تبدو "ثيمة" الاغتراب داخل عالم قاس يجهض أحلام الذات ورغبتها في التحقق، من "الثيمات" الملحة في ديوان "الوقت... خارج الوحدة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) للشاعرة نجاة علي. وهي "ثيمة" واضحة منذ عنوان الديوان، فهل المقصود وقت الإبداع؟ أم الوقت الذي تتأمل فيه الذات الشاعرة هذه الوحدة وتحاول التغلب عليها؟ عموماً أفضت هذه "الثيمة" إلى ما يمكن أن نسميه ثنائية الكتابة والمحو، التي تؤكد حيرة الذات وترددها إزاء هؤلاء "البحارة" الذين يتخذون صورة "القاتلين"؛ حين تبصر الذات الشاعرة – كلما رفعت عينيها لتنظر إليهم – آثار دمائها على أطراف أصابعهم. وبعد اكتشافها هذه الحقيقة الفادحة تظهر تلك الثنائية المشار إليها حين تقول: "لا تخبروهم بأنني هنا / وأنني عبرت المحيط لأجلهم فقط / وها قد صرت لا أفعل شيئاً سوى أن أكتب أسماءهم على حائطي / ثم أمحوها". إنها إذاً ثنائية تعكس آلام الذات وتخوفاتها من الآخرين ورغبتها في "الوحدة". وأغلب الظن أنها ترمز بهؤلاء البحّارة إلى الأحبة الذين رحلوا ولم يتركوا لها سوى تلك "الوحدة" التي تعانيها. وهذا على العكس مما كانت تعنيه الثنائية ذاتها في قول ذي الرمة: "أخط وأمحو الخطّ ثم أعيده / بكفي والغربان في الدار وقع"، الدالة فحسب على السأم والإحساس بالفراغ. إنها في حالة ديوان نجاة علي ثنائية عاكسة لانقسام الذات على نفسها وترددها بين المشاعر المتناقضة، كما يبدو من قولها في قصيدة "هيلين" مخاطبة إياها: "هل سأظل وحدي هنا / في الطريق بين القاهرة وواشنطن / بخيال تائه / أرسم صورتك ثم أمحوها / كتلميذ خائب".
عوالم كافكا
ويستمر هذا الإحساس بالوحدة والمتاهة والعدمية في مواضع كثيرة من الديوان. ففي آخر قصيدة وعنوانها "جولات خاسرة"، تعلن ليس فقط وحدتها، بل أيضاً رفضها للجميع ومحاولة الخلاص منهم: "لست معنية بوجودكم معي، فلطالما تمنيت زوالكم وزوال التاريخ الذي دوّنتُه بين تلك الممرات المخيفة، فدعوني أحطم كلَّ هذه المرايا التي تملأ المكان، وتعكس ظلالكم الباهتة في كل ركن منه". وهذه القصيدة مكتوبة على شكل قطعة نثرية أو ما كان يسمى بالقصيدة المدوّرة؛ مما يدل على أنها دفقة غضب، لم تستطع الشاعرة كبح جماحها.
ومن الواضح أن الشاعرة تختار عناوينها بدقة، فعنوان قصيدة مثل "هذا العدم لا يثير رهبتي"، يوحي بتلك الأُلفة التي تأكدت بين الذات والإحساس بالعدم الذي يستدعي بدوره الأشباح ومحاولات محو الذاكرة: "لن أنشغل بطيفك الذي مرَّ سريعاً من هنا / رغم أنني فعلتُ ما يكفي / لتنظيف البيت من الأشباح / لذا سأنتشي بالقسوة وأنا أمحو اسمك / من كل الأساطير التي سأرويها عني". ولم يكن غريباً أن يحضر كافكا بوصفه علامة على الكابوسية والسوداوية والعدمية، وتقوم القصيدة التي تحمل اسمه على التجريد، حين تخاطب الشاعرة نفسها في تلك المدينة الغائمة التي لا روح لها: "راحتْ تبحث عن وجهة للهرب / كأنها تخطط لتفادي عدو محتمل". بينما "ظلَّت لوحةُ كافكا / في الحائط المقابل / نبوءة تخبرها / بأن وجودها صار مسخاً / وأن ما حسبته حبيباً / صار بقعة داكنة في القلب". والسطران الأخيران تحديداً يوحيان بآلية التحول المستمر الذي هو أقرب إلى المسخ، على نحو ما يظهر أيضاً في قصيدة "وحدك في نهاية الممر" – لاحظ تكرار تيمة الوحدة هنا – التي تؤكد أن ما كان يحسبه ذلك الحبيب "يقيناً / صار نكتة تثير الضحك".
ولا شك أن هذا الإحساس الدائم بالوحدة والفراغ راجع إلى "فقد الأحبة" والخسارات المتتابعة وأسراب اليأس التي تحاصر الذات، تقول في قصيدة " تلك الموسيقى التي تتسلل كالضوء": "سأجمع خساراتي من فقد الأحبة / وأكتب عن أسراب اليأس / التي تتوافد إليَّ من كل صوب وحدب / ثم أحدثكم عن وحدتي التي طالت". هذا الفقد المؤلم للأحبة يدفع الشاعرة إلى استرجاع ماضيها واستعادة تجربة الحب المجهضة التي مرّت بها، بسبب اختلاف الدين بينها وبين حبيبها، حيث كانت تعيش في "شبرا"، هذه المدينة التي كانت صورة صغيرة من الإسكندرية في جمعها بين أصحاب الديانات المختلفة في ألفة تميّز بها المجتمع المصري على مدار عصوره. فتحت عنوان "دانيال" – هذا الشاب المسيحي، تقول، على سبيل التجريد الذي أشرتُ إليه: "لماذا يبقى هذا الولد هنا – وحده – دون غيره / نائماً في حديقتها". والسطر الأخير كناية عن بقاء هذا الشاب في ذاكرة المروي عنها بعد أن "دسَّ لها ورقة مطوية بعناية بين صفحات كراستها / وكتب لها عبارة بيدين مرتعشتين: هل اختلاف الدين، يمكن أن يمنع الحب/ فردَّت عليه برسالة مبتورة: بل قد يمنعنا أحياناً من الحياة ذاتها". ويستمر هذا الحنين إلى مراحل العمر الماضية والعصية على الاستعادة، حيث تقول – في قصيدة "عاطلون عن الحياة": "لا يوجد هنا نهر / لتغتسل فيه روحي من الألم / فأعود طفلة تلهو على ضفتيه بلا خوف". وفي هذه الحالة تشعر الذات أنها أقرب إلى إحدى المومياوات العاطلة – كما يقول عنوان القصيدة – عن الحياة: "لا يوجد هنا نهر / ولا سماء رحيمة / تنصت إليَّ / هنا فقط ما يدل على أنني إحدى المومياوات".
الموسيقى ملاذ
ويتوازى الإحساس بالموت مع استشعار العجز، حين تنعي الشاعرة "قدمها الصغيرة" التي لم يكف الآخرون – ذوو العيون الزجاجية – مشارطهم عنها والتي غرسوا على جانبيها المسامير كأنهم يستعدون لصلبها. واللافت أن الشاعرة تجعل من "الموسيقى" – وسط كل هذا العجز والموت – الملاذ الذي تلجأ إليه الذات فتشعر بإشراق الشمس في روحها، تقول في "تلك الموسيقى التي تتسلل كالضوء": "سأفرح – الآن – فقط / لأني أستمع إلى هذه الموسيقى / التي أشرقت كالشمس في روحي / وبدت كالضوء المسموع الذي يتخلل جسدي / فبعثت فيه الحياة ثانية / وأشاعت السلام في الكون كله". وفي حركة مقابلة لتقنية الاسترجاع التي أشرنا إليها، تقوم الشاعرة باستشراف الحياة في "سن السادسة والستين" حين تخاطب حبيبها قائلة: "في سن السادسة والستين / ستلهو بما تبقى لديك / من الزمن / وستسمي أيامك القادمة بـ "الوقت الضائع" / وستتسلى بالفرجة على خسارة العائد من البحر / وتسخر من الحب / الذي ضيَّعك سنيناً".
تظل "ثيمة" الأب الغائب إحدى "الثيمات" المهيمنة في هذا الديوان، والحقيقة أنها سمة تميز مجمل أعمال الشاعرة نجاة علي، فهي لا ترى الآخرين إلا من خلال هذا "الأب"، حين نقرأ مثلاً في قصيدة "خارج الوحدة": "هذه ليست دموعاً يا أبي / فأخبئها بعيداً عنك / إنها صوت الجرح / النازف في القلب". ثم تتماهى – في القصيدة نفسها – مع صورته الغائبة حين تقول: "كنت أتمشى بجوار النهر / الذي جفَّ دون أن أنتبه / أتأمل ظلي الشاحب / وقد صار يشبهك تماماً / فأدرك أنك أخذتَ معك نورَ العالَم". لهذا فهي دائمة البحث عنه في وجوه من تتوسَم فيهم الحب، ومن ذلك حبيبها الذي يعيش في سياتل (أميركا) والذي تأكدتْ أنه يشبه أباها الذي تركها في منتصف الطريق. وإذا كانت السطور السابقة تقربها من أمثولة "ألكترا"، فإنها في قصيدة "البعيد" تكسر هذا الإيهام حين تفتن بحبيب لا يشبه أباها في شيء: "يقولون إنك لا تشبه أبي في شيء / حتى أفتن بك / لكنني بك فتنتُ / فلا تصوب عينيك هكذا باتجاهي / كمدفعين يخترقان صدري". وهكذا يمكن القول إن الأب – في هذه الشعرية، سواء تم استحضاره بالإيجاب أو السلب – هو العاصم الوحيد لهذه الذات من الانهيار، وسط المدينة التي جاءت دائماً في صورة سلبية حيث تصفها بـ "الخذلان" في القصيدة التي تحمل هذا الاسم لأنها لم تتسع لأحلامها وظلت تطاردها في كل مكان هاجرت إليه.
عن اندبندنت عربية