على الرغم مما عُرف به عمار على حسن، كسياسى، إلا أنه أثبت فى أعماله الإبداعية أنه مبدع على درجة عالية، فاستطاع أن يعود بالإبداع إلى وظيفته الأساسية، الإمتاع والتنوير، وإن كان التنوير لايعنى الثورية، فقد خلت أعماله الإبداعية من تلك الثورة الصارخة، التى قد يستعملها بعض الأحيان فى مقالاته السياسية والاجتماعية.

الاستعادة الدائرية لإشكالية الوجود المكاني

وتجدد إشراقة الوعي في رواية «صاحب السر»

محمد سمير عبدالسلام

 

يؤسس د. عمار علي حسن - في روايته «صاحب السر» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية سنة ٢٠٢١- لخطاب سردي تجريبي يقوم على المزج بين ثيمتي الاستعادة الدائرية المضاعفة للوجود الذاتي في العالم عبر المرجع المكاني التجريبي أو القبر، والاحتفاء الجمالي بإشراقة اليقظة أو الوعي من خلال المشاهدة الإدراكية الآنية للعلامات الكونية، والأصوات، والشخصيات التي تتجلى في بنية الحضور أو الشخصيات التي تستعاد من الذاكرة ضمن الحالة الذهنية الراهنة للبطل، وهي حالة بينية تختلط فيها مشاعر معاينة الحضور الروحي، والرغبة في العودة إلى القرية، والانتظار الغامض للموت، لأن الموت هنا ملتبس بحياة الشخصية الأخرى كتمثيل ذهني في وعي السارد يقوم على تأويل كينونة البطل بوصفه مراقبا لبعض الأسرار في القرية، وبوصفه مراقبا لحضوره الكوني الذي يتجسد في السؤال المتصل بالوجود الأول في الفضاء الكوني الواسع، أو السؤال عن مصيره الذي يقع بين العودة إلى القرية أو العودة إلى المنامة، أو العودة الطيفية الإدراكية إلى كينونته الأولى.

الخطاب التجريبي يقوم بدرجة رئيسية- إذن- على علاقة الذات الواعية بالفضاء التجريبي، أو بالمرجع المكاني التجريبي الذي يجمع في تكوينه الجمالي بين مدلولي السجن العبثي، وانفتاح حالة اليقظة على الفضاءات الكونية والحلمية الأوسع، لذا فخطاب البطل حول تطوره الروحي يعد إضافة نسبية للتجارب الأدبية الأسبق حول الثراء الدلالي لعلاقة الشخصية الفنية بالمكان، مثل الأجواء الجمالية لحكايات وروايات الأوديسا، وحسن البصري، والسندباد البحري، وروبنسون كروزو، وعاصفة شكسبير، وقلعة كافكا، ورسائل من أسفل الأرض لدوستوفسكي، وفضاء الانتظار الآلي في لا تدعني أرحل لكازو إيشوجورو، وإن ارتكز خطاب بطل رواية عمار علي حسن على العلاقة الدائرية بين السؤال المكاني وبكارة إدراك الذات لحضورها في مستويات جمالية مكانية عديدة محتملة في الوقت نفسه.

التمثيل الذهني الآني للشخصية إذن يتصل في وحدة الخطاب بما يسبق وجود الشخصية ضمن علاقات القوة الثقافية التي تفترضها حجة البطل السردية التفسيرية، عبر رابط الأنافورا، فمصير البطل يتصل بحالات ذهنية أساسية مثل ثراء الإدراك، والتيه المكاني، ورعب الوحدة في فضاء يشبه السجن الافتراضي الآلي، ومن ثم تأتي المؤشرات السياقية الثقافية والاجتماعية، لتؤكد دلالات هذه الحالات الذهنية الأولي في وحدة الخطاب، ولذا كثرت أفعال الكلام التوجيهية أو الأسئلة ذات الإجابات المؤجلة في الخطاب الذاتي الاستبطاني للبطل، لتشير إلى بكارة التجدد في تجربة الوعي الإدراكية المكانية، ودينامية تشكيل التمثيل الذهني للذات وفق عمليات المراجعة الميتاإدركية التي يفترضها الخطاب.

وإذا قرأنا خطاب السارد أو البطل تداوليا، وفق نظرية الصلة لدى سبيربر وويلسون، سنلاحظ أن توسع البطل في الاستدلالات قد أتى وفق مؤشرين سياقيين في موقف التواصل، هما اتصال القبر بالفضاءات الأخرى، مثل فضاء الذاكرة، وفضاء القرية، والفضاء الكوني، والفضاء الأدبي الحلمي المحتمل، ومؤشر تجلي الموجودات والأصوات في تجربة الوعي الراهنة، مثل صوت محبوبته الغجرية السابقة، وأصوات اللصوص، وصوت العمدة وأتباعه، وصوت الرجل وزوجته، وأصوات الوحوش والضباع، وغيرها، ومن ثم تتشكل التجربة الواعية لدى البطل من خلال بناء الاستدلالات حول كينونته من درجات التوافق أو التنازع بين وضع السجن الافتراضي ووضع معاينة الموجودات وفق كينونة صوفية محتملة.

ويمكننا استنتاج الاستعارة الإدراكية المولدة عن الخطاب الداخلي الاستبطاني للسارد، وذلك وفق نتائج وجهود دراسات الفضاء الذهني، والاستعارة الإدراكية المفاهيمية، وتشكيل فضاء المزج لدى كل من فوكونير، ولاكوف، وجونسون، ومارك تيرنر، إذ نلاحظ المشابهة المفاهيمية الجمالية بين كل من فضاء الإدخال الأول أو فضاء القبر، و فضاء الإدخال الثاني أو الفضاء الأدبي الحلمي المحتمل في وعي، ولاوعي البطل، وسيتصل الفضاءان الذهنيان عبر رابط دلالي مفاهيمي يقوم على حالة التداخل الكوني الأصلية الأولى بين الطبقات المكانية العديدة المتراكبة والمعقدة داخل تجربة الوعي، أما فضاء المزج الإدراكي فسوف يتشكل عبر فضاء تجريبي جديد يقع بين صورتين ذهنيتين، هما صورة القبر، وصورة ذهنية لنافذة كونية تؤدي لمشاهدة باطنية أخرى معقدة فيما وراء السجن الآلي، ومن ثم تقودنا الاستعارة الإدراكية إلي دينامية تجربة الوعي وتداخل الفضاءات في عمليات التطور الروحي الداخلي للبطل.

وإذا أعدنا قراءة التجربة الاستبطانية الواعية للبطل وفق نموذج مساحة العمل العصبية العالمية وفق المقولات النظرية  لكل من ستانيسلاس ديهايني، وجان بيير شانجيه، وليونيل ناكاش، سوف نلاحظ أن مجال الانتباه يرتكز على انتخاب مجموعة من العلامات السمعية، والبصرية التي تنتمي إلى الداخل، والخارج، فالبطل ينتخب أصوات المؤامرة الافتراضية من داخل القبر، أو السجن الافتراضي، وأصوات الوحوش، والرجل، والمرأة، ويعاين البيانات البصرية السياقية المكانية، كما ينتج بيانات بصرية استبطانية فينومينولوجية مثل وجود طيف يشده للعودة إلى موقعه في القبر، أما مساحة التقييم فتعلي كميا من قيمة الوضع الآني، والعودة إلى الوعي بالذات، وقد تتقارب مساحات نشاط كل من الذاكرة طويلة المدى، والذاكرة العاملة، لأن البطل يعود باستمرار لأحداث الذاكرة طويلة المدى ليستدل من خلالها على سبب وجوده في القبر، وإن كانت الذاكرة العاملة هي المؤثرة بدرجة أكبر في تشكيل التغير الآني في معرفة البطل بكينونته، وبالمكان، وبالفضاءات الكونية بالخارج، وترتفع أيضا مساحة المدركات الحسية في بنية الحضور، لأن الرواية تقوم بدرجة كبيرة على التغيرات الدينامية في السياق الراهن للبطل، ومن ثم تتقارب المعالجات الواعية في مساحة العمل العصبية العالمية نحو تكافؤ الاحتمالات المنطقية بين العودة إلى القرية، والعودة إلى السجن الافتراضي، والعودة إلى إشراقة الوعي المجردة في المشهد الكوني، أما الاستجابة النشطة في المستقبل، فقد تكون جمالية سلوكية، وتتمركز حول التكرار المختلف لتجربة مواجهة الوعي لخبراته الوجودية الإدراكية المضاعفة.

ويمكننا قراءة تجربة البطل الداخلية الواعية أيضا وفق المقولات النظرية الميتا إدراكية المعاصرة التي تعزز من مراقبة، وتحسين العمليات الإدراكية البسيطة، فالبطل أو السارد يراقب وضعه السياقي، وسلوكه التمثيلي للأدوار الاجتماعية، كي يقوم ببناء استراتيجيات معرفية تنقيحية تبدأ من دوره كعالم بالأسرار، ومضطهد، وتتطور إلى دوره كمستكشف مبدع، ويتداخل مع نموذجي المستكشف، والباحث عن الرحلة الروحية وفق تصور يونغ حول نماذج اللاوعي الجمعي، نحن إذن نعاين لحظة تعلم ميتا إدراكية تقوم على اكتساب خبرة الحوار الموسع مع الذات عبر الاستبطان، والحوار مع العناصر الكونية، وأطياف الجثث، والحيوانات، والشخصيات التي تطرأ بشكل إبداعي في المشهد.

وأرى أن شخصية البطل في رواية صاحب السر ل د. عمار علي حسن تمثل نوعا مختلفا من الإضافة التجريبية في سياق مواجهة الشخصية الفنية لوضعها الوجودي المضاعف والذي يقع بصورة بينية بين التروما، وإشراقة الوعي.