من خلال ثنائية الهوية والرقم، يقدم الشاعر العراقي في ديوانه الجديد قضية أساسية تتقاطع مع جماليات التلقي في لعب مجازي على الأرقام/ التواريخ التي تتخذ صيغ علامات تستمد من مقولة الهوية فكرتها المركزية.

مراحل الموت العراقي السريع

نصر جميل شعث

تحتَ عنوان باسم فرات يُدوّن شاعرُ الإسم، المقيم في هيروشيما، بعضَ أرشيفه الخاصّ والعائليّ، في شكل فقراتٍ وبنودٍ مُركّزةٍ، بلغة السرد، وذلك في نهاية مجموعته الثالثة: أنا ثانيةً، الصادرة مؤخّرًا عن منشورات بابل. كل فقرة أو بند بمثابة تعريف أو تلخيص موجز لسنةٍ ما تَحْفَلُ بِحدثٍ مِفصليّ أو بجملة أحداث.

السنواتُ المستهدفة، تحتفظ، في الوقت ذاته، بكونها تعدادًا رقميّاً أي سنويّاً، ابتداءً بسنة 1967 حتي 2006. هناك سنوات تتكرّر، وتستوي دَرَجةً، وتزدِحمُ كعلامة يحَفلُ تعريفها بأحداث فاجعة، مثل سنة 1970. فتقول الفقرة 1970 الأولي: احتجاجًا علي اغتيال حياتها الزوجيّة وهي في سنّ السابعة عشرة من عمرها، رَحَلتْ أمّي إلي بيت والديها مُرغمةً. احتجاجًا وتعويضًا علي فقدها لولدها البكر تتشبّثُ بي جدتي. واحتجاجاً علي كلّ ذلك، ما زلتُ ألعنُ طفولةً عشتُها قسْرياً، مُصرّاً علي خيطٍ رفيع من العزوبية يكون رفيقي الدائم.

وأما 1970 ثانيةً، فيعرّفها بقوله: أول مشهد في ذاكرتي لخال أبي وعمّ أمي، وقد أطلق احتجاجَه الأخيرَ، والنسوة حول جثته لاطِمات علي شكل حلقة، احتجاجًا علي الموت الذي أذلّهَنّ. وقد رأينا التسلسل، في تعريف السنوات، من 1967 حتي 1970 السنة التي صمتتْ عن حركتها التكرارية والانتقالية، بعد أن حفَلت بالموت، مُخلّفةً الفجوة جرّاء انقطاع النفس السَردي لفقرات وبنود أرشيف الشاعر. ليستأنف فُرات، من جديد، التدوينَ بسنة 1974 وينقطع.. وهكذا إلي آخر بند 2006!

وأمام هذه القراءة المزدحمة برصد الأحداث لدي الشاعر، ليس في وسعنا إلا الحديث عن علاقة الشعر بالتاريخ history في ضوء التاريخ والأرقام، كما سيتضح أكثر، تاليا. ولا بد من أنّ هذا القول ينطبق، بشكل ما، علي أي شاعر قد يستهويه أو تضطره مناسبة أو ذاكرة لجعل عنوان قصيدة له أو حتي ديوان عنوانا من سنة أو رقم، أو أن تتخلّل القصيدة إحدي السنوات والأرقام كاتكاءة غنائية، أو كلازمة.

ولكن أن تقابلنا تجارب أكثر ما يميّزها ويشغلها، بشكل خاص، التواريخ والأرقام، فإنّ هذا يدعونا للتمييز وإدراك الخصوصية الجمالية، في تفاصيل وشروحات الخصوصية التاريخية. وباسم فرات، بهذه المجموعة، أحد الذين تحفل نصوصهم بالخصوصيتين.

وما يفعله باسم فرات في أنا ثانيةً، كانَ فعله، علي سبيل المقاربة العراقية، طالب عبد العزيز في مجموعته تاريخ الأسي، بطريقة مختلفة كإجراء لا يغيّر شيئًا من شراكة الاثنين في المعني. إذ حَرِصَ عبد العزيز علي تاريخ قصائده، تاريخًا سنويّاً تامّاً ومنغلقاً بتعيين وحدةِ السنة، أي دون ما ذكره تفصيلاتِ اليوم والشهر. وكان في الوقت ذاته، متعدّياً، لأكثر من مرة، اكتمالَ وانغلاق أو ثبات السنة، بتكرار التاريخ بها مرة ومرتين وأكثر. كما لم يكن تسلسل واضح في تاريخ عبد العزيز لقصائده، وإنما قفْزٌ عن.. واسترجاع وتكرار لسنواتِ قصائده البالغ عددُها 18 قصيدة.

الشاعر باسم فرات لم يذيّل قصائدَه بالتواريخ. ولكنها تجيء كعناوين، وفي نصوص القصائد كهوامش بين هلالين. فأولي قصائد أنا ثانيةً تحمل عنواناً هو تاريخ ميلاد الشاعر: 1/ 3/ 1967، وبعض داخلها يقول: 1/ 3/ 1967 سرقتُ من أبي الخلافة/ وضربتُ فحولته فتدلي الخراب من فمه /1980 مشيتُ خلف جثتي. ليس هذا فقط، بل في قصيدة أخري بعنوان برتبة منكسر يظهر فرات يعاني، في منفاه كلاجيء، مما تقوم به عيون الآخرين، حيث تؤرشفه كرقم يثبت عليه كإدانة:

قميصي مبتلٌّ بندي المآذن/ تلهّف الأهل/ واستغاثات الأصدقاء./ لأمي مهنة الانتظار/ الانتظار ذاته احترفُ الانتظار/ بينما العيون تُؤرشفني: لاجئٌ.. لاجئٌ في ظهيرة الثاني والعشرين من تموز 1996/ احتضنَ الطف هيروشيما، فكنت رقمًا في ملفات الأمم (المتحدة).

وهكذا تسلك فقرات وبنود السيرة، الآتية نهاية المجموعة، طريقها داخل القصائد، في وصفها الحاشية التي تدلف بثقلها.

ولعل إزاحة عيون الآخرين اسمَ الأنا واستبداله بـ الرقم، أحدُ الأسباب وراء الوسواس الرقميّ قهريّ التمثّل في شكل تواريخ وسنوات في المتن، وكذا وسواس تكرار الأنا، لدي قصيدة العراقي بوصفه الغنائية المهدّدة بالنفي والمَمسوسة بهوس الأمن المفقود. والشاهد في القصائد والعناوين، حيث خارطة التكرار والعدّ الغنائيّين ترسمها عناوين 6 قصائد وافرة الجماليات وهادية لأعراف الوجدان، وهي: أبي، أنا، أنا ثانيةً، رحيل، بغداد 1، بغداد 2.

وقد جسّد مفتتح الكتاب ما يغني عن الاهداء، بهذه العبارة الشعرية البسيطة:

أبي حزن عتيقٌ/ أمي كتاب الحزن/ حين فتحه أبي/ خرجتُ/ أنا.

وهذا النهج من الاختزال البسيط، هو ما نراه في المجموعة بدءً من بداية أوّل قصيدة جعل عنوانها تاريخ: 1/ 3/ 1967 يا له من جنون يختزل القصيدة/ أعني أنتِ/ يداي تفعلان كل شيء بحرية مطلقة/ عيناي تسهبان/ وعلي شفتي انكسارات/ أمجاد حروب لغيري. أما العبارة التي يدوّنها الشاعر، في البند رقم أو سنة 2000، في الخاتمة التي حملت باسمه، فجاءت تقول: احتجاجاً علي هول المسافة بيني وبين العراق، ثَبت رسميّاً اسم فرات، إذ في اسم الشاعر وانتسابه ما يجمع بين الشاعرية والدلالة كهوية عراقيّة تخاطب، في قصيدة تاريخ الميلاد، السماء: أنا باسم فرات... ياالله... أتعرفني؟/ المخافر موشومة علي جلدي/ وأمي لم تلتفت للشظايا/ حين مشطت صباي/ فأهالت الشمع والآس فوق صباحي. وقد رأينا الشاعر يعنْونُ قصيدتين جامعًا لمرتين الرقم إلي اسم المكان (الهوية): بغداد 1، بغداد 2... وما نلحظه، هنا، أنّ لتكرار الاسم (بغداد) طابعه السكوني المركزي يكسره تغيّر الرقم بما يسمح باستنزاف العدّ: بغداد 3، بغداد 4، بغداد 10... وإلخ، إذ في بغداد 1 يقول فرات:

في التفاتة غارقةٍ بالذكري/ لَوَّحتِ لي/ ولوّحتُ لكِ/ رأيتك تمسّدين/ أوجاعك بالحنين/ وتعطين جراحكِ الآلام كلها/ تَعدّين شبقَ الموت/ في ثياب ضحاياك المارقين/ هِي نَزوتكِ/ ما قيل ويقال/ أَرّخي لها/ بالعقيق والآس.. وثمّ في المقطع الأوّل من قصيدة بغداد 2 يكتب الشاعر: العقاربُ/ تنهشُ ساعة القشلة/ بغداد../ هل سيفتحُ سليمان القانونيّ/ إصطبلاً لخيوله؟/ أمْ/ أن الجنرال مود/ سوف يوزّع بيانًا جديدًا!!/ داعياً السكان للتمتعِ بالحرية والاستسلامِ معاً/ أتساءلُ.../ وأنا أري هولاكو/ يحلم بتشييد جسرين علي دجلة/ واحدٌ من القرطاس/ وآخر من اللحي.

علي أنّ وصولنا إلي خاتمة المقالة، بهذه القراءة، يكرّر عودتنا للبداية، حيث العنوان أنا ثانيةً الذي سنختم حديثنا بقراءته في ضوء قراءتنا لداخلها. فبقراءة مباشرة وبسيطة للعنوان: هو توجّه للمتلقي بالقول له، في إطار التلقي الجمالي: ها أنا مَرّة ثانية، وإن كان يعلم كل من الشاعر والمتلقي، بأن هذه هي المجموعة الثالثة. ولكن بالقراءة العميقة الأنا هي القضية في ذاتها المطروحة علي المتلقي، مجددًا، في إطار تلقي القضايا الإنسانية والموضوعية في النصوص، فضلا عن أنّ هناك ما يجعلنا نري العنوان ذاته (بغض النظر عن تنوين الفتح علي كلمة ثانية) مرةً كـ مرحلة: أولي، ثانية، ثالثة، عاشرة.. وهكذا. ومرة كـ قضية من طرفين هما: الهوية والرقم. الرقم بوصفه خبرًا أو نتيجة للمبتدأ أو المقدّمة أنا، وبهذا النحو: أنا 1، أنا 2... إلخ، مثلما رأينا: بغداد 1، بغداد 2

كما وينطوي هذا التفصيل، من إجراءات التقسيم، علي كابوس تقسيم العراق، في اللاوعي. وعلي ما تقدّم، تعود وتنتشرُ وتمضي سهولةُ العدّ وسرعته غناءً خطّيا وأفقيًا في المدي ومراحل الموت العراقيّ السريع! 

شاعر من فلسطين