تتقصّد هذه المقالة التفكير في مسألة المقاومة بالكتابة بوصفها إشكالية جمالية وثقافية، بالاستناد إلى الوظيفة التي تنهض بها الكتابة في علاقتها بالعالم، وبوصفها إمكانًا لتلمس آفاق الكائن الوجودية والأخلاقية. وسواء نظرنا إلى الكتابة الأدبية من منطلق المقتضيات الفنية التي تستدعيها، كاللغة والسرد والفضاءات والأزمنة، أو من خلال تجذّر التخييل في الثقافي والتاريخي والاجتماعي، أو من زاوية علاقتها بتجربة الكاتب، فإننا نجدها منطوية على دلالات وأبعاد تتعدّى نطاق ما يؤطر عادة لفظ المقاومة، أي البعد السياسي. فبوصف الكتابة فعلًا اجتماعيًا، فهي ترمي من خلال المعرفة التي تنتجها عبر وساطة اللغة والتخييل، ومن خلال الموضوعات التي تنجذب نحوها، إلى مقاومة الأشكال المختلفة للهيمنة، والأنساق الاجتماعية المضادّة المعلنة أو المضمرة، وبخاصّة عندما يجعل الأدب من العلاقة المتوترة بين الفرد والعالم الذي يعيش فيه موضوعه الأساس، مشخّصًا المغامرة التي يخوضها الإنسان بحثًا عن الحقيقة، وممثلًا صراعه ضدّ كل ما يَقفُ عائقًا، أو حائلًا، من دون معانقة المجتمع الذي يتطلع إليه؛ مجتمع الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
إن التفكير في الكتابة الأدبية بوصفها فعل مقاومة، يجد أساسه في كون الكتابة هي بحثٌ عن الحرّية، وأن الدور الذي يؤديه الكاتب بوصفه مثقفًا على مرّ الزمن هو دور اجتماعي[1] وكما أوضح رولان بارت بشكل لمّاح، فإن "الأدب ... هو دومًا واقعي بصفة قاطعة. إنه حقيقة الواقع وإشعاعه"[2]، وإذا كان الأدب يشكل احتياطيًا هائلًا من المعارف والعلوم والأفكار والرؤى، فإنه يجعل هذه "المعارف لا يقرّ لها قرار، ولا يثبّت ولا يجمد أيًا منها ولا يقدسه"[3]. وعليه، فإن الموقع الذي يكتسيه الأدب لجهة المعرفة التي يعمل على إخصابها، وقيمتها بالنسبة للإنسان والمجتمع، هو ما يفسّر لماذا كان وما يزال الأفق الجوهري والأساس للممارسة الإبداعية بغضّ النظر عن النوع الأدبي الذي تنضوي فيه، هو الالتزام والمقاومة والالتصاق بهموم الإنسان. لأنّ الأدب كممارسة فنية، يَكتسبُ قيمته الرفيعة، وحضوره المؤثر في الثقافات المختلفة انطلاقًا من الدور، أو الوظيفة التي يَنهضُ بها: أي الدّفاع عن القيم الإيجابية، والحقوق الأساسية التي يتعيّن أن يتمتع بها الفرد كالحق في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
ومن ثم يسهم الأدب ـ خاصّة في الأزمنة المعاصرة التي ترسّخ فيها بوصفه مرآة للعلاقات الثقافية والاجتماعية والسياسية، حيث يتعين الإنسان بوصفه صانع الأحداث وأحد ضحاياها في الوقت ذاته، من خلال التدخل في العالم ـ في تحرير الذات وتمكينها من الأخذ بزمام المبادرة فيما يتعلق بمصيرها، سواء تعلق الأمر بذات الكاتب الذي تحرّكه دوافع محددة – لكنها ليست دائما معلومة لديه – نحو فعل الكتابة، أو بالقارئ كما شدّد على ذلك سارتر في معرض تناوله سؤال ما الأدب؟ من هنا، لا يبدو الرّبط بين الكتابة والمقاومة إشكاليًا إذا نظرنا إليه من زاوية ما يبرّر الحديث عن المقاومة بالكتابة ومن خلالها، وبخاصّة عندما نتصور مع إدوارد سعيد أن الهيمنة مهما اشتدت سطوتها، وتعددت خطاباتها وأشكالها، فإن الإنسان يبدع دائمًا ردّ فعل عليها، يتسم بالبراعة والإبداع، متسلحًا في ذلك بالثقافة التي تمثل ذاكرة ضدّ الهيمنة والسيطرة، فيما هي تزودّ الإنسان بالقدرة على التحليل والطعن في التسلّط[4].
نعتقد أن تقصي العلاقة بين الكتابة والمقاومة، يُظهرُ بالملموس أن فكرة المقاومة الثقافية كامنة في صميم الإبداع الإنساني بصورة عامة، منذ أن اتخذ الإنسان الفن أداة للتعبير عن وجوده في العالم. ومهما عرّفنا الأدب من خلال التركيز على خصوصياته الفنية والجمالية، فإنّ هذا التعريف يظل قاصرًا عن الإحاطة بحدوده، لأنه لا وجود لهوية جمالية خالصة، أو مكتملة، فالمقتضيات الفنية هي الدّعامات التي يشيد على أساسها المبدع العوالم التي تَحتضنُ رسائل من يَكتبُ عنهم، بما تنطوي عليه من آمال وأوجاع، وأحلام ورؤى متعددة. إن النص الأدبي الجيد الذي تنطوي صياغته على جهد مضنٍ، لا يخلو من فكرة المقاومة، أو الردّ بالكتابة، إذا ما استعملنا مصطلح الناقد الأميركي بيل أشكروفت.
لنقل إن المغامرة الكامنة في عمق الكتابة منظور إليها كبحث عن الحرية والانعتاق من أسر القيود ومغالبة العقبات الاجتماعية والسياسية والثقافية، ليست فكرة جديدة، ولا هي وليدة الأزمنة الحديثة التي اتخذ فيها مفهوم الأدب دلالات مغايرة باعتباره عملًا فنيًا، بل هي متجذرة في الحياة الاجتماعية، ومتصلة أشدّ ما يكون الاتصال بحاجة الإنسان إلى التعبير عن ذاته، والإفصاح عن موقعه في العالم. وكما يقول الفيلسوف جيل دولوز في محاضرة له عام 1987: "يمكن للمرء أن يقول إذًا [...] إن الفن هو ما يقاوم، حتى لو لم يكن هو الشيء الوحيد الذي يقاوم. من هنا كانت العلاقة وثيقة بين فعل المقاومة وعمل الفن"[5]. وعلى هذا الأساس، فالأدب لا ينطوي على مقاومة القوى المضادة والحدود الضيقة والهويات المنغلقة وحسب، وإنما ينطوي كذلك على مقاومة موجهة ضدّ الأدب في حدّ ذاته، سواء تعلق الأمر بالأدب التجريبي الذي يرى أصحابه أن لا وظيفة للأدب سوى وظيفة الاهتمام بنفسه، أو الأدب الدّعائي المشدود إلى أهداف آنية ضيقة، والمسكون برؤية أحادية ناجزة، والذي لا يفسح المجال أمام عمليات فهم وإدراك الواقع في تعدد مستوياته، واختلاف أبعاده.
ولعل الأدوات التي يتكئ عليها الأدب في النهوض بهذه المقاومة الموجهة ضدّ ذاته، هي التخييل والحلم والفانطاستيك والرّموز وحوارية اللغات وتعددها، وهذه الأدوات بقدر ما تسهم في الإضاءة على الشيء ونقيضه، وتقويض التنميط المرتبط بهيمنة الرؤية الأحادية، فإنها تضطلع بدور أساس في تمثيل أصالة الآخرين.
إذا سلمنا بهذا المفهوم العام عن الكتابة الأدبية، وانتقلنا إلى الحديث عن نوع أدبي بعينه مثل الرّواية التي من سماتها التمرّد والطاقات المتدفقة، فضلًا عما يغصّ به نسيجها من أفكار ومعلومات وتمثيلات وأصوات متنافرة، لا شكّ في أننا نَجدُها تقع في صدارة الأجناس الأدبية المجسّدة لفكرة المقاومة من خلال السّرد المضادّ، وأيضًا من خلال الشكل الفنّي الذي لا يكفّ عن المغامرة بحثًا عن المجهول، أو ما يستقرّ بعيدًا عن الأشياء العادية. هذا الاحتفاء بالمقاومة، والإصرار على تمزيق السّتارة، كما يقول ميلان كونديرا، لا يرتدّ فقط لكون الرواية من منظور التاريخ الأدبي تتعيّن بوصفها جنسًا هامشيًا، وظلّت محرومة من الشرعية والاعتراف من المؤسّسة الأدبية، وكان عليها أن تقاوم بلا كلل كي تتصدّر في العصر الحديث المشهد الأدبي، وتغدو في نهاية المطاف الشكل الفنّي ذا الشعبية الواسعة، والمتمتع بحضور لافت في الثقافات المختلفة، وإنما ترتدّ كذلك لكونها من أكثر أشكال التعبير ملاءمة لحاجات الأفراد إلى انتهاك السّتار الذي يضربه المجتمع على نفسه من أجل الإبقاء على الوضع على ما هو عليه.
فهي مترعة بالحفز على رفع المرساة من أجل الانطلاق والسّعي والمغامرة بحثًا عن عالم مختلف يُمكّن من تلمّس الكينونة. يدلّ على ذلك الجهد المضني الذي يبذله الروائي في البحث في النصوص والأحداث والتجارب، يقلّب النّظر فيها دارسًا ومؤولًا من أجل صياغة أفكار جديدة، وخطابات مختلفة خدمة للزمن الحاضر. بهذا المعنى تكون المعركة التي يخوضها الروائي، بواسطة الكتابة، من أجل العدالة والحرية والمساواة، ذات بعد سياسي، يتشكّل بالموازاة مع رؤية أخلاقية وجمالية تحتفي بالذاكرات المضطهدة، وتفسح المجال أمامها لإسماع صوتها في العالم. إن "الرواية، التي طالما عُدَّت النوع البرجوازي بامتياز، أصبحت شيئًا فشيئًا، على مدار القرن العشرين، ومع توسع القيم الديمقراطية ورسوخها، النوع الأدبي الأشد ارتباطًا بالناس، وبقضاياهم. بهذا المعنى، تشكل الرواية فضاء أكثر ملاءمة لفكرة الالتزام في سياق ما بعد الحرب. وبالتالي فهي الأقدر على تسجيل وعرض واستجواب هذا السياق، أو إعادة صياغته، في الأزمنة المعاصرة"[6].
في سياق ثقافي يُهيمنُ فيه الخطاب المغلق، النهائي والناجز، من الطبيعي ألا يكفّ الكاتبُ عن ابتداع الوسائل والاستراتيجيات الفنية لخلخلة مرتكزات وأسس الأيديولوجيات النهائية والمكتملة. ولمّا كانت الرواية قد تكونت في خضمّ انتقال المجتمعات الحديثة من الإقطاع إلى الرأسمالية، فإنه من البديهي أن تلتصق بقوة بهموم وتطلعات الفرد وهو يخوضُ المغامرة بحثًا عن حقيقته في هذا العالم اللغزي المسكون بالغرابة والغموض. تجسّد الرواية بقوة ذلك التوتر اللامنتهي بين الفرد والمجتمع المدثر بأنساقه وقيمه المتوارثة. وبما أنها توفّر مجالًا واسعًا لاحتضان فئات مختلفة ولغات متعددة وخطابات متباينة، فقد هيأت المناخ الملائم لانتفاضة الفرد ضدّ السّلطة، وكل المؤسّسات والأفكار المتصلبة والسرديات الناجزة القائمة على هيمنة الصوت الواحد.
من هذا المنظور، تحتفي الرواية بالعالم، وتلتصق بهموم الناس بشكل يجعل نصوصها تستعصي على النمذجة، وهي بذلك لا تؤكد إسهامها في تمثيل حيوات الناس، وتغييرها وحسب، بل تجسّد أيضًا قدرتها على التدخّل لترميم أعطاب العالم، وتضميد الجروح التي تولّدها آليات التسيّد والهيمنة. وهذا البعد الذي يميّزها يعدّ بحدّ ذاته ضربًا من المقاومة الموجّهة ضدّ الخطابات التي تتحدّث عن موتها، وعن موت الأدب بصورة عامة. وهذا بالتحديد ما نبّه إليه ألكسندر غيفين عندما أشار إلى أنه إذا كان الأدب في بداية القرن الواحد والعشرين يفقد الوضع الاعتباري الذي تمتع به منذ الرومانسية الألمانية، فإن هذا التراجع يولد استبصارات جديدة مهمة، ويسهم في ترسيخ أدوار مغايرة للكتابة تتمثل أساسًا في الوظيفة العلاجية. ويشكّل الأفراد الضعفاء، وأولئك الذين نسيهم التاريخ، وظلوا على هامش الحداثة، فضلًا عن المجتمعات المدمّرة الأبطال الحقيقيين في التخييل المعاصر[7].
إحالات:
[1] - طه حسين، في: لطيف زيتوني، الرواية والقيم، دار الفارابي، بيروت 2018، ص81.
[2] - رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء 1993، ص15.
[3] - رولان بارت، درس السيميولوجيا، ص15.
[4] - فريد بوشي، إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي، في أصول الفكر ما بعد الكولونيالي، ترجمة محمد الجرطي، دار صفحات، دمشق 2018، ص237.
[5] - Gilles Deleuze, « Qu'est-ce l'acte de création ? » dans Deux régimes de fous. Textes et entretiens 1975-1995, Paris, Minuit, coll. « Paradoxe », 2003, éd. préparée par D. La Poujade, p. 301.
[6] - Chaudet Chloé, Ecritures de l’engagement par temps de mondialisation, collection perspectives comparatistes, Editions Classiques Garnier, Paris2016, p40.
[7] . Alexandre Gefen, Réparer le monde, Editions Corti, Paris2017, p.9
عن (ضفة ثالثة)