ومن ساحة الحرب، تنبعث روائح الجثث، وتتناثر الأشلاء، وتغص الشوارع بالأشلاء. ويختفى الرجال، وتقع النساء فريسة لتلك المقولات المُترسبة فى أعماق المزِييفين، والمُزيفون، يعيشون أسرى الحرمان والجوع للأمان. وهكذا تنتقل من حفيظة قارة بيبات التونسية، إلى بهية كحيل، السورية. لينبضن ألما، ويقطرن مرارة، فالحرب فى كل مكان، والموت مجاني، رغم أنه عزيز المنال لديهن.

الطيف

بهـية كحيل

 

شعاع بارد رفيع لشمس باهتة يتسرب من النافذة المواربة، ويعانق يدا مرتجفة راحت تطوي الملابس

لامست قمصانه الداخلية البيضاء، مسدتها بعناية ثم أعادتها الى الخزانة .. لا تدري كم هو عدد المرات التي أعادت فيها ترتيب الخزانة.

تدرك جيدا أنها تفعل ذلك من أجلها هي، فرغم مرور السنوات لم تستطع النسيان. مع كل أشيائه المتناثرة هنا وهناك ، مازال مضطجعا على الأريكة، ينفث دخان سجائره، يدندن أغنية يحبها بينما تعد له كأسا من الشاي يحتسيه في ظل دالية العنب.

حملت دلوا من الماء وراحت تسقي الدالية التي تقبع وحيدة في حوض صغير في ساحة البيت الموحشة.

تأملت العناقيد الصغيرة ، النمو الضعيف للبراعم وتساءلت:

_لماذا لم تعد كما كانت ؟

وباستسلام للأمر الواقع _ الحمد لله مازالت قادرة على انتاج الأوراق الخضراء، سأقطفها وأخزنها مؤونة للشتاء. سنة، سنتان، ثلاث ومازالت هيفاء تنام على طرف السرير تاركة له وسادة خالية .. تمتد يدها في عتمة الليل باحثة عن طيفه القابع قربها.

تبتسم لنظرته الحانية، تلامس كفه الضخمة الدافئة، تشتم رائحة التبغ المنبعثة منه.. تهمس له : أنا متعبة، أين أنت الآن، تعال أرجوك.

يجيبها الصمت

يتكرر النداء كل ليلة، ولا تسمع غير صدى صوتها.

يقطع هواجسها صوت الهاتف، وبلهجة آمرة _تعالي غدا في التاسعة مساء وأحضري معك جارتك.  قالها بحدة الصوت الأجش.

سقط رأسها بين يديها، وقلبها بين ركبتيها فكلماته كانت كافية لاسترجاع الملامح التي سكنتها بكل تفاصيلها البشعة ( لحى شعثاء، كحل أسود، ورائحة مقززة كريهة جعلتها تشعر بالغثيان منذ الآن.

أما بعض الطلبات الغريبة فقد جعلتها كارهة لرئيس الهيئة أبو كنانة، للمقر العسكري، ولأولئك الغرباء الذين يتعاقبون عليها بدعوى جهاد النكاح.

ممتلئة بالخوف صاحت: لا أدري من ألوم ومن أكره.

يطل الوجه الحبيب صامتا ثم يعود للسراب الذي جاء منه.

في الغد تنكمش تحت الرجل، تغمض عينيها بشدة، تشعر بالغثيان، تحاول أن تتماسك ، أن تتناسى لكن هذه المرة دون جدوى. تتقيأ .....

_ ما بالك هل جننت يصيح بها الغريب ذو اللحية الحمراء، يدفعها جانبا، ثم يغادر الغرفة

تأتي جارتها، تحتضنها وهي ترتجف كعصفور فزع، تلملمها ثم تعودان الى البيت.

في الطريق تبكي بحرقة.

_ أية أم أنا يا اسراء، لم تعد لي القدرة على النظر في عيون أطفالي وأنا آتيهم بروائح الغرباء في جسدي المشوه. .. من أين لي الصبر، والتحمل والمقاومة

تتنهد: لن أسامحه، ولن أغفر له.

_ اهدئي .. أنت لا تعرفين ماذا حدث معه.

وعلى باب البيت ، دعت هيفاء جارتها اسراء لتناول القهوة، دلفتا الى ساحة المنزل ... مازالت الدالية تقاوم الذبول فوق العريشة الخشبية المتهالكة التي حملتها، رفعت هيفاء بعض الأغصان المتدلية وأعادتها الى سطح العريشة، أزالت بعض الأوراق اليابسة، ابتسمت بمرارة.

_هكذا كان يفعل دائما، زرعها في السنة الأولى لزواجنا، هذه الدالية تشهد على السنوات العشر التي عشتها معه بحلوها ومرها، كان رجلا لطيفا غالبا، قاسيا أحيانا.

تحملته في كل حالاته لأنني أحبه ... أتفهمين يا اسراء أنا أحبه، وأشعر أنه موجود هنا ولم يغادرني.

انتصف الليل، رحلت اسراء، وأوت هيفاء متعبة الى فراشها تبحث عن طيفه القابع هناك.

وفي الصباح استيقظت كما سكان الحي على هرج ومرج، وطرق خفيف سريع على الباب

بصوت مرتعش..

 _ يقولون أن نهر قويق ملئ بالجثث، تعالي معي.

لم يكن النهر بعيدا عن الحي سوى بضع دقائق ، تدافع الناس وهم يرتجفون من رطوبة الهواء، والاستيقاظ المبك ، والحدث الجلل.

سهل منبسط ممتد على مرمى البصر يجاور مرتفعا تمر عليه سكة قطار.

ابتعدت الأغنام أمام الجموع الغفيرة من القادمين اللاهثين، علت بعض الأصوات التي تحث العابرين على الإسراع ، تعثر البعض بسكة الحديد المجاورة للحقول، لعلع صوت رشاش من بعيد لكنه لم يمنعهم من التقدم الحثيث، كانت أقدامهم تغوص في الوحل، وهم يضربون الأرض بنعالهم، يعبرون الطريق الترابي المتعرج الذي يشق البساتين باتجاه النهر.. كركبة ، وعويل، وسماء مدلهمة  التحمت بالحشد الكبير.

كان المشهد مريعا، شباب، ورجال ممددون بكامل أجسادهم وثيابهم ، والطلقات الغادرة على جباههم، تم سحبهم من مجرى النهر الى الضفة الضيقة.

نظرات الفزع المرتسمة على وجوههم لم تختف بعد.

يا الهي .... أي جحيم سقطوا فيه، وأية لحظات موجعة عاشوها.

 أمهات ثكالى،  زوجات مكلومات، آباء، اخوة  يدورون بين الجثث، يحدقون في الوجوه الشاحبة الجامدة يبحثون عن ابن، أخ، زوج ... عشرة، عشرون، سبعون .... مازال النهر يتدفق، والجثث تتكاثر ، والنحيب يتعالى.. وفجأة.....

  _ ها هو، انه هو ،بشحمه ولحمه.

تلبسها ذهول... لم تبك ، لم تصرخ، بل اقتربت منه بهدوء ، ثم تساقطت قربه وهي تئن بوجع

كان يتوسد صخرة صغيرة تحتضن بنفسج دمه، ويحضنها تراب معشوشب وطحالب لزجة، فوقه سماء غاضبة، حوله ريح حائرة حملت آخر أنفاسه الى الله.

احتضنت وجهه البارد الشاحب، مسحت جبينه الفتي، لامست الثقب الغائر في جبهته، ضمت يده الضخمة بأصابعها المرتجفة، أحنت رأسها، اقتربت من الوجه الحبيب هامسة باكية

_ سامحني أرجوك

ثم صاحت بملىء حنجرتها، التحمت صيحتها مع صيحات الآخرين في هذا الفضاء المخيف

وتزاحمت على الضفة الضيقة شهقات العجائز الضعيفة، عويل النساء، أنين الرجال ، وعلى قارعة الموت غاض النهر خجلا مما فاضت به ضفتاه.  

 حلب 12/2/2022