثرية والثقافية التاريخية، وتم توثيق ذلك بالصور لفضح جرائم الاحتلال، وبعد انتهاء الهدنة عادت إسرائيل مرة أخرى إلى استكمال مسلسل تدمير المواقع والرموز التاريخية في قطاع غزة، عدا عن سرقة الجيش العديد من القطع من داخل المتاحف وسط مدينة غزة وتحطيم العديد من القطع الأثرية.

البلدة القديمة وسط مدينة غزة
تعرضت متاحف ومساجد عريقة وتاريخية لدمار شبه كامل في مختلف مناطق القطاع، بالإضافة إلى إلحاق الضرر بعدد من الكنائس والأديرة والمقابر القديمة، إلى جانب تدمير الطائرات لأسواق وبيوت قديمة، خاصة في البلدة القديمة وسط مدينة غزة. حيث تعرضت البلدة القديمة التي تضم أكثر من 150 موقعاً أثرياً وتاريخياً لدمار كلي وجزئي، والهدف من وراء هذا التدمير هو طمس تاريخ غزة العريق، وأدانت وزارة السياحة والآثار في حكومة غزة تدمير الجيش الإسرائيلي مواقع أثرية وتاريخية بعد قصفها المتعمد، وجاء التنديد بعد الدمار الكبير الذي لحق بأقدم المساجد والكنائس والحمامات التاريخية، كما دعت الوزارة منظمة اليونسكو للثقافة والعلوم والتراث، للعمل على الحفاظ على ما تبقى من كنوز تاريخية في قطاع غزة، والتي بدورها أعربت عن قلقها الكبير إزاء التأثير السلبي للقتال على التراث الثقافي في القطاع، في حين لم تستطع المنظمة بسبب القتال الدائر مسح مدى الضرر الذي لحق بالمزيد من المواقع التراثية والثقافية، مؤكدةً على أن سكان غزة لديهم الحق في الحفاظ على التراث، إلى جانب دعوة إسرائيل إلى ضرورة الالتزام بالقانون الدولي، وعدم استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية.

واستنكر وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف خلال تصريحات صحافية، إقدام الاحتلال الإسرائيلي على تدمير المواقع والمراكز التاريخية والثقافية في مناطق عدة من غزة بشكل متعمد، حيث قال إن الاحتلال تعمد تدمير مبنى بلدية غزة الذي يضم الأرشيف التاريخي، ويحتوي على آلاف الوثائق التي يزيد عمر بعضها عن 200 عام وتم حرقها وإعدامها، وهذا التدمير خسارة كبيرة لمدينة غزة وتاريخ فلسطين بشكل عام، بعد أن أدى التدمير إلى فقدان العديد من الوثائق والخرائط القديمة، التي توثق مباني المدينة ومراحل تطورها العمراني، بالإضافة إلى تدمير المكتبة العامة التابعة للبلدية، وحرق الوثائق التاريخية والعديد من الكتب المتخصصة في العلوم الإنسانية والطبيعية وغيرها من الكتب.

ومن أبرز المعالم والرموز التاريخية والثقافية التي تعرضت للتدمير الجزئي والكلي من جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، متحف خانيونس الذي تعرض لدمار كبير من جراء قصف الطائرات منازل سكنية مجاورة له، حيث أنشئ المتحف الذي يضم قطعا أثرية تعود لعصور ما قبل العصر الحديث بجهود ذاتية، ومنها قطع تعود للحقبة الرومانية واليونانية والبيزنطية والأيوبية والعثمانية، إضافة إلى نقود أثرية تعود للحقب المذكور، كما وتحطمت بداخل المتحف العديد من القطع الفخارية الأثرية.

مواقع تاريخية تم تدميرها
مقبرة دير البلح: تقع إلى الشرق من المدينة، تعتبر من المقابر التاريخية الأثرية التي تعرضت لدمار كامل من جراء قصفها من قبل الطائرات الحربية والمدفعية، حيث تضم المقبرة التي يعود تاريخها إلى العهد البرونزي توابيت فخارية ذات شكل بشري، وتعتبر المقبرة مزاراً للوافدين من الخارج وبالتحديد الفرق العربية والدولية المختصة بالتنقيب عن الآثار.
حمام السمرة: الواقع في البلدة القديمة في حي الزيتون شرق مدينة غزة، يعتبر من أحد النماذج الرائعة للحمامات العثمانية المتبقية في مدينة غزة، تعرض إلى قصف من قبل الطائرات الحربية، بهدف طمس معالم الحمام الذي يعتبر مقصداً للزوار من كافة الوافدين من الخارج، لما يحتويه المكان من رمز تاريخي عريق ممتد على مدار مئات السنوات.
موقع تل رفح الأثري: ويعود تاريخه إلى العصر الكنعاني، ويضم العديد من الكنوز الأثرية عدا عن وجود العديد من القطع والعملات النادرة داخل الموقع، تم تدميره بفعل القصف المركز من قبل الطائرات الحربية على مدينة رفح، ويعتبر هذا التدمير خسارة كبيرة لأهم موقع يضم كنوزا أثرية عريقة وقديمة، تعمد الاحتلال تدميره بهدف إخفاء المعالم التاريخية التي يحتويها الموقع.
قصر الباشا: أو ما يسمى قلعة نابليون، واحد من أبرز المعالم التي شيدت في العصر المملوكي ويعود إلى العهد الثالث عشر قبل الميلاد، بناه الظاهر بيبرس وتعرض هذا القصر الأثري لقصف من قبل الطائرات الحربية وتدميره بشكل كامل، حيث تحول القصر إلى متحف ثقافي عام 2010 بعد أن استخدم سابقاً كمركز شرطة من قبل العثمانيين والبريطانيين.
المسجد العمري الكبير: يعتبر أحد أبرز المساجد التاريخية القديمة والعريقة ويزيد عمره عن 700 عام، ومقصد عدد كبير من سكان غزة الذين يتوافدون إليه لأداء الصلوات، حيث أغارت الطائرات الحربية على المسجد الواقع في قلب المدينة القديمة وسط مدينة غزة ودمرته بشكل كامل.
سوق الزاوية: الواقع إلى الشرق من مدينة غزة، يعتبر وجهة سكان القطاع وحتى الوافدين من الخارج للتسوق من داخل السوق القديم، تعرض إلى قصف وتدمير من قبل المدفعية الإسرائيلية التي غيرت معالم السوق بعد الدمار الكبير الذي حل بالمحلات التجارية ذات الطابع المعماري القديم، عدا عن تعرض سوق القيسارية وما يعرف بسوق الذهب، أحد أقدم الأسواق وأكبرها لدمار كبير من جراء القصف العشوائي للسوق.
قلعة برقوق: تقع في قلب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تعتبر حصنا يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد تم تشييدها في عهد السلطان المملوكي برقوق، حيث استخدم هذا الحصن من قبل التجار المتنقلين بين مصر ودمشق، ولكن مع التوغل البري لمدينة خانيونس، تم تدمير القلعة التي تعتبر من أبرز الرموز التاريخية العريقة لمدينة خانيونس.
كنيسة القديس برفيريوس: تعتبر من أقدم الكنائس الأثرية في البلدة القديمة بمدينة غزة، دمرت الكنيسة كلياً بعد القصف المباشر الذي تعرضت له، بالإضافة إلى كنيسة القديس هيلاريون في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، التي دمرت هي الأخرى من جراء القصف المباشر لها من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية، ومن ثم الكنيسة البيزنطية في منطقة جباليا شمال قطاع غزة، والتي تعرضت للتدمير الجزئي من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
مقر المجلس التشريعي: يقع وسط مدينة غزة، ويعتبر من المباني القديمة التي تحتوي على مقتنيات تاريخية قديمة، عدا عن إقامة المجلس فعاليات مهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، منها زيارات لرؤساء عدة دول وأبرز هذه الدول أمريكا، حيث زار الرئيس الأسبق بيل كلينتون قطاع غزة عام 1998 وعقد جلسات عدة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات وشخصيات عربية ووطنية أخرى داخل المجلس الذي دمره الجيش بعد أن تم تلغيم المبنى وتفجيره.
مركز رشاد الشوا الثقافي: واحد من أعرق المباني الثقافية القديمة المعدودة في قطاع غزة، تميزت بطابع معماري خرساني جميل، حيث يضم المركز مكتبة ديانا تماري التي تعتبر من أهم المعالم والمكتبات في مدينة غزة، تعرض المركز لتدمير كامل بعد أن وصل الجيش إلى المركز وقام باقتحامه، واتلاف وثائق تاريخية بداخله توثق مدينة غزة وتاريخها، وعلى مقربة من المركز دمر الاحتلال الإسرائيلي النصب التذكاري للجندي المجهول في منطقة الرمال وسط مدينة غزة، والذي يعتبر من أهم معالم قطاع غزة وذات مكانة كبيرة، حيث بني التمثال في عهد الإدارة المصرية لقطاع غزة، وذلك تجسيداً لتضحيات الشعبين الفلسطيني والمصري، ودفاعهما عن الحقوق الوطنية وعزة وكرامة الشعبين.
وفي تعقيب له على حجم الدمار والتغول الإسرائيلي بحق المعالم والكنوز التاريخية في قطاع غزة، يقول المختص في علم الآثار والتنقيب فضل العطل إن الاحتلال يستغل الحرب في تدمير الموروث الثقافي داخل قطاع غزة، خاصة وأن القطاع يضم كنزا كبيرا وثمينا من المواقع التاريخية العريقة الممتدة لمئات السنوات، ويحاول من خلال ما يفعله طمس تاريخ غزة القديم، وهذا ما بات واضحاً من القصف المتواصل والمتعمد للمراكز والمكتبات والمواقع التاريخية المنتشرة في مختلف مناطق القطاع.
وقال لـ«القدس العربي» إن إسرائيل حاولت بكافة الطرق سرقة تاريخ غزة والعمل على طمسه سابقاً، لكن لم تجد مساعيها نفعاً على مدار السنوات الماضية، فاتجهت إلى سياسة كي الوعي الثقافي للشعب وقطع صلة السكان في غزة عن تلك المواقع، من خلال تدميرها وحرق مقتنياتها العريقة، كي لا تكون شاهدةً على تاريخ غزة وفلسطين بشكل عام. ولفت إلى أن الشعب الفلسطيني ما زال يحتفظ بتاريخه رغم كل محاولات السرقة والطمس التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، فرغم الدمار الذي تعرضت له العديد من المواقع التاريخية، إلا أن التاريخ سيبقى حاضراً، وسيحتفظ الكبار بتاريخ غزة وينقلونه إلى الأجيال القادمة كي يبقى راسخاً في عقولهم.

ويتخوف العطل من استمرار أمد الحرب، واستغلال إسرائيل ذلك في تدمير وسرقة ما تبقى من معالم تاريخية أخرى، في ظل اشتداد ضراوة القتال في مختلف مناطق قطاع غزة، واستمرار المدفعية إطلاق القذائف العشوائية بشكل مكثف على مناطق واسعة من قطاع غزة، وهذا ما حدث من تساقط وابل من القذائف على البلدة القديمة في مدينة غزة، والتي تضم العشرات من المعالم الأثرية والتاريخية العريقة وتدمير عدد كبير منها.

 

عن (القدس العربي)