يمكن أن يكون هذا الكتاب معجما للحياة السياسية أيام موسيليني وما بعدها. على نحو خاص نقرأ عن الحياة الحزبية التي توزّعت بينها انتماءات الأبناء ومواقف أصدقائهم الكثر، وعن السجون أيضا، تلك التي يميل قارئ عربي إلى مقارنتها بما كان قرأه عن السجون العربية. مرّة أخرى يظهر لهؤلاء القراء أن سجوننا أكثر قسوة بما لا يقاس.

لا دمع ولا ألم في زمن الفاشية والحرب!

في «معجم عائلي» للإيطالية ناتاليا غينزبرغ

حسن داوود

 

ناتاليا غينزبرغ تصرّ على أن تُصنّف كتابها روايةً لا سيرة ذاتية، أو سيرة عائلية، على الرغم من أنها لم تحد عن متابعة التحولات التي ألمّت بكل فرد من أفراد العائلة، وكذلك بكل من أنشأت العائلة علاقات معهم، ومع كل فرد منها تاليا، حتى باتت الشخصيات المذكور عنها في الكتاب صعبةَ الحصر. بين هؤلاء أشخاص معروفون احتاج المترجم، ومن قبله كاتبة الكتاب وناشره، إلى إدخال الكثيرين منهم في الثبت الموضوع في آخر الكتاب لسياسيي وكتّاب وفناني تلك الفترة المضطربة في تاريخ إيطاليا. هكذا يبدو الكتاب، الغاصّ بالتواريخ والشخصيات الكثيرة، أكثر اتساعا وتوزّعا مما يحتمل سياق روائي. ومع أننا، كقراء، تابعنا تناسل أجيال بدأت بالجَدَّة ووصلت إلى الأب والأم، ومن ثم إلى الأبناء وأولادهم من بعدهم، إلا أن الأب والأم ظلا ركنين صامدين لم يسقطهما توالي الزمن، ولم ينل من الأوصاف التي وصفا بها منذ ظهورهما في صفحة الكتاب الأولى.

كما أن من أودى بهم توالي الأيام لم يُهيّأ لمصيرهم، على نحو ما يفعل الروائيون عادة. فألبيرتو، أحد أبناء العائلة الخمسة، جرى ذكر موته كأنه حادث عرضي، أي أنه ذكر في سياق الكلام عن أمر آخر، وهذا في ما سبق لحياته إن احتلت نصيبا لا بأس به من الكتاب. ولنضف إلى ذلك ما نفترضه من أهوال الفاشية، حاكمة إيطاليا آنذاك، وكذلك الحرب التي اندلعت في كل أوروبا. كل ذلك كتب دون مشاعر وإسقاطات فكرية أو أدبية، بل كمعلومات مفصّلة على روزنامة كثيرة الصفحات. ولنتذكر هنا السجن الذي أدخل بعض أولاد العائلة إليه والمنفى الطوعي الذي أبعد بعضهم إلا بلدان أخرى.. ذلك كله جرى دون ذكر لوجع الأم أو لقلق الزوجة. هذا أقرب إلى السيرة منه إلى الرواية. وعلى قدر ما يمكن أن تحتويه لائحة أسماء الأشخاص التي يفيض ما فيها عن العدّ، تتعدّدد أسماء البلدان والمدن والأحياء إلى حد أنه كان يلزم أن يوضع في الختام ثبت آخر، أو معجم آخر يفصّل تلك الأمكنة. في الرواية غالبا يميل الكاتب إلى الاختصار تبعا لما يقتضيه السياق السردي، أو إلى الحذف، أو إلى تقديم حادثة واستبعاد أخرى، أو إلى التركيز على شخصية أو موقف ورفعه إلى مصاف أعلى من أهميته الواقعية. كل ذلك لم تسْعَ الكاتبة ناتاليا غينزبرغ إلى القيام به. تلك النظرة الهادئة والعاقلة لا تعمد إلى إعادة ترتيب الوقائع، بل إلى إبقاء الأشياء في مطارحها، وحسب أولويتها. وها هي الكاتبة، في التنويه الذي يسبق الدخول إلى الكتاب، تذكر أنها تكتب ما تتذكّر وليس ما تبتكر أو تختلق: «الأمكنة والأحداث والشخصيات في هذا الكتاب حقيقية. لم أخترع شيئا، في كل مرّة انسقت إلى عادتي الروائية القديمة، واختلقت شيئا شعرت بأنني مدفوعة إلى التخلّص منه حالاً».

وقد جعلت عنوان الكتاب «معجم عائلي» انسجاما مع متابعته لأحوال وأوصاف وتحولات العائلة ومعها الأقارب والأصدقاء الراسخون مع الزمن والمتبدّلون فيه. أما الاهتمام الذي توليه لكل من هذه الشخصيات، فأكثر ما ينصبّ على طريقة كلامه. الأهل أولا، خصوصا الأب وردود فعله المتكرّرة، إزاء ما يصدر عن الأبناء. باستثناء قليل لأحدهم، لا يتوقفّ هذا الأب، عالِم الكيمياء، عن نعت أولاده بأنهم حمير، أو نَوَر. وهذا النعت لا يقتصر على الأبناء، حيث لم تُعفَ الزوجة منه ولا صديقاتها ولا أصدقاء الأبناء وأزواجهم. الأب هو الشخصية المميزة، وإن بقيت على حالها بعد كل ما تلا من تغيّر جاءت به الحروب وتبدّلات الزمن.

الكتاب أيضا يمكن أن يكون معجما للحياة السياسية أيام موسيليني وما بعدها. على نحو خاص نقرأ عن الحياة الحزبية التي توزّعت بينها انتماءات الأبناء ومواقف أصدقائهم الكثر، وعن السجون أيضا، تلك التي يميل قارئ عربي إلى مقارنتها بما كان قرأه عن السجون العربية. مرّة أخرى يظهر لهؤلاء القراء أن سجوننا أكثر قسوة بما لا يقاس، وأن من يدخل إلى السجن هناك، في بلدان العالم الأخرى، يمكن أن يخرج منه حيّا. كل من ألقي في السجن هنا، في كتاب ناتاليا غينزبرغ، يخرج قبل المدّة التي تقرّرت له. أهله يدركون ذلك، لهذا لا أحد منهم يقلق، أو يأسف، أو يسقط في هوة اليأس من عدم عودته. كأن العالم لم تكن كافية مرارته لأخذ سيرة العائلة إلى عالم الرواية، أو ربما رأت أن الذهاب في هذا الاتجاه سيحتّم إغفال ذكريات ووقائع تؤثر الكاتبة إبقاءها حيّة.

 

«معجم عائلي» للكاتبة الإيطالية ناتاليا غينزبرغ نقلها إلى العربية رامي طويل وصدرت عن «دار الساقي» في 262 صفحة سنة 2024.

 

القدس العربي