استطاع يوسا أن يرسم صورة مقرّبة عن كاتب هو بالتأكيد أحد أهم وأبرز كتاب القرن العشرين، وأن يتناوله من عدة أوجه، وأن يسلط الضوء النقدي المنصف على حياته وأعماله، حتى ولو كان قد تحامل على مواقف سياسية لكاتب مهدد بالقتل وغير مؤمن بكل الأنظمة السياسية،

كيف كان بورخس معبود يوسا وكيف كان عدوه

أحمد عبد اللطـيف

 

بورخس لن ينتهي أبدًا، لقد دخل تاريخ الأدب ليتربع فيه، في هذا المكان النخبوي حيث يجب أن يمر أي كاتب، إن لم يكن ليتأثر به فعلى الأقل ليأخذ مسحة من فيض علمه وموسوعية ثقافته والاستفادة من منظوره الأدبي. لذلك، فالكتب التي كُتِبت عن الكاتب الأرجنتيني تفوق مئات المرات الكتب التي كتبها، والدراسات التي تناولته أكبر من أن يحصيها خبير. فما السر في هذا الكاتب؟ لماذا لا تقدّم كتاباته ولا أفكاره؟ من أين استمد هذه الطزاجة؟ ثمة دراسات كثيرة تشير إلى انفتاحه على الثقافات الأخرى، مناهضته لفكرة أنه "مواطن أرجنتيني"، مختارًا أن يكون "مواطنًا من العالم". هذا أساس يشير إليه الكاتب البيروفي ماريو فارغس يوسا في كتابه الهام "نصف قرن مع بورخس"، إذ موسوعيته تسع الثقافة العربية واليهودية، وتبلغ الصينية والأوروبية، وتضرب في تاريخ الإغريق والرومان، وتتنوع ما بين ألف ليلة والأساطير القديمة. لكنه فوق كل ذلك، لديه القدرة على هضم هذه الفنون والحكايات لينتج حكايات أخرى، وهو إذ يختار من الإرث الإنساني، ينحاز لكل ما هو فانتازي، حيث معول الخيال ما يعمل.

يضم كتاب يوسا العديد من الفصول المكتوبة على مدار زمني طويل، منها حوارات أجراها معه في باريس أو في بيت بورخس ببوينس آيرس، ومنها مقالات عن أدب الكاتب الأرجنتيني الأبرز، لتقريب البؤرة ليس فقط من أدبه وأسلوبه وأثره، وإنما كذلك من بورخس السياسي، من مواقفه تجاه الدولة العسكرية الديكتاتورية المتناوبة على الأرجنتين، ورؤيته للنازية والفاشية.

بورخس العظيم... بورخس المتناقض

ينطلق يوسا في كتابه من أساسين: حب عارم وتقدير مفرط لأدب بورخس، واختلاف شديد مع بورخس نفسه كشخص ومواقفه السياسية. يرى الكاتب البيروفي أن أثر بورخس لا يمحى، وأنه أفضل كاتب في اللغة الإسبانية بعد ثربانتس ودي جونجورا الكلاسيكيين، أي أفضل كاتب حديث على الإطلاق، وأنه ابتكر أسلوبًا غير مسبوق في الإسبانية. بالإضافة لذلك، وسّع بورخس من الأفق الثقافي للغة، إذ بانفتاحه على ثقافات أخرى أكّد على عالمية النص وتجريده من المحلية الضيقة. في سياق الأسلوب أيضًا، غدت اللغة الإسبانية "لغة ذكية"، وفي ذلك يؤكد يوسا أن الفرق بين الإسبانية والفرنسية أن الأولى لغة أدب، فيما الثانية لغة فلسفة، ويبرر ذلك بأن الإسبانية لغة عاطفية، تميل للتفاصيل والتكرار لتقول الشيء نفسه وتوضحه، في مقابل الفرنسية وهي لغة موجزة، تذهب إلى المعنى بدون لف ودوران، وهو، في رأيه، ما جعل من الصعب وجود فلاسفة إسبان مع استثناءات نادرة. مع بورخس، صارت الإسبانية لغة موجزة، قادرة على التفلسف، يمكن أن تتمتع بذكاء الفرنسية وعاطفية الإسبانية، تخلت عن الإطناب. كل ذلك يعكسه مقولة بورخس "لا أعرف كيف يمكن كتابة 500 صفحة لقول ما يمكن قوله في عبارة واحدة"، إنه منظوره للفن واللغة، ومن هنا جاء عداؤه للرواية لأنها فن مطنب، وانحاز إلى كتابة القصة لأنها يمكن تشذيبها، وللمقال لأنه خلاصة أفكار.

لا يؤمن بورخس أن النص السردي يحتمل أفعالًا مثل "أكل، نام/ خرج، مارس الحب"، إنه يجرّد الإنسان من تفاصيل يومه التي لا تستحق أن تروى، ومع تجريده من هذه الأشياء، يظهر إنسان آخر أكثر ذكاءً وتأملًا، ويظهر معه عالم فانتازي ثري، بعيد عن اليد، قادر على تجسيد همّنا الباطني. لذلك، يرى يوسا أن بورخس مرحلة هاملة وأساسية في تاريخ الأدب، ليس الأرجنتيني أو اللاتيني، بل العالمي، إنه مدرسة جاءت من العدم لتؤسس لنوع كتابة وأسلوبية غير مسبوقة، محققًا المعادلة الصعبة: أدب نخبوي ممتع، لا تضجر منه، إذ يوظف كل الوسائل الأدبية المتاحة (بداية من الحبكة البوليسية) ليكون النص ليس مقروءًا فحسب، وإنما لا يُنسَى أيضًا.

لا ينكر يوسا فضل بورخس، كما نرى، لكنه يتوقف عند مواقفه السياسية وتناقضاته. يقوم صاحب "حفلة التيس" برصد دقيق لأقوال بورخس وصوره وميدالياته. كان بورخس عدوًا للجنرال بيرون، وفي معركة الأرجنتين ضد تشيلي حول عدة جزر، انحاز الكاتب الأرجنتيني لتشيلي متمردًا على الموقف الأرجنتيني كله ودعوة الجنرال للحرب على دولة جارة.

نتيجة موقفه من بيرون تم إصدار أمر رئاسي بنقله من وظيفته بالمكتبة الوطنية إلى العمل كمفتش في مزرعة دواجن، وهي الوظيفة التي استمر فيها حتى رحيل بيرون. حتى هنا، ثمة اتفاق بين يوسا (حين كان يساريًا) وبورخس (الأناركي): بورخس عدو الديكتاتور، وفي الوقت ذاته يكتب بورخس ضد النازية والفاشية والفرانكوية التي يؤيدها بيرون بالطبع.

غير أن مواقف بورخس مع ديكتاتوريين تاليين (أنقذوه من مزرعة الدواجن) كانت مختلفة، ورغم أنه لم يكتب لصالحهم، وتلقى ميداليات منهم في بداية حكمهم وقبل أن تتبدى ديكتاتوريتهم، إلا أن يوسا يعتبر ذلك تناقضًا ومهادنة. في هذه المسألة ثمة تحامل على الكاتب الأرجنتيني حين يقول يوسا: كان يرفض النازية والفاشية كأنه يرى أن الأوروبيين لا يستحقون أيًا منهما، فيما كانت الأرجنتين تعاني من ديكتاتوريات لا يشير إليها، كأنه يرى أن الأرجنتين تستحق. ثمة خلاصة توصل إليها يوسا لم يقلها بورخس: أن الأرجنتين غير معدة للديمقراطية.

كان بورخس أناركيًا، لا يؤمن أصلًا بوجود الدولة ولا السلطة، كما صرّح ليوسا في حواره معه، ولم يكن الحكم العسكري يعبّر عنه بالتأكيد، لكنه لا بد أدرك بحس الفنان وبصيرته أنه لا أمل، وأن الانقلابات العسكرية في بلده لن تنتهي لأنها صارت غذاءً يوميًا. لم يكن صاحب "الألف" نفسه كمناضل سياسي، ولا آمن بالفن الملتزم، بل على العكس تمامًا كان يجرد الفن من السياسة والأيديولوجية ليكون فنًا جماليًا خالصًا. هنا وجد يوسا نفسه أمام نموذجين، بحسب كلامه: نموذج سارتر ونموذج بورخس، فاختار النموذج السارتري، حيث الفن أداة للالتزام، وحيث لا فن إلا ويحمل قضية. ورغم انحيازه السافر لسارتر، ظل يوسا يقرأ ويعيد قراءة بورخس بدون أن يكف عن الاندهاش أمام أدبه.

مع ذلك، وجد يوسا في بورخس ميزة كبرى: في وسط الفوران القومي، لم يكن قوميًا، ومع علو صوت الحرب على تشيلي، كان مناهضًا لهذا العمى الشوفيني. كان واضحًا في رؤية أن أي قومية يؤول بها المطاف إلى نازية وفاشية. هذا الموقف في الحياة كان تمثيلًا لرؤية فنية أوسع: الثقافات كأنهار يغذي بعضها بعضًا.

يعرج الكتاب كذلك على مقارنة بين فانتازية بورخس وبنديتي، وهي دراسة قيّمة عن تجنب الواقع بالخيال واستخدام الخيال لترسيم الواقع. ويختم بسنوات بورخس الأخيرة وكيف استطاع الحب، بعد أن تجاوز الثمانين، أن يمنحه سعادة حرم منها طوال حياته.

في النهاية، استطاع يوسا أن يرسم صورة مقرّبة عن كاتب هو بالتأكيد أحد أهم وأبرز كتاب القرن العشرين، وأن يتناوله من عدة أوجه، وأن يسلط الضوء النقدي المنصف على حياته وأعماله، حتى ولو كان قد تحامل على مواقف سياسية لكاتب أعمى وعجوز ومهدد بالقتل وغير مؤمن بكل الأنظمة السياسية، ويرى أن صلاح الناس في الأناركية. لقد فعل يوسا ذلك وهو نفسه قد انتقل من صفوف اليسار إلى صفوف اليمين، ورشح نفسه لرئاسة البيرو، وتبنّى خطابًا رأسماليًا ليبراليًا يصب في صالح الولايات المتحدة أكثر مما يصب في مصلحة دول أميركا اللاتينية، قارته

الكتاب، الذي لم يصدر بالعربية بعد، صدر في إسبانيا، وأحدث صدًى واسعًا، إذ كاتبه يوسا (الفائز بنوبل) والمكتوب عنه بورخس (الأكبر من نوبل)، والموضوع هذه العلاقة المأزومة بين الكاتب الملهم والسلطة الديكتاتورية.