يدير المنظّر البلغاري/ الفرنسي المرموق هنا هذا الحوار الفكري بين علمين من أعلام النظرية الأدبية الحديثة، برغم أنهما لم يلتقيا قط، فإن التقاطعات والتناظرات والخلافات الفكرية بينهما لها أهميتها ودلالتها على الطريقة التي تعامل معها أكثر منظري القرن العشرين مع اللغة والأدب في أشكالهما المختلفة.

عن اللقاء بين يَاكُبْسُون وبَاخْتِين

اللقاء الذي الذي لم يتحقَّقَ قَطُّ

تزفيتان تودوروف

ترجمة: إدريس الخضراوي

 

لا شكّ في أن المقارنة بين ياكبسون وباختين تَفرضُ نفسها فرضًا على كلِّ من يهتمّ بالتفكير في التاريخ الثقافي للقرن العشرين. ولكون [هذين المفكّرين] تَعاصَرَا بالمعنى الدقيق للكلمة (ولد باختين عام 1895، قبل ياكبسون بعام واحد، وتوفي عام 1975)، فإنّ مصيرهما اقترن أيضًا بتاريخ هذا القرن. في روسيا، ولد ياكبسون وباختين كلاهما، وفيها تابعا دراستهما في كلية التاريخ والفيلولوجيا. درس باختين في سان بطرسبورغ، أما ياكبسون ففي موسكو. كلاهما ترك إنتاجًا كتابيًّا شديد الأهمية مداره اللغة والأدب. أما أعمالهما فهي متاحة اليوم في عشرات اللغات، وتحظى بالتعليق والنقد والمناقشة في كلِّ أرجاء العالم. وفي حقل العلوم الإنسانية، يعدُّ ياكبسون وباختين من بين الكتاب الأشدِّ تأثيرًا في هذا القرن.
أحسب أن ما يُضافُ إلى هذا القرب الموضوعي بين الكاتبين هو الدور الحاسم الذي نَهضَ به كل واحد منهما في تكويني الشخصي. رأيت ياكبسون أول مرَّة في صوفيا، عام 1960، عندما لبَّى دعوة الجامعة لتقديم تحليل لإحدى قصائد الشاعر خريستو بيتيف
Khristo Betev، الذي يمثل مَجدنَا الوطني، وكان مدرج الندوات مكتظًا بالحضور. بعد ذلك بسنوات قليلة، عندما أنهيت دراساتي الجامعية، وَجدتُنِي في باريس، أعدُّ ترجمة إلى الفرنسية لأنطولوجيا حول الشكلانيين الرّوس* [تضمّ نصوصًا لأبرز أعلام هذه الحركة]، وكان من الطبيعي أن أحاولَ الاتصال برومان ياكبسون من طريق صديقنا المشترك نيكولا روي/ Nicolas Ruwet.

لقد كان عليّ مقابلته عام 1964. بعد ذلك، انشغلت بطبع ثلاثة من أعماله باللغة الفرنسية هي: "قضايا الشعرية**"؛ "حياة في اللغة"، و"روسيا، الجنون والشعر". أما باختين، فما قابلته قطّ. لكنني تعرَّفت إلى كتاباته في المرحلة نفسها التي كنتُ فيها بصدد إعداد أنطولوجيا للشكلانيين الرّوس. وبينما كنت أتتبع إصدار أعماله باللغة الفرنسية، اتّضحَ لي تدريجيًا أن فكره ينطوي على أهمية لافتة. وهكذا كرّست له هو الآخر كتابًا بعنوان، "ميخائيل باختين: المبدأ الحواري"***Mikhaïl Bakhtine:Le principe dialogique، كما أنني قدّمت للقارئ الفرنسي الكتاب الأخير الذي صدر [في ترجمة إلى الفرنسية] بعنوان Esthetique de la creation verbale "جمالية الإبداع اللفظي"****. لنقل إن ياكبسون وباختين هما، بطريقة ما، معلماي الأولان. هذا في ما يتعلق بالتشابه بين الكاتبين، وهو ما يَجعلُ من هذه المقارنة أمرًا مؤكدًا، فماذا، إذًا، عن المجاورة؟

لقد كان للرجلين، كما سنرى، أصدقاء مشتركون كُثْر، ومع ذلك فإنهما ما التقيا قطّ، لا قبل 1920، وهي السنة التي غادر فيها ياكبسون روسيا، ولا بعد 1956، عندما قرّر العودة إلى الوطن. من الواضح أن هذا اللقاء الذي ما تمَّ بينهما، وقد علمنا بذلك مؤخرًا، لم يكن محض صدفة. في عام 1992، ظهر حوار مطوّل لفاديم كوزينوف/ Vadim Kozhinov، وهو كاتب مقرّبٌ من باختين، وإليه يعود فَضلُ الاهتمام بباختين مجدّدا في روسيا، وأيضًا فكّ غموض الكلمات التي كتبها بخط يده قبل 1922 بعشر سنوات. في هذا الحوار، روى فاديم قصّة ذات أهمية بالغة في ما أتقصّد إليه، ولهذا السّبب أريد أن أحكيها هاهنا. هذه القصّة التي لم يذكر كوزينوف تاريخها من المقرّر أن تكون حدثت في عام 1956، وقتها كان باختين يَعيشُ في سارانسك، التي تَقعُ على بعد 600 كلم من العاصمة موسكو، وكان يَتنقلُ بين الحين والآخر، ويُقيمُ بين أصدقائه في زلاسكي/ Zalaski، وهنا زاره كوزينوف، الذي كان صديقًا له، ويُكنُّ له الإعجاب.

والآن أقتبسُ القصة: "فجأة رنّ الهاتف. والحال أن ميخائيل ميخايلوفيتش رفض رفضًا قاطعًا الاقتراب من الهاتف أبدًا. كان ذلك أحد تصرفاته الغريبة. لقد فقد عادة استخدام الهاتف. لم يكن لديه هاتف منذ زمن طويل. منذ مرحلة سانت بطرسبورغ. رفعت السّماعة. يبدو أنها م. ف. يودينا، عازفة البيانو الموهوبة، صديقة ميخايلوفيتش الأثيرة": "كما تعرفون، قالت، معي اللحظة رومان أوسيبوفيتش ياكبسون. لقد عاد إلى الوطن، وأحضر معه مؤلفاته، وهو يحلم بلقاء ميخائيل ميخايلوفيتش. أعرف أن ميخايلوفيتش ينزعج من الهاتف. اسأله من فضلك ما إذا كان يرغب في استقبال رومان أوسيبوفيتش؟ لم يقدّر باختين هؤلاء الشكلانيين حقّ القدر. كان يسخر منهم إلى حدٍّ ما. لوَّح باختين بيده بالرّفض على الفور. في كلّ الأحوال: قل إنني مريض! (كان مترددًا في النطق بمثل هذه الأكاذيب). "مع الأسف، ميخائيلوفيتش مريض. هو يعتذر. لكن لن يكون بمستطاعه استقبال رومان أوسيبوفيش". قلت لماريا فينيامينوفا. بعد أيام قليلة على اتصال يودينا، كان ميخائيل ميخايلوفيتش يستعدّ للعودة إلى سرانسك. كنا نرافقه. ومرة أخرى وصلت إلى زالاسك. من جديد تسأل يودينا بأمل ما إذا كان باختين سيستقبل ياكبسون. (ربما هو في حال أفضل الآن. ياكبسون يحلم كثيرًا بلقائه). قلت: من المؤسف فعلًا يودينا. لكننا في طريقنا بالفعل إلى المحطة. سمعتها وهي تتبادل الكلمات مع ياكبسون. ثم أجابت: "حسنا، لا يهم. سيذهب ياكبسون لزيارة باختين في سارانسك".

وضعت السّماعة، وسمحت لنفسي بإبداء ملاحظة لباختين: "يبدو أنك دمّرت كلّ شيء، لأن ياكبسون رجل نشيط للغاية، وسيذهب إلى سارانسك لمقابلتك. هنا كنتَ ستتحدثُ معه لساعات، وهذا كلُّ شيء، بينما هناك سيعذبك". خلال ردّه على كلماتي أظهر باختين ابتسامة ماكرة. (لقد كان هذا الأمر نادرًا). ليس المكر من خصال باختين قطّ. ثم أكد بسعادة: "حتى هناك، لا. نحن لا نسمح للغرباء بدخول سارانسك". في الواقع، كانت سارانسك محاطة، من ناحية، بمعسكرات الاعتقال السياسي، ومن ناحية أخرى، بجميع أنواع الأهداف العسكرية"[1]. هكذا تنتهي هذه القصة. لا شكّ أن ياكبسون وباختين ما التقيا قطّ، وليس هذا فحسب، وإنما أيضًا هذا اللقاء الذي لم يتم بينهما هو نتيجة لذلك الفعل المتعمَّد من قبل باختين. فما الذي يخفيه هذا الرَّفض الذي أصرَّ عليه منظِّر الحوارية العظيم؟ ما الذي يقرِّب بين هذين الممثلين العظيمين للثقافة الروسية؟ وما الذي يفرّق بينهما؟ للإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي العودة إلى الوراء قليلًا، وتتبع بعض خيوط تاريخ طويل.

ياكبسون على درب العلم، باختين على طريق الأيديولوجيا
نشر كل من ياكبسون وباختين نصوصهما الأولى في الفترة نفسها، ويا لها من مصادفة غريبة. ظهرت مقالة ياكبسون "النزعة المستقبلية" في موسكو، في 2 أغسطس/ آب 1919 في صحيفة (الفن) إسكيستفو iskusstvo، أما باختين فستظهر مقالته "الفن والمسؤولية" في 13 سبتمبر/ أيلول 1919 في صحيفة نيفيل Den’ iskusstvo (يوم الفن). في الواقع، نشر ياكبسون قبل هذه الفترة، خلال الحرب، قصيدتين وتقريرًا، غير أن مقالة "النزعة المستقبلية" ستشكّل لحظة جديدة، إذ فيها سيقدّم أفكاره، وللمرّة الأولى، بطريقة نسقية، بالرّغم من أن هذا العمل لم يكن في الحقيقة سوى مقال صحافي. كان الشاب ذو الثالثة والعشرين يتبنى نهجًا مختلفًا، من دون إبداء كثير من الاكتراث لتماسك أطروحاته. في هذا المقال يقدّم ياكبسون بيانًا حماسيًا دفاعًا عن أصدقائه المستقبليين من رسامين وشعراء، مستندًا في ذلك إلى الحركة الفنية التكعيبية/ Cubisme، التي كانت معروفة بالفعل. وعلى طول المسار، قام بصياغة عدد من الأطاريح التي كانت مهمة ليس فقط في هذه المرحلة، وإنما أيضًا في حياته المهنية اللاحقة. إن أوّل شيء يلفت الانتباه بقوة في هذا النّص القصير هو الدور الذي تلعبه أيديولوجيا الطليعة الفنية المعاصرة، كالتكعيبية والتجريدية في الفن التشكيلي، والمستقبلية في الشعر، التي ينخرط فيها ياكبسون من دون تحفظ. ويقدّم نصه نفسه على أنه تبرير منطقي للصيغ القاطعة التي أطلقها الرسامون والشعراء. في هذه الحالة، فإن هذا البرنامج يتمثل في التخلي عن تمثيل العالم، وأن يحلّ محله تمثيل النشاط الشعري والتصويري نفسه. لم يعد الرّسامون المعاصرون، وفقًا لياكبسون، يستخدمون اللون، لأنه من صميم الموضوع الممثل، وإنما بدافع قوة التماهي المتبادل بين الشكل واللون. وبدلًا من السعي إلى محاكاة الموضوع، يتركز اهتمام الرّسام على الخط والمساحة؛ ويستبدل "المشهد الطبيعي" بـ"مشهد التعبير التصويري"، وموضوع الإدراك بالإدراك نفسه، وهو إدراك ذو قيمة مستقلة[2].

أما الأمر الثاني الذي يلفت الانتباه في هذا النص، والذي ليس من المؤكد أن يتفق ببساطة مع الأمر الأول، فيكمن في تأكيد التقارب بين الفن والعلم. كثيرة هي التشابهات والتقابلات، من جهة، بين الرسم والشعر، والتحليل النفسي من جهة أخرى. ويبدو أن الوحدة بين هذين المجالين، تأتي من كونهما يتعينان بوصفهما شكلين من المعرفة؛ المعرفة التي تعنى بالبنيات والماهيات غير المرئية، وليس المعرفة التي تهتم بالمظاهر التي تكتفي بها الممارسة اليومية (الفن السائد). يعد التكعيبيون أكثر قربًا من العلماء مقارنة بالرسامين الواقعيين، لأنهم يصورون الأشياء في أبعادها الثلاثة، وهذا ما يُحيلُ إلى الهوية الحقيقية لهذه الأشياء. والشيء نفسه ينطبق على الكتاب الذين يجمعون بين وجهات نظر متعددة، بدلًا من التمسك بمنظور بطل واحد. والترابط بين الشكل واللون هو أيضًا إنجاز مشترك للعلم والفن الحديث. تدرك المستقبلية، مثل الفيزياء المعاصرة، الأشياء في حالة الحركة.
أخيرًا، الموضوعة الثالثة لهذا النص القصير هي تأكيد ياكبسون على الوحدة، ليس فقط بين الفن والعلم، وإنما أيضًا بين جميع مظاهر الحداثة، بما فيها الفلسفة والسياسة. تكمن هذه الوحدة في مفهوم النسبية، وفي الروح اليوتوبية العامة. يجب أن نقتبس ها هنا الكلمة الحارقة التي عبّر عنها الشاب.
القضاء على الجمود، وطرد المطلق: هو ذا الاتجاه الرئيس للعصر الجديد، والقضية الملحة حاليًا. الفلسفة السلبية والدبابات، التجارب العلمية والنواب السوفيات، مبدأ النسبية وصرخة الاستنكار المتصاعدة التي يطلقها المستقبليون، كل ذلك يحطّم الجدران الفاصلة للثقافة القديمة. وحدة الجبهات مدهشة
[3].
تتوافق نزعة الجماعية collectivisme المعاصرة مع هذه الروح: فهي تستبدل القيم المجردة بتلك الناتجة عن اختيار مجموعة، كما تستبدل التقليد بالقرار الحالي.

في ما يتعلق بنص باختين، وهو أيضًا نص قصير مقارنة بنص ياكبسون، ثمة احتفاء أيضًا بالوحدة، وبالتحديد الوحدة بين الفنّ والحياة. أولًا، لا يصوغ باختين استنتاجًا بخصوص ما هو كائن، وإنما مثالًا لما ينبغي أن يكون، ثم لا يتحقق من محتوى المحمولات (التطلع إلى سيطرة النسبي، وفقًا لياكبسون)، بقدر ما يتحقق من موقف الذات، كفاعل في الحياة، ومبدع في الفن. يلاحظ باختين: عادة، لا يوجد شيء مشترك بين حياة الفنان وعمله، أو مجرد وحدة ميكانيكية بحتة للتجاور. هذا الوضع يبدو له غير باعث على الارتياح، لأنه يضرّ بالحياة وبالشعر. أين يمكن لهذين المجالين أن يجدا وحدتهما؟ في فكرة المسؤولية، والتي قد تعني أيضًا الشعور بالذنب. يتحتم علي أن أتحمَّلَ المسؤولية عن كل ما أنتجه بوصفي فنانًا، تمامًا مثل الأعمال الأخرى التي أقوم بها في الحياة. أكثر من ذلك، يتحتَّمُ علي أن أجعل حياتي جميلة مثل فني، وأن أجعل فني جديًا مثل حياتي. "ليس الفن والحياة هما شيء واحد والشيء نفسه، ولكن يتحتم عليهما أن يجدا وحدتهما في داخلي، في وحدة مسؤوليتي"[4].

عديدة هي الاختلافات في التفاصيل بين هذين النصين، غير أن التناقض الأهم بينهما على ضوء الأعمال التي سينتجها الكاتبان لاحقًا خلال النصف الثاني من القرن الماضي، هو، ربما، [التقابل] التالي: يصف ياكبسون عالم الإبداع والفكر كموضوع مجرّد، أما باختين فيختار منظورًا يتعين فيه البعد الذاتي، الشخصي بوصفه غير قابل للاختزال. تتحقق الوحدة بالنسبة لياكبسون في معرفة العالم المادي، أو في روح العصر التي تتخلل كل تمظهراتها، أما، وفقًا لباختين، فالوحدة يمكن أن تتحقق (أو لا تتحقق) من خلال فعل إرادي للذات التي اتخذت قرارها بالاضطلاع، بشكل متزامن ومتضامن، بمسؤولية فنها وحياتها اليومية. وإذا شئنا أن نستخدم مصطلحات باختين المقتبسة من هرمان كوهن/ Herman Cohen، أمكننا القول إن الاختلافات هي بين dannoe وzadannoe، بين das Gegebene، وdas Aufgegebene (ربما يمكننا الترجمة محاولين الحفاظ على الصلة بين المصطلحات: المعطى le donné والشّرطي l’ordonné). بالفعل، لقد شرع ياكبسون، وربما من دون أن يعرف ذلك، في السير في طريق العلم، بينما يتجه باختين نحو الأخلاق التي تعدّ الإرادة والحرية والمسؤولية مقولاتها الأساس.

عن اللغة بوصفها شيئًا أو حدثًا:
لنفحص الآن الخطوط العامة لمدرسة ياكبسون كما ستتطور لاحقًا في مرحلة تالية لصدور هذا المقال المكتوب في فترة الشباب. بالرّجوع إلى مساره، وإلى مجموعة من الحوارات التي أجريت معه في المراحل الأخيرة لحياته، يحدّد ياكبسون تأثيرين حاسمين في مساره: يتعلّق الأمر بالفن الطليعي، والفينومينولوجيا. مارس الفن الطليعي تأثيرًا قويًا على ياكبسون منذ 1912، ووفقًا له، يتجسّد هذا الفن في مثالين نموذجيين هما الشاعر خليبينيكوف Khlebnikov، والرسام ماليفيتش Malevitch، اللذين سيلتقيهما معًا عام 1913، وسَيُكنُّ لهما إجلالًا حقيقيًا. حتى أواخر حياته، ظلّ ياكبسون يشدّد على أن خليبينيكوف هو أعظم شاعر في القرن العشرين، أما ماليفيتش فقد وصفه بالمُلهمِ، وبأنه بات من أتباعه الأوفياء. ما يعتبره أساسيًا ومثيرًا للاهتمام عند هذين المبدعين، هو إلى حدّ ما ذلك الشيء نفسه الذي يتمثل في التخلي عن البعد المرجعي- للكلمة عند الشاعر، وللصورة عند الفنان - من دون أن يترتبَ على [هذا التخلي] ما يمكن وصفه بأنه غياب نهائي للبعد الدلالي.

لا شكّ في أننا، هناك، بصدد موسيقى خالصة، وهنا، بصدد زخرفة بسيطة[1]. إن ما يعني ياكبسون هو تلك المحاولة للوصول إلى معنى متأصِّل في "ذرّات" اللغة، وفي الصورة أكثر من الوصول إلى "جزيئاتها". وهذا مفاده، بالمعنى اللساني، الإمساك بالألوان والأشكال التصويرية أكثر منه بالكلمات أو الأشكال. ولا غرابة أن تكون اللوحات التجريدية لماليفيتش، وقصائد خليبينيكوف متوافقة في الجوهر. فالعالم سواء أكان المقصود به المرجع، أو سياق الإنتاج والتلقي، أزيح من مكانه، ولم يعد هو موضع التركيز والاهتمام، أما القصيدة أو اللوحة فيتم إدراكهما لذاتهما بوصفهما موضوعين مستقلين، وليس بوصفهما مكونين ضمن علاقة تربطهما بما ليس من كينونتهما. ومع ذلك، فإنهما يحافظان في صميمهما على الذاكرة والوعد بالمعنى.
كثيرًا ما كان ياكبسون يلحُّ على القول بأن الفنانين الطليعيين كان تأثيرهم عليه أشدَّ مقارنة بالأساتذة الذين تتلمذ عليهم في الجامعة. ورغم ذلك، فهو لا يفوِّت الفرصة أبدًا للإشارة إلى تأثره فكريًا بهوسرل "الفيلسوف الذي مارس، ربّما، أعظم تأثير في أعمالي النظرية"[2]، وخاصّة من خلال الجزء الثاني من مصنّفه "أبحاث منطقية". طيلة حياته، ظلَّ ياكبسون شديد الانجذاب إلى هذا الكتاب الذي تحصَّل عليه عام 1945 في ذروة الحرب مع ألمانيا، ووصلت نسخته إلى روسيا عبر هولندا. وعلاوة على ذلك، كان ياكبسون يتردد على الفيلسوف الظاهراتي الشهير، الرّوسي غوستاف سْبّيتْ، الذي كان من أقرب المقربين من هوسرل. ما الذي استفاده من ظاهرية هوسرل؟ هناك أولًا الإمكانية (السلبية) للتحرّر من منظور التحليل النفسي. تتيح الظاهراتية التركيز على الشيء في ذاته، أكثر من التركيز على سيرورة الإنتاج، أو الإدراك.
كان سْبيتْ يقول لنا، يتذكر ياكبسون، بأن لا نسمح لأنفسنا بالانجرار نحو نزعة سيكولوجية ساذجة ومبتذلة، وألا نحاول شرح أفعال اللغة من خلال التحليل النفسي. ما كان يتقصد إليه بالتحديد هو إنجاز الدراسة الظاهراتية للغة، وليس التحليل النفسي للغة[3]. كان سْبّيت يقول أيضًا، استنادًا إلى مذكرات ياكبسون: «يعرف علماء النفس اللغة معرفة محدودة جدًا أقلّ من علماء اللغة أنفسهم. تناولوا اللغة بوصفها شيئًا؟ لا تستجوبوا علماء النفس، ادرسوا اللغة كشيء من بين الأشياء، بين البنيات الاجتماعية الأخرى؟ أولًا، اللغة لذاتها«. هكذا، وجد ياكبسون في كتاب هوسرل الإمكانية الملائمة لبلورة تحليل بنيوي للغة على أساس المعطيات اللسانية في حدّ ذاتها[4]. ثمة شرطان يضافان إلى ذلك: العناية من جهة بالبنيات المنطقية الكلية، وبعلاقة الأجزاء بالكل، وأيضًا بما هو أبعد من ذلك، أي النحو الكوني، والاهتمام من جهة أخرى بما يسميه ياكبسون المقاربة الغائية للغة، أي المقاربة التي يشغلها هاجس التساؤل عن الوظيفة الخاصّة بكلّ عنصر أو نسق لساني. وهذه، بطريقة محددة، هي مقاصد اللغة، المنقوشة في اللغة في حدِّ ذاتها، التي تشكّل في مجموعها النموذج الغائي. ولهذا فإن الوظيفة هي ما يسترعي الاهتمام أكثر عند ياكبسون قياسًا إلى المعنى.
هذا الانتماء المزدوج إلى الطليعية والظاهراتية، يُشيرُ إلى السّمة نفسها المميزة لفكر ياكبسون. فهو يهتم أساسًا باللغة بوصفها شيئًا، وبوصفها موضوعًا، رغم أنه موضوع خال من المقصدية، ومكوّن من أجزاء ذات مقصدية (الوظائف). لذلك لن نتفاجأ برؤية اللغة وقد صارت، من دون أي صعوبة في المبدأ، موضوعًا للمعرفة العلمية، أو اللسانيات تتواصل مع العلوم الأخرى، ليس فقط العلوم الإنسانية، وإنما أيضًا العلوم الطبيعية. في السنوات الأخيرة من حياته، سيكون ياكبسون مفتونًا بالتشابهات بين الشيفرة الجينية والشيفرة اللغوية، ولكن طوال حياته المهنية سينجذب نحو الأمثلة المستمدة من العلوم الطبيعية، وسيرفض البحث عما قد يكون من خصوصية العلوم الإنسانية. كتب ياكبسون عام 1970: "المقابلة بين اللسانيات بوصفها علمًا، مبحثًا معرفيًا قليل الدقة، والعلوم الدقيقة وخاصة الفيزياء، غير عادلة"[5]. ما هو أساسي، بالنسبة له، يَكمنُ في تطور المعرفة: لا شكّ في أنه من الواجب وعنوان مجد الجنس البشري على حد سواء معرفة العالم؛ والفروق بين الأجسام المدروسة ثانوية.

لا شك في أنّ النموذج اللغوي الذي سيتم تطويره، سوف يتخلّق من رحم هذا التقارب مع العلوم الحقة. فبمجرّد أن وصلَ ياكبسون إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، سيربط الاتصال بمنظري المعلوماتية Les théoriciens de l’information مثل نوربرت وينير، ود. م. ماكي، وسيستخدم مصطلحاتهما بكل محبة. فالنموذج الشهير للتواصل الذي قدّمه عام 1960 في محاضرة بعنوان: اللسانيات والشعرية، الذي يستعيد نموذج بوهر ويطوّره، يتنزّل أيضًا في إطار نظرية عامة للسنن والتواصل؛ وموضوع المعرفة هو الملفوظ (الرسالة)؛ مهما كان هذا الأخير يَحملُ في ذاته آثار وإمكانات العلاقة مع العناصر الأخرى للسّياق، كالمرسل، والمرسل إليه، والشيفرة، والمرجع.
في القلب من شغف ياكبسون باللغة، وكثيرًا ما ذكّر هو بذلك، يكمنُ حبّه للشعر، الشعر الرّمزي بداية، والمستقبلي لاحقًا. من المعروف أنه عندما أراد تحليل النصوص الأدبية، انعطف، لا قصرًا وإنما بالأحرى نحو النصوص الشعرية. يتبوأ الشعر، وفق ياكبسون، القمة في الهرم الأدبي. "الشعر، كما يقول ياكبسون في مقابلة معه، هو النوع اللفظي الكوني. لماذا؟ لأن النثر الفني هو الشعر مخفّفًا، هو الشعر الذي يَمضِي نحو اللغة اليومية[6]. بأي معنى يتعين النثر، ولا سيما الرواية، بوصفه الشعر المخفَّف، تسوية بين الشعر واللغة اليومية. أولًا، وقبل كل شيء، لمَّا كان الشعر يحتكم لقيود شكلية دقيقة للغاية (إيقاعه وبنيته الصوتية والدلالية)، وكان ذا شكل فضائي مشكّل من التكرار، والتوازي، والتدرج والتقابل، فإن كلّ كلمة فيه محددة بدوافع مختلفة، ولا يمكن إزالتها. بالمقارنة، فالمحادثة اليومية تصاب بالتعسّف. والرّواية في منتصف الطريق بين الاثنين (أعرب فاليري عن أسفه لأن المركيزة يمكن أن تخرج في الخامسة، أو السادسة).
بالإضافة إلى ذلك، تعدّ اللغة اليومية قبل كل شيء تفاعلًا بين متكلمين، بحيث في هذا التفاعل لا يكون الملفوظ اللساني سوى أداة (ولهذا السبب ذاته فهو قابل لأن يستبدل بعضه بعضًا)، بينما النصّ الشعري يكون مجردًا من دوره التفاعلي: إنه موجه للجميع، وبالتالي لا أحد، ولا ينتظر أي استجابة. ردّ الفعل الذي يستثيره ليس رد فعلٍ لفظيًا، وإنما إعجاب وتأمّل. لهذا يجب أن يتمتع الشعر بعملٍ أفضل. الرواية هي أيضا عمل فني، وبالتالي فهي مدفوعة نحو الحوار اليومي، غير أنها تَعملُ على تمثيل هذا الحوار في حدّ ذاته: بين الشخصيات، وبين الأبطال والكاتب. في غياب هذه التعددية، لن يكون ثمة تخييل، بل ما يكون هو الشعر على وجه التحديد.

بعبارة أخرى، الشعر هو المونولوج، الاستخدام اليومي للغة، الحوار؛ أما الرّواية فهي عبارة عن مونولوج يرتكزُ على الحوارات. من الناحية العملية، تتداخل الأنواع وتتنافذ. ولا نجدها في حالتها البحتة إلا في حالات استثنائية. والحال أن هذه الحالات الاستثنائية هي التي جعلت ياكبسون يَنجذبُ إلى شعر الجنون عند هولدرلين. يقتضي جنون الشاعر، على المستوى اللساني، وجوب مَحوِ أي أثر للحوار من النَّص. شعر خالص، مونولوج خالص. أجمع الزُّوار، منذ حبسه، على أنَّ الشاعر لم يعد يَعرفُ كيف يتحدَّث مع النّاس، بينما ظلّت قوته الشعرية سليمة. "يكتب بتينا فون أرنيم Bettina Von Arnim: كلّ حضور إنساني يُسبّبُ له الفزع ويحاصره، وحدها ربّة الفنِّ تعرف كيف تكلّمه. وفي بعض الساعات يكتب قصائد قصيرة ينعكس فيها عمق عقله ونعمة ماضيه الروحي"[7]. كلّ العناصر التي تشير إلى سياق التلفظ من قبيل الأسئلة والأجوبة، الإشاريات deixis، والحضور الشخصي، محذوفة أو تعرَّضت لتغييرات عميقة.

في محاضرة حول هولدرلين وجوهر الشعر، أكد هايدغر أن الحوار بعيدًا من أن يكون مجرد شكل لغوي بسيط، فهو يكوّن أساس اللغة. لا شيء يمكن أن يكون أشد تعارضًا مع مفهوم هولدرلين للشعر، يقول ياكبسون. «إذا كانت اللغة ونظام الكلمات وقواعد البناء المقيدة المهيمنة ضرورية بالنسبة له، فهي ليست كحوار، بل كقصيدة فقط. ما ينقل يستبعد من الرسالة الشعرية الخالصة أي إشارة إلى فعل الكلام.»[8]

لا شكّ في أن الشعر في أنقى صوره باعتباره نقطة جذب لياكبسون طيلة حياته، يَتعينُ بوصفه مونولوجًا. إن انتزاع الملفوظ من سياقه التلفظي ينطوي أيضًا على الفصل [بين الملفوظ] و"الهنا" و"الآن" المشدود إليهما. وبعبارة أخرى فصله عن الزمن الراهن. هذا المطلب يتماشى مع ذهن الشاب ياكبسون الذي يُفضلُ، متأثرًا بالمستقبليين، المستقبل عن الحاضر. فهو يُحبُّ أن يذكر بصيغة خليبينيكوف التي مفادها أن وطن الإبداع هو المستقبل، أو بصيغة ماياكوفسكي الذي يذهب إلى أن النزعة الواقعية للشاعر تَتمثلُ في توقّع المستقبل. فحتى اللحظات الأخيرة لحياته، ظل ياكبسون يعتقد أن "العلامة وبفضل قوتها الإبداعية تستطيع أن ترسم الطريق نحو المستقبل غير المحدّد"، ويرى فيها الجوهر السرّي للغة الشعرية[9]. في زمن الثورة، وقد لاحظنا ذلك، كان هذا الشعار المستقبلي يتصادى مع الروح الثورية والتطوعية التي تسعى إلى بناء عالم مكتمل وجديد، هذه الروح التي تسهم باسم المستقبل المشرق، في قبول حاضر مملٍّ. ولكن لاحقًا، في وقت وفاة ماياكوفسكي، وفي واحد من أكثر نصوصه الخاصّة، يلاحظ ياكبسون: لقد عشنا كثيرًا من أجل المستقبل، وأفرطنا في التفكير فيه، ولم يعد لدينا الإحساس بالواقع في حد ذاته، لقد فقدنا الشعور بالحاضر[10].

عندما يتذكر باختين اتصالاته بعالم الفن خلال مرحلة الثورة، فإنه، ويمكن للمرء أن يفاجأ بذلك، يستعيد اسمي خليبينيكوف وماياكوفسكي بالذات. ولكن، قبل أن يجعل المثل الأعلى لهذين الفنانين خاصًا به، ويبحث عن مبرِّر مفاهيمي له، في ضوء ياكبسون، يُعربُ باختين عن إعجابه المفاجئ إلى حد ما، ويحيط بهاتين الشخصيتين الطليعيتين من الخارج. من منظور باختين، يعد خليبينيكوف شاعرًا مميزًا، ورجل كرنفال للغاية، وكلّ الأوضاع بالنسبة له غريبة، وهو، بالإضافة إلى ذلك، لا يرفض الواقع المحيط، بل يقيم معه صلات جديدة. كان يعرف كيف يمتنع عن كل ما هو خاص، وكان يَعرفُ كيف يفهم نوعًا من الكلية اللامتناهية وغير المحدودة للكرة الأرضية".لهذا السبب، فالكلمات التي يستخدمها خليبينيكوف لا تشبه الكلمات التي يستخدمها الرّجال الآخرون: إذا واصلنا النظر من خلالها في الوقائع الخاصّة واليومية، فإن ذلك سيؤدي بنا إلى الوقوع في سوء الفهم، ولكن إذا تمكنا من "الدُّخول في تيار فكره الكوني والعالمي، عندها كلّ شيء يغدو مفهومًا ومهمًا للغاية"[11].
أما ماليفيتش فهو، أولًا، يذهل باختين بنزاهته الأخلاقية المطلقة، ("فهو لم يبحث لا عن الوظيفة، ولا عن المال. لقد كان زاهدًا عاشقًا لأفكاره")، ثم بحاجته الماسة إلى تجاوز العالم الملموس الذي يحيط به. كان يَقولُ إن فننا يعمل في زاوية صغيرة، في فضاء ثلاثي الأبعاد. الكون العظيم لا يدخل هناك، ولا يستطيع أن يجد مكانه[12]. حاول ماليفيتش النفاذ إلى هذا العالم ما وراء عالمنا المألوف، العالم ذي الأبعاد اللامتناهية. لذلك، فإن موقف باختين يستند على حدٍّ سواء إلى الإعجاب بأصالة هذين الفنانين في التزامهما الفني، وبموقفهما الأخلاقي، والفهم غير المحدد لمشروعهما الثقافي الذي يتمثل في ترك العالم الإنساني الوثيق والتقليدي، من أجل البحث عن منظور كوني.

كان باختين، أكثر من ذلك، منغمسًا منذ شبابه في الفلسفة الألمانية. فاللغة الأجنبية الأولى التي اكتسبها منذ الطفولة، وكان يتقنها كما لو كانت اللغة الأم، لم تكن اللغة الفرنسية، كما هي الحال بالنسبة لياكبسون، بل كانت هي الألمانية؛ وهكذا قرأ منذ أن كان عمره ثلاث عشرة سنة كتاب "نقد العقل الخالص" في اللغة الأصل، كما استأنس لاحقًا بفلسفة هوسرل الظاهراتية التي لم يجد فيها سوى أداة للتحليل، وليس فلسفة من شأنها الإجابة عن القضايا الأساسية التي تَشغلُ باله. ولما كانت انشغالاته هاته ذات طبيعة أخلاقية، فإن من سَيلفتُ انتباهه بالأساس من بين تلامذة هوسرل هو ماكس شيلر ونزعته الشخصانية Personnalisme لكن سيثير اهتمامه، أكثر من ذلك، فلاسفة ذوي منظور أخلاقي، وفي مقدمتهم الفيلسوف الكانطي الجديد هرمان كوهن. "فيلسوف رائع للغاية، كان له تأثير هائلٌ علي "[14]، وكذلك التيار الذي يبدأ من هذا الأخير، وفيه يُشيرُ بشكل أخص إلى مارتن بوبر Martin Bober، بحسب باختين. يعد بوبر "أعظم فيلسوف في القرن العشرين، بل قد يكون الوحيد. أدين له بالشيء الكثير، وبالخصوص بفكرة الحوار"[15].

لعل ما يشد باختين إلى الفلسفة الألمانية المعاصرة ليس، كما عند ياكبسون، إمكانية عدم الاكتراث الكامل بالتدخل البشري، بل على العكس من ذلك هو التأكيد على طابع هذا التدخل غير قابل للاختزال. إلى جانب النموذج الغائي، العزيز على ياكبسون، يتقصّد باختين إلى بناء نموذج بينذاتي، وإلا فإننا سنخاطر بتجاهل الخصوصية البشرية.
الآن باتَ بين أيدينا منذ 1986 أقدم عمل لباختين، ويتعلق الأمر ببداية عمل فلسفي كتب حوالي 1920 وأصدره ناشروه بعنوان فلسفة العمل[16] La philosophie de l’acte. هذا الكتاب الذي يرنّ بقوة في كلّ الأعمال التي ألفها باختين في المرحلة الأخيرة من حياته، يُتيحُ إمكانية الفهم الكامل لمساره، وإعادة بناء التراتبية الداخلية لأطروحاته. يُمكنُ وصف باختين بأنه ثنوي dualiste. عند نقطة انطلاق هذا المسار، كما عند نقطة النهاية، يوجد التقابل الذي يمكن تحديد مفرداته الشائعة في: الإنساني L’humain واللاإنساني le non humain، الذاتي  le subjectif والموضوعي l’objectif، الزمان le temps  والمكان l’espace. لا شكّ في أن عالم الأشياء موجود، وهو يخضع لقوانين فيزيائية لازمنية، كما أنه يقع ضمن المعرفة النظرية théorétique. لكن الإنسان لا يقبل الاختزال في هذا العالم، لأن معه يَدخلُ البعد الزمني الذي لا رجوع عنه: كل إنسان في اللحظة ذاتها التي يخضع فيها للقوانين العامة للنوع البشري هو فرد فريد تمامًا، له لحظة يعانق فيها الحياة وأخرى يغادرها فيها، تليها لحظة في اتجاه واحد. وبين هذين العالمين هناك حلّ الاستمرارية؛ ليست الممارسة (التطبيق) مجرد تجسيد بسيط للنظرية، إنها عالم منفصل، يخضع لقواعد خاصّة به.

كلّ اختزال لهذه الثنوية في أي أحدية monisme يعدُّ ضارًا. لذلك، فإن باختين ضدَّ الأحدية الذاتية التي من شأنها أن تُنكرَ المعرفة الموضوعية. لكنّ معركته أكثر حدّة مع الأحدية الأخرى، تلك التي تجهل وحدانية ونهائية الوجود الإنساني: الأحدية النظرية، أو الوضعية للعلم المعاصر. العلم شرعي، لكن يجب على المرء أن يدافع عن نفسه ضدَّ إمبرياليته، فلا يزال كلُّ مجال الأخلاق خارج سيطرته بشكل ملحوظ. الفعل الأخلاقي لا يوجد إلا عندما يتخذه الفرد؛ حتى المنطق الأكثر صدقًا لا يمكنه إنتاجه. العقل والمعرفة يمكن أن يقودا على السواء إما إلى الخير أو الشر. وهذا معناه أيضًا أنه في معرفة الإنسان ذاتها، يتعين أن نأخذ في الاعتبار ما هو إنساني بشكل أخص، وليس ما يَجعلُ من الممكن استيعاب الإنسان مع بقية الكون. من المستحيل اختزال الناس إلى أشياء، وبالتالي اختزال العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية. إن التسليم بهذه الخصوصية لا يعني أي اختيار ظلامي، ولا حتى دفاعًا عن اللامعقول. من الممكن أن تكون اللغة معروفة، لكن الثمن الذي يتعين دفعه يجب ألا يكون طمس هويتها.
مفهوم اللغة الذي يقع في صميم أبحاث الشكلانيين، يعاني من منظور باختين من نسيان هذه الثنوية. تمتلك اللغة وأعمالها سمتًا موضوعيًا وماديًا من الممكن، ومن الضروري معرفته. لكن اللغة ليست فقط منتوجًا، بل هي أيضًا فعل، كما أنها ليست شيئا فحسب، وإنما هي حدث. لا يمكننا السّماح لأنفسنا بترك هذا المظهر التفاعلي للكلام، وجانبه الحدثي الفريد الذي يرتهن له وجود المتكلمين أنفسهم، ولا نستطيع أكثر من ذلك اختزال هذا المظهر في مجرّد وجود وظائف داخل الملفوظ من شأنها أن تُحيلَ إلى العناصر ذات الصلة بالسياق. لا شيء يمكن أن يعيّن بوضوح التقابل بين النموذج اللغوي الياكبسوني والمفهوم الباختيني للغة، عند ياكبسون، غير وجود عنصر "اتصال"، والوظيفة التي تحيل عليه هي الوظيفة "الانتباهية " Phatique التي يمكن توضيحها اعتمادًا على الأمثلة التي يستخدمها مستعملو الهاتف: "قل، أتسمعني؟ استمع إلي"[17]؟ هذا "الاتصال"، يمكن باختين أن يردَّ، ليس وظيفة من بين وظائف أخرى، ولكنه هو ما يَجعلُ من اللغة شيئا آخر غير السنن. Code
لا أعتقد أن باختين هو من حرّر كتاب بافل ميدفيديف المنهج الشكلي في الدراسات الأدبية La méthode formelle en études littéraires الصادر عام 1928، ولكني أعتقد أن الأفكار التي ينطوي عليها هذا المؤلف يشكل باختين مصدرها الإلهامي. إننا نجد في هذا الكتاب نقدًا للنموذج اللغوي الياكبسوني كما تم تقديمه عام 1960 (من المؤكد أن هذا النص يقتبس من ياكبسون 1919). "في تأويلهم يفترض الشكلانيون ضمنيًّا تواصلًا محددًا مسبقًا وغير قابل للتغيير، وتحولًا ثابتًا بنفس القدر"ـ  يشير ميديفديف إلى أن "الشكلانيين يفترضون وجود طرفين مشكلين مسبقًا، أ وب، ورسالة سيتم تسليمها [كما يسلم الشيء] من واحد إلى الآخر. في الحقيقة لا توجد رسالة جاهزة س، ولكنها تتشكَّل في عملية التواصل بين أ وب"[18]. في عام 1970 سيستأنف باختين هذا النقد بنفسه:
تعنى السيميوطيقا بالأساس بنقل رسالة جاهزة باستخدام سنن جاهزة. والحال أنه في الكلام الحي يتم إبداع الرسائل بالمعنى الدقيق لأول مرّة في عملية النقل، وفي الأساس لا يوجد سنن[19]. ما لا يعرفه الشكلانيون هو بالأساس اللغة بوصفها حدثًا وانبثاقًا لما سبق أن ظهر من قبل، والذي يقيم مظهرًا جديدًا بين المتكلمين.
لا شكّ في أن الموقف الذي يَصدرُ عنه باختين حيال الشكلانيين ليس سلبيًا بالكامل. ففيما يتعلق بدراسة الأنساق اللغوية، فإن أعمال الشكلانيين (وخاصة إيخنباوم وتينيانوف وجاكوبينسكي) تعدّ بمثابة نقطة انطلاق بالنسبة لباختين. لكن ما يلومهم عليه هو أنهم لا يقدِّرون حقَّ القدر مظهرًا آخر للغة، ليس أقل أهمية: التفاعل بين الكائنات البشرية.  الحوار، سيقول باختين مع هايدغر، ولكن بشكل خاص مع بوبر، هو الشرط الخاصّ للغة. لهذا السبب، عندما قرّر باختين أن يَنعطفَ عن التأملات الفلسفية، وييمّم وجهه شطر التحليل الأسلوبي والتاريخ الأدبي، فإنه سَيُفضلُ دراسة الروايات وليس القصائد الشعرية. في الشعر يتم محو الطابع الحواري للغة، ويتحدث الشاعر عن العالم الذي يشمله هو بذاته، دون تصوير التفاعل الذي يشتغل داخل اللغة. أما الروائي، على العكس من ذلك، فهو يشخّص الحوار الذي يجري بين الشخصيات، وبين الكاتب وبطله. وعلاوة على ذلك، فإن "المحو" لا يعني الاستئصال. وفي التحليل النصي الذي نلفيه في فلسفة العمل، يُبيِّنُ باختين كيف يمكن التمييز في قصيدة لبوشكين بين صوت البطل، وصوت البطلة وصوت المؤلف.

يتطلب استخدام مصطلحي الحوار والمونولوج إجراء احترازيًا. وبطبيعة الحال، بالمعنى الواسع للكلمة، كل لغة هي حوار، أي مجاوزة للفرد. كل إنتاج لغوي موجه إلى شخص ما، سواء أكان متعددًا أو مجهولًا، أم غائبًا، أو حتى نتاجَ ازدواجية المتكلم. اللغة بذاتها تأتي إلينا من الناس الذين سبقونا، وفضلًا عن ذلك، فإن كل ملفوظ يحمل في ذاته آثار الملفوظات السابقة، وتوقع الملفوظات الآتية (هذا ما يطلق عليه اليوم التناص). ومع ذلك، فمن الممكن إقامة تقابل بين المونولوج والحوار، إذا تم فهمهما بمعنى أضيق، باعتبارهما، من ناحية، الكلمة التي لا تتوقع ولا تثير أي استجابة، ومن ناحية أخرى، الكلمة التي تنطوي على دعوة، وتولّد، عادة، الاستجابة. وعليه، فالنظرية المونولوجية للغة هي تلك التي تتخذ من الملفوظ اللساني في حدّ ذاته موضوعًا لها، فهي ليست على غير بينة من الوظيفة التواصلية للغة، ولكنها لا تضفي عليها الطابع الإشكالي أيضًا. أما النظرية الحوارية للغة، فهي تتخذ من التفاعل بين الأفراد موضوعًا لها، وكذلك التحولات التي تطاولهم أثناء هذه العملية التفاعلية. في هذه النظرية، لا تتعين اللغة بوصفها موضوعًا للتشريح، وإنما هي جزء من حدث فريد من نوعه. وبهذا المعنى، فإن الاهتمام المكرَّس للشعر من قبل ياكبسون، وللرواية من قبل باختين يعدّ كاشفًا.

لا شكّ في أن رسوخ اللغة في الحاضر، حيث السَّنن المجرد، ومادية الأصوات، يصيران حدثًا فريدًا ونهائيًا، يعني الكثير بالنسبة لباختين إلى حدِّ أنه لن يتمكن أبدًا من استبدال هذا الشغف بالحاضر بتقديس المستقبل. صحيح أن باختين، ببقائه في روسيا، سيرى ما يعنيه وعد المستقبل الذي ينادي به النِّظام باستمرار: طريقة لجعل الخضوع والحرمان من الحرية مقبولين. لم تعد الأوهام اليوتوبية ممكنةً. في العالم الحقيقي الذي يسكنه باختين، كان المستقبل مُسخَّرًا لخدمة الاضطهاد في الحاضر. في عام 1943 كتب باختين: يُقدِّمُ يَومُ اليوم نفسه دائمًا (عندما يمارس العنف) كخادم للمستقبل. لكن هذا المستقبل بدل أن يحرِّر ويُحدثَ التغيير، فإنه يجعلُ الاضطهاد مستمرًا ودائمًا[20]. الخوف والأمل كلاهما يَسكنُ المستقبل، ويسمحُ بالتلاعب بالحاضر، ولهذا فهما يعدان الأداة المفضلة للدعاية التي تحيط بباختين. الفنُّ الحقيقي، على النقيض من ذلك، يحرِّرنا من هذا الشعور، ويتيح لنا العيش في الحاضر.

التصرُّف ذاته إزاء التاريخ؟
ينصبُّ تفكير كلٍّ من باختين وياكبسون على اللغة والأدب وليس على الأحداث السياسية، لكنَّ المرء لا يستطيع أن يستبعد السياق السياسي الذي عاش فيه هذان المفكران الروسيان، والذي تميز بالنظام الشيوعي. كيف تصرّفا إزاء الحقائق التاريخية التي كانت تؤطر حياتهما؟ كان ياكبسون في موسكو إبان ثورة أكتوبر. لكن كثافة الأحداث العامَّة لم يكن لها سوى تأثير ضئيل عليه: لقد دفعته إلى العمل بشكل أكبر في المجال الذي يهتمّ به. في عام 1972 وصف ردود أفعاله عن تلك المرحلة: كنا نقول: نحن نعيش مرحلة تتعين بوصفها مرحلة تحولات وانقلابات واضطرابات كبرى، يجب أن نسابق الزمن من أجل إتمام دراستنا، وأبحاثنا، طالما لا يزال من الممكن أن تكون مسلحًا فكريًا[21].
هذا كلُّ ما سيقوله ياكبسون، في سنواته الأخيرة، عن ثورة أكتوبر. ومع ذلك، إذا انتقلنا إلى زمن الأحداث، سنرى أنه، حوالي 1918، سيشرع في المشاركة في هذه الأجواء الحماسية، وأن موقفه أقرب من فناني الطليعة الذين يؤمنون بوحدة الثورة في كل المجالات (يشهد على ذلك نصُّه حول النزعة المستقبلية). في عام 1912، يغادر ياكبسون موسكو متجهًا إلى تشيكوسلوفاكيا، لقد كان منخرطًا بصفة مترجم في المهمة التي أنيطت بالصليب الأحمر السوفياتي في براغ، والتي تقضي بإرجاع السجناء الرُّوس إلى أوطانهم؛ وهكذا في وقت لاحق تمكن من إنجاز العديد من المهام للسِّفارة السوفياتية حتى نهاية عام 1920. في تشيكوسلوفاكيا غالبًا ما كان يُنظرُ إليه كمحرِّك للروح الشيوعية، لكنه كان ممزقًا بين الإخلاص لأفكار الثورة، والشعور بالإحباط تُجَاهَ الحقيقة السوفياتية.

لكنه لن يكشف قطّ للعموم لا كيف ولا لماذا قرَّر البقاء في تشيكوسلوفاكيا، وقطع الروابط مع وطنه الذي أضحى الاتحاد السوفياتي. هكذا يلاحظ التصرّف الرائع ذاته في ما يتعلق بالأزمة السياسية القادمة التي يتعين عليه أن يعيشها في نهاية سنوات 1930. في الحوارات المختلفة التي أجريت معه خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته، أوضح ياكبسون أنه كان عليه أن يتخلى عن منصبه في بِرْنْ، وأن يحرق أرشيفه الذي كان يملأ ستة عشر من الدِّلاء الكبيرة، وأن يختفي عن الأنظار مدّة شهر في براغ، ثم يذهب إلى كوبنهاغن في أبريل/ نيسان 1939، ويقيم في أوسلو بين سبتمبر/ أيلول 1939 ومايو/ أيار 1940، ويمكث في السويد بين عامي 1940 و1941، قبل أن يستقلَّ الباخرة التي ستقوده إلى الولايات المتحدة الأميركية في مايو/ أيار 1941. هذه الحياة التي تبدو لنا متحركة، يقول عنها ياكبسون بشعور بالرّضى: "لا شكّ في أن تعاقب الأوساط العلمية والاهتمامات المحلية وشعاراتها، كلّ ذلك مكنني من صياغة اهتماماتي الخاصّة بشكل مختلف، ومن توسيع نطاقها"[22] .كلُّ ما يهم، باختصار، هو التأثير الذي مارسته هذه العاصفة السياسية على تطور تصوراته العلمية.

في كلِّ وقت، على حدِّ علمي على الأقل، لم يكشف ياكبسون عن السبب الحقيقي لاضطهاده، وهو أنه يهودي. لقد كان ينحدر من أسرة يهودية علمانية وكوسموبوليتية، ولا يبدو أن الخصوصية اليهودية كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة له (سيتم تعميده في الديانة الأرثوذكسية عام 1936 برعاية أحد أصدقائه الأوراسيين). يؤكد ياكبسون دائمًا على أن أصوله هي أصول روسية، وليست يهودية. والحال أنه في سنوات 1930، ومع صعود النازية، جعلت هذه الأخيرة من غير الممكن بالنسبة للفرد، حتى لو كان ذلك بإرادته، أن يتجاهل أصوله اليهودية. "ثم بدأت تلك السنوات عندما اضطررت للتجول، بدون وسائل للعيش، أو مأوى، من بلد إلى آخر"[23].  إذا كان ياكبسون لا يشير قط إلى أصوله اليهودية، فإن هذا لا يُفسَّرُ إذًا بالوسط الأسري فقط، لأنه ها هنا ثمة محاولة متعمدة للتغاضي عن عوارض الحياة. ييمّم ياكبسون وجهه دائمًا بتصميم وعزم شطر العلم، من دون أي تشابكٍ مع الأحداث الطارئة من حوله.

إن موقف ياكبسون من الأيديولوجيا والنظام الشيوعي لافت للنظر بسبب تقديره الشديد. تمكن ياكبسون في عدة مناسبات من مناقشة شعر صديقه ماياكوفسكي المستقبلي، ولكن أيضًا الذي جعل من نفسه بطلًا للسلطة السوفياتية، من دون الانحياز إلى كثير من الأطراف في النقاش الأيديولوجي. المثل الأعلى الشيوعي لا يتم تمجيده، ولا تتم إساءة سمعته. عمليات التطهير والنفي التي ضربت وطنه القديم، ولا سيما خلال سنوات 1930، استثارت فيه هذا التلطيف المذهل. "كان هناك في جامعة موسكو أشخاص موهوبون، كثيرون منهم رحلوا تباعًا، لقد كانت المرحلة شديدة الاضطراب"[24]. واحد من بين هذه "الشخصيات الموهوبة" يستحقُّ أن نتوقف عنده. إنه الفيلسوف غوستاف سبيت Gustav Spet التلميذ الروسي للفيلسوف هوسرل، والذي كشف لنا ياكبسون مدى التقدير الذي يمحضه له.

أسرَّ في الحوار نفسه: "لقد كان قريبا جدا مني"[25]. ولكن عندما يتوجه إليه متكلِّم بالسؤال ما إذا كان سْبيتْ اختفى في الاضطرابات الأخيرة، يقول ياكبسون: "هذا صحيح، لكنه لم يكن في معسكرات الاعتقال. لا تزال هناك أعمال لم يتم نشرها بعد"[26]. مرة أخرى، يتم تجاهل المصير التاريخي بمجرد التعرُّف عليه، فقط الأعمال هي التي تثير اهتمامًا دائمًا. كان رد الفعل هذا أكثر إثارة للدهشة، حيث واجه سْبيتْ مصيرًا مأساويًا بشكل خاص: تم القبض عليه أول مرة في مارس/ آذار 1935، وحُكم عليه بالنفي لمدة خمس سنوات؛ لكن في أكتوبر/ تشرين الأول1937 تم اعتقاله مرة أخرى، وكان ذلك في منفاه، وتمَّ إطلاق النار عليه من قبل أجهزة المخابرات NKVD في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1937.

أما الأصدقاء الشكلانيون الذين آثروا البقاء في الاتحاد السوفياتي، فإنهم سيتعرضون بدورهم للاضطهاد، بالرُّغم من أن لا أحد منهم كان مصيره تراجيديا بمثل المصير الذي آل إليه سْبيتْ. هكذا سيجبرون على التخلي عن الكتابة عن الأدب، والانتقال إلى العمل إما في حقل تحرير ونشر المؤلفات الكلاسيكية (إيخنباوم، توماشوفسكي)، أو في الرواية التاريخية (شكلوفسكي، تينيانوف). لقد كانت نهاية الشكلانية الروسية محصلة قمع إداري خالص. لكن ياكبسون عندما يستعيد هذه المرحلة، يحمِّلُ الشكلانيين المسؤولية عن المصير الذي انتهوا إليه، لأنهم كانوا سيشنون الحرب، على قدم المساواة، ضدَّ الأدباء الماركسيين.
أرفض القول بفكرة الخصومة بين الشكلانية والماركسية، ولا أرى تناقضًا بين الاثنين. أعتقد أن إعطاء هذا الأمر بعدًا جداليًا كان عديم الفائدة، ومضرًّا[27].

يصرُّ ياكبسون على تجاهل السياق الملموس الذي يدور فيه هذا الصراع، والتصرّف كما لو كانت معركة فكرية خالصة، ومواجهة لمواقف مجرّدة. ثمة عاطفة قوية تشدُّ الشاب ياكبسون لفتاتين من أسرة كاغان  Kagan ويتعلق الأمر بأسرة يهودية تربطها صداقة بأسرة ياكبسون. الفتاتان إلزا تريولي  Elsa Triolet، وليلي بريك  Lily Brik، ستتمتعان بشهرة مدويَّة. ليلي هي صديقة رفيقه ماياكوفسكي. أما إلزا فهي صديقته، ولاحقًا ستقدمه لزوجها لويس أراغون، الذي سيبقى أيضًا قريبًا طوال حياته. يمكن التذكير أيضًا بأن إلزا تريولي، ولويس أراغون، قد جسَّدا، ربما بموهبة كبيرة، الخط الستاليني الصعب في وسط الأنتلجنسيا الفرنسية خلال سنوات ما بعد الحرب. والحال أن ياكبسون سوف لن يعبِّر في أي وقت عن التحفظ إزاء هذه المواقف، كما أنه لن يؤيدها، بل كان يعبِّر باستمرار عن الرضى عن الصداقة التي تجمعه بالزوجين الألمعيين.

لا أتذكر هذه الحقائق من أجل إلقاء اللوم عليه، وليس فقط لأنَّ مثل هذا التصرف سيكون من المفارقات التاريخية، وإنما أيضًا لأننا نجهل كثيرًا من العناصر ضمن سياقات محددة في كلِّ مرة. بل بالأحرى، يتبين من هذه المواقف الوجودية، وجود نموذج للسلوك، و"صورة في السّجاد" ينطويان على الرسالة الخاصّة بياكبسون. من منظوره، ثمة شرف يتمتع به العلم، ولا يجب أن تشوش على نظامه المقتضيات السيرذاتية. تتموضع المعرفة والأفكار في عالم منفصل، لا علاقة له بالمبررات الشخصية والسياسية. العمل هو، مرة أخرى، شيء وليس حدثًا.
في عام 1917، كان باختين في جامعة سان بطرسبورغ، بخلاف ياكبسون الذي كان في جامعة موسكو. لم يكن أول رد فعل له على الأحداث الثورية مختلفًا عن ذلك الذي يخصُّ هذا الأصغر منه سنًا. لقد كان يفضل التركيز على دراساته أكثر من التركيز على العاصفة السياسية التي تحتدم من حوله. عندما بادره محاوره بالسؤال في المقابلة التي أجريت معه بعد خمسين عامًا: "إذًا أنت لم تحضر الاجتماعات"؟، أجاب: "لا، لم أفعل. لا، لا. بقيت في المنزل. قرأت عندما كان الجو دافئا، بقيت في المكتبة"[28]. لم تكن السياسة شأنًا ذا أهمية بالنسبة لباختين، ولم يكن يرغب في التفكير في هذه المشكلات. ولكن علاوة على ذلك، ولكونه محرومًا من الشعور بالمستقبل الذي يُسيطرُ على ياكبسون، لا ينتظر باختين خيرًا من الثورة الجارية. يتذكر باختين أنه كان يستهجن ثورة فبراير: كان يعد أن الملكية انتهت، لكنه لم يكن يبدي أي ثقة في المثقفين الذين تجمعوا حول كيرينسكي  Kerenski، وكان يعتقد أن النّصر سيكون حتمًا حليف العناصر الأشدّ تطرفًا ممثلة في البلشفيين Les bolcheviks.
بمجرد إنجاز الثورة، لم ينحز باختين، بخلاف ياكبسون، للنظام الجديد، ولكنه فرَّ من الموت جوعًا في سان بطرسبورغ إلى نيفيل، ثم إلى فيتبيسك، حيث سيكسب رزقه بطريقة ما من خلال إعطاء الدروس والمحاضرات. وفي إحدى تدخلاته العمومية النادرة التي نتتبعها، في عام 1918 نرى أنه كان قلقًا بشأن نسيان الماضي والدين [29]. ولكنه قبل كلِّ شيء كان يتجنب الانغمار في عالم الحياة اليومية وصراعاتها، وكانت هوايته المفضلة هي التجول في محيط نِيفِيلْ في وسط البحيرات والغابات رفقة صديقيه المفضلين يودينا وبوبيانسكي اللذين معهما كان يخوض في مناقشات تتعلق بالفن واللاهوت، وكان يَعرضُ عليهما فلسفة كلٍّ من كانط، وكوهن، وريكرت، وكاسيرر، أو الفلسفة الخاصّة به، وينتهي بهم الأمر بتعميد بحيرتهم المفضلة "بحيرة الحقيقة الأخلاقية"[30]. في وقت لاحق، يعود باختين إلى العاصمة القديمة المسماة لينينغراد الآن، حيث سيستمرّ في العيش عيشة هامشية، بدون عمل، ولا منزل قار، والإقامة بين أصدقائه، وكسب رزقه بصعوبة بفضل معاش العجز، والدروس الخصوصية التي يلقيها، أما زوجته فكانت تصنع الألعاب المحشوة، وتبيعها.
نحن نميل إلى القول إن باختين في أزمنة الزخم الاجتماعي والفورة الجماعية، يُحاولُ أن يَعيشَ حياة على الهامش ومتحررة بالكامل من أي التزام. ونستطيع أن نصفه بالكلمات نفسها التي استخدمها للحديث عن زميله في هذه المرحلة قسطنطين فاجينوف: كان رجلًا وحيدًا، رجلًا محايدًا، لكن الحياة وقتئذ لم تكن محايدة. لم يكن هناك، بالمعنى الدقيق للكلمة، ركن محايد متبقٍّ"[31].
من ليس معنا فهو ضدّنا: لم تحتفظ السلطة السوفياتية من الإنجيل سوى بهذه العبارة المتشددة. كان باختين يواظب على حضور تجمع لمجموعة من الأشخاص المتدينين الذين يناقشون، خارج أي إطار رسمي، قضايا لاهوتية، وهذا العمل سيكون الذريعة وراء اعتقاله في تاريخ ذي معنى بالنسبة لمسيحي، هو 28 ديسمبر/ كانون الأول 1928. في شهادته الأولى، يصف باختين، في مزيج مميز من التواضع والإخلاص الفخور، قناعاته السياسية على النحو التالي "غير حزبي. ماركسي ــ رجعي، موالٍ للقوة السوفياتية، مؤمن"[32]. كما أنه لا ينكر الوقائع المنسوبة إليه: إن هذا النشاط، نشاطي ونشاط زملائي، يقول باختين في المقابلة التالية، كان تعبيرًا عن بعض الأبحاث الفكرية والقلق الفكري، اللذين نشآ عن الحاجة إلى تطوير رؤية للعالم جديدة بالنسبة لنا، والتي ستكون مناسبة للواقع الاجتماعي [33].

في يوليو/ تموز 1929، حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات في معسكر اعتقال. ومع ذلك، على أساس مرضه (منذ الطفولة كان مصابا بمرض التهاب العظام والنخاع)، ولما كانت السنوات الخمس لسلوفيك قد تعادل الحكم بالإعدام، فقد حصل صديقاه ليودينا وكاغان، في فبراير/ شباط 1930، على تخفيف الحكم: يمكن أن يقضي باختين العقوبة في الإبعادrelégation، وليس في معسكر الاعتقال[34]. وبعد فترة وجيزة غادر مع زوجته إلى كازاخستان.

بخلاف سْبيتْ، وعدد من المدانين الآخرين، لن يَكونَ على باختين أن يقلق أبدًا. ثمة تفسيران لهذا المصير الرؤوف نسبيًا (ناهيك عن المرض الذي خدمه بالفعل: عقوبة إلهية تستغني عن عقوبة البشر). من ناحية، باختين ليس متمردًا، فهو يفعل كل ما يطلب منه، وكل ما هو مناسب في الحياة اليومية، ولكن أيضًا في كل كتاباته. في السجن، فضلًا عن كانط، قرأ هيغل رائد الماركسية من المنظور الرّسمي، وأقام علاقات مهذبة مع قاضي التحقيق. وبعد أن قضى عقوبته في كازاخستان، حيث عمل كمحاسب، تحصَّل على منصب تدريسي في معهد سارانسك التربوي. هناك، كان لا يتردد في إلقاء محاضرات حول مواضيع غير مثيرة للجدل مثل "لينين وستالين بصدد روح الحزب في الأدب والفن"[35]، كما أنه لا يمتنع عن إغناء أطروحته حول رابيليه في نهاية الثلاثينيات، ثم مرة أخرى حوالي عام 1950، بالمراجع الرصينة. كما قال هو نفسه لاحقًا في رسالة "لقد أدخلت في المخطوطة كثيرًا من الابتدال الذي لا يطاق، بروح العصر ... واحسرتاه! كانت هناك أيضًا آثار مباشرة لعبادة الشخصية"[36]. لقد انتهى كتابه عن رواية التربية، الذي اختفى جزئيا، بكيل المديح للواقعية الاجتماعية.

ومن ناحية أخرى، يتخلى باختين عن أي اعتراف علني، بل يهرب منه: هذه الاستراتيجية المحيِّدة للرغبات الشخصية، أثبتت أنها مفيدة للبقاء في الاتحاد السوفياتي. سارانسك، العاصمة الغامضة لجمهورية موردوفا Mordovie المستقلة، لم تكن تبدو له بعد أنها مكان ضائع، لذلك تخلى عن منصبه عام 1937، ولجأ إلى منزل ريفي لأحد أصدقائه في سافيلوفو  Savélovo، حيث يعيش بمساعدة أقاربه. أثناء الحرب درّس الألمانية في ثانوية محلية، وبعدها عاد من جديد إلى سارانسك واستأنف نشاطه التدريسي من دون أن يطلب الترقية، أو حتى يرفضها[37]. لن يصبح عضوًا في أي اتحاد، وفي أي أكاديمية. لقد كان هذا اختيارًا كما سيشرح لاحقًا لأحد معجبيه: كما تفهم، لا ينبغي للفيلسوف أن يكون أي شخص، لأنه إذا أصبح شخصًا ما، فإنه يبدأ في تكييف فلسفته مع موقفه[38]. ولكنه أيضًا إجراء احترازي حكيم. لا يشعر باختين بالاستياء تجاه مواطنيه الذين اضطروا إلى التظاهر بأنهم ستالينيون أوفياء، ومن ناحية أخرى، فهو يقطع العلاقات مع شقيقه الذي هاجر إلى إنكلترا، وتحول متأخرًا إلى البلشفية.

ومع ذلك، ففي كتاباته التي أراد لها أن تظلّ غير منشورة، فإن إسباغه المديح على الثقافة الشعبية (والكرنفالية)، في مقابل الثقافة الرسمية المتجانسة، فُهمَ كاحتجاج على الدوغمائية المحيطة، وهذه على أية حال هي الطريقة التي سيتم بها تفسير كتابه عن رابليه في الاتحاد السوفياتي بعد نشره. إن ما يلفت انتباه قارئ باختين اليوم، وهو الرّجل الذي عاش حياته كلها في النظام السوفياتي، ليس الروح المعادية للسوفيات، المستترة بشكل جيد إلى حدٍّ ما، بل مجرّد غياب هذه المشكلة، سواء المؤيدة، أو المعارضة. باختين يكتب وكأن ثورة أكتوبر لم تحدث. المواطن باختين مخلص تمامًا، والمفكّر رجلٌ حرٌّ. هكذا هي الصورة في بساط الوجود الباختيني، إنها التجسيد الأقصى لأحد المسارات المتاحة للفرد في الدولة الشيوعية.

 

مراجع:

* ــ "كتاب نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس" صدر بالفرنسية عام 1965 عن دار سوي بباريس، واستقبل بالترحيب ليس في فرنسا وحسب وإنما في مناطق عديدة من العالم حيث ترجم إلى عدة لغات، بما فيها العربية التي ترجم إليها عام 1982، وأنجز الترجمة الباحث المغربي إبراهيم الخطيب، وصدر الكتاب بعنوان مغاير: نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، والشركة المغربية للناشرين المتحدين في المغرب. [المترجم] لمزيد من التوسع أنظر مقالنا: الترجمة إذ تسهم في تطوير النقد الأدبي، العربي الجديد: ضفة ثالثة، على الرابط: https://urlz.fr/nGDq
** ــ تتوفر ترجمة عربية لهذا الكتاب أعدها الباحثان محمد الولي ومبارك حنون، وصدرت عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء عام 1988.
***ــ تتوفر ترجمة عربية لكتاب ميخائيل باختين: المبدأ الحواري أعدّها الناقد الفلسطيني فخري صالح، وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996، وأعيد نشره ضمن منشورات دار خطوط وظلال (2021).
****ــ تتوفر ترجمة مغربية لهذا الكتاب أعدها الباحث شكير نصر الدين، وصدرت عن دار رؤية في القاهرة بعنوان: جمالية الإبداع اللفظي (2016).
[1] ــ V.Kozhinov, Kak pichut trudy , in Dialog, Karnaval, Khronotop, 1, 1992, p.116-117.
[2] ــ Futirizm, (1919), in Selected Writings, 1. III, La Haye, Mouton, 1981, p.718-722, trad.fr. Futurisme, In Questions de poétique, Seuil, 1971.
[3] ــ Ibid, p.719.
[4] ــ Iskusstvo i otvetstvennost (1919), in Estetika slovesnogo tvorchestva, Moscou, Nauka, 1971, p.6.

[1] . Réponses, in Roman Jakobson, Russie, folie, poésie, Seuil, 1986, p.31.
[2] . Ibid., p.36.
[3] . Réponses, in Russie, folie, poésie, op, cit., p.37-38.
[4] . Beseda s profesorom Romanom O, Jakosonom, L.Deze? Debrecen, 1972 (inédit), p.11-12.
[5] . Relations entre la science du langage et les autres sciences (1972), in Essais de linguistique générale, t. II, Minuit, 1973.
[6] . Archives du X   X° siècle : Entretiens avec Roman Jakobson, Paris, Ortf, 1972 (inédit).     
[7] . Ein Blick auf die aussicht von Holderlin, (1976), in Selected writings, t, III, p.421; trad.fr. Un regard sur la vue de Hölderlin, in Russie, folie, poésie, op, cit.
[8] . Ibid., p.434.
[9] . Roman Jakobson, K.Pomorska, Dialogues, Flammarion, 1980, p.92.
[10] . O pokolenii rastrativshem svoikh poètov (1931), in Selected Writinds, t. V, 1979; trad.fr. La génération qui gaspillé ses poètes, in Questions de poétique, op.cit., p.101.
[11] . Razgovory s Bakhtinym (1973), in Chelovek,1, 1994, p.162.
[12] . ibid., p.162.
[13] . Pis’ma M.M.Bakhtina, in literaturnaja ucheba, 1992, 5-6(lettre à Kozhinov datant de 1960 à 1965), p.150.
[14] . Razgovory s Bakhtinym I, in Chelovek, 4, 1993, p.150.
[15] . M.Kaganskaja, Shutovskoj Khorovod, in Syntaxis, 1984, p.141.
[16] . K.filosofii postupka (1920), in Filosofija I sociologija nauki i tekhniki, Moscou, Nauka, 1986.
[17] . Linguistics and Poetics (1960), in Selected Writings, t. III, p.24; trad.fr.in Essais de linguistique générale, t. I, Minuit, 1963.
[18] . P.N. Medvedev, Formal’nyj metod v literaturovedenii, Leningrad, Priboj, 1992, p.203-204.
[19] . Iz zapisej 1970-1971 godov, in Estetika ; trad.fr. Les carnets 1970-1971, in Esthétique de la création verbale, Gallimard, 1984, p.352.
[20] . Iz chernovykh tetradej (1934 et suiv.), in Literaturnaja ucheba, 1992, 5-6, p.154.
[21] . Réponses, in Russie, folie, poésie, op., cit., p.39.
[22] . Roman Jakobson, K.Pomorska, Dialogues, op, cit,p.39.
[23] . Ibid., p.37.
[24] . Beseda s Profesorom O. Jakobsonom, op. cit., p.10.
[25] . Ibid., p.13.
[26] . Réponses, in Russie, folie, op, cit., p.37.
[27] . Ibid., p.43.
[28] . Razgovory s Bakhtinym, in Chelovek, 1, 1994, p.160.
[29] . Ju.M.Kagan, O starykh bumagakh iz semejnogo arkhiva, in Dialog, Karnaval, Khronotop, 1992, 1, p.80-81.
[30] . Razgovory s Bakhtinym VI, in Chevlovek, 1994, p.166.
[31] . Ibid. V :4, 1994, p.181.
[32] . Ju.P.Medvedev, Nas Bylo monogo na chelne..., Dialog, Karnaval, Khronotop, 1992, 1,p.80-81.
[33] . Ibid., p.95.
[34] . K.biografii M.M.Bakhtina, in Voporsy literatury, 1991,3, p.136.
[35] . K.Clark, M.Holquist, Mikhail Bakhtin, Cambridge, Harvard UP, 1984, p.260.
[36] . Pis’ma M.M.Bakhtina, in literaturnaja ucheba, op, cit., p.150.
[37] . K.Clark, M.Holquist, Mikhail Bakhtin, op, cit.p.330.
[38] . V.Kozhinov, KaK pishut trudy, op, cit., p.120.