بين الواقع والحلم يسقط الظل! وفي هذا الظل تجوس هذه القصة المغربية في نقوس هؤلاء الشبان المترعين بالطاقات المكبوتة، وبرغبة عارمة في التحقق، كما تجوس في أحراش المدينة الحبلى بالإحباطات والمخاوف والأخطار الصغيرة، بينما يبدو الحلم/ حلم السفر إلى الغرب والأماكن النظيفة بعيدا ومتنائيا.

أحلام صديقي

عبداللطيف بن اموينة

 

في الممر الاسمنتي القصير، خطونا الواحد تلو الاخر في صمت وتأدب، حاسري الرؤوس. وعند الخطوة الأخيرة، لمحت طيف شخص هادئ يتحرك ببطء، وفي ظلام يقابله ضوء الغرفة الأخرى، قام بإشارة من يديه تدل على السماح لنا بالمرور. لكن لم افهم ذلك جيدا الا ونحن في منتصف الطريق. حين وطأت رجلاي اخر درجة ونحن على اعتاب الساحة المربعة وسط منازل متقشفة اغلبها بواجهات غير مصبوغة ونوافذ متنافرة الاشكال والذوق. وعربة مجرورة يرقد بجوارها حصان هزيل.

قال سعيد، جدتي هي من كانت تصلي في الغرفة الصغيرة. ثم سكت

تنحنح محمد بحياء وقال، تقبل الله منها

تقدمنا جميعنا ناحية الزقاق الخالي. وتحت ضوء المصباح صار وجهه أكثر شحوبا وبرزت احدى اسنانه الامامية. ودعنا محمد الذي انطلق وحيدا الى بيت عائلته سالكا الخط امام الفرن ومنزل امام المسجد الضرير.

انفرد صديقي بالشبان مرة أخرى، الا الفتاة الشقراء فقد ظلت ساهمة في صفاء الليل وهدوئه وبيوت البنائين والمياومين وعمال المصانع التي يتسرب من نوافذها المشوهة ضوء اصفر كئيب، ففي تلك الغرف ذات الأثاث الفقير والافرشة العتيقة تنام النساء المنهكات والبحارة المتجهمون وأطفال الورشات الحرفية بأسمالهم المرقعة واياديهم الملطخة بالمرق والجروح القديمة التي لم تبرأ

كانت الشابة الألمانية فارعة الطول بشكل غير مبالغ ولا قبيح، قوية الجسد، بشوشة وحالمة. بعكس رفيقها فقد بدا طيلة الساعات منطويا على نفسه، قليل الكلام..

ظل سعيد طوال السهرة، يراقب الشابة بخجل والعرق يتصبب من جبينه الأسمر، محاولا ان يسترق نظرات حزينة ومتوترة من جسد الانثى الموغل في السحر والبياض، وفي كل مرة كان محمد يغمز له ويكشف محنته وضياعه بإشارات ماكرة، كان يهمس له في اذنه انه سوف لن يتذكر محاضرات الامتحان، وسوف يؤدي به فيما بعد الي الى نسيان عائلته وعنوان بيته وربما نفسه ايضا، ثم نغرق كلنا دفعة واحدة في موسيقى من الضحك العذب البريء لم نعرف له مثيلا في قادم الأيام والسنوات..

وسط ثرثرة الليل الدافئة انغمست في تأمل محمد وهو يخطو في عتمة الدرب الطويل، كان يرتدي قميصا بنيا اكبر يتجاوز دائرة حزامه، لقد تعود ان يلبس ثياب ابيه، ذلك الرجل الامازيغي الصموت الصابر الذي عاد مكتئبا وفاقدا شهوة الكلام والتعلق بالناس، بعد ان طرد من العمل جراء افلاس معمل النسيج، منحوه مبلغا هزيلا ورموا به من بيت الحراسة الى الشارع والطرقات والجوع.

وكلما ابتعد عنا يبدأ شكله في الامحاء تدريجيا، وتساءلت في أعماق نفسي عن العلاقة بين الظلام والحركة واجساد البشر وعن التأويلات والشكوك التي تسيطر على ارواحنا حيال كل ذلك.

غادر الأصدقاء كلهم الموكب الليلي واختفوا في حلكة الازقة الراقدة في الرتابة والسكون، ولم أعد اسمع الا أحاديث بعيدة ومبهمة، وشيئا فشيئا تلاشت كل الأصوات.

كان الطريق الذي اعتدنا ان نمر منه في كل مرة موحشا وكان يزداد ظلاما ووحشة في نهاية الخريف وطوال فصل الشتاء، وكانت هناك ابنية مهجورة وأخرى غير مكتملة البناء، كانت على مر الاعوام مرتعا للسكارى والمشردين والهائمين على وجوههم، وربما تجد أيضا بداخلها بعضا من الفارين من الشرطة والمراهقين الأقوياء الجانحين، أولئك الذين احسوا فجأة انهم كبروا فعلا، ورفضوا كل وصاية او تحكم.

كنت اعرف بعضهم واتوجس منهم، ففي ذروة الحاجة للشراب الرخيص المصنوع في البيوت والدواوير النائية في حزام احيائنا البائسة، او المخدرات وسجائر الحشيش، كانوا مستعدين للاعتداء على أي شخص، وخصوصا ضيوف الحي من الغرباء والباعة المسالمين العابرين، أو السطو على الألبسة والاحذية، او القفز فوق أسطح المنازل وترويع النساء والعجزة، أو على واجهات المتاجر البسيطة التي كان يمتلكها غالبا رجال تعساء وصبورون.

مررنا بإحدى الازقة وقد كان هناك حديقة صغيرة مهجورة ومنحدر به حفر وغبار وظلمة كثيفة ولم تزل شاحنات ومعها الآلات وثياب العمال تملا زاوية الملعب المحاذي للمدرسة، كنت خائفا وانا اتخيل مشهد السكارى وخريجي السجون الغاضبين محملين بالسكاكين وقناني الخمر الفارغة.

كان لابد أن اخترع قصة او سببا يدفع صديقي للعبور معي إلى بر الأمان، والوصول إلى بيتنا والشارع المضاء بمصابيح حديثة والزليج الأحمر الذي يشع لمعانا في ليالي الصيف.

حين غادرنا بيتهم الصغير في الزقاق الجانبي بمحاذاة ساحة العربات المجرورة، وقد وضعت يدي على كتفه وهمست له، اسمع يا صديقي العزيز، غدا سوف اعود اليك ومعي مجلة اوربية حديثة حصلت عليها مؤخرا فيها صور مدن ساحرة ونظيفة، معلومات عن الجامعات والحياة الجميلة هناك، وعناوين شابات شقراوات رائعات يرغبن بالتواصل والتعرف إلى شباب وسيمين ومتعلمين من بلادنا وهي فرصتنا للهروب من هذا العالم الكريه كله، اسمع .. سوف نتخلص من الفقر والاخوة المشاكسين والدروب المغبرة والجيران الفضوليين، ونطير إلى عالم آخر يليق بنا، ثم اردفت، يجب ان يبقى سرا بيننا، ولا تبح به لاحد إطلاقا كي يحقق الله احلامنا وسترى.

سوف نختفي فجأة دون أن ينتبه لذلك أحد، حتى يذيع خبر رحلتنا ونجاتنا للأبد، سينتشر الامر في الحي وفي الثانوية وفي كل الأمكنة الأخرى حيت يسكن بقية الأصدقاء المنحوسون، ويصل الخبر الأسطوري الى كل الفتيات الانيقات المتعجرفات اللواتي رفضن صداقتنا، وسنجعلهن يمتن من الحسرة والندم.

امام باب المقهى الذي يعج بداية المساء وحتى اخر الليل بالحرفيين والعمال والسائقين والعاطلين للعب الورق وسط الأحاديث المختلطة وروائح الحساء والشاي ودخان السجائر والكيف، في احايين كثيرة كان ينضم إليهم بعض العازفين العائدين من صخب الاعراس وحانات وسط المدينة. وقفت التقط انفاسي وقلت لسعيد، اسمع يا صديقي العزيز، لابد ان نغتنم الفرصة قبل فوات الأوان، الانتظار يقتل حياة الانسان واحلامه

أصبحت أكثر خفة ووداعة في نهاية الطريق، وشعرت بان سعيد يهيم ويضيع في متاهة تلك الأحلام التي نسجتها مرغما في طريقنا المظلم، وفجأة خرجنا إلى المكان المنتظر ونحن على مشارف الشارع الواسع بدا لي منزلنا شاهقا وشامخا وأكثر ألفة ودفئا، وخيل لي انه صار في حلة جديدة لم اعهدها واحببته أكثر من أي وقت مضى.

ولاح لي ضوء خافت في الطابق الاوسط، وآخر في نافذة الغرفة العليا وتأكدت أن أخي يدخن في السطح ويفكر بتلك الشابة المكتنزة البيضاء الخجولة ذات النظارة المستديرة، كانت تمر عائدة من الثانوية او من حانوت البقال الكبير، تعودنا ان نسميها عزيزة جلال بوجهها الأبيض المستدير وشعرها المائل الى اللون الأحمر ولامبالاتها تجاه فضولنا ونظراتنا،

 بلا شك، كان يغني بصوت عذب وخافت جدا أقرب الى حشرجة شخص مريض ووحيد، وأحيانا يداري حركاته، يسعل وينظر إلى نجوم السماء المتلألئة، يحلم ويتنهد.

 

المغرب - الرباط