خلال عقود، لم يكن كافكا موجوداً إلّا عبر الترجمات إلى لغات أخرى. لقد دفع مترجموه الأوائل اسمه وأعماله إلى المسرح العالمي من خلال إسباغ شيء من نفوسهم عليه، وقد أعطاهم القرن الفائت الأسباب كلّها ليصرخوا: “جوزيف ك، هذا أنا”

كيف تحوّل كافكا إلى كافكا

نجـوى بركات

 

في كتابها الصادر حديثاً عن دار غراسيه الفرنسية، “عشر صيغ من كافكا”، تتناول الباحثة التشيكية الفرنسية، مايا هروشكا، الترجمات الأولى التي ظهرت لأعمال كافكا، يوم كان مجهولاً من القرّاء، وكاتباً غير معروفٍ من أترابه أيضاً، ثمّ أديباً ممنوعاً في الاتحاد السوفييتي، وفي ألمانيا أيضاً. فكافكا الذي ولد في عام 1883، تاريخ وفاة كارل ماركس، وتوفي في 1924، يوم رحيل لينين، كما تورد الكاتبة، لم يحظَ أبداً بإعجاب النظام السوفييتي، إذ لم يكن مترجموه إلى الروسية يوقّعون ترجماتهم، في حين كان عدد النسخ قليلاً جدّاً، تطبع وتوزّع سرّاً حتّى منتصف الستينيّات. في المقابل، وبعد وفاة كافكا، ترجم عشرة كتّاب كبار أعماله حين لم يكن كافكا معروفاً إلّا في اللغات التي نُقل إليها، هو التشيكي الذي اختار الكتابة بالألمانية، والذي بُحّ صوته تماماً قبل مماته بعد إصابته بالسلّ.

وترى الكاتبة أنّ مترجمي كافكا الأوائل لم يكونوا كُتّاباً مرموقين بالمصادفة، لأنّهم اعتبروا نقله إلى عدة لغات ضرورةً وأوّليةً، أو أنّهم فعلوا حبّاً بأعماله. فهناك الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي ترجم كافكا إلى الإسبانية قبل أن يُصاب بالعمى، “فكرّس أكثر من 18 ترجمة لفرانز كافكا، وما لا يقلّ عن 50 مُقدّمة وتمهيداً ومقالة ومحاضرة” له، واستمتع بـ “المتاهة” بقدر ما عاناها كافكا؛ والشاعر الروماني بول سيلان الذي قال: “باللغة الأمّ فقط، يمكن للمرء أن يقول الحقيقة. بلغة أجنبية، يكذب الشاعر”، وترجم كافكا عند عودته من معسكرات الاعتقال النازي، هو وبريمو ليفي، الذي كان في الواقع المترجم الثالث لكافكا في إيطاليا، وأعلن: “انهارت دفاعاتي أثناء ترجمته”، ثم مات منتحراً عام 1987، فتعلّق هروشكا: “كما لو أنّ الترجمة قد حطّمت الجدران التي أقامها ليفي بين تورينو وأوشفيتز”؛ وهناك أيضاً البولندي برونو شولتز، الذي قُتل بالرصاص في الشارع على يد رجلٍ من قوات الأمن الخاصّة، الذي أصبح عمله مثل عمل كافكا، بعد الوفاة، مشكلةً قانونيةً في ما يتعلّق بالبلد الذي ينتمي إليه؛ وميلينا جيسينسكا، التي ربطته بها علاقة حُبّ، ونقلته إلى اللغة التشيكية قبل ترحيلها.

فخلال عقود، لم يكن كافكا موجوداً إلّا عبر الترجمات إلى لغات أخرى. لقد دفع مترجموه الأوائل اسمه وأعماله إلى المسرح العالمي من خلال إسباغ شيء من نفوسهم عليه، وقد أعطاهم القرن الفائت الأسباب كلّها ليصرخوا: “جوزيف ك، هذا أنا”، كما ورد على غلاف الكتاب.

والحال، لقد تغيّر العالم من حول كافكا منذ عام 1918، فأعيد تشكيله من طريق عدة معاهد، كما هي العادة في هذه المنطقة من أوروبا، إذ تُقرّر أوراق وتواقيع حياة الدول والأفراد أو مماتهم: معاهدة تريانون، فرساي، سان جيرمان، بريست ليتوفسك، ريبنتروب مولوتوف… إلخ. لقد تقطّعت مملكة هابسبورغ (1526 – 1804)، فولدت أوّل جمهورية تشيكوسلوفاكية (1918)، وتغيّرت ملامح الدول المجاورة فبات من الصعب التعرّف إلى النمسا وألمانيا وروسيا وبولندا لشدّة تغيّرها. بين ليلة وضحاها، فقد مركز القارّة الأوروبية نظامه البيروقراطي، الذي كفل قروناً التعايشَ بين 15 جنسية مختلفة، وانهارت الأنظمة الإدارية والقانونية والاجتماعية والسياسية التي عايشها كافكا. لقد نجا من حربٍ لم تشغله كثيراً، ولم يفرح أو يتأثّر بعد انتهائها. هكذا تُفكّك مايا هروشكا الخيوط الأدبية والسياسية التي صنعت القرن العشرين، وتُحلّل الطريقة التي جعلت فرانز كافكا المجهول، كافكا الذي نعرف، قارئةً أوروبا اليوم في ضوء أحداث أوروبا الأمس.

 

العربي الجديد