في هذا البحث العلمي المركز، تراجع الناقدة العراقية كثيرا من الآراء حول العلاقة بين الشرق والغرب، والأنا ولآخر، وتطرح رؤيتها لمفهوم الهوية والتراث والحداثة، لتصل إلى إن الإصرار على إعادة فهم التراث فهما متحررا هو الذي سيساعدنا في بناء هويتنا. وبهذا الفهم يستمر التراث في حالة دينامية متجددة.

فهم التراث ومعوقات صيرورته هويّةً

نادية هناوي

 

قد يكون مفارقًا أنْ نجدَ في مفهوم الهوية اليسر والتعقيد معًا؛ فالهوية من جانب تمثل خصوصية الفرد التي تتجلى في كليّة المجتمع، ومن جانب آخر تمثل الهوية كليّة المجتمع التي تتجلى بكل متعلقاتها واضحة في الفرد. وما بين الخصوصية والكلية تصبح الهوية صيرورة معنوية غير قابلة للتحديد المفاهيمي. وليست هذه الصيرورة آتية من فراغ، بل هي حصيلة إرث يشكله التاريخ واللغة والدين والثقافة والقومية وهي متناقلة عبر الأجيال تارة بالتلقين وتارة أخرى بالممارسة. وإحساس الذات بهويتها يعني أنها تنظر إلى نفسها كينونة. وما من هوية تحتفظ بكينونة سوى بمقوماتها التي بها تتمظهر ذاتا. وإذا كان الفرد في خصوصيته هو الذات، فان المجتمع ليس هو الآخر، بل هو بمجموعه يظل موصوفا بأنه ذات لكنها جماعية تحاكي الذات الفردية. والاثنتان أي الذات الفردية والذات الجماعية يقابلهما آخر يمثله أي مجتمع له كيان عام وهيأة خاصة. ولا ينظر الآخر إلى الذات في فرديتها، بل هو يراها في كليتها المجتمعية، وبهذا تصير ثنائية الذات/ الآخر حقيقة واقعة، وليست أمرا مخترعا، صنعته الايديولوجيا او ابتكرته الانتلجنسيا. وأهمية ثنائية الذات/ الآخر هي في كونها موصولة بثنائيات تشاكلها أو تتولد عنها كالتراث /المعاصرة، الشرق/ الغرب، الاستقلال/ التبعية، الداخل/ الخارج، المواطنة/ العولمة، المركز / الهامش، الوطن/ المنفى، البداوة/ الحضارة، الثابت / المتغير، الدين/ الدولة، القدامة/ الحداثة.. الخ.

إن كثرة هذه الثنائيات، تجعل الهوية مفهوما سهلا وممتنعا في آن واحد، إذ لا يمكن الحديث عن أي مقوم من مقوماتها، إلا وهذه الثنائيات تترى، فاتحة لثنائيات أخر مجالات جديدة كي تظهر بقوة، فيكون لزامًا من ثم مناقشتها بتأن. ومن تلك المقومات التراث الذي هو وجه من وجوه التاريخ، ويكون في صورتين: مادية يمثلها كل ما هو عياني متوارث، وصورة معنوية شفاهية مودعة في الذاكرة الجمعية، فيها تختزن العادات والعقائد والآداب والطقوس الدينية والاجتماعية وغيرها.

ومن المهم في الحديث عن التراث وبحث دوره في بناء الهوية، أن تكون الأولوية موجهة لعلاقته بالمعاصرة كثنائية لها دورها في بلورة الهوية، فالأواصر التي تشد الهوية للتراث قوية، ومن المهم أن تنعكس أبعادها على كينونة الذات وأن تتأكد من خلال عصرية المجتمع أيضا. فليس التراث هو ماضي الأمة كلغة ومعتقدات وثقافة حسب، بل هو أيضا الموئل الذي يمدُّ الأمة بأسباب النماء فيتأكد وجودها على بقعة ما من الأرض هي ملكها وتمثل إرثها في ماضيه وحاضره.

ولا خلاف في أن الأمة التي لا تراث لها هي أمة فتية، ولن تكون لها هوية تميزها إلا بعد ردح طويل من الزمن، إذ أن التمتع بالهوية ليس أمرا يسيرا، بل هو يستلزم -كما يقول هيدجر- أكثر من ألفي عام كي يستخلص الفكر، ويفهم علاقة بمثل بساطة التوسط الداخلي للهوية، وأردف متسائلًا – انطلاقًا من أهمية أن يكون للذات امتداد تاريخي-: هل بإمكاننا الآن افتراض أنه في يوم ما سينجز فكرنا العودة إلى الأصل الأساس للهوية؟ وأجاب أننا مهما حاولنا التفكير بالأصل ومهما كانت الطريقة التي تناولناه بها، فإننا سنفكر في فضاء التراث[1]. ذلك أن التراث  دعامة رئيسة لأن تستمد الذات – فردا أو أمة – طاقتها على التجدد، فتجعل الماضي حاضرا مثل نسغ يجري في العروق، فيغني الهوية ويجعلها قادرة على التجدد.

ولقد سعت قوى الاستعمار والامبريالية وما زالت تسعى – عبر القرنين الماضي والحالي - وبكل أساليب بطشها أن تذيب هوية مجتمعات، لها تاريخ حضاري وإرث عريق كالمجتمع العربي والصيني والهندي، وفشلت بسبب قوة المقومات الصانعة للهوية. وكلما ازدادت التحديات المجتمعية، تأكد دور التراث في الحفاظ على الهوية. وعلى الرغم مما في عصرنا من سلطان وفاعلية للإعلام والايديولوجيا والتكنولوجيا والعولمة، فإن ذلك لا يغير من أصالة القوى الدافعة للهوية ومن بينها التراث الذي يظل مؤثرا في تركيبة المجتمع السلوكية والحضارية.

وإذا كانت الهوية ملمحا معنويا يحمله الفرد وبه يعرف، فما الكيفية التي بها يقوى الإحساس بالتراث فيكون مصدر قوة للذات؟ ومتى يكون مصدر إعاقة لها ؟ وما الأسباب التي تجعل التراث مهما في بناء الهوية ؟ وهل تمتلك كل المجتمعات تراثات أو هو أمر خاص بمجتمعات محددة ؟ وهل من ضير في أن تتكئ الذات على التراث لوحده كمقوم في بناء هويتها بمعزل عن ثنائية التراث/ المعاصرة؟

لا يكون التراث مقوما في بناء الهوية إلا إذا كان ممتدا كماض يتجسد في الحاضر، فيحفزه على الاغتناء والفاعلية، متطلعا صوب المستقبل. ومن دون هذا الامتداد والتطلع يفقد التراث فاعلية التأثير، إذ أن للتراث - كما يقول عبد الرحمن منيف- ( أن يدفع ويساعد إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية وأكدنا الجوانب الايجابية فيه واستخرجنا العناصر منه لكي تستمر وتنمو وإذا هضمناه هضما جيدا من دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجاته.. لذلك يمكن اعتبار التراث سيفا ذا حدين بحسب النظرة إليه وبحسب الوظيفة التي يسخَّر لها. فإذا كان يراد منه إعادة الماضي بتقاليده وأفكاره وأساليبه وعاداته فسيكون قيدا وسببا إضافيا في التخلف كما لو أعدنا الحجاب إلى المرأة مثلا أو منعناها من العمل. أما إذا أردنا أن تسود العقلانية كما كان الحال في عصور عربية عديدة وأردنا التفتح والتحرر وإشراك كل القوى الكامنة أو المعاقة في الأمة وتعاملنا مع ذلك في ضوء بعض تجارب الماضي فنكون عندئذ قد غلّبنا الجانب الإيجابي في التراث وبخاصة أن في هذا التراث أمثلة وحالات كثيرة يمكن أن نقتدي بها بحسب النظرة وبحسب الهدف الذي يراد الوصول إليه.)[2]

إن هذا التشديد على فاعلية التراث لا تقل شأنا عن ضرورة فهمه، فيكون الفرد واعيا لأبعاده وكيفية النهوض به والإفادة منه بوصفه ذاكرة الأمة التي بإدراك أهميتها يتعزز إحساس الذات- فردا وجماعة-  بهويتها، فتغدو واضحة ومنفتحة ومستقلة ويقظة غير متعصبة لذاتها ولا مسيّرة بغيرها.

وما تمر به الأمة العربية في ظرفها المصيري الراهن، إنما هو تحد للذات واختبار لحقيقة هويتها، والثقل الأكبر والأساس في هذا التحدي يتمركز حول مفهوم التراث من ناحية فهم صيرورته كأمر حتمي ومصيري في تشكيل الهوية، غير أنّ لهذه الصيرورة حدودا، ما أن يتعداها الفهم حتى ينقلب دور التراث إلى الضد فلا يؤدي المطلوب منه تأديته في التماهي مع سائر المقومات الأخرى المكونة للهوية، ويغدو من ثم عائقا كبيرا أمام تجددها، وبثلاث صور، هي:

أولا/ مجافاة الآخر قصدا: وذلك حين يكون الاعتداد بالتراث اعتدادا مبالغا فيه يصل إلى درجة الانغلاق عليه بشكل تام، فتتلاشى أهمية المعاصرة، انطلاقا من فكرة الحفاظ على ما خلَّفه الأسلاف من إرث مادي ومعنوي. وهذا ما يجمِّد الذات ويجعل الحياة - تعليما وعمرانا وأدبا وفنا- متمظهرة بالقدامة كأساليب عمل وطرز بناء، فتتجلى عزلة الذات وقطيعتها مع الآخر. ولقد عزا الدكتور محمد عابد الجابري هذه القطيعة إلى( الفهم التراثي للتراث) ورأى أن الفهم الحقيقي يتطلب التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهم التراث. ذلك أن القطيعة تحولنا من كائنات تراثية إلى شخصيات يشكل التراث المقوم الجامع بينها في شخصية أعم هي شخصية الأمة صاحبة التراث وعندها يكون الفرد العربي مقيدا بتراثه ومثقلا في الآن نفسه بهموم حاضره[3].

وما من ريب في أن انعزال الذات يفضي إلى تأخرها عن مواكبة الركب الحضاري، مما يجعل( الآخر غريبا عنها؛ أما الانفتاح على الآخر فيجعله أخا لنا فالذات بطبيعتها منغلقة ومنفتحة)[4] ومن دون ذلك سيغدو الانغلاق على المدى المنظور أو البعيد مولدا من مولدات حب الذات وكراهة الآخر، فتتحجر الخصوصية وتصبح مصدر تضليل واغترار، فلا تحيل هويتها إلى الشروط الاجتماعية والتاريخية التي صنعتها.

وصحيح أن التراث يحتاج منا أن نحافظ عليه من الضياع والإهمال، فنتمسك به ونفيد منه لكن ليس بالتقوقع عليه بل بفهمه فهما يمكننا من إعادة صياغته بروح العصر. وعندها تكون الهوية ذات خصوصية تستمد قوتها من إرث عريق غير مفصول عن المقومات الأخرى الصانعة للهوية وفي الآن نفسه لا تستغني هذه الهوية عن المعاصرة، وبذلك يتولد الشعور بالانتماء للماضي كما يتعمق الوعي بالحاضر والآتي. إذ بالعودة إلى التراث وقراءته من جديد، تتحقق المعاصرة التي فيها يغني الآخر الذات وتغني الذات الآخر، فالتراث (يوجهنا ويحررنا من الفكر الاتباعي ويعلمنا التفكير في ما هو أمامنا.)[5]. وما كانت خزانة التراث العربي يوما مغيبة أو مهمشة أو محنطة، بل هي مشاعة وحاضرة من قبل عصر النهضة ومن بعدها.

ثانيا/ الإذعان للحداثة هدفا: وذلك حين تخضع الذات للآخر، فتصبح المعاصرة هدفا، والتراث وسيلة من الوسائل المحققة لها. وهو ما يترك أثرا سلبيا في الوعي بالتراث فتنظر الذات إلى نفسها بدونية، لأنها غير قادرة على مجاراة الآخر المتفوق عليها: أولا بتقدمه العلمي والصناعي وثانيا بهيمنته السياسية والعسكرية والثقافية. وبهذا كله تغدو الهوية إشكالية حضارية، مصطبغة بشكلين من التبعية، هما:

1- التبعية الثقافية: وتنتج عن ملاحقة الذات للآخر، وما يترتب على ذلك من رهانات وإشكاليات، لا تسفر سوى عن شعور ذاتي بالدونية مما يحول دون رؤية مقومات الهوية أو إدراك قوتها. وهو أمر عزاه أحد الباحثين إلى قوى العولمة وغزو الامركة ولكنه أضاف إليهما( أهل الهوية وحماتها من النخب المثقفة ..)[6] وتهكم منهم وممن يحملون مسؤولية الدفاع عن الهوية من الدعاة وأصحاب المشاريع القومية والحضارية، ناصحا من سماهم "حماة الهوية " ومن عدهم يمارسون" الوصاية على الهوية والأمة" أن يوجهوا اهتمامهم إلى سؤال" الهوية المعاشة" (كذا)[7]. وكأن من الواجب على من يشتغل في منطقة الفكر ويعد نفسه مفكرا أن يتجرد من الثوابت بما فيها التراث كي يكون معاصرا فـ(يعايش) الحاضر بعقلانية!!.

واقترح ادونيس حلا لإشكالية التبعية الثقافية يتمثل في (الهوية الكونية) بوصفها خلقا، ورأى أن العالم واحد والغرب والشرق ليسا منفصلين، وأن الإبداعات العظيمة ليست شرقية وغربية إنما هي كونية إنسانية[8]، معتبرا هذه الكونية نزعة صوفية فيها الكائن والمعرفة والعلم والفلسفة وحدة لا انفصام لها. ولشدة اعتقاده بالكونية، تنصَّل من اسم ذي عمق تاريخي وبعد تراثي عربي، واستبدله باسم( ادونيس) الذي معه ضاعت تلك الخصوصية. وفسر أمر الاستبدال كالآتي:( اخترت اسما حررني من هويتي الدينية.. حررني هذا الاسم ادونيس من اسمي علي ومن انتمائي المغلق بأقفال الدين وانفتحت من خلال هويتي الجديدة الحاسمة وغير النسبية على كل ما هو إنساني لقد اخترت هوية مطلقة. وبدءا من هذا الاختيار لم يعد لي هوية جاهزة أو مقررة مسبقا . بدأت خلق هويتي حين بدأت خلق عملي الأدبي لقد وعيت أبعاد هذا الاسم الخلاق.. قادتني هذه المسيرة إلى المثابرة على خلق هويتي وتعلمت من تلك التجربة بان الهوية إنما ينبغي خلقها وإعادة خلقها باستمرار ولا ينتهي هذا مع الموت وعلى الأخص حين يخلف احدنا وراءه شيئا ما بعد موته. فالهوية إنما هي حركة ولا يمكن ان تكون ثابتة متجمدة.. تحدوني الرغبة في انفتاح ثقافتنا العربية على هذا النوع من الهوية الحرة)[9]. ولكن لو افترضنا أن الاختيار وقع على اسم لا انتمائية له ولا خصوصية فيه كاسم آدم مثلا لقلنا عنه إنه كوني، ولعددنا هذا الاختيار حرية وانفتاح، بيد أن الاسم المختار( إغريقي) ويحيل إلى مجتمع محدد بهوية خاصة. وما إتباعها سوى إذعان للآخر المختلف، وتجريد للذات من خصوصيتها التي معها يُنتبذ التراث ويُتعالى عليه.

ومن المفارقة أن ادونيس مع كل ما احتج به من كونية، يعود ليؤكد حقيقة مهمة وهي أن الغرب استعماري وأنه مع الثورة الصناعية أضحى امبرياليا وفرض على العقل الشرقي التبعية له بأساليب مختلفة. وأن الغرب ما أن تسلم الدور الاستعماري من العثمانيين حتى راح يردد الأقوال نفسها التي كان يصف العثمانيين بها من قبيل القول إن العرب متخلفون وبربريون وإن الغربيين متحضرون وأكثر إنسانية، والغرب هو المعلم للشرق بعد إن كان الشرق معلمه.[10] يقول:( أشدد على القول بأن الغربي يفضل أن يجد أمامه مستبدا أو ظلاميا عربيا ولكنه يرتبك أمام ديمقراطي مثله وأمام فكر منفتح مثل فكره أو محاور في مستواه لا يرغب الغربي ان يرى في العرب سوى تابعين سوى أناس ينبغي عليهم ان يتبعوه يقتفوا خطاه ولكن حين يكون بوسع أحد أن يحاوره محاورة الند للند أو أن يتجاوزه فإن ذلك يضايقه)[11] ونتفق معه في ذلك تماما لكننا أيضا نتساءل أ ليس حريا بمن يملك هذا الوعي بحقيقة الغرب أن يكون معتدا بالخصوصية وأهمية دورها في نبذ التبعية ؟! وهل في ضياع الخصوصية غير التفريط بالكينونة ؟ وماذا يتبقى من الهوية إن هي فقدت خصوصيتها وكينونتها وانفرط من ثم عقد مقوماتها بما فيها التراث واللغة ؟! 

لا طائل من أية إجابة، تتحصل من أقوال تجمع الإثبات ونفيه بالتوافق ونقيضه. ومثل هذا المطب في البحث عن الحداثة عبر التبعية للآخر، هو ما كانت قد وقعت فيه أيضا جماعة مجلة شعر- وادونيس واحد من أعضائها- منطلقة من رغبة خفية في منافسة رواد حركة الشعر الحر على سمة الحداثة، بيد أن الرواد ما جاءوا إليها إلا من طريق قراءة التراث، وليس التعالي عليه، ولهذا استمر بنيان حداثتهم إلى اليوم.

وليس الفكر العربي بطبيعة الحال غافلا عن تراثه ولكنه يتغاير في تقدير خطر التبعية الثقافية للغرب الاستعماري. وعلى الرغم من ذلك، فان التراث يبقى مقوما في بناء الهوية العربية، ومحصنا من محصنات ذاتيتها. ومتى ما كانت الادلجة أو العولمة قوية، فإن الردع عادة ما يكون تلقائيا، يعيد للذات اعتدادها بهويتها على اختلاف مستويات تعلمها وثقافتها.

وعلى طول التاريخ العربي الإسلامي قاومت الذات محن تذويب هويتها وتحديات محو ذاكرتها بدءا من سقوط بغداد ثم الأندلس ووصولا إلى الاستعمار الحديث واحتلال فلسطين. وجدير بالذكر أن هناك مفكرين غربيين فضحوا أكذوبة الكونية والعولمية التي تخفي حقيقة الامبريالية العالمية، يقول الفيلسوف الفرنسي ادغار موران: ( انطوى تطور الغرب الأوروبي في القرن التاسع عشر على استعباد الشعوب المهيمن عليها والمستعمرة، فحتى وقتنا الحاضر كان التعقيد في مجال معين ومكان معين غير منفصل عن الإسراف والتدمير والتقدم التقني الاقتصادي الحالي الذي ما زال يدفع ثمنه بقتل الثقافات والاثنيات)[12]. من هنا يكون ملحّا تشخيص أسباب التبعية الثقافية من أجل الوقوف على مؤدياتها وفحص أبعادها والتحسب لقادمها. وبذلك تتحرر الذات من الهيمنة وتتمكن من فهم الآخر والتفاعل معه. وعلينا أن نؤمن أن الذات التي يشكل التراث عمقا تاريخا لهويتها هي ليست بأقل قدرة من الآخر الذي بافتقاره إلى ذاك العمق يظل بحاجة إليها كقانون منطقي في التفاعل البناء والتواصل الايجابي.

2- التبعية الابستمولوجية: وتحصل من جراء جلب النظريات الغربية وتطبيقها بجاهزية تامة على التراث انطلاقا من الحداثة المغلفة بدعوى تجديد الوعي بالتراث. ومن حسنات هذا التجديد أن الذات تحاسب نفسها كونها لم تسع إلى أن تتفاعل مع التراث بوعي خاص، فيأتي الباحث إلى التراث وهمه أن يجد ما يعيد للتراث روحه المعاصرة، لكن ذلك يجري من دون أية مساءلة للوافد النظري في عملية تطبيقه على التراث، بل هو الانحياز والانبهار والاطمئنان الكامل بكل ما يفد إلينا من نظريات ومنهجيات، منها ما ينظر إلى التراث سياقا، ومنها ما يراه نصا، يجري عليه ما يجري على النصوص الأخرى –تراثية وغير تراثية- من انفتاح وتفاعل وتعالق، يجمعها ( التناص). وهو نظرية في الأساس لكن الناقد العربي تعامل معه مفهوما نقديا من دون أن يأبه لأبعاده الفلسفية، وإنما اكترث لمسألة تطبيقه على التراث. وإذا كان النص( هو التراث العربي الإسلامي)[13] فإن التناص هو( موئل نصية النص) وهو (من الشمول والعموم بحيث لا يعدم وجوده في أي نص كيفما كان تعريفنا لهذا النص وسواء كان النص أدبيا أو غير أدبي. انه سمة متعالية على الزمان والمكان)[14] وبالتناص تُنتفى الأصول وتصبح النصوص كلها سواسية وفي حالة تحول دائمة بعلاقات ( تفاعلات نصية جديدة ومستمرة) ومن ثم لا فضل لنص على آخر كما لا فرق بين عمل قديم وعمل جديد، لأن الأساس هو (التفاعل) الذي ليس فيه حق للسابق، به يلزم اللاحق في ما يأخذه منه أو يتصرف فيه، وقد يحوِّره أو يهجنه أو يدعي ملكيته.

وعلى الرغم من ذلك كله، فإننا نتساءل: هل يكون التناص هو وحده الرهان في صناعة وعي جديد بالتراث؟ وهل تبقى -بعد عد التراث أدبا نصيا يتفاعل مع نصوص حديثة ومعاصرة – أية نماذج يُستشهد بها على الإجادة والإصابة أو أية أصول سار عليها الأقدمون زمنا طويلا وبنوا تقييماته النقدية على وفقها ؟ وإذا كان التراث الأدبي بلا أصول ولا نماذج لأنه في صيرورة دائمة من العلاقات!!؛ فلماذا إذن أولى البلاغيون والنقاد العرب عمليات الاقتباس والتضمين والمحاكاة والاحتذاء والإغارة والسرقة اهتماما كبيرا ؟ أو ليس هذا كافيا لان تتأكد لنا عنايتهم بالجذور والأصول وما يجري عليها من تحوير وتطوير فقننوا مسائل الأخذ (التفاعل) بمحددات أغنت تراثنا النقدي العربي وحافظت على خصوصيته؟

لا ريب في أن البحث عن المعاصرة ينبغي ألا يكون على حساب التراث، ومن دون ذلك فإن الإحساس بالتبعية سيتعمق من جانب، ومن جانب آخر يتنامى الوعي بأهمية -إن لم نقل حتمية – الأخذ النظري والفكري من الآخر من دون أي وازع فكري بمحاورته. وما دام بحثنا النقدي ينظر إلى تراثنا من الزاوية التي منها ينظر الغرب إلى هذا التراث، فإن تهوين الذات وتبجيل الآخر سيستمر، فما من أصل هو مصدر! ولا من جذر أسس قاعدة وبنى تقاليد !. 

إن التبعيتين الثقافية والابستمولوجية هما مثال حي على الكيفية التي بها يكون التركيز على طرف واحد من ثنائية التراث/ المعاصرة مؤديا الى جرجرة الطرف الآخر في أعقابه. وفي كلا الحالين تكون التبعية للآخر مستحكمة. مما يجعل فهم التراث إشكالية حقيقية، ومن ثم لا تجد الذات من توجه إليه التقريع سوى نفسها، ولا من تعترف بانجازاته خلا من هو غربي.

ثالثا: التقدير الخاطئ للذات/ إن القول بأهمية اختبار الوافد النظري والفكري، وضرورة الاعتداد بما ينطوي عليه التراث من أصول وتقاليد، لا يعني أن الأخذ من التراث محدد أو مقيد، بل يعني أن الأخذ ينبغي ألا يكون عن طريق بتر الأصول وإنكار النماذج والتقاليد. وبدلا من أن نستعيد تراثنا، نكون قد أكدنا تبعيتنا بوصفنا متلقين مستهلكين لما يصدِّره الآخر إلينا من فكر وثقافة غير مسائلين المفاهيم والنظريات ولا مختبرين فاعليتها.

وقد يُعترض على ما تقدم بأن الوافد النظري والفكري، هو موضوعي وعلمي، وأن الآخر الغربي طبّقه على (تراثه) قبل أن نطبقه نحن على تراثنا. ونجيب: إن فرضية وجود (تراث أوربي/ غربي) معترض عليها، فعمر العالم الغربي لا يتجاوز بضعة قرون ابتدأت مع سقوط الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. وما افتراض وجود امتداد حضاري للغرب يصل إلى عصور اليونان سوى افتراض عرقي، وليست له صحة جغرافية ولا تاريخية، أولا لأن العالم القديم لم يعرف غربا بل كان شرقا كله. وثانيا أن مقولة الغرب ظهرت في العصور الوسطى ثم تعمقت مع كتابات المستشرقين الأوروبيين الذين رسخوا ثنائية شرق/ غرب كرد فعل على أمرين: الأول ايجابي وهو تأثير الحضارة العربية الإسلامية الكبير في النهضة الأوروبية، والأمر الآخر سلبي وهو إنكار الغرب دور هذه الحضارة المعرفي في نقل الإرث الإغريقي والروماني إليه[15] فضلا عن تعريفه بما في هذا الإرث من مسائل كان الفلاسفة المسلمون قد شرحوها وبنوا عليها وأضافوا إليها الكثير. وإلى حدود القرن السادس عشر تقريبا، لم يكن هناك أي مقابل ثقافي يكافئ الفكر العربي الإسلامي أو يوازيه علما وحضارة وثقافة وأخلاقا. و( لو رسمنا خريطة تبين الأحوال السياسية الأوربية والإفريقية وغربي آسيا في حوالي منتصف القرن العاشر من زماننا هذا لوجدنا ان القسم الأعظم من العالم المسكون الذي يدعوه الإغريق اويكوميني كان مسكونا بأمم تخضع للحكم الإسلامي وتسودها الحضارة الإسلامية، إذ أنها لم تكن في ذلك الزمن وحدة سياسية متينة العرى بل كانت مرتبطة فيما بينها برباط قوي من الدين والحضارة حتى ان سكانها مع أنهم لم يكونوا من المسلمين فقط كانوا يشعرون بأنهم رعايا دولة إسلامية مترامية الأطراف مركزها الديني مكة، ومحورها السياسي بغداد.)[16]

وما من شك في أن الفكر العربي الإسلامي لم يأفل بسقوط الأندلس، بل استمر دوره الثقافي والفكري حتى عصر التنوير، وفيه تحولت أوروبا إلى قوة استعمارية فتعرضت الحياة العربية في كل مجالاتها ومن ضمنها -التراث  الأدبي والفلسفي والعلمي والثقافي- إلى الاستعمار بكل ما يعنيه من نهب واستغلال ومحو وسطو وانتحال ونسخ وإعادة كتابة.

وعلى الرغم مما تركه هذا كله من آثار سلبية على المجتمع العربي، فإن الذات استطاعت المحافظة على هويتها بقوة المقومات الصانعة لها والمتلاحمة تلاحما مصيريا في مواجهة محاولات تجريدها من بعدها الحضاري، وكان التراث دعامة مهمة في هذا كله بوصفه ذاكرة الأمة التي تجعلها ترمم نفسها متى ما واجهت عوامل المحو والنسيان.

إن ما نحتاجه اليوم هو إعادة قراءة تراثنا من دون التوهم ولو لبرهة من الوقت بأن التراث يعني العيش في الماضي أو أن تأمل المستقبل يعني التخلص من الماضي، إذ ما من مسافة زمنية بين حاضر نعيشه وآت نأمل أن نعيشه سوى مسافة الذاكرة التي تتطلب سيرورة في فهم التراث ودوره في بناء الهوية فيكون لوجودنا أثر عالمي. وما من عقبة تقف في طريق العالمية مثل الشعور بالدونية والقطيعة والتبعية.

بكلمات أخرى نقول إن الإصرار على إعادة فهم التراث فهما متحررا لا تسبقه تقديرات خاطئة هو الذي سيساعدنا في بناء هويتنا. وبهذا الفهم تقدر الذات على مواجهة التصدع وإثبات الأصالة التي معها يستمر التراث في حالة دينامية متجددة.

 

 

[1] الفلسفة والهوية والذات، مارتن ههيدجر، تر: محمد مزيان، كلمة للنشر ، تونس، 2015، ص31-32.

[2] الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، تحرير رياض زكي قاسم، مركز دراسات الوحدة، بيروت، ط1، 2013، ص80 . وجاءت دراسة عبد الرحمن منيف تحت عنوان( القومية والهوية والثورة العربية) منشورة في مجلة المستقبل العربي العدد 95 ، 1987.

[3] ينظر: نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1993 ص19-21.

[4] النهج إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ادغار موران، تر: هناء صبحي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009، ص 93 .

[5] الفلسفة والهوية والذات، مارتن هيدجر، تر: محمد مزيان، كلمة للنشر والتوزيع ، بيروت، ط1، 2015، ص41.

[6] حديث النهايات، علي حرب، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط2 ، 2004 ، ص17. ويضيف المؤلف قائلا: (لن أتحدث بلغة ايديولوجية نضالية هي لغة الدعاة من لاهوتيين وكهنة ومثقفين وسواهم من الذين يشتغلون بحراسة الأصول والعقائد أو الدفاع عن الهويات والثوابت) المصدر نفسه.

[7]  ينظر: المصدر السابق، ص17-20 والصحيح: معيشة.

[8] ينظر: الهوية غير المكتملة، ادونيس، تر: حسب عودة، بدايات للطباعة، دمشق، 2005، ص33.

[9] المصدر السابق، ص69-70

[10] ينظر: المصدر السابق، ص34

[11] المصدر السابق، ص18

[12] النهج إنسانية البشرية، ص261.

[13] الرواية والتراث السردي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1992، ص129

[14] المصدر السابق، ص10 . المشكلة الجوهرية – بحسب د. سعيد يقطين- هي( أن المتفاعل النصي العربي لم يتحول إلى نص، وأنه ما لم يتحقق لدينا وعي جذري بمسالة المتفاعل النصي، فان الوضع يبقى ملتبسا وسيظل الفكر العربي يبحث عن ذاته وقد أضاعها.) المصدر السابق، ص129

[15] ترجم الأوروبيون مئات إن لم نقل آلاف الكتب والمخطوطات العربية وكان الفونسو العاشر ملك قشتالة قد قام في القرن الثالث عشر للميلاد بأكبر عملية ترجمة للتراث العربي إلى اللغة الاسبانية.

[16] كتاب أخبار الصين والهند( 237 هـ) تأليف جان سوفاجيه، دراسة ج . أ . كرامرز، دار بيبليون، باريس، 2009، ص3.