وجدت هذه الرواية معادلًا فنيّا ذكيّا ومتماسكًا، لطرح أسئلة صعبة عن «الهوية»، وعن الجيل الفلسطينى الأحدث، وعن لعبة الأصل والقناع، سواء على مستوى الذات أو الآخر، أو على مستوى آليات الاستعمار. معادل الحكاية يكمن فى «لعبة الأقنعة»، وهى لعبة فى صميم فنون كالمسرح والرواية والتمثيل، واللعبة أيضًا فى صميم آليات المستعمر الذى يرتدى بالضرورة «أقنعة» كثيرة تبرِّر احتلاله للأرض، وفى صميم الفكرة الصهيونية بالذات.

فى مديح شفرة باسم خندقجى

محمود عبد الشكور

 

ما يجعل هذه الرواية ممتازة، ليس أنها فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية 2024، فقد كان يمكن ألا تفوز بالجائزة، فلا ينتقص ذلك من امتيازها، وليس أن مؤلفها باسم خندقجى من سجناء الاحتلال الإسرائيلى، فهناك ألف طريقة لتكريم المناضلين، حاضرًا ومستقبلًا، من دون منحهم جوائز فى الرواية.

  ولكن رواية «قناع بلون السماء»، الصادرة فى طبعتها المصرية عن دار الآداب، ومكتبة تنمية، ممتازة حقا فى رأيى لأنها وجدت معادلًا فنيّا ذكيّا ومتماسكًا، لطرح أسئلة صعبة عن «الهوية»، وعن الجيل الفلسطينى الأحدث، وعن لعبة الأصل والقناع، سواء على مستوى الذات أو الآخر، أو على مستوى آليات الاستعمار. فنية الرواية هى الأساس، ولعلها مناسبة لكى أكرر للمرة المليون، أن عدالة القضايا وإنسانيتها، لا يكفيان وحدهما لصنع فن عظيم، بل إن كتابة فن ركيك وضعيف، يسىء إلى القضايا العادلة، بينما ينقلها الفن العظيم إلى سماوات أكثر اتساعًا. دفاع باسم عن قضيته العادلة لم يكن ليسعفه بشىء، ما لم يكن روائيا موهوبًا، وعارفًا بفنيات صنعته، وممتلكًا لرؤية فنية وإنسانية واعية وناضجة لتناول القضية.

معادل الحكاية عنده فى «لعبة الأقنعة»، وهى لعبة فى صميم فنون كالمسرح والرواية والتمثيل، واللعبة أيضًا فى صميم آليات المستعمر الذى يرتدى بالضرورة «أقنعة» كثيرة تبرِّر احتلاله للأرض، وفى صميم الفكرة الصهيونية بالذات، والتى كرست استعمارًا استيطانيا يقوم على المحو والإحلال، أى إننا بالضبط أمام محوٍ للوجه الأصلى (الفلسطينى)، وإحلال للقناع الإسرائيلى بدلًا منه.  التقط باسم حكاية القناع، وأخذها لآفاقٍ مذهلة، وذلك بقيام بطل روايته الفلسطينى الشاب نور مهدى الشهدى بارتداء قناع رجل إسرائيلى يدعى أور شابيرا، كان نور قد عثر على بطاقته بالصدفة، أى إن اللعبة ستكون معكوسة، بانتحال الضحية لقناع جلّادها، لكى ترى منظوره للأمور، ولكى تتفكك، بالجدل الداخلى بين «نور» و«أور»، كل حجج ودعاوى الآخر، ولكى يرى نور الفلسطينى نفسه، أو بالأحرى يختبر هويته وصلابته، فى مرآة عدوه، ثم يتحرر نهائيا من قناعه.

  هنا فكرة عبقرية تأسست على قاعدتين: أولها وجه نور الأصلى الذى يشبه المهاجرين الإشكناز الأوروبيين، وثانيها ظروفه الشخصية بوفاة أمه، وصمت والده بعد خروجه من سجون الاحتلال، وبالتالى فإن نور هو رجل على الحافة، ابن الصمت والزقاق والمخيم، لا هو مناضل دخل السجن مثل صديقه مراد، ولا هو يمتلك أسرة تمثل المستقبل، ولكنه يمتلك حلمًا وحيدا بكتابة رواية عن مريم المجدلية، يعارض فيها رؤية دان براون فى «شفرة دافنشى»، وستكون معاينة أرض الرواية هى حجته لارتداء قناع أور الإسرائيلى الإشكنازى.  لكن باسم يزيد من امتحان نور، الهارب من ظروفه وصمته، ليس فقط بالصراع مع أور فى داخله، ومع كل أور إسرائيلى، ولكن أيضًا بظهور الفلسطينية سماء إسماعيل، التى نقشت تاريخ النكبة على يدها، والتى لا ترتدى قناعًا، رغم حملها قسرًا لبطاقة هوية إسرائيلية، وستكون سماء سببًا فى حسم نور قراره النهائى، بخلع قناع أور، وتمزيق بطاقته الإسرائيلية.

  لم يكن نور انتهازيّا، ولم ينس هويته الفلسطينية أبدًا، وإلا ما كان هنا صراع من الأساس فى داخله، ولكنه كان يقف مترددًا على خطوط التماس، هو ابن الحيرة والصمت، والنص كله يمثل رحلة خروجه من التيه إلى النور، أو رحلة الخروج من الرحم إلى الميلاد الحقيقى، ورحلة إنزاله من أحلام الخيال إلى أرض الواقع.  يتم ذلك حتى عبر إنزال مريم المجدلية من سياقها الدينى والتاريخى، إلى سياق الحاضر، عندما يتحول الاهتمام نهائيا من المجدلية القديمة، إلى مجدلية معاصرة ترفض الاحتلال والتهميش، هى سماء إسماعيل.  تتحوّل الحكاية من اللعب إلى تفكيك الأساطير التى يتبناها كل أور، بل واكتشاف ما وراء الغابات التى نشرها الاحتلال، لمحو جرائمه ضد القرى العربية، وتعمل مهنة التنقيب عن الآثار على خدمة لعبة الوجه والقناع أيضًا، فكلما حفروا تحت أرض أو «قناع» المستوطنة، ظهر «وجه» فلسطين، فى صورة أثر أو حجر أو قرية بائدة.  يأبى الوجه أن يزول مهما تراكمت الأقنعة، ويأبى الصامت أن يسكت، فتصبح البطاقات الصوتية جزءًا محوريا من بنية الرواية، وكأنها تعوّض نور عن صمته الطويل، ورغم وجود ثلاثة أقسام بأسماء «نور» و«أور» و«سماء»، فإن الفصول من الأول إلى السابع بترتيبها المعهود عبر الأقسام الثلاثة، لأنها حكاية واحدة متصلة، ولكنها متعددة الزوايا.

الأسماء والتفاصيل هى مفاتيح وآليات الكولونيالية، وهى أيضًا مفاتيح الرواية، «أور» بالعبرية معناها «نور» بالعربية، و«أيالا» بالعبرية هى «غزالة» بالعربية، الأقنعة ماكرة ومحيرة، ولكن الوجوه والملامح راسخة، رغم تشوهها أو تراكم التراب فوقها. والجغرافيا عند باسم تحتفظ بالتاريخ والهوية أكثر من البشر، وعناية الكاتب بالتفاصيل ليست مجانية، ولكنها موظفة لنفس الهدف، فالمجدلية الفلسطينية والتنقيب عن الآثار يعيدان نور من جديد إلى فلسطين ماضيًا وحاضرًا.

كان نور فى حاجة إلى سماء يتحرر فيها بعيدًا عن أزقة المخيم، وصمت الأب، وموت الأم، وافتقاد الصديق المسجون، وكانت سماء قادمة من حيفا، نفس المدينة التى وجد فيها نور بالطو أور، وفيه بطاقته الشخصية، والتى صارت هوية نور وقناعه البديل، فانظر وتأمل كيف محا وجه حيفا الباقى، قناع أور شابيرا المباع فى سوق الكانتو بالمدينة؟! وإذ ينتمى باسم خندقجى "الفنان" المناضل إلى جيل «نور وسماء ومراد»، فإن روايته هى ببساطة «مانيفستو الجيل» كله، وكأنه يقول إننا ما زلنا جيل النكبة، لسنا مسوخًا، ولن نكون، نحن وجوه الحق والخير والجمال والإنسانية، نحن الملامح الحقيقية وراء غابات الأقنعة، ونحن كنز الوطن الباقى، قبل صناديق مريم المجدلية، وآثار جنود الفيلق الرومانى التى يبحثون عنها تحت ركام القرى العربية. كُتبت «شفرة دافنشى» لتحل لغز الماضى، بينما كُتبت «شفرة باسم» لتحلّ لغز الماضى والحاضر معًا. وأحسب أنها فعلت ذلك بامتياز.

 

عن جريدة الشروق