بمناسبة مرور عشرة أعوام على رحيل غارسيا ماركيز العظيم، يستعيد الكاتب اللبناني المرموق هنا عالمه وطرائقه في الكتابة واختراق العالم وكشف مخبوءاته، وذلك بمناسبة نشر نص أخير له اكتشفه محرره وصدرت ترجمته العربية مؤخرا، ليكشف لنا عن طبيعة الدور الكبير الذي قام به من خلال تحليل قارئ عارف بعوالمه.

عودة غابو إلى ... عزلته

إسـكندر حبـش

 

لنعد قليلًا إلى عام 2014، كي نؤطر الحدث. في ذلك العام (شهر نيسان/ أبريل)، غيّب الموت واحدًا من كبار كتّاب العالم في القرن العشرين: الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، عن عمر يناهز السابعة والثمانين عامًا. عبر حياته الطويلة هذه ــ وإن لم تصل إلى المئة، أي إلى الحدّ التي تشبه فيها عنوان أحد كتبه الكبيرة ــ تحول ماركيز من صحافي وكاتب، إلى أكثر من رمز في أميركا اللاتيـنية، وربما في العالم أيضًا. نجح ابن تلك القرية الكولومبـية الفقيرة في أن يجتاز حدود مسقـط رأسـه، وأن يجـتاز هذه العـزلة التي كانـت مفروضة على قارة بأسرها، ليُسمع صوتًا مخـتلفًا. هو صوت أدبي، بداية وبداهة، لكنه أيضًا صوت سياسي، إذ مثلما نعرف، يغرف أدب أميركا اللاتينية من السياسة كثيرًا. أمران التقيا في أغلب الأحيان ليصنعا وعيًا ثقافيًا وجد صداه في قارات أخرى عبر ما مارسه من تأثيرات على وعي الشعوب.

قبل رحيله (قيل يومها إنه بسبب التهاب في الرئة كما في المسالك البولية)، كان غابو (كما يسميه أصدقاؤه)، يعيش بعيدًا عن الجو الإعلامي بعد أن جعله المرض الذي عانى منه لسنوات طويلة (السرطان) يُقلّ من أحاديثه الصحافية وتصريحاته. صحيح أنه تنقل في بعض السفريات القليلة، لكنه حافظ على "عزلته" بعيدًا عن الحياة العامة، بالرغم من كل الإغراءات التي تعرض لها، كأن يُفتتح متحف باسمه، أو أن يُطلق اسمه على مؤتمر هنا أو هناك. كل الإشارات كانت تدل على أنه كان يرغب في شيخوخة بعيدة عن الضوضاء في انتظار الرحيل الكبـير، أو ربما "العزلة الأخيرة". إزاء ذلك، جاءت إشارات عديدة لتفيد أنه مبتعد عن الكتابة، وتحديدًا الكتابة الروائية، إذ كان آخر كتبه رواية "ذاكرة غانياتي الحزينات"، في عام 2004 (ترجمها صالح علماني إلى اللغة العربية وصدرت عن "دار المدى")، والتي يتـحدث فـيها عن رجل بلـغ التسـعين مـن عمـره، يتذكر أنه في شبـابه كـان يتـردد بانتظام إلى المواخير، لدرجة أن العديدات من بنات الهـوى اخترنه "زبون السنة". عشية ميلاده التسعين، تذكر أنه لم يذهب إلى هذه المنازل منذ عشرين سنة، من هنا دفعته روزا كاباركا، إحدى "مديرات" هذه البيوت إلى العودة، إلا انه اشترط عليها أن تكون الفتاة عذراء.

اعتبرت روايته هذه – وإن لم يجد فيها الكثير من النقاد روحية ماركيز ولا أسلوبه الكبير ــ بمثابة تحيّة إلى الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، وإلى روايته "الجميلات النائمات"؛ إذ نعرف ما كتبه ماركـيز عن روايـة الكـاتب الياباني التي اعتبرها من أجمل روايات العالم، وبأنه يتمنى لو أنه هو من كتبها (النص موجود كمقدمة لترجمة هذه الرواية الصادرة عن دار الآداب). لكن ثمة مفاجأة ظهرت بعد أسبوع من رحيله: لن تبقى رواية "ذاكرة غانياتي الحزينات" الرواية الأخيرة لماركيز.

A book with a picture of a person in a forest

Description automatically generated

إذ أعلن يومها كريستوبال بيرا، من دار نشر "راندوم هاوس"، في حديث مع الإذاعة الكولومبية (تناقلته، في تلك الفترة، العديد من الصحف ووكالات الأنباء) أن هناك رواية أخيرة، ستصدر لماركيز "قريبًا". التفاصيل القليلة التي أعلنت عن هذه الرواية، تفيد بأن الكاتب كان يعمل عليها منذ سنين، وقد غيّر فيها كثيرًا في السنوات الأخيرة من حياته (مثل عادته)، إذ كان مشهورًا عنه أنه يعيد كتابة الرواية لمرات ومرات قبل أن يختار الصيغة النهائية؛ كذلك أُعلن أن الرواية تحمل عنوانًا مبدئيًا هو "نلتقي في شهر آب "En Agosto nos vemos، وستصدر بشرط أن توافق عائلة الكاتب على عملية النشر.

الرواية التي أخفى ماركيز أنه يعمل عليها من سنوات، تروي قصة امرأة كانت تقوم يوم 16 آب/ أغسطس من كلّ سنة بزيارة إحدى جزر الكاريبي، حيث قبر والدتها المتوفاة. وعلى الرغم من أن هذه المرأة متزوجة وسعيدة في حياتها الزوجية، إلا أنها التقت ذات يوم برجل حدثت بينهما مغامرة غرامية، ذات رحلة من رحلاتها، وتمنت أن تُستعاد هذه المغامرة في كلّ زيارة لها من ذاك اليوم من شهر آب. لكنها لم تجد الرجل الذي ظنّ أنها عاهرة، لتستعيض عنه بعلاقات أخرى لغاية أن تفككت حياتها بأسرها.

عشر سنوات مضت، انتظر فيها "الماركيزيون" بهوس هذا الكتاب الذي صدر هذا العام. وهو يصدر أيضًا بالعربية بعنوان "موعدنا في شهر آب" (عن دار "التنوير"، بترجمة وضاح محمود) ليتيح لنا استعادة الكاتب من عزلته الأبدية التي مضى إليها. لكن هل يرحل الكاتب فعلًا؟ لا شك في أن أعمال ماركيز باقية ولعقود طويلة مقبلة. في أي حال، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل انتظر الماركيزيون عشر سنوات فعلًا؟ في الواقع انتظروا أكثر من ذلك. فوفق محرر الكتاب كريستوبال بيرا (في ملاحظاته التي نقرأها في نهاية الترجمة العربية)، كان أشير إلى هذا الكتاب في عام 1999، إذ كشفت يومها الصحافية روسا مورا أن ماركيز كان يعمل "على إعداد كتاب جديد مكوّن من خمسة فصول يشكل كلّ منها قصة مستقلة بذاتها، بطلتها هي الشخصية نفسها: آنا مجدلينا باخ".

كلّ هذا أصبح اليوم من "الماضي". مع صدور الكتاب، ينتقل الخبر إلى واقعة لا يمكن الإفلات منها. لذا، هل يمكن أيضًا الإفلات من قراءة ماركيز؟ ثمة مكانة رفيعة تبوأها الكاتب، وقد قادته إلى أن يصبح "أب نوبل النبيل". مكانة عرفت كيف تأوي هذا الرجل "الصغير" (جسديًا) ذا الملامح الشرقية، الذي اعتقل مرات عديدة في باريس، خلال ستينيات القرن الماضي، أثناء حرب التحرير الجزائرية، إذ تمّ اعتباره عربيًا. إذ جعله فضوله ككاتب، (كما قال في العديد من أحاديثه الصحافية)، وتلهفه لأشياء العالم، موضع شك دائم. إلا أن ما من سلطة، استطاعت إسكات هذا الصوت العظيم الآتي من أميركا الجنوبية ــ (وإن كنت شخصيًا أفضل كاتبًا أميركيًا لاتينيًا آخر: خوليو كورتاثار) - ذاك الصوت الذي شبهه كلود كوفون (كاتب فرنسي وأول من نقل بدايات ماركيز إلى الفرنسية) بـــ "غران لينغوا" (اللسان الكبير - Gran Lengua) لميغيل أنخيل أستورياس) سلفه في ستوكهولم، و"القوال الأفريقي - اللاتيني"). اليوم وبعد أن أصبح مجرد تراب ورماد، يعود "هذا الثرثار الكولومبي النبوئي" (التعبير لكوفون أيضًا)، يعود صوته إلينا بشكل إعجازي كما لو أن روح الميت تطفو فوق القبر. "هذه الروح العائدة" أمسك بها ابناه (مقدمة الطبعة العربية) ومحرر الكتاب، ليعيدا نقشها على الحجر. نعم يعود ماركيز بكتاب جديد "موعدنا في شهر آب"، ليدعونا فيه إلى لقاء ... بين القبور.

*  *  *

ما زلنا في منطقة البحر الكاريبي، على مسافة غير بعيدة عن ماكوندو الأسطورية، حيث كل شيء محاط بالعزلة، لكننا نغادر القارة، كي نتحدى الأمواج الهائجة والعاصفة التي تضرب جمجمة الكاتب، كي نصل إلى إحدى الجزر فيها. (تبدو هذه المسيرة، أشبه بتلك التي قرأنا عنها في الأسطورة اليونانية: الرحيل إلى سيترا، تلك الجزيرة الواقعة في البحر الأيوني، التي حمل إليها الزفير Zéphyr، إله الريح ورسول الربيع - أفروديت، إلهة الحب، بعد ولادتها مباشرة). الحب موجود في هذا الكتاب. على الموعد بالتأكيد. بل وأكثر من ذلك: هناك الرغبة وسوط اللذة (من يذكر ما أثاره بودلير الذي أراد تهدئة آلامه من خلال التدفق الشعري؟).

كلّ هذا يتيح لماركيز الاقتراب من موضوعه المفضل بكلّ أريحية، ليصعد من خلاله على سلّمه الموسيقي وعلى حباله الصوتية، لنسمع أغنيته للمرة الأخيرة، لنسمع روحه الوحيدة. صحيح أننا لسنا أمام كتاب يملك متانة "الحب في زمن الكوليرا"، ولا "الحب وشياطين أخرى"، لكن السياج الذي يدور الكاتب في داخله هو نفسه: امرأة متلهفة، راغبة ومرغوبة، ورجل مثقل باللامبالاة، وغرفة مجردة، والليل الميمون، لنقل حتى أن ثمة استرضاء في هذه اللعبة بأسرها. امرأة تقدم جسدها قربانًا، في تحدٍ للآلهة، وإنكارًا لنظام الزواج.

* * *

في ست محطات، وبالتالي ست رحلات، يقدم لنا ماركيز قصته هذه. تبدو اللعبة الكتابية مقتصدة هنا. لذلك يمكن مقارنتها بفكرة سيناريو فيما لو جاز التعبير. أقول ذلك، وأحيل كلامي إلى التالي: من قرأ كتابًا سابقًا لماركيز بعنوان "كيف تُحكى حكاية" (منشورات المدى، ترجمة صالح علماني) سيجد كلّ "موعدنا في شهر آب" في ذلك الكتاب، بمعنى أنها "السيناريوهات نفسها" تقريبًا التي تمّ تحليلها في ورشة الكتابة، عندما كان غارسيا ماركيز يشرح لطلابه كيفية سرد القصة. هذه هي البنية الأساسية، والتي تتكون من جزأين رئيسين الفصل الأول والفصل الثالث. لا عجب في الأمر، لأن هذين الفصلين كان ماركيز قد نشرهما وهو بعد على قيد الحياة. الأول حمل عنوان "نلتقي في شهر أغسطس" (في مجلة كامبيو الكولومبية)، والثالث "ليلة الكسوف" (في "الباييس" الاسبانية)، لذا يبدوان الأكثر اكتمالًا.

وإن دلّ ذلك على شيء، فهو يشير حتمًا إلى أن الكاتب الراحل كان يرغب في كتابة رواية "طويلة"، "وافرة" (جريًا على عادته) لا هذه الــ "نوفيلا" التي نقرأها اليوم. لكن من دون شك، لعب عمره وتقدمه في السن، الدور المانع في الوصول إلى مبتغاه لـــ "يكتفي" بهذه القصة الطويلة. وربما لم يكتف، من يدري؟ إذ علينا أن نتذكر أيضًا ما قاله غابو يومها لتلاميذه في محترف الكتابة إن كل السرد يولد من فكرة، تتجسد في بضع كلمات، والتي يجب بعد ذلك أن تتجسد: "كتابي ’الجنرال في متاهته’ ولد من جملة واحدة: [في نهاية رحلة طويلة ومؤلمة على نهر ماجدالينا، توفي في سانتا ماريا، بعد أن هجره أصدقاؤه]. كتبت مائتين وثمانين صفحة من هذه الكلمات".

هذه الفكرة، بأن كل شيء يبدأ بجملة، نجدها أيضًا في مذكراته "عشت لأروي". يروي ماركيز أنه في عام 1965 كان يشعر بأزمة كتابة منذ أشهر. حاول كثيرًا، لكنه لم ينجح في الوصول إلى أيّ جملة مفيدة. لذلك قرر أن يأخذ إجازة قصيرة (كان يعيش يومها في المكسيك)، ليذهب مع زوجته وأولاده إلى أكابولكو. وفوق الطريق غير المعبدة التي أشعرتهم بالإرهاق، جاءت جملة لتحتلّ روحه وعقله. كانت تبدأ على الشكل التالي: "بعد مرور سنين عديدة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل أورليانو بوينديا تلك الظهيرة البعيدة" ... وأمام إلحاح هذه الجملة عليه، استدار وعاد إلى منزله، ليبدأ بكتابة تلك الرواية ("مئة عام من العزلة") التي لم تجعل منه فقط واحدًا من كبار كتّاب القرن العشرين، وإنما أيضًا لتؤسس لمرحلة أدبية، لم يستطع أدب قارة (والعالم أيضًا) تجاوزها بسهولة.

***

في أيّ حال، تدور "موعدنا ..." حول قصة امرأة في السادسة والأربعين من عمرها، مخلصة لذكرى والدتها، التي رغبت في أن تدفن على هذه الجزيرة (سنعرف السبب في النهاية). لذا كانت آنا ماجدلينا تذهب إلى هناك، مرة كل عام، ولمدة ثماني سنوات، لزيارة قبر والدتها في ذكراها السنوية (يوم 16 أغسطس)، يضاف إليها أربع سنوات أخرى، كانت تبحث فيها عن حبيب هناك. لقد عادت إلى الجزيرة يوم الجمعة 16 أغسطس على متن العبارة في الساعة الثالثة بعد الظهر. كانت ترتدي بنطال جينز، وقميصًا منقوشًا، وحذاءً بسيطًا بكعب مسطح، من دون جوارب، ومظلة من الساتان، وحقيبة يدها، كما حقيبة شاطئ لجميع أمتعتها. على الرصيف، في صف سيارات الأجرة، اتجهت مباشرة نحو واحدة قديمة أكلها ملح البحر، استقبلها السائق بتحية ودية وقادها، وهو يتحرك ببطء عبر القرية الفقيرة بأكواخها المصنوعة من قطع الخشب، وأسطحها الطوب. أشجار النخيل وشوارعها ذات الرمال المحترقة التي تواجه البحر المشتعل.

نعود لنجد في هذا المدخل كل الصوت المركيزي الذي يعبر أكثر ممّا يقول، ويصوّر في بضع كلمات أجواء استوائية تآكلت من الملح، وشغف مذهل، وامرأة ذات أناقة بسيطة في طريق العودة وهي تواجه الرمال والملح الصخري، وبؤس الزمن... تبدأ القصة كما ينبغي إذًا، عبر دقة الوسائط، لتظهر المرأة في رحلة "حجيجها" التاسعة إلى قبر والدتها، المدفونة بعيدًا عن عائلتها، في هذه الجزيرة التي يصل إليها المرء بعد أربع ساعات من العبور المضطرب. ثمة طقوس كاملة، تنتظرها سيارة الأجرة عينها، ونفس بائع الزهور يعطيها باقة الزنبق التي ستضعها على القبر. وبجملة تذكير سريعة نعرف أنها متزوجة منذ ستة وعشرين عامًا، تزوجت وهي "فتاة عذراء"، وأن كل شيء في حياتها منظم كالساعة: زوجها هو قائد الأوركسترا، وابنها هو عازف التشيلو الأول في الأوركسترا السيمفونية الوطنية، وتملك ابنتها موهبة كبيرة عبر طبقة صوت مطلقة؛ علاوة على ذلك، اسمها آنا ماجدالينا باخ، وهو لقب مناسب. وهكذا تظهر منذ البداية على أنها "الزائرة الأكثر دقة للقرية الصغيرة".

لكن هذا العام، تعطل هذا الروتين: لم يعد النادل كما كان، والمغني الخلاسي يؤدي "السترات الفضفاضة الحزينة". ثم ينشأ بداخلها شعور بالوحدة ــ ماركيز كله هناك ــ والإذلال، حتى ترى في الحانة "رجلًا غريبًا يرتدي الكتان الأبيض، وله شعر فضي"، ويبدو "وحيدًا أيضًا في العالم". تقترب الطاولات، والكحول في المنتصف، وتتمسك بمشروب الجين المعتاد، وخلال تبادل مبتذل تمامًا، تعلن فجأة عن رغبتها - في الحرية؟ من الإنجاز؟ - تنفجر: "هل سنصعد؟"، تصرخ. كم هو مفاجئ أنها في نهاية ليلة حارة من المتعة، عندما تستيقظ، عندما يترك حبيبها سريرها، تكتشف، بين صفحتين من كتابها الموجود بجانب سريرها (دراكولا القوطي لبرام ستوكر)، ورقة نقدية بقيمة عشرين دولارًا. هل اعتبرها عاهرة؟ (بالتأكيد لا شيء آخر).

سقوط هذه المرأة "اللذيذ للغاية" يشكل سرد القصة الأولى، الأكثر اكتمالًا على الإطلاق في هذه المجموعة، تمامًا مثل الفصل الثالث، حيث، بعد حفلة جنسية لا تصدق في سيارة الليموزين الفاخرة للحبيب في ذلك العام، تكتشف لاحقًا أنها نامت مع قاتل متسلسل. أما بالنسبة لبقية الأقاصيص، فسيظل الجوع قائمًا، ولن نعرف شيئًا عن الزوج الموسيقي الذي يبدو أنه كان، من جانبه، "أرنبًا ساخنًا"، ولا عن الابن الذي جعل روستروبوفيتش يرتعد من السعادة، ولا عن الفتاة الشريرة على الحواف التي ينتهي بها الأمر بدخول الدير. لا شك حرمتنا شيخوخة الروائي ومرضه من هذه الجولات الغريبة التي لا بدّ أن ننتظرها في كتابات ماركيز. لقد رضخ الكاتب - الذي وصفه بارغاس يوسا (زميله اللاحق في ستوكهولم) بـ"قاتل الإله"، المنافس المنتصر للخالق - للعمر. ألم يقل لابنيه، كما ينقلان عنه في المقدمة "إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء".

***

بعد مرور عشر سنوات على وفاة والدهما، الذي رفض هذه القصة باعتبارها لم تتحقق، أعاد رودريغو وغونزالو إحياءها، بالتعاون مع كريستوبال بيرا، المحرر، الذي يشرح لنا، في خاتمته الطويلة والمؤثرة، استعادته لـ "لوحة لسيد عظيم". ما الذي يمكن قوله أكثر من هذا؟

تنتهي الرحلة السادسة بكيس من العظام يعود من الجزيرة. قررت آنا ماجدلينا أن تعيد معها ما تبقى من عظام والدتها، بعد أن اكتشفت تلك الورود الوافرة على قبر أمها التي كان يأتي بها شخص ستيني ليضعها. هل كان عشيقها؟ هل كانت الورود تكسر حدة العزلة في قبرها؟ ربما لا، لأنها لم تكن وحيدة، في جزيرتها، لكن ما فعلته ابنتها، حين أعادت عظامها معها فقد أعادتها إلى عزلتها. وكأن المؤلف، في هذه الخاتمة المبهرة التي تليق بماركيز العظيم، قد التقط نرده. ولكن، في القراءة الثانية لهذه القصة المختصرة، فإن متعة النص تفوق الإحباط.

تبدو العزلة هي الثيمة الرئيسية، لا في هذه النوفيلا فقط، بل عديدة هي الكتب التي نجد فيها تلك العزلة الأثيرة على قلب الكـاتب، وإن كانت تأتي بصيغ مختلفة؛ من "ليس لدى العقيد من يراسله"، تلك الرواية الصغيرة الساحرة التي تختصر عبر شخصية الكولونيل نظامًا كاملًا من التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري في أميركا اللاتينية إلى "مئة عام من العزلة" التي مهدت الطريق أيضًا لما أتى من بعدها، وبخاصة "خريف البطريرك" التي لا تقل روعة عن سابقتها، لكن القـراء توقفـوا في ذاكرتهم عند رواية العزلة، وإن كان بطريرك ماركيز لا يقل وحدة وعزلة بدوره، حتى "وقائع موت معلن"، و"الحب في زمن الكوليرا"... وغيرها من روايات ستبقى حاضرة في مكتبة الإنسانية.

 

عن (ضفة ثالثة)