ليس المدى ما يخفيه ولا هذا الأفق الممتد الى اللانهائي إحدى سمات الشعر وجوهره بل أبعد حين يصبح جبة الآلام والانجراحات والسكن الصوفي والملاذ حين يقترب الشاعر السوري طالب هماش من نواعير بحر ممتد في روحه يناجيه الى حد التماهي هكذا تنكتب قصيدة البحر بالكلمات والماء.

البحرُ نواعيرُ رحيلٍ

طالب همّاش

 

البحرُ نواعيرُ رحيلٍ

تتأرجحُ موحشةً في الريحِ

وأجنحةُ الأمواجِ يرفرفُ طائرُهَا الأزرقُ

                                   كالمذبوحْ !

وقلوبُ الغرباءِ على الشّطآنِ

               تدقُّ بإيقاعِ فراقٍ مجروحْ !

 

فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..

        بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟

 

ستجرجرُ أرتالُ مراكبنا

في الأرجاءِ المهجورةِ غربتَهَا

            راحلةً  بنواحٍ مبحوحْ ؟

لنقولَ قوافي الحزنِ المكتوبةَ في يومِ وداعٍ

             ونغنّي أغراباً كمآميرِ الشّطآنْ !

بالحسراتِ الحرَّانةِ ، بالنبراتِ المرَّةِ ،

                          بالصوتِ الظمآنْ ؟

يا قلبُ بأيِّ عيونٍ سنحدّقُ في الأملِ البشريِّ

المرفوعِ على خشبِ الوحشةِ كالصلبانْ ؟

وعلى أيِّ ضريحٍ سينامُ البحرُ بشيخوختهِ الجبّارةِ

حينَ تدقُّ الساعةُ  دقتَهَا المشؤومةَ

في جمجمةِ الوقتِ الضجرانْ ؟

وبأيِّ جراحٍ

تتأرجحُ بينَ مصيرينِ ضريرينِ

عذاباتُ الشعراءِ

وتغرسُ مخلبَهَا الأعجمَ

             في العقلِ المشبوحْ ؟

 

يا قلبُ بأيِّ مرارةِ قلبٍ

يا روحُ بأيِّ مرارةِ روحْ  ؟

 

*     *       *

البحرُ مراكبُ راحلةٌ

والفقدانُ طواحينُ هواءٍ

تتبادلُ أشجانَ العمرِ جراحاً بعد جراحْ !

لو كانَ بمقدوري يا بحرُ

رحلتُ غريباً عن هذه الأرضِ

            أجرُّ ورائي عرباتِ رياحْ !

وتركتُ دماغي المظلمَ

يطلقُ صيحاتِ اللذّةِ في وجهِ الريحِ

     وصياحاتِ العزلةِ في وجهِ الأشباحْ .

لو كانَ بمقدوري يا بحرُ

لفكّرتُ طويلاً بضياعِ مسرّاتِ الأيّامِ

وأطبقتُ كتابَ الفقدِ على ما ضاعَ

                   من العمرِ وما راحْ !

وعلى رقراقِ الشجنِ الضائعِ

غنّيتُ الأغنيةَ الملتاعةَ عن خسرانِ الناسِ

وجرّعتُ الروحَ مرارةَ هذي الراحْ !

 لو كانَ بإمكاني يا بحرُ

بكيتُ على بابِ الدمعِ وحيداً في الليلِ

وألبستُ أغاني الشيخوخةِ قمصانَ نواحْ !

ووقفتُ قبالةَ أمواجِ البحرِ أفكّرُ

كمْ عانيتُ من الأتراحِ

وكمْ ضيّعتُ من الفرحِ المجروحْ !

 

فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..

بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟

...    ....   ...   

البحرُ نواعيرُ رحيلٍ

تتأرجحُ موحشةً في الريحِ

وأرواحُ الشّعراءِ على الشّطآنِ  المهجورةِ

قُرَّاءُ رحيلٍ أغرابْ !

وقواربُ راقدةٌ  بمرافىءِ  من راحوا

ومراكبُ ضائعةٌ في بحرِ سرابْ !

وقلوبٌ نتذكّرُ خفقَ جوانحها

كلَّ خريفٍ

وعيونٌ نتذكّرُ رقراقَ مدامعها كلَّ عتابْ !

ومجاريحُ يجرّونَ على الرملِ جرارَ العبراتِ

مجاريحُ يسيرونَ على طرقاتِ الأترابْ .  

وشبابيكُ شتاءٍ تتأمّلُ فصلَ وداعٍ

وشبابيكُ دموعٍ شاخصةٌ في شمسِ غيابْ !

ما أصعبَ في ليلِ الغربةِ

أن يرحلَ عن أُنسِ أماسينا الأصحابُ ،

وما أصعبَ أن تغرورقَ أعيننا بالدمعاتِ ونغمضها

ليسيلَ مع الدمعِ الساخنِ طيفُ حبيبٍ غابْ !

قرأوا كمآميرِ الحزنِ مراراتِ الترحالِ

وصاروا خلفَ غيومِ المغربِ رهبانَ ضبابْ .

تتقلَّبُ أوراقُ الأمواجِ الأبديّةُ زرقاءَ أمامَ نواظرهم

وتلامسُ أحلامُ الماءِ الورديّةُ

أهدابَ الغيّابْ .

وتسافرُ في الريحِ أياديهم

كجوانحَ باكية لوداعِ الأحبابْ .

وعلى قارعةِ الدربِ سيبكي المغتربُ التعبانُ

فراقَ الناسِ

وينداحُ مع الوحشةِ موّالُ الكلماتِ المجروحْ !

 

فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..

بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟

 

...    ...    ...

ووقفتُ وحيداً كالمتأمّلِ

في الحقلِ القاحلِ للبحرِ

تحلّقُ فوقي أسرابُ طيورٍ ناعبةٍ بفؤادٍ مكسورْ .

فسمعتُ مراثي الحزنِ السوداءَ

مغنَّاةً بالصوتِ الموجعِ

والأصداءُ الثكلى تتجاوبُ بينَ شواطىءَ نائية

                                     كنداءٍ مهجورْ !

وسمعتُ الصوتَ المُوجَعَ للأغرابِ

بمائةِ أغنيةٍ فاجعةٍ

يقطرُ من ناي الغربةِ ماءَ مرارتهِ المخمورْ !

مَنْ يرأفُ يا بجرُ بروحٍ

تتألّمُ بينَ جدارِ النعي وقبرِ الغربةِ ؟

من ينجدُ نفساً ضائعةً تقبعُ في زنزانةِ حزنٍ مظلمةٍ

ويضيءُ وقوفَ الليل ِعلى أطلالِ ضريحِ النورْ ؟

وبمنْ تستنجدُ روحُ الشاعرِ

وهي تصيخُ السمعَ إلى شيخوخةِ هذا البحرِ النائمِ

حين توشوشُ بالأمواجِ دماغَ الشعراءِ المسحورْ ؟

ما أرهبَ أن تتنابحَ أفواهُ الريحِ

على الشجرِ الميتِ ،

وأن يغدو الخسرانُ أناشيدَ

تردّدُ أصداءَ قوافيها أنصابُ صخور ْ !

أنصابُ صخورٍ صمّاءُ

تمرُّ عليها ريحٌ ميّتةٌ

ويحطُّ عليها في هيئةِ  عرّافِ الليلِ

غرابٌ مشبوحْ .

 

يا قلبُ بأيّ كآبةِ قلبٍ

يا روحُ بأيِّ مرارةِ روحْ ؟

...    ...    ...

البحرُ نواعيرُ رحيلٍ

تتأرجحُ موحشةً في الريحِ

وأجنحةُ الشعراءِ يؤرجحها الزمنُ الموحشُ بالهجراتْ !

وسفائنُ تسعى يائسةَ الإيقاعِ إلى ساعتها

وسفائنُ تستلقي اليوم بشيخوختها البحريّةِ

                       في صحراءِ الحسراتْ !

يا بحراً تحتضرُ الأرواحُ على شاطئهِ المهجورِ

وتنهالُ عليهِ همومُ الأيّامِ التعبى

فيهمهمُ مهموماً بمئاتِ التنهيداتْ !

اليومَ أفكّرُ مثلَ خريفٍ هرمٍ

برحيلِ غيوم العمرِ

وأتركُ أحلامي تأفلُ عند أقاصي المغربِ ،

                          عندَ نهاياتِ الآهاتْ !

واليومَ أراقبُ من شبّاكِ الحزنِ

مراراتِ الصبرِ

وأرنو من شبّاكِ الليلِ إلى آخرِ أيّامي الميتاتْ !

واليومَ أصيخُ السمعَ إلى مطرٍ مجروحٍ

تتساقطُ أوراقُ مرارتهِ

فوقَ سطورِ المرثيّاتْ !

ما أعمقَ همَّ الراحلِ في ليلِ فراقٍ

ما أوحشَ إحساسَ الغائبِ

حينَ تذوبُ العينُ وتنهمرُ العبراتْ !

يا بحرُ لماذا يجلسُ فوقَ صخورِ الشاطىءِ مهجورٌ

ويفكّرُ بالغيّابِ ومن ضاعَ و من ماتْ ؟

ولماذا يبكي عصفورُ الشوقِ وحيداً في الغاباتِ على شباك الصيف

وترضعُ أثداءَ الدمعِ مراثي باكيةُ الأبياتْ ؟

 يا روحُ نباحُ البحرِ حزينٌ

خلفَ فضاءِ المغربِ ..

إيقاعُ الحزنِ بعيدٌ في الأفقِ الشاحب ِ ..

والغيمُ توابيتُ حدادٍ

تترامى في أفقٍ مشبوحْ .

ومراكبُ غربتنا

تتأرجحُ في الغسقِ الغاربِ غارقةً

كرجاءٍ مذبوحْ .

فبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..

بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟

 

سيغنّي الضائعُ أغنيةَ الفقدانِ

على دربِ رجوعٍ

ويغنّي الموجعُ أغنيةَ الخسرانِ

على أطلالِ زمانٍ ضاعْ ؟

...    ...    ...

البحرُ نواعيرُ رحيلٍ تتأرجحُ في شطآنِ ضياعْ !

ونفوسٌ تتقاسمُ إحساسَ البلوى اليائسَ

في ساعاتِ فراقٍ ..

وقلوبٌ تتعانقُ باكيةً في ساعاتِ وداعْ !

وقصائدُ حزنٍ

تتجاوبُ في أجواءِ الفقدِ

..  مواويلُ يقطّعُهَا صوتُ حبيبٍ غابَ

وصوتُ عزيزٍ ضاعْ !

ومراكبُ أغرابٍ

تترامى كتوابيتِ حدادٍ

في صحراءِ جياعْ .

يا بحرُ إلى أيِّ مصيرٍ

ستصيرُ الأفكارُ الأبديّةُ لليأسِ الأعمى ،

وإلى أيّةِ أعماقِ

ستغوصُ الأصواتُ المتصاديةُ الثكلى

لتقلقلَ أقفالَ الأوجاعْ ؟

ما أصعبَ أن تتكرّرَ ريحانِ مشرّدتانِ

على مزمارِ الشاعرِ

والقافيةُ المجروحةُ بينهما

تتصاعدُ من ظلماتِ القاعْ !

ما أصعبَ أن يهتزَّ الحزنُ الأسودُ

في جمجمةِ الشاعرِ بالصوتِ الموجعِ والملتاعْ !

 

ما أصعبَ أن تتأرجحَ أرتالُ مراكبنا

في الأفقِ الغاربِ غارقةً كرجاءٍ مذبوحْ !

والبحرُ نواعيرُ رحيلٍ

راجعةُ الأحزانِ

تجرجرُ في الشطآنِ المهجورةِ

وحشتَهَا بنواحٍ مبحوحْ .

يا قلبُ بأيِّ كآبةِ قلبٍ ..

يا روحُ بأيِّ مرارةِ روحْ ؟

...    ...    ...

( يا بحراً تحتضرُ الأرواحُ على شاطئهِ المهجورِ

وتنهالُ عليهِ همومُ الأيّامِ )

هموماً بعد همومْ !

لو كانَ بمقدوري

أغرقتُ جراحي في بئرِ العبراتِ ،

وأترعتُ الكأسَ بإكسيرِ الحسراتِ المسمومْ !

لو كانَ بمقدوري أن أتقلَّبَ

في قلقي الأبديِّ على الرملِ

تقلّبتُ معَ الأمواجِ على أنقاضِ مصيريْ المحتومْ .

وبنيتُ على شجرِ الوحشةِ أعشاشَ خريفيْ

وتنهّدتُ مع الريحِ طويلاً

بنحيبِ البشرِ المكتومْ !

لو كانَ بمقدوري يا بحرُ

لأصغيتُ إلى صرخةِ روحٍ

تتمزّقُ في جبروتِ الرّيحِ المنتحره ...

وعفقتُ على ألفِ كمانٍ منتحبٍ

أغنيةَ الخسرانِ المحتضره !

فأنا طوّفتُ كثيراً في الأرجاءِ القفراءِ

فلمْ أعثرْ في كلِّ خرائبِ هذي الأرضِ

على مأوى يعصمني من قلقِ العقلِ المألومْ .

... ومراكبُ تستلقي شيخوختُهَا البحريّةُ يائسةً

ونواعيرُ تجرُّ تعاسَتَهَا السوداءَ

إلى مقبرةِ البحرِ المقفرِ والمشؤومْ .

فبأيِّ حدادٍ يا حزنُ ،

بأيِّ نواحٍ مبحوحْ ؟

وبأيِّ كآبةِ قلبٍ يا قلبُ ..

بأيِّ مرارةِ روحٍ يا روحْ ؟