البحرُ نواعيرُ رحيلٍ
تتأرجحُ موحشةً في الريحِ
وأجنحةُ الأمواجِ يرفرفُ طائرُهَا الأزرقُ
كالمذبوحْ !
وقلوبُ الغرباءِ على الشّطآنِ
تدقُّ بإيقاعِ فراقٍ مجروحْ !
فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..
بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟
ستجرجرُ أرتالُ مراكبنا
في الأرجاءِ المهجورةِ غربتَهَا
راحلةً بنواحٍ مبحوحْ ؟
لنقولَ قوافي الحزنِ المكتوبةَ في يومِ وداعٍ
ونغنّي أغراباً كمآميرِ الشّطآنْ !
بالحسراتِ الحرَّانةِ ، بالنبراتِ المرَّةِ ،
بالصوتِ الظمآنْ ؟
يا قلبُ بأيِّ عيونٍ سنحدّقُ في الأملِ البشريِّ
المرفوعِ على خشبِ الوحشةِ كالصلبانْ ؟
وعلى أيِّ ضريحٍ سينامُ البحرُ بشيخوختهِ الجبّارةِ
حينَ تدقُّ الساعةُ دقتَهَا المشؤومةَ
في جمجمةِ الوقتِ الضجرانْ ؟
وبأيِّ جراحٍ
تتأرجحُ بينَ مصيرينِ ضريرينِ
عذاباتُ الشعراءِ
وتغرسُ مخلبَهَا الأعجمَ
في العقلِ المشبوحْ ؟
يا قلبُ بأيِّ مرارةِ قلبٍ
يا روحُ بأيِّ مرارةِ روحْ ؟
* * *
البحرُ مراكبُ راحلةٌ
والفقدانُ طواحينُ هواءٍ
تتبادلُ أشجانَ العمرِ جراحاً بعد جراحْ !
لو كانَ بمقدوري يا بحرُ
رحلتُ غريباً عن هذه الأرضِ
أجرُّ ورائي عرباتِ رياحْ !
وتركتُ دماغي المظلمَ
يطلقُ صيحاتِ اللذّةِ في وجهِ الريحِ
وصياحاتِ العزلةِ في وجهِ الأشباحْ .
لو كانَ بمقدوري يا بحرُ
لفكّرتُ طويلاً بضياعِ مسرّاتِ الأيّامِ
وأطبقتُ كتابَ الفقدِ على ما ضاعَ
من العمرِ وما راحْ !
وعلى رقراقِ الشجنِ الضائعِ
غنّيتُ الأغنيةَ الملتاعةَ عن خسرانِ الناسِ
وجرّعتُ الروحَ مرارةَ هذي الراحْ !
لو كانَ بإمكاني يا بحرُ
بكيتُ على بابِ الدمعِ وحيداً في الليلِ
وألبستُ أغاني الشيخوخةِ قمصانَ نواحْ !
ووقفتُ قبالةَ أمواجِ البحرِ أفكّرُ
كمْ عانيتُ من الأتراحِ
وكمْ ضيّعتُ من الفرحِ المجروحْ !
فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..
بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟
... .... ...
البحرُ نواعيرُ رحيلٍ
تتأرجحُ موحشةً في الريحِ
وأرواحُ الشّعراءِ على الشّطآنِ المهجورةِ
قُرَّاءُ رحيلٍ أغرابْ !
وقواربُ راقدةٌ بمرافىءِ من راحوا
ومراكبُ ضائعةٌ في بحرِ سرابْ !
وقلوبٌ نتذكّرُ خفقَ جوانحها
كلَّ خريفٍ
وعيونٌ نتذكّرُ رقراقَ مدامعها كلَّ عتابْ !
ومجاريحُ يجرّونَ على الرملِ جرارَ العبراتِ
مجاريحُ يسيرونَ على طرقاتِ الأترابْ .
وشبابيكُ شتاءٍ تتأمّلُ فصلَ وداعٍ
وشبابيكُ دموعٍ شاخصةٌ في شمسِ غيابْ !
ما أصعبَ في ليلِ الغربةِ
أن يرحلَ عن أُنسِ أماسينا الأصحابُ ،
وما أصعبَ أن تغرورقَ أعيننا بالدمعاتِ ونغمضها
ليسيلَ مع الدمعِ الساخنِ طيفُ حبيبٍ غابْ !
قرأوا كمآميرِ الحزنِ مراراتِ الترحالِ
وصاروا خلفَ غيومِ المغربِ رهبانَ ضبابْ .
تتقلَّبُ أوراقُ الأمواجِ الأبديّةُ زرقاءَ أمامَ نواظرهم
وتلامسُ أحلامُ الماءِ الورديّةُ
أهدابَ الغيّابْ .
وتسافرُ في الريحِ أياديهم
كجوانحَ باكية لوداعِ الأحبابْ .
وعلى قارعةِ الدربِ سيبكي المغتربُ التعبانُ
فراقَ الناسِ
وينداحُ مع الوحشةِ موّالُ الكلماتِ المجروحْ !
فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..
بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟
... ... ...
ووقفتُ وحيداً كالمتأمّلِ
في الحقلِ القاحلِ للبحرِ
تحلّقُ فوقي أسرابُ طيورٍ ناعبةٍ بفؤادٍ مكسورْ .
فسمعتُ مراثي الحزنِ السوداءَ
مغنَّاةً بالصوتِ الموجعِ
والأصداءُ الثكلى تتجاوبُ بينَ شواطىءَ نائية
كنداءٍ مهجورْ !
وسمعتُ الصوتَ المُوجَعَ للأغرابِ
بمائةِ أغنيةٍ فاجعةٍ
يقطرُ من ناي الغربةِ ماءَ مرارتهِ المخمورْ !
مَنْ يرأفُ يا بجرُ بروحٍ
تتألّمُ بينَ جدارِ النعي وقبرِ الغربةِ ؟
من ينجدُ نفساً ضائعةً تقبعُ في زنزانةِ حزنٍ مظلمةٍ
ويضيءُ وقوفَ الليل ِعلى أطلالِ ضريحِ النورْ ؟
وبمنْ تستنجدُ روحُ الشاعرِ
وهي تصيخُ السمعَ إلى شيخوخةِ هذا البحرِ النائمِ
حين توشوشُ بالأمواجِ دماغَ الشعراءِ المسحورْ ؟
ما أرهبَ أن تتنابحَ أفواهُ الريحِ
على الشجرِ الميتِ ،
وأن يغدو الخسرانُ أناشيدَ
تردّدُ أصداءَ قوافيها أنصابُ صخور ْ !
أنصابُ صخورٍ صمّاءُ
تمرُّ عليها ريحٌ ميّتةٌ
ويحطُّ عليها في هيئةِ عرّافِ الليلِ
غرابٌ مشبوحْ .
يا قلبُ بأيّ كآبةِ قلبٍ
يا روحُ بأيِّ مرارةِ روحْ ؟
... ... ...
البحرُ نواعيرُ رحيلٍ
تتأرجحُ موحشةً في الريحِ
وأجنحةُ الشعراءِ يؤرجحها الزمنُ الموحشُ بالهجراتْ !
وسفائنُ تسعى يائسةَ الإيقاعِ إلى ساعتها
وسفائنُ تستلقي اليوم بشيخوختها البحريّةِ
في صحراءِ الحسراتْ !
يا بحراً تحتضرُ الأرواحُ على شاطئهِ المهجورِ
وتنهالُ عليهِ همومُ الأيّامِ التعبى
فيهمهمُ مهموماً بمئاتِ التنهيداتْ !
اليومَ أفكّرُ مثلَ خريفٍ هرمٍ
برحيلِ غيوم العمرِ
وأتركُ أحلامي تأفلُ عند أقاصي المغربِ ،
عندَ نهاياتِ الآهاتْ !
واليومَ أراقبُ من شبّاكِ الحزنِ
مراراتِ الصبرِ
وأرنو من شبّاكِ الليلِ إلى آخرِ أيّامي الميتاتْ !
واليومَ أصيخُ السمعَ إلى مطرٍ مجروحٍ
تتساقطُ أوراقُ مرارتهِ
فوقَ سطورِ المرثيّاتْ !
ما أعمقَ همَّ الراحلِ في ليلِ فراقٍ
ما أوحشَ إحساسَ الغائبِ
حينَ تذوبُ العينُ وتنهمرُ العبراتْ !
يا بحرُ لماذا يجلسُ فوقَ صخورِ الشاطىءِ مهجورٌ
ويفكّرُ بالغيّابِ ومن ضاعَ و من ماتْ ؟
ولماذا يبكي عصفورُ الشوقِ وحيداً في الغاباتِ على شباك الصيف
وترضعُ أثداءَ الدمعِ مراثي باكيةُ الأبياتْ ؟
يا روحُ نباحُ البحرِ حزينٌ
خلفَ فضاءِ المغربِ ..
إيقاعُ الحزنِ بعيدٌ في الأفقِ الشاحب ِ ..
والغيمُ توابيتُ حدادٍ
تترامى في أفقٍ مشبوحْ .
ومراكبُ غربتنا
تتأرجحُ في الغسقِ الغاربِ غارقةً
كرجاءٍ مذبوحْ .
فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..
بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟
سيغنّي الضائعُ أغنيةَ الفقدانِ
على دربِ رجوعٍ
ويغنّي الموجعُ أغنيةَ الخسرانِ
على أطلالِ زمانٍ ضاعْ ؟
... ... ...
البحرُ نواعيرُ رحيلٍ تتأرجحُ في شطآنِ ضياعْ !
ونفوسٌ تتقاسمُ إحساسَ البلوى اليائسَ
في ساعاتِ فراقٍ ..
وقلوبٌ تتعانقُ باكيةً في ساعاتِ وداعْ !
وقصائدُ حزنٍ
تتجاوبُ في أجواءِ الفقدِ
.. مواويلُ يقطّعُهَا صوتُ حبيبٍ غابَ
وصوتُ عزيزٍ ضاعْ !
ومراكبُ أغرابٍ
تترامى كتوابيتِ حدادٍ
في صحراءِ جياعْ .
يا بحرُ إلى أيِّ مصيرٍ
ستصيرُ الأفكارُ الأبديّةُ لليأسِ الأعمى ،
وإلى أيّةِ أعماقِ
ستغوصُ الأصواتُ المتصاديةُ الثكلى
لتقلقلَ أقفالَ الأوجاعْ ؟
ما أصعبَ أن تتكرّرَ ريحانِ مشرّدتانِ
على مزمارِ الشاعرِ
والقافيةُ المجروحةُ بينهما
تتصاعدُ من ظلماتِ القاعْ !
ما أصعبَ أن يهتزَّ الحزنُ الأسودُ
في جمجمةِ الشاعرِ بالصوتِ الموجعِ والملتاعْ !
ما أصعبَ أن تتأرجحَ أرتالُ مراكبنا
في الأفقِ الغاربِ غارقةً كرجاءٍ مذبوحْ !
والبحرُ نواعيرُ رحيلٍ
راجعةُ الأحزانِ
تجرجرُ في الشطآنِ المهجورةِ
وحشتَهَا بنواحٍ مبحوحْ .
يا قلبُ بأيِّ كآبةِ قلبٍ ..
يا روحُ بأيِّ مرارةِ روحْ ؟
... ... ...
( يا بحراً تحتضرُ الأرواحُ على شاطئهِ المهجورِ
وتنهالُ عليهِ همومُ الأيّامِ )
هموماً بعد همومْ !
لو كانَ بمقدوري
أغرقتُ جراحي في بئرِ العبراتِ ،
وأترعتُ الكأسَ بإكسيرِ الحسراتِ المسمومْ !
لو كانَ بمقدوري أن أتقلَّبَ
في قلقي الأبديِّ على الرملِ
تقلّبتُ معَ الأمواجِ على أنقاضِ مصيريْ المحتومْ .
وبنيتُ على شجرِ الوحشةِ أعشاشَ خريفيْ
وتنهّدتُ مع الريحِ طويلاً
بنحيبِ البشرِ المكتومْ !
لو كانَ بمقدوري يا بحرُ
لأصغيتُ إلى صرخةِ روحٍ
تتمزّقُ في جبروتِ الرّيحِ المنتحره ...
وعفقتُ على ألفِ كمانٍ منتحبٍ
أغنيةَ الخسرانِ المحتضره !
فأنا طوّفتُ كثيراً في الأرجاءِ القفراءِ
فلمْ أعثرْ في كلِّ خرائبِ هذي الأرضِ
على مأوى يعصمني من قلقِ العقلِ المألومْ .
... ومراكبُ تستلقي شيخوختُهَا البحريّةُ يائسةً
ونواعيرُ تجرُّ تعاسَتَهَا السوداءَ
إلى مقبرةِ البحرِ المقفرِ والمشؤومْ .
فبأيِّ حدادٍ يا حزنُ ،
بأيِّ نواحٍ مبحوحْ ؟
وبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..
بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟