في زمن تفشي القصة القصيرة جدا التي تفتقد لأهم عنصر من عناصر الإبداع، وهو المتعة، قائمة فقط على إبلاغ رسالة محددة، أو طرفة، أو لغز، فإن "الكلمة" تقدم هنا بعض النماذج من القصة القصيرة، التى تمتد فيها المساحة الكتابية، حاملة، الرؤية المحددة، بما لا يخلو من المتعة المبتغاه.

الزمن فى القصة القصيرة

قراءة لبعض قصص العدد

شوقي عبدالحميد يحيى

 

على الرغم من أنه ليس هناك قواعد راسخة لأى من الأنواع الأدبية، إلا أن الممارسة، وتراكم الإبداع، رسخ عددا من (القواعد) المتعارف عليها، تحكم كل نوع من الإبداع، يحدد مفهومه، وسيره الذى عليه يسير هذا النوع. على أنها بالطبع ليست قواعد صلبة، أو حدودا فاصلة بين الأنواع الأدبية، حيث استفاد كل نوع من تصور وقواعد النوع الآخر، وإن كان يجمعها جميعا، الإمتاع، الذى يشعر به القارئ، لدى بعض الأعمال، ويفتقده عند أخرى. ولكن هناك خاصية تتميز بها القصة القصيرة عن غيرها من الإبداع، وهو الزمن (الخارجى) ونقصد به الإطار الذى يحتوى الحدث والشخصيات بداخله، بحركيتها (الزمن الداخلى). ويعتبر الزمن الخارجى تحديدا – فى تصورنا-هو ما يحدد النوع الأدبى، حيث يفصل القصة القصيرة عن الرواية، وتلخيص الرواية، مثلما كانت القصة القصيرة التقليدية -عند بداياتها- وما يسير عليها لدى البعض الآن وتُقدم على أنها قصة قصيرة. وحيث يعتبر الزمن هو الذى يحدد حركة الحدث، أو الأحداث، وحركة السارد أو الشخوص. حيث يلجأ –القاص- إلى عملية الاسترجاع والاستباق، لحصر الزمن، بحيث يبدو الزمن الخارجى هو العمود الراسخ للخيمة وداخله تجرى الأشياء والأشخاص فى حركتها، وأزمانها.

 وحيث أن القصة القصيرة، هى أقرب الأنواع الأدبية للشعر، الذى يعتمد على الاستبطان –الداخلى، تارة - والطفو على السطح- الواقع، تارة أخرى- ليؤطر فى النهاية الأبعاد المختلفة لحركة الداخل، ومن هنا كان أقرب التعريفات للقصة القصيرة ما أطلق عليه يوسف إدريس (الطلقة). فتنطلق من نقطة محددة، وتنتشر فيما حولها. فإذا مثلنا -مثلا- الرواية بأنها سير القطار من الأسكندرية إلى أسوان، فإن القصة القصيرة ليست سوى عربة واحدة من ذلك القطار، وإذا كان ذلك القطار يبحث حياة البشر داخله، والرؤي التى يراها كل فرد فيها، فإن القصة القصيرة لا تتناول إلا فردا واحدا فى العربة، يصير هو المركز، والزمن يدور من حوله.

وإذا كنا فى الكلمة قد تخيرنا قليل من النماذج التى تبتعد عن إطار ما يسمى بالقصة القصيرة جدا، أى أن الزمن الداخلى امتد فى الكثير منها، إلا أنها حافظت على "الزمن الخارجى"، الأمر الذى يربطها بحدود القصة القصيرة، ويبتعد بها عن ملخص الرواية، مستخدمة وسائل عدة.

ففى قصة المبدع عمار على حسن "المصائر" سنجد أن الخاتمة تعتبر هى قرار الجواب فى السلم الموسيقى، أو الخبر للجملة الأسمية، فانحصر فيها الزمن الخارجى. وفى قصة الكاتب اشرف الصباغ، تعنى الجملة الختامية، او المشهد الختامى، كما لو أنها التبة العالية التى يقف عليها السارد ويلقى على الجمهور نظرة لما يدور من بعيد. وهوذات المفهوم الذى تقوم عليه قصة وحيد الطويلة. بينما تحدد الجملة الافتتاحيىة فى قصة شوقى عقل، الإطار الذى تدور فيه القصة. وتنحسر قصة الكاتبة التونسية حفيظة قارة بيبان فى الشكل الدائر الذى يربط لحظة البداية بلحظة النهاية، وهى النظر فى الأوراق البيضا. بينما اتخذت الكاتبة سمية عبد المنعم. نهجا مختلفا ، حيث تخيرت ثلاث قصص قصيرة يتحقق فيها الشكل المعتاد لها، بينما القصص الثلاث تشكل مع بعضها متوالية يمكن ان تصبح قصة متكاملة. محققة، المفهوم الصحيح – كما نراه- للمتوالية القصصية، بينما تسير القصص الثلاث فى إطار الموقف المحدد مستبطنة مشاعر الإنثى، والإنسانة، لا تفارقها. حيث يجمعها وحدة واحدة يمكن أن نطلق عليها "الجوع".  

مصائر .. عمار على حسن

إذا كانت القصة القصيرة –الحديثة- تنطلق من عمق اللحظة، مثلما شبهها يوسف إدريس بالطلقة. فإن تلك اللحظة التى يراها البعض  قد تحد من إنظلاقة السرد، فإن الكثيرين قد استطاعوا أن يتغلبوا على تلك المشكلة، باللجوء إلى الشكل الدائرى، الذى تنتهى فيه القصة إلى حيث بدأت ـ غير أن الروائى والقاص والسياسى عمار على حسن، اتخذ سبيلا آخر، حيث جاءت النهاية (الخاتمة) هى تتمة البداية، بحيث لو قرأنا (المفتتح) والخاتمة، نستيطع أن نُدرك أنه لم يغادر المفهوم –الحديث- للقصة القصيرة، والتى ينحصر فيها الزمن فى اللحظة التى عادت بها الذاكرة إلى الماضى الذى عايش فيه السارد ذلك الزمن الذى (سمع) من أحدهم تلك الحكايات، واحوال القرية فى زمن مضى، والتى معها نُدرك أنه لم يغادر الزمن الحاضر والذى يحمل فيها ذات النهاية المُحزنة التى واجه فيها أبطال قصته مصيرهم الحتمى، والذى يتلخص فى قول القصة { في بلاد ضاق بها الرزق، من الطبيعي أن يهرب الناس إلى حيث يُرزقون}. فالنظر إلى أوضاع الكثير من الدول العربية، قد اصبح طاردا، لا سعيا فقط، وإنما – فى الأغلب الأعم- هروبا.. من أوضاع داخلية، سرى فيها الموت، وأصبح هو السيف المرفوع، والمستعد للوقوع على رقبة أى منهم، مجانيا، ودون ذنب اقترفوه، سوى أنهم يتواجدون وسط أناس لم يفكروا إلا فى الوصول إلى كرسى الحكم والسلطة، مهما كلف ذلك من أرواح بريئة، لا تسعى سوى للعيش فى أمان.

فتبدأ القصة بالمفتتح، والذى فيه نتعرف على شخوص القصة، وزمنهم، الذى يوحى بما يتعرضون له من قيظ، مادى ومعنوى، يساعد عليه طبيعة العمل الذى يقومون به { ذات صبح مشرق، جاء ضحاه أكثر سخونة مما ظن رجلان، وصبيان، وطفلان، التقوا على رأس حقل قاحل). فالشخوص هم رجلان وصبيان وطفلان، وهم فى ذات الوقت يحددو الزمن المقترن بكل منهم. حيث يسير الوضع من الحاضر إلى الماضى، فيكمن التسلسل العكسى لحركة الزمن، حيث تكمن هنا اللعبة القصصية، فيمكن النظر إلى الرجلان بأنهما الحاضر الذى وصل إليه الصبيان ومن قبله كان الطفلان. بينما سارت عملية التذكر عكس ذلك، حيث تعود إلى التسلسل الطبيعى للإنسان، وحركته مع الزمن فنجد:

1 ـ الطفل الأول يسافر بلا موعد

2 ـ الصبي الأول يسافر داخل جسده

3 ـ الرجل الأول يسافر بعلم الوصول

ونلاحظ التسلسل المنطقى لحركة الإنسان، فعندما يكون الإنسان طفلا، لا تهمه المواعيد بقدر ما يسعى لتحقيق رغبته، أيا كانت النتيجة. وعندما يصبح صبيا، حيث بدأ إدراكه، وتجاربه التى تقوده إلى صعوبة تحقيق الرغبات، ينحبس داخل ذاته. وعندما يصبح رجلا ويبلغ اليأس منه مبلغه.. يكون التصميم على الرحيل.. فهو الحل الوحيد أمام إنكساراته.

إذن.. فكل الحالات مقرونة ب(السفر)، وإن اختلفت وجهاته، ووسائله. وهو ما نستطيع القول بأن القرية (البلد) قد أصبحت طاردة.  

ويتكرر ذات النسق مرافقا للسفر كذلك، مع الرجل الثانى.

وكأن الكاتب قد جمع الإنسان المصرى فى صورة الرجلين، ورحلتهما مع الزمن، وسفرهما من الماضى إلى الحاضر.

 فإذا ما تتبعنا ذلك السفر وتلك الحياة التى تجمع كل أبناء القرية/ البلد، سنجد الفقر والحاجة، و(السخرة)، هى ما يعانيه (الإنسان) منذ الطفولة، حيث كان صاحبنا يعمل أجيرا، وكان {صاحب الأرض، الذي أتى على ظهر بغلة ورثها عن أبيه}. وبعد أن صار الطفل رجلا {كانت القرية التي هاجر إليها تقع يسار قريتنا، يتسع فيها الرزق، فوجد قوت يومه}.

وهكذا سار الكاتب مع الإنسان (المصرى) الذى صاحبنا عبر (الحكى) الذى يقترب من صورة الرواية، عارضا الكثير من مظاهر القرية وما تعيشه من بؤس، لم ينته، واستمر معه فى رحلته، عبر الزمن، وكأننا أمام رفض للواقع الذى لم يُغير من حياة الإنسان، ولم يخرج به من البؤس، إلى الرخاء، ولا من السُخرة إلى الحرية، فكانت قصة قصيرة بنكهة الرواية، حيث كان المفتتح {ظن رجلان، وصبيان، وطفلان، التقوا على رأس حقل قاحل. كان عليهم أن يضربوا بفؤوسهم أرضًا صلدة حتى تلين، وتصير جاهزة لزرع، لا يعرف ما هو سوى صاحب الأرض}.

 والخاتمة {راح الكل، طفلان وصبيان ورجلان، وبقي الحقل الذي وقفوا على رأسه ذات ضحى. توالت الزروع، مع تقاطر العرق فوق التربة، وجرت مياه، فمد نبات ساقه وجذعه وهامته، يشاكس النسائم، فيهيج ويشيخ، وتذبحه المناجل المسنونة، فيسقط صريعًا} هى القصة المرجوة، وما بينهما، أسباب، ومعاناة.

أمطار.. أشرف الصباغ

قد يتساء القارئ-بعد القراءة- عن سبب تسمية القصة باسم "يوم ممطر" على الرغم من أن الأمطار لم تكن كثيفة، ولم تؤثر على الأحداث التى حضرت فيها الحرائق اكثر من المطر؟ وأتصور أن الكاتب لم يقصد المعنى المباشر للعنوان، بقدر ما أوحى للقارئ بأن يستحضر الأجواء المصاحبة لذلك العنوان، خاصة للقارئ الشرقى الذى يعى جيدا أن اليوم الممطر لا يأتى إلا فى الشتاء، المعروف فيه التقلب وعدم الاستقرار، وهو ما يوحيه الجدال الذى بين الراوى وذلك الذى قابله فجأة وفى النهاية أخبره أن اسمه "لونيا" حيث يشير الراوى- وكأنها جملة إعتراضية- { بدا كما لو أن الحديث يتجه اتجاها معاكسا للطقس، ويأخذ مسارا غير محمود العواقب}. حيث كان{هذا طقس معتدل يثير الحسد، لا يفسده إلا أخبار الحرب}. فالكاتب هنا يصنع المواجهة ، حيث يفرض الأحساس والتداعيات التى يولدها الموقف، وليس الموقف ذاته. وهو ما سار عليه بالقصة، حيث نجد الحرائق التى تسود المجتمعات، بما فيها الأوروبى، والعرب، على حد سواء، وكأن العالم كله قد نشبت فيه الحرائق، والتى وصلت إلى الفرد ذاته. فبدأت القصة ب{ طالعتنا نشرات الأخبار في الأسبوع الأخير بأخبار سيئة عن ارتفاع درجات الحرارة في العالم كله. تركيا تعاني من ارتفاع درجات الحرارة بشكل يقلص أعداد السياح، بينما اليونان وصفت ما يحدث عندها بالحرب الطاحنة، حيث نشبت في عدة جزر منها حرائق واسعة النطاق، وأرسلت مصر طائرات مروحية لإطفاء الحرائق، بينما راحت روسيا كالعادة توجه الحدث في اتجاهات سياسية، وتعلن أنها على استعداد لإرسال قوات الطوارئ والمروحيات الروسية الضخمة المخصصة لإطفاء الحرائق في حال إذا قدمت أثينا طلبا رسميا بذلك. وكانت الجزائر أيضا تتابع العالم بما يجري فيها من حرائق في عدة ولايات، وتتحدث وسائل إعلامها بالإنجازات الجبارة في إخماد الحرائق، وفي الوقت نفسه تبث بيانات غريبة عن استمرارها، وعن الخسائر المروعة..}. ولتنتهى كل تلك الحرائق العامة إلى الحريق الخاص- فى بيت "لونيا" الذى { راح يحكي عن الحريق الذي شب في شقته قبل عدة أشهر، وأن المطبخ مليء بالأثاث والصناديق وأثار الحريق تظهر على الجدران من الخارج وتصل حتى الطابق الرابع أو الخامس}ويمكن هنا فهم الطابق الرابع والخامس بوضعهما الرمزى أيضا.. حيث يمثلان عمق الآثار النفسية التى انتابت (الفرد) جراء تلك النيران المشتعلة فى كل مكان بالعالم. تُحرق كل أوراق السيد "لونيا" الشخصية، وكأن الحريق الخارجى، لم يكن خارجى بقدر ما هو حريق داخل الإنسان ذاته{ فسألـه: "ماذا حدث بعد ذلك؟ هل تضررت الشقة بالكامل، وهل احترقت أوراقك وأوراق الشقة؟".. قال إن أوراقه الشخصية كانت معه. لكن أوراق الشقة وكل ذكرياته غارقة في مياه الإطفاء، وصوره وصور زوجته تسبح على سطحها. ضاع كل شيء} فالمكان هنا لازال موجودا لكن الإنسان ضاعت هويته. وهكذا انعكست التقلبات  (المناخية) التى أحدثتها الحرائق، كانت هى التى أضاعت هوية الإنسان فى العالم أجمع. إلا ان العالم العربى، والشرق أوسطى عامة، كانت تعانى من الجمود والتوقف بالزمن، لتضيع هوية الإنسان فيها-أيضا-  { كانت الدول العربية وإيران وتركيا غارقة في قضية حرق القرآن في السويد والدانمارك، وأزمات القمح والمياه، والتركيز على المظالم التي تطولها من الغرب بإهانة مقدساتها، وتقسم بأن الحرب الروسية الأوكرانية هي السبب في نكباتها ومشاكلها الغذائية. وتطالب حكوماتها بمقاطعة البضائع السويدية والدانماركية وطرد السفراء وقطع العلاقات إلى أن تسلم الدولتان مواطنيهم الذين قاموا بهذه الجرائم البشعة. كل ذلك والحرب الروسية الأوكرانية في منتصف عامها الثاني، ولا غالب ولا مغلوب، والأمور تتطور إلى سيناريوهات مخيفة}.

وليست تلك الاهتمامات المختلفة هى فقط التى توضح الفرق بين هنا وهناك، وإنما يأتى ايضا تلك الزيارة لعمل الأشعة والفحص الطبى، حيث نرى هناك، الموعد بالدقيقة، بينما هنا لا ننظر إلى الدقائق ولا حتى الساعات. فقيمة الزمن والإحساس به تختلف هنا عن هناك { وفي الواقع كان لدىَّ موعدان. الأول في الساعة الثانية وعشرين دقيقة بعد الظهر لإجراء أشعة على الصدر. والثاني في الثانية وأربعين دقيقة لإجراء أشعة على الضلوع من الجانب ومن الخلف}.

وعندما أراد –السارد- أن يغير فى ذلك النظام-الدقيق- بإعتباره (شرقيا) فيطلب لآخر أن يحل محله، فتكون الإجابة الصارمة{"لا تتدخل فيما لا يعنيك. هذا ليس شأنك}. وملحوظة أخرى- بدت لو أنها أيضا جملة إعتراضية إلا أنها تعنى إسلوب حياة، وإسلوب تربية، ووعى بدور كل فرد فى المجتمع{ وكنا بالفعل قد اقتربنا من ساحة لعب الأطفال الخالية تماما منهم في هذا الوقت من المساء}. حيث تنعكس أيضا قيمة الوقت والإلأتزام بالمواعيد الصارمة.

 فضلا عما يستحضره الحوار من استدعاء ومواجهة، ذلك الحديث الذى دار بين السارد والرجل الآخر"لونيا" حول الدين وتأثيره الجذرى هنا، وغيابه هناك وتأثيره على تصرفات الفرد، وعلاقته مع الآخر، بقبوله الزواج من تلك الأرمنية رغم أنه لم يكن يعرف أنها يهودية، ورغم ذلك كان الحب هو الجامع بينهما، ليعيشا زوجين فترة طويلة.  

وعلى الرغم من أن القصة-القصيرة- قد تبدو متباعدة، زمانيا ومكانيا- إلا انها تحتفظ بمفهوم القصة القصيرة، إذا ما وعينا أن السرد يتحدث هنا عن زمن ماض، اى أن الراوى يتحدث عن فترة كانت، بدليل أنه عندما تكررت زياراته للبحث عن ذلك الغريب، ولم يجده فى مرات عديدة حتى أتت لحظة النهاية، والتى تضع كل ماسبقها فى الزمن الماضى { توجهتُ مباشرة نحو مدخل البيت، ضغطتُ جرس باب شقته. خرجت امرأة شابة تحمل رضيعا. سألتها عن "لونيا". فنظرت إلىَّ في دهشة، وقالت: "لا أحد يعيش هنا بهذا الاسم"}. لتضع تلك النهاية بلا توقف حيث لابد أن القارئ يبحث عن سبب وإحتمال سبب عدم الوجود، وما إذا كان قد مات، أو أنه لم يكن له وجود فى الأصل، وما هى إلا تهيؤات فى داخل السارد، وليعود، القارئ ويتأمل كل ما فات، ويتأمل تلك الحياة هناك، وكيف هى هنا، وليعلم أن القصة تربطها وحدة واحدة، تربطها من البداية إلى النهاية، وهى الفرق بين الشرق والغرب.. ولماذا هم هكذا، ونحن فى مكاننا. حتى إذا ما أردنا تصنيف القصة، فنقول أنها قصة تنويرية.

مضاف ومضاف إليه ووحيد الطويلة

يلعب العنوان –كعتبة أساسية فى العمل- مثلما رأيناه فى قصة "يوم ممطر"، نعيشه أيضا فى قصة وحيد الطويلة، حيث استطاع الكاتب أن يبث رؤيته فى هذه القصة، فى ذلك العنوان، الذى يعبر عن وجود السيد والتابع، أو المهم والأهم. فإذا كانت المرأة فى إحتياج للرجل، كَمُضاف، فإنها تستطيع أن تستغنى عنه بالكلب، ليصبح مضاف إليه. ليس من حيث المعنى بقدر ما هو من حيث الحالة. فإذا كان المضاف يُعرب حسب موقعه من الجملة، بينما المضاف إليه دائما مجرور، فإذا نظرنا إلى حالة الكلب فيما نشاهده من مناظر فى الشارع، فدائما نراه مجرورا بحبل يُمسك به صاحبه. ولا أعتقد أن الكاتب لجأ لذلك فقط، وإنما ليستقى من تلك الحالة التى إنتشرت كثيرا فى الشارع العربى.. حيث أنشأت إحدى الدول العربية (الغنية) مقهىً للكلاب، وانتشرت الملاجئ التى تأوى الكثير من الكلاب. كما أنشئ الكثير من دور الرعاية، التى تجمع التبرعات، لإغاثة بعض الكلاب ذات الاحتياجات الخاصة. كما تلاحظ أن نسبة المرأة فى اصطحاب الكلب أكبر كثيرا من اصطحاب الرجل له. حتى أن بعض النساء، العزباوات أو الأرامل، يَبِتنْ مع الكلاب على أسرتهن. كما كثرت حالات توريث الكلاب من بعض الأثرياء. الأمر الذى يعبر عن مدى علاقة المرأة بالكلب، عوضا عن الرجل. وقد اتخذ وحيد الطويلة من تلك الطبائع البشرية، مضمونا لقصته، مغلفة بالكثير من السخرية، التى أصبحت سمة غالبة فى رواياته التى غلبت على إبداعه القصصى. فمن سخريات العالم، أن تصبح حياة بعض الحيوانات أهم من حياة بعض البشر. مخبئا البؤرة الأساسية داخل النص وكأنها جملة عابرة { وقفت خيانة صديقها القديم حاجزًا بينها وبيني} والتى أراها بؤرة الصراع بين الرجل والإنثى. حيث استعاضت (هى) عن تلك الصداقة، وتلك الخيانة، بمن عُرف بالوفاء. الكلب. وأصبح هو كل ما يهمها فى الحياة. ساخرا من تلك الجهات التى أورثت الكلاب أمولا تصل للملايين، بينما العديد من شعوب الأرض يموتون فقرا وجوعا{ قلت لها في خشية، خوفًا من ثورتها المعتادة حين أذكرها بأن هناك من البشر من يستحق الرعاية بجانب القطط}.

بالإضافة إلى تسريب بعض الرؤى –كما درج الطويلة- وكأنها جملة عابرة، مثل تلك العلاقة المستمدة من علاقة القط "زغلول" ومحاولته إقامة علاقة الحب مع القطة "كرنبة" وأدت إلى وفاة الإثنين معا{زغلول لم يكن يترك قطةً في غنجها، يقذف شباكه، تدللت عليه كثيرًا, خمشها بأظافره، هل تحتاج ممارسة الحب أحيانًا للشدة ؟ أدماها، وأدمى قلبها} ولتواصل هى: { كانت ستلبّي ولعه – لولا تعجّله – دائمًا الرجال متعجلون، لا يستطيعون أن يصبروا على تمنع امرأة} وكأننا أمام تأكيد للمقولة، المنسوبة لسيدنا علىّ كرم الله وجهه(يتمنعن وهن الراغبات). كذلك الإشارة (العابرة) إلى فصل "زغلول" عن "كرنبة" فى القبر، وعذاب القبر الذى لابد سيتعرض له زغلول جراء ما جنت يداه تجاه "كرنبة"، وكأنها إشارة إلى بعض المفاهيم الغيبية، غير المؤكدة.

وتبلغ السخرية قمتها، حين يعقد الكاتب المقارنة بين القط (المتوحش) "زغلول" الذى (خمش) القطة "كرنبة"، حيث يقول لها مواسيا { حاولت أن أفهمها أن أربعة أيضا كانوا في جنازة موزارت، هكذا العظماء}. لتأتى (هى) فى النهاية لتقول له { في طريق العودة . تتشمّم الأرصفة بعينين شاحبتين , وبصوت شحيح باغتتني .. قل لصديقك هذا الذي اسمه موتسارت أن يصنع كونشرتو لكرنبة في الأربعين}. ودون أن يصرح الكاتب بما يفيد الزمن فى القصة، إلا أنه لا يغيب عنا فهم أن الأحداث قد مضت، وأن هذا السرد جاء فى رحلة العودة من الجنازة المزعومة، والتى تعرض السخرية المُرة مما يحدث فى الشارع المصرى. تلك السخرية، وذلك الإحساس بالمرارة التى تلازمنا نتذ بداية القصة وحتى نهايتها، لتصل إلى جوهر كل الأعمال الإبداعية القائمة على الإحساس، والمشاعر، تُحدث أثرها غير المباشر.  

شجرة العبيط.. وشوقى عقل

قد تكون (الحكاية) وعلاقة أهل القرية بالمجاذيب، ليست جديدة، حيث كتب – على سبيل المثال- خيرى عبد الجواد روايته (مسالك الأحبة)، والتى فيها تحول مدمن المخضرات، وقاطع الطريق بعد موته إلى ولىٍ من الأولياء الصالحين، تلك التى تقترب من قصة شوقى عقل "شجرة العبيطة". إلا أن الجديد فى هذه القصة، بث الكاتب فيها رؤيته السياسة، ورؤيته للأوضاع الحالية، تاركا للقارئ مهمة البحث عما وراء السطور. مثل تجهيز (العبيطة) كما تُجهز العروس لعريسها،  عندما أمر "العمدة" بأن يُهزوها لتقيم فى بيته، وهو المولع بالنساء، والباحث عن الوريث، ليعكس رؤية بعيدة تجسد فكرة الكرسى عند الحكام العرب، دون أن يوضح ما حدث بينهما فى الخفاء. وما كانت نتيجته أن ابنه المولود، رغم مجيئه ذكرا بالفعل إلا أنه مولود دميم، ليوحى أنه ابن الخطيئة.

كما أن أهل القرية، عندما أحرقوا (العبيطة) تصرف الإبن تصرفا مختلفا عن باقى أهل القرية {غادروا الساحة بينما ظل ابن العمدة واقفا يرقب النيران صامتا متجهما}. وكأنه يدرك شيئا مبهما.

كما جاء دوران منادى القرية فى الأفراح والأتراح، يدور فى القرية ويسأل أهلها الصحيان

{حتى وقف أمام باب العمدة يدق جلد الطبلة القديمة المشدود وخلفه عيال البلد وهو يصيح:

-    اصحوا يا نايمين !

خرج الخفراء وضربوه وكسروا الطبلة وجروه إلى الحجز}. وكأن الكاتب يدق ناقوس الخطر، ويُنبه الغافلين عما يحدث هناك فى الأعالى. لتلعب القصة دورها فى عملية التحريك والانتباه.

ورغم إمتداد الزمن الداخلى بالقصة، إلا ان الجملة الافتتاحية تضع القصة بأكملها فى إطار الزمن الماضى، وانحسار الزمن الخارجى بها فى إطار اللحظة.

بئر.. حفيظة قارة بيبان   

وتسير التونسية حفيظة قارة بيبان بالإبداع بعيدا عن الهم الخاص، حيث يتحول إلى الهم العام، الذى يشبه شبكة الصياد التى تحتوى بداخلها تلك السمكة المحبوسة، فتفرض الأوضاع المخزية فى غزة، وما يفعله المحتل فى كل بقاع فلسطين المحتلة، يفرض وجوده على الإبداع، وعلى كامل القصة. تستنهض الهمم، وتحدد الأسباب التى أدت للكارثة، متخذة من الأخ الأصغر"نضال" معادلا موضوعيا للقضية. ناجحا إلى حد كبير فى إختيار الإسم والصفة، فلم تجعل من الإبن مثلا هو الضحية، ولكنها إختارت الأخ الأصغر، لتحديد العلاقة بين الشعوب العربية، وبين (الأخ) الأسير  والواقع تحت رحمة الاحتلال، مستحثة ذلك الذى غاب فى البئر "نضال". وإن كانت بهذه الصفة (الأخ) تلقى باللائمة على (الإخوة) العرب الذين لم يهبوا للدفاع، فإنها غفلت عن القوى الداخلية (الفسطينية) المنقسمة، والساعية للوصول إلى مقعد القيادة، والذين قدموا الوسيلة والحجة للعدو كى يُجهز عليهم. إلا ان القضية بصفة عامة أصبحت هى الهم الأكبر لكل عربى، وما استطاعت الكاتبة أن تحشد القصة بتبيان ذلك، من خلال التحول من الأخضر وأفرع الزيتون، إلى الخراب والدمار. فقد كانت البيئة مستقرة ومُزهرة{ أخي الصغير نضال يعود، يركض في بستان جدي الشاسع ، يتطاير شعره الأشقر المنساب هفهافا على بياض الجبين ، يطير بين صفوف أشجار البرتقال وحواجز القصب ضاحكا، ويختفي بميدعة المدرسة بمربعاتها الصغيرة البيضاء والزرقاء، بين صفوف القصب} وتكتمل المواجهة، أو المقابلة، حيث اصبح الحاضر{ لم أجد أمامي غير البياض المخيف يحدق بي، صارخا، عاجزا عن استعادة ما مضى، و رتق ما مزقه القصف في البئر مع الأعضاء الصغيرة المتناثرة، أشلاء نضال، ومزق ميدعة المدرسة}.

  حيث كانت المقابلة هى أحد وسائل الإبداع الفنى فى القصة، والتى تفرض على القارئ أن يتأمل ما كان، وإلى ما سار.

وإن تناولت القصة الكثير من السنوات، والكثير من البشر، إلا أنها لم تخرج عن المتعارف فى القصة القصيرة، وهى اللحظة، حيث تبدأ القصة ب {في لمعة برق، وأنا أفتح أوراقي البيضاء، لمحت أخي الصغير نضال يعود}. وتنتهى ب{ لم أجد أمامي غير البياض المخيف يحدق بي} لتنحصر القصة فى اللحظة التى فتحت فيها الأوراق البيضاء، وانتهت بما لا يبتعد عن ذلك، ولتؤكد أن القصة القصيرة  قادرة على إحتواء عوالم مختلفة، وقضايا كبيرة.  

وطيف .. بهيجة كحيل

وبعد تونس، تأتى السورية بهيجة كحيل، لتقدم قصتها "طيف" حيث يظل الغائب حاضرا، بالمرارة ولوعة الفراق، التى صنعها المتأسلمون فى كل البلاد العربية، ليستحلوا النساء بدعوى "جهاد النكاح. لتكور الكاتبة مآساة أمة بأكملها، فى قصة قصيرة، تركز (الزمن) فيها، فى العبارة الأخيرة { ثم صاحت بملىء حنجرتها، التحمت صيحتها مع صيحات الآخرين في هذا الفضاء المخيف. وتزاحمت على الضفة الضيقة شهقات العجائز الضعيفة، عويل النساء، أنين الرجال ، وعلى قارعة الموت غاض النهر خجلا مما فاضت به ضفتاه}. وكأنها تمسك باللحظة، التى يتجمع فيها الماضى البعيد (جهاد النكاح) والقريب (الأشلاء والجثث)، لتجسد ليس المأساة السورية وحدها، وإنما مأساة دولِ كانت تسمى يوما (الأمة العربية).     

الجوع و.. سمية عبد المنعم

جرى البعض على إطلاق "متوالية قصصية" على مجموعات قصصية، ليس بها من المتوالية ما يمنحها هذا المصطلح. حيث أتت القصص كل فى وادٍ، وربما لا يجمعها إلا اسم الكات/ة. ولذا آثرت "الكلمة" أن تقدم إنموذجا عمليا لذلك المصطلح –وإن لم نهجر وجهتنا الأساسية، فى البحث عن (الخارجى)- متمثلا فى ثلاثية الكاتبة، والتى تتوالى فيها الدوائر المحيطة بالإنسان، والتى يستقى منها مادته الإبداعية.  حيث يبدأ المبدع إنسانا يعيش داخل ذاته، يستمد منها مادته، والتى تمثل فى ذات الوقت تسلسل ظهور المدارس الإبداعية. فالعمل الأول غالبا ما يحمل الرؤية الرومانسية، والشاعرية التى هى بالأساس التعبير عن دواخل الإنسان.

فى القصة الأولى "وشم أحمر" نعيش الهم الشخصى(أو الذاتى) النابع من التلهف للقيا الحبيب، والتهيؤ له، مصحوبا بالكثير من الأمانى والأحلام، وإظهار الداخل، المعبر عن فرحة اللقيا، وكم هو -الحبيب- رائع المحيا، ليأثر قلبها أكثر،  لكن (القدر) يختطفها منه، بالغرق فى مياه البحر – تعبيرا عن الفراق المفاجئ. وليموت الحلم، وتنطفئ الدنيا، فيتحول أخضرها، اسودا، والربيع فيها إلى خريف. اللحظة مشحونة بالأحاسيس، وانتقاء اللحظة المناسبة للقصة القصيرة، يوحى بمسيرة الحب فى حياة إمرأة تُحب، وحيث تسبح القصة كلها فى إطار المنولوج الداخلى.

وفى القصة الثانية، أو الدائر الأوسع قليلا، والتى تحيط بحياة الإنسان –عامة- والمبدع الذى يستقى مادته منها، وهى الأسرة. فكانت قصة "الطاحونة"، التى تكشف الكثير من طباع القرية، ووضع الأرملة فيها، وكيف أن تلك الأرملة تعيش على ذكرى من رحل، تستحضره فى أعماقها، عندما تسمع هدير ماكينة الطحين، وكأنه الزوج الذى كان يهدر، هدير الماكينة، ليروى ظمأها. كما إستطاعت الكاتبة أن تستحضر الطفلة التى لم تغادر طفولتها، فتحرقها الأسئلة، التى لا تجد لها إجابة{ لم أسأل أمي يومًا عن سبب اصطحابها لي، وأنا الطفلة، فربما كانت تستمد من كفي الصغيرة قوة وأمنًا لا يحسهما سواها، وربما كنت لها صدًّا لحكايات أهل القرية وغمزات نسائها عن تلك الأرملة التي تغادر في الفجر بحجة الطحين}. وكما فى تلك العبارة الكاشفة {فإذا بجسد أمي ينتفض على إثر هديرها وكأن مسًّا أصابها، فيزداد قبضها لكفي وتعتصره عصرًا} وتترك الكاتبة تصور ذلك اإحساس/ ومتى يكون، لفطرة القارئ.

 ويتجسد الإحساس الطفولى ورغبتها، حين تكشف عن سعادتها برحلتى الذهاب والعودة فى رحلة الطاحنونة الشهرية { يختلف وقع رحلة العودة في نفسي، فأعود منكسة مهمومة وكأنني سكبت الفرح على جسد الطاحونة وهجرتهما معا}. كما تتجسد الرغبة الطفولية، وما تتحَملُه الطفلة من الآخرين، متجسدة فى تلك الأمنية (الساذجة) { ماذا لو كانت تلك الأجولة تحمل الأشرار لتعتصرهم الطاحونة وتصنع من عظامهم القذرة دقيقًا تقتاته الشياطين؟!. }. وليتضافر كل ذلك فى رسم شخصية الطفلة التى تواجه أسئلة، اكبر من سنها، فتقع فى الحيرة، وتصبح القصة مشبعة. حيث تلك الجملة التى قد تمثل (لحظة التنوير) والتى تكشف عن تلك الأسئلة، عندما ترغب الطفلة أن تنام فى أحضان أمها، وتدخل عليها، لتجدها لازالت مستيقظة، وساهمة فى سقف الحجرة { ولست أدري لِم في تلك اللحظة تذكرت الطاحونة ولحظة انتفاضة جسد أمي على وقع هديرها}. وأيضا تترك الكاتبة مسافة للقارئ للتخيل والربط بين اللحظتين. فى الوقت الذى نستطيع كذلك أن ننظر إلى القصة بإعتبارها، قصة نفسية. تنبع من الداخل، لتعبر عنه بالخارج.

وتتسع الدائرة أكثر لتشمل القطر كله، فتحضر مصر من وراء السطور، وتشخص أمام أعيننا، لمجرد قراءة العنوان الدال "إيزيس"، التى سعت لملمة اعضاء أوزوريس. والتى تبدأ بالقطار الذى يمثل سير الزمن، وكأننا فى رحلة السير معه من الماضى لنصل للحاضر. حيث تسير الساردة فى رحلة القطار، باحثة عن زوجها، الذى أعلن الجميع موته، بينما تُصر هى على أنه لازال موجودا، ويخرج لها شاب من بين المجهول، ليقوم بمساعدتها حتى يُخرجها من المحطة، التى يتجسد عندها الداخل الساعى للأمان والستر. ولتتضخم صورته وكأنها تنظر إلى زوجها الغائب، لكن التاكسى يحملها إلى حيث تواصل البحث {احتلت صورة ذلك الشاب واجهة المحطة تمامًا، ثم راحت تختفي رويدًا رويدًا حتى تحولت أمام ناظريها لصورة زوجها وهو يركض نحوها من بعيد، ملوحًا لها أن اقتربي، فأغلقت عينيها وتركت لأذنيها وكيانها ذلك اللحن الهاديء، المنبعث من كل زوايا وجودها، وكأنه يتردد على ألسنة جمعٍ من النساء بأصواتٍ خفيضة مواسية ومشجعة في آن واحد: "إيزيس ستعتنى بك، ستعتنى بك بعد أن وجدتك"."يا ابنة نوت وابنة جب وحبيبة أوزوريس الكل يمتدحك أعشقك... يا سيدة  إيزيس}. وليظل البحث عن الزوج المُنقذ والمخلص. ولتظل النهاية مفتوحة، فلم تعثر على الزوج بعد. حيث يتوحد هنا الهم الشخصى، المتمثل فى البحث عن الزوج، عن الإشباع والأمان، والهم العام، المتمثل فى أن الساردة لم تكن وحيدة، وإنما { وكأنه يتردد على ألسنة جمعٍ من النساء بأصواتٍ خفيضة}، لتظهر أوزوريس، التى تبحث عن أشلاء ، لا الزوج فقط، وإنما عن المخلص والأمان.

كما لا نعدم الربط بين القصص الثلاث، والتى تتمثل جميعها فى البحث عن السند، والداعم، الذى به تستقر الحياة، وكأننا نقرأ قصة واحدة، بثلاث مواقف مختلفة، اعتمدت كلها على تجسيد الرغبة الداخلي، بمساعدة الحياة الخارجية، وكأن القصص الثلاث، كشف الغطاء عن الرغبة الداخلية.

كما أن الحس الأنثوى لا يخفى على القارئ، إلا اننا نشعر أن ذلك الحس توارى للمرتبة الثانية وتخفى وراء الهم العام، حتى لو أردنا أن نضع عنوانا للقصص الثلاث، يجمع ما بين الهم الشخصى والهم العام لكان.. "الجوع".