عندما يولى الزمن، ويعطى الإنسان ظهره، ويعشش العنكبوت في الذاكرة وفى العلاقات، لا يصبح أمام هذا الإنسان إلا العبث في الذكريات، يتنشق فيها رائحة الحياة. يبحث عن النقطة المضيئة، عن النقطة البيضاء، التي تبدوا واضحة وسط اللوحة السوداء، عندما يتحول الماضي إلى مجرد لوحة للتأمل. في قصة تفوح منها رائحة الزمن.

أبيض مرقط برقع سوداء!

أحـمد طوسـون

 

تزحف الشمس ببطء من الشارع إلى النافذة.

بعد أن يقف في طابور العيش البلدي للحصول على ما يكفي إفطارهما ـ هو وزوجته ـ يتناول طعام الإفطار بلا شهية ثم يتصفح الجريدة مع كوب الشاي.

تغفل عيناه عدة مرات أمام الشاشة.. يفيق على سعلات خفيفة لزوجته التي تعاني آلاما روماتيزمية مبرحة.

تسأل زوجته إن كان سيذهب إلى المقهى.

 يتجاهلها ويشير إلى عنكبوت نسج خيوطه بالسقف كما نسج خيوطه على أيامه منذ خروجه إلى التقاعد وزواج ابنهما.

يلتفت ناحيتها فلا يجدها.. يتوقع أنها ذهبت إلى المطبخ لتعد طعام الغداء.. يسمعها تنادي عليه:

  • افتح الباب

ينتبه للدقات الخفيفة بالباب.. ينهض بغير حماس ويفتح الباب.

الواقف أمامه يبادره قائلا:

  • جواب
  • لي أنا؟

يمد يده متعجبا ويتناول المظروف ويغلق الباب خلفه.

 لم يعتد منذ تسوية المعاش على استلام أي خطابات.. بعد انتشار المحمول لم تعد للرسائل قيمة إلا إذا كانت تحمل حوالة أو شيكا من جهة حكومية أو إخطارا بقضية لا يعلم عنها شيئا!

يعود إلى جلسته ويتفحص المظروف بين يديه.. لم يجد اسما للمرسل.

لم يتوقع اسما ما، ملفات الذاكرة مليئة بالوجوه والأسماء.. تراكمت بعضها فوق بعض، كثير منها لا يعرف كيف اندس بين أروقتها وتوارى هناك دون رغبة منه؟!

ثم تسربوا من حياته دون أن يشعر.

يتعجب من قدرة العزلة على فرض سياجها حوله.. نتذرع بالعمل والزواج والأولاد والمسؤوليات ونظل كل لحظة نصنع لبنه في لحد يزداد ضيقا بأجسادنا.

حين فتح المظروف وأخرج الدعوة، لمح صورته مع أصحابه تتأرجح على مسمار الحائط بالقمصان البيضاء والبنطلونات الرمادية.

الصورة الأبيض والأسود جعلتهم أشبه بفريق واحد يستعد لخوض منازلة من أجل الحصول على لقب صانعي الغد.

ضحك في نفسه.

الأيام أثبتت أنه الخاسر الأوحد في المنافسات كلها التي خاضها، لم يستطع أن يسدد تسديدة واحدة صحيحة.. كلما ظن أنه اقترب من المرمى تزحزح القائمان بعيدا ووجد نفسه خارج ساحة النزال.

كان يلعب وفق قانون لا وجود له.

الجميع لعبوا وفازوا..

بنوا العمائر والبيوت والشاليهات.. امتلكوا المصانع والشركات والمزارع التي لا نهاية لحدودها.. قضوا الصيف في شواطئ لبنان وأوربا والشتاء في الأقصر وأسوان وبقي وحيدا ينتظر زحف الشمس البطيء إلى نافذته ويغني أغنية قديمة لا تروق لأحد عن الشرف والمبادئ.

تداعت على رأسه أسئلة غبية لا معنى لها.

 كيف عثر على عنوانه.. هل مازال أحدهم يتذكره.. يتذكر أيام الجامعة والخطب الحماسية والأحلام الكبيرة.. مظاهرات 18 و19 يناير؟؟؟!.

تعجب حينها كيف أفلت من قبضتهم وكيف سقط في أيديهم بعدها دون ذنب.

قضى شهورا صعبة جعلته يؤمن أنه لن يستطيع أن يغير العالم بمفرده!

 آخرون بلحاهم الطويلة كانوا معه في الزنزانة تصل الرواتب إلى بيوتهم أول كل شهر، بينما كانت عروسه تستدين لتدبر مصاريف البيت وثمن علاج أمه المريضة.

رائحة أيام قديمة تسري إلى أنفه.

طالع الرسالة بلهفة وشوق إلى ماض شجي.. قرأها حرفا حرفا.. لم تتضمن كلمة تحية واحدة أو إشارة إلى من أرسلها.

(يوم الثلاثاء 8 مساء بالميدان معرض كاريكاتير ضد الفساد).

لم يقل إنه يتمنى حضوره.

كانت دعوة مطبوعة توزع على الكافة دون أن تخصه بشيء.. لا بأس.. على الأقل يعتقد أحدهم أنه مازال حيا.

استعاد مشاعر كاد يفقد حاسة تذوقها، وجد نفسه مدفوعا بقوة خفية ترج كيانه جعلت الحياة تنبض في شرايينه من جديد.

نهض بنشاط لم يعتده وظل يعبث في دولابه.. زوجته التي جلست على السرير ترتق في أغطية الشتاء قالت:

  • بتدور على حاجة؟
  • القميص الأبيض
  • القميص الأبيض..

    هو أنت عندك قميص أبيض؟!

لا يتذكر آخر مرة اشترى فيها قميصا أبيض!

منذ سنوات طال عددها لم يعد يرتدي القمصان البيضاء.. كان يتعلل بالغبار والتراب الناعم الذي يهاجمه أينما ذهب.. الرطوبة التي سكنت سنينه وجعلت جسده ينزف سائلا أصفر يداهم كل شيء.

ساعتها كانت الشوارع خالية ونظيفة ولها رائحة بطعم الحنين. لم تكن السحابات السوداء تجثم على سماواته أو تحجبه عن التحليق. نسمات الخريف لم تكن تحمل كل ذلك الغبار اللزج.

إن فكر أن يشتري قميصا لن يكون الأبيض أحد خياراته. الألوان الرمادية باتت تناسب الزحام والغبار والشيب الذي احتل الرأس والروح.

القبح الذي يصادفه أينما ذهب لا يليق بالأبيض!

  • لا بد أن أحدهم بمكان ما

قال لزوجته وأغلق ظلفتى الدولاب.. بينما عيناه تصعدان فوق خزانة الملابس وتستقران على حقيبة سفر رقدت واستكانت هناك منذ زمن.

شد كرسيا من أمام التسريحة ووضعه إلى جانب خزانة ملابسه وصعد فوقه وجذب الحقيبة فسقطت على الأرض محدثة دويا هائلا.

تراب ناعم كثيف عفر وجهه فسعل وكاد يسقط بشكل مفاجئ، تماسك في اللحظة الأخيرة واستند إلى الجدار حتى استعاد توازنه.

- حاسب

قالت زوجته وهي تهرع نحوه متناسية آلام ركبتيها..

 بينما عيناه وقعتا على قميص أبيض مع ملابس قديمة خرجت من بطن الحقيبة تبحث عن أيامها التي ولت.

***

قادته قدماه إلى الشارع.

 بالكاد يلتصق القميص بجسده الذي ترهل. لحق بالسيارة المتجهة إلى القاهرة، بينما تترقرق أغنيات ثومه على غير العادة من كاسيت السيارة.

   - فيه حاجة عجبتك؟

داهمه سؤال البائع كما داهمه عدم عثوره على أحد من أصحابه أو معارفه في زحام الميدان. أطال الوقوف أمام واجهة العرض دون أن يشعر بالزمن.

الشوارع مازالت قلقة.. ينتظر انهيارا ما يحدث بشكل مفاجئ.

 تختلط السيارات بأقدام المارة.. دخان العوادم يدهن الوجوه والأحلام بسحابات رمادية.. أشياء صغيرة تحتضر أمام عينيه دون أن يستطيع أن يفعل شيئا.

لمح عينيّ البائع تتابعان البقع الحمراء وقميصه المهترئ، تراجع خطوات إلى الوراء.

كان يسير مع الجموع الفزعة حتى دفعته الأيدي بعيدا عن زحام الميدان.

انزلقت قدماه، هرولتا خلف أمان مذعور ولاذتا بأحد الشوارع الفرعية.. حينها استعاد انتظام أنفاسه ورتابة خطواته.

تطلع بأسى إلى الأصابع الطويلة التي خمشت قميصه وقلبه.

كي لا يرتبك مضغ كراهية لشيء ما ولم يلتفت إلى بقع الدم الحمراء أو الندوب التي خضبت رأسه أو آلام قدميه.

تذوق طعم الملح والعرق في حلقه ووقعت عيناه عليه فنسي صاحبه الذي لم يجده والمظاهرة والعصي الغليظة.

شده نصاعة البياض.

بدا كأنه ينظر إلى فراغ أسود ويحادث شخصا آخر:

  • ربما أعود في وقت لاحق !

لا يعرف لِم رمقه البائع بقرف وتراجع إلى مكانه داخل المحل وأغلق الباب الزجاجي في وجهه.

لم ينشغل به كثيرا.

اقترب من واجهة العرض إمعانا فيه.

تستطيع زوجته - ببعض الجهد وبعض المنظفات التي لا يكفون عن الإعلان عنها بكل وقت -إعادة قميصه إلى حالته.

لطالما اشتكت أمه من قمصانه البيضاء!

اشتم رائحة الصابون التي تشبه رائحة الجريد الطري ورأى أمه أمام وابور الجاز تفرك ياقة القميص الأبيض وتضيف الزهرة الزرقاء إلى طست الغسيل. تتقافز الرغاوي البيضاء من بين كفيها إلى أرضية الصالة فتهب نسمه رطبه على البيت.

تتطلع الأم بعينيها إلى السقف الأسمنتي المسلح بلونه الرمادي القابض وشقوق الأسمنت التي تفصل بين قوالب الطوب الأحمر والى الأرض التي كساها الاسمنت بطبقه ناعمة جعلت مطاردة التراب الناعم أمرا يسيرا وجعلتها تختال أمام نساء الحارة كلما مرت إحداهن لترى بعينيها حال البيت الذي تبدل من الطوب اللبني والعريشة البوص إلى الطوب الأحمر والسقف الأسمنتي.

هرول أحدهم من جواره وقال:

  • إنهم يمشطون الشوارع

ربما لم يشعر به.

 كان يرى النسوة يلملمن جلابيبهن التي افترشت الأرضية الإسمنتية ولا ينسين أن يمسحن بكفوفهن التراب الناعم عن مؤخراتهن ويقلن مودعات:

  • تعيشي وتعمري.

تتابعهن الأم حتى عتبة الباب بعينيها.

 تسمعهن وهن يتهامسن ويضحكن. تظل تستعيذ وتحوقل وتنادي على أخته الكبرى. تذكرها لتوقد البخور من شر العين والحسد.

 تلتفت ناحيته وتترك قميصه يسقط بين الرغاوي البيضاء وتضرب كفا بأخرى وتقول: 

  • لا تنفع النظافة معكم
  • من لبسة واحدة تصبح ياقة القميص مثل الطين.

تقول أخته إنها تراه في الفسحة يقفز من فوق سور المدرسة إلى المدرسة الصناعية ليلعب الكرة هناك.

لم يكن أحد يعرف أنه يذهب إليه.

ينقبان في مكتبة والد صاحبه ويأخذ بعض الكتب يتصفحها بين الحصص ثم يعيدها إليه.

تغضب الأم وتصيح في وجهه:

-لو شبك القميص بالسور وانقطع. لن تذهب إلى المدرسة بعدها.

يتركهما تتبادلان الحكايات والملابس من الآنية فوق النار إلى طست الغسيل ويصعد فوق السلم الجيري إلى السطح.

يستلقى فوق عيدان الحطب، يتأمل السحابات البيضاء تطاردها السحب الرمادية التي غطت السماء.

لم يكن إلا قميص أبيض واحد اشتراه أبوه مع بداية السنة الجديدة وبعد مرور شهرين أقنعته الأم أن يعطيه قميصا قديما لم يعد يرتديه.

لم يكن قميص أبيه يناسب حجمه.

كان يثني الأساور مرات حتى يظهر كفاه وأصابعه الصغيرة ويتوارى بعيدا عن عيون أصحابه وسخريتهم من قميصه الفضفاض.

تتعمد الأم أن تترك قميصه الأبيض دون غسيل ليرتدي قميص أبيه ويكمل القميص العام الدراسي دون حاجة إلى قميص آخر.

فكر الولد في استخدام موسي قديم احتفظ به في حقيبته وصنع شقا طويلا بجانب قميص أبيه الأيسر.      

حين غضبت الأم، قال إن مسمار المنضدة علق بالقميص وشده.

ضحك أبوه.

 قال إن مسمار المنضدة يصنع قطعا على شكل زاوية قائمة لمثلث.. خفق قلب الولد وتذكر تهديدات أمه بحرمانه من الذهاب إلى المدرسة.

صمت أبوه للحظات ثم قال: القميص قديم.. وممكن ينقطع لأي سبب.

كانت كلمات أبيه مثل قشة أخرجته من جب الكذب الضيق.

لبست أمه طرحتها السوداء وأخذت القميص وأعطته لأم صباح الخياطة لتحيكه من جديد.

ربت أبوه على رأسه كأنه يعرف كذبته الصغيرة، أخرج ألبوم الصور الأبيض والأسود ليشاهداها معا.

  • كان يتطلع إلى القمصان البيضاء وتتراءى أمامه صور عبد الناصر بالجرائد القديمة التي يحتفظ بها والد صاحبه ويقول لنفسه: كم كانت ستصبح الصور قاتمة بدون الأبيض.

عادت الأم واستطاعت أم صباح أن تجعل القميص القديم مناسبا لجسده الصغير.. لم يعد يهتم بنظرات الأولاد بالمدرسة أو الأساور التي تحاول دائما ملامسة أنامله.

هربت الصور إلى قاع الذاكرة على صوت أحدهم:

  • هاتوه

حين أفاق كان اثنان من أصحاب الملابس السوداء يشهران سلاحيهما في وجهه بينما وقعت عصا ثالثهم فوق ظهره فتهاوى على الأرض.

ظلوا يشدونه من فوق الرصيف إلى الأسمنتي.

انفلت من قميصه وسقط على الأرض.

انقض ثلاثتهم عليه وحملوه إلى العربة التي تنتظر في الجانب الآخر من الطريق وألقوه داخلها.

سقط بين الأجساد التي تتخبط كطيور عمياء داخل قفص حديدي، بالكاد لمح عينين تبتسمان.

عينان زرقاوان صافيتان رغم الأجفان المنتفخة واحمرار أهدابها.

سمعه يهمس:

  • لقد حذرتك يا صديقي

داهمته ابتسامه مره.

يبحث لقدمه عن مكان داخل العربة المكتظة، رآه يمد إليه يديه، كفه تفوح منها رائحة الألم.

زاحم الأجساد في وقفتها المنهكة وقال بأسى:

  • على الأقل تقابلنا من جديد!

من خلف أسلاك العربة كانت عيناه تتسللان إلى الشارع وتبحثان عن قميص أبيض بين الأقدام الثقيلة التي احتلت الطريق الخالي، بينما كانت السحب معلقة كخرق بالية ملطخة بالدم.