كان رحيل إلياس خوري مفاجئا وصادما، وإن جاء بعد فترة طويلة من المرض العضال، ظل فيها يقاوم المرض بالكتابة حتى الرمق الأخير. هنا يعود الكاتب السوري المرموق إلى لقاء جرى فيه تكريمه، في نوع من العزاء عن لوعة الفقد، وأن الكاتب الراحل كُرّم في حياته، وليس بعد وفاته فحسب كما اعتدنا.

في محبة إلياس خوري

نبيل سليمان

 

"للمبدع الذي يكرّمنا بروايةٍ، أو لوحة، أو قصيدة، أو... مما يكون علامةً فارقة في الإبداع، لهذا المبدع علينا حقُّ أن نكرّمه، فكيف إن كان هذا المبدع هو إلياس خوري؟!".
بهذه الكلمات بدأت مساهمتي في تكريم (بيت الرواية) لإلياس خوري ظهيرة يوم التاسع من آذار/ مارس 2019. وكنا معًا بصحبة قرابة ثلاثين من الروائيين والروائيات، ومن أهل النقد، منهم شكري المبخوت، وإبراهيم الدرغوني (تونس)، محمود إبراهيم تاوري (مالي)، سميحة خريس (الأردن)، حجاج أدول، وسلوى بكر (مصر)، حجي جابر (أريتريا)، حمور زيادة، وطارق الطيب (السودان)، مصطفى لغتيري (المغرب)، علي المقري (اليمن)، عبد الله إبراهيم (العراق)، أسماء معيكل (سورية)...
كنا في الدورة الثانية لملتقى تونس للرواية العربية، والذي نظمه (بيت الرواية) بإدارة الروائي كمال الرياحي، تحت شعار "قضايا البشرة السوداء". وقد كان إلياس خوري ضيف الشرف، وتعنونت هذه الاستضافة بـ"معنى الكتابة الروائية في زمن الألم العربي". وتحت هذا العنوان جاءت كلمة المكرَّم، فوصف ما نحن فيه بالزمن العربي الرديء الذي بلا قيم ولا أمل. وأذكر من كلمة إلياس تشخيصه لحالنا عام 2019 بأننا نعيش منذ هزيمة 1967 كارثةً تلو كارثة، وبأننا نعيش الرعب العبثي من الانهيار المثلث: انهيار خطاب السلطة الاستبدادية، وانهيار خطاب المعارضة اليسارية، وتراجع الخطاب الإسلامي.
قبل أن يلقي إلياس كلمته، قدمتُ ورقتي التي افتتحتها بالكلمات الأولى أعلاه. ولأن الورقة لم تنشر من قبل، هي ذي بقيتها:
"
أجل، لإلياس خوري علينا حق أن نكرمه، وهو من يكفيه أنه كرّمنا برواية "باب الشمس"، بل برواية "الجبل الصغير"، بل برواية "كأنها نائمة"، بل بالكثير الذي ليس برواية.
لحياتنا أضفتَ يا إلياس في رواية "مملكة الغرباء" جمهرةً من الغرباء البؤساء الذين صاروا الحكاية، كما صارت الحكاية هم.

ولحياتنا أضفتَ في رواية "مجمع الأسرار" هذه الباحثة عن الحقيقة: نورما، وفي رواية "الوجوه البيضاء" أضفت ساعي البريد، ووالد الشهيد الذي يطلي العالم بالبياض... حسنًا، يعجزني في هذا المقام أن أنادي الشخصيات الروائية ممن أثريتَ بهم حياتنا. لذلك أسرع إلى ما نفحتنا به من المعنى. فهذا اللبناني إلياس خوري الذي صيّرته رواياته وحياته فلسطينيًا، ها هو أيضًا سوري، ليس فقط لأنه كان دومًا الحنجرةَ السورية المقاومة للاستبداد، بل لأنه هو من قال: الوطن الناقص سيبقى مؤجلًا مهما علا صراخ فريق أنه انتصر.
وطننا الناقص يا صديقي سيبقى مؤجلًا. صدقت. ولكل أجل نهاية، كما وعد إبداعك فلسطين، كما وعد إبداعك المستقبلَ والإنسانية. صدقت".

في مقام التكريم نحيّي إلياس خوري/ الكثير، أي من كتب القصة القصيرة، والمسرح، والنقد، والمقالة؛ نحيّي الصحافي، والأستاذ الجامعي، والشاب الذي أعلّ جسدَه القتالُ في صفوف الفدائيين الفلسطينيين، لكن روايةَ "باب الشمس" أبرأته، كما أبرأته جمهرة من الروايات من أدواء الحرب الأهلية اللبنانية. وفي الحرب أو السياسة أو الفكر أو الكتابة أو الحياة اليومية، كان إلياس خوري دومًا السؤالَ النقدي، والمغامرةَ الإبداعية، وما فتئ يترك لمن يتلوْن أمثولة فأمثولة. تذكروا قولة إلياس خوري (أن أكتب الحاضر) وقد كتب، فلم تقع كتابته في أفخاخ الراهنية، والعابر، والشعاراتية، والثأرية، مما وقع فيه الكثير من الروايات السورية في سنوات زلزال 2011، والكثير سواها. تذكروا قولة إلياس خوري: "لم يكن لدي مثال. كتبت كرجل أعمى"، وهو من تمثل ولا يفتأ يتمثل ما تقدم من الفكر والإبداع. لكنه سعى ويريدنا أن نسعى إلى الكتابة على غير مثال، إلى المغامرة والتجريب، إلى أن تكون الكتابةُ أناها، لا ظلًا لأنا غيرها. وأختم بأن خير ما نكرّم به المبدع أو المبدعة، خير ما نكرّم به إلياس خوري هو أن نقرأ كتابته، وكما دعا دومًا، بالعين الناقدة".

مثل طفل من فرح وارتباك بدا إلياس مكرَّمًا. وكان لنا أن نكون معًا وحدنا فجر يوم عودتنا إلى بيروت: أقل من ثلاث ساعات في المطار، وأكثر منها في الطائرة، وها هي الأطياف من أطول لقاء جمعنا، تبرق الآن: أشطارٌ من أحاديث وذكريات وتهويمات، ابتداءً بروايته "نجمة البحر"، التي كنت قد قرأتها قبيل الملتقى، وحفظت منها ما تهجدت به عندما دوّى خبر رحيل إلياس: "حيفا شرفة الله المطلة على الحمامة التي تسبح في الماء". من المطار إلى الطائرة امتلأ مجلسنا بـ"غاندي الصغير"، و"يالو"، وآدم دانون، ومنال، وسينا لكول. حتى إذا ناديت إلى مجلسنا منصور من رواية "عن علاقات الدائرة"، وخليل جابر من رواية "الوجوه البيضاء"، ويونس الأسدي من رواية "باب الشمس" و... تندى صوته وأجفانه وهو يتمتم بما لم أتبينه، ثم أغمض، فأغمضت، وأبرقت الأطياف، وإذا بنا معًا في تونس أيضًا، ولكن في مدينة قابس هذه المرة، وأنا أتحدث عن استراتيجية التشذير، وأعدد روايةً لغادة السمان "كوابيس بيروت"، وروايةً لمؤنس الرزاز "الشظايا والفسيفساء"، وروايات لإلياس خوري، فأراه يدفعني أمامه إلى غرفته بعدما انفضّ سامر الجلسة المسائية من مؤتمر، وسامر العشاء. وفي الغرفة التي تتنصت على صخب الأمواج يبدأ الياس: استراتيجية التشذير في بناء رواياتي إذن، وفي لغاتها. هات ما عندك بالتفصيل المملّ. وأبرقت الأطياف ملء السماء هذه المرة، وإذا بنا وجهًا لوجه لأول مرة في جريدة "السفير"، حيث تولى لسنوات إدارة القسم الثقافي، بل ها نحن في بيت مهدي عامل، وإلياس يناكف محمد دكروب، وحسين مروة يتبسّم، بل نحن في وداع سعد الله ونوس إلى مقامه الأخير في حصين البحر، بل نحن في عبور لي من بعد عبور في بيروت، وفي شرفةٍ تتنصت على همس الأمواج، يسحج صوت إلياس ذبيحًا: تبددت انتفاضة لبنان. قلت سبقناكم في سورية. ردد: بدد بدد، ولم نلتق من بعد إلا في مهاتفات متباعدة.

في كل ما كتب، كما في سيرته، تكرم إلياس خوري علينا بفكره وموقفه النقديين، بفلسطينيته، وبسوريته أيضًا. وبالنسبة لي شخصيًا كان قد كرمني فيما كتب تحت عنوان "قتل المثقفين"، في ملحق جريدة النهار (10/ 2/ 2001)، عقب الاعتداء عليّ ليل 1/ 2/ 2001، على يد مجهولَيْن جدًا/ معلومَيْن جدًا، وكان إلياس رئيس تحرير الملحق لسنوات، فتحه خلالها للكتاب السوريين الذين لم يفلح معهم القمع ولا التدجين. في مقالة "قتل المثقفين"، يتبدى بجلاء وقوة كم هي معرفة إلياس خوري بأحوال سورية كبيرة ووثيقة ودقيقة، وبخاصة أحوال الثقافة والسياسة في منعطف 2000 ــ 2001، مما عُرف بربيع دمشق. ومما كتب إلياس:
"
هل اعتُدي على نبيل سليمان، لأنه أنشأ منتدى ثقافيًا في اللاذقية، في لحظة امتلأت سورية بالمنتديات، وبتحركات المثقفين والمحامين من أجل الحريات الديمقراطية؟

أم اعتُدي عليه لأنه كتب رواية "سمر الليالي"، حيث روى حكاية مدرّسة التاريخ ريّا حسان العيد بعد اعتقالها والتحقيق الوحشي الذي جرى معها، وقاده مدير المركز الأمني في سجن النساء المقدم زاهر حمدو؟ أم اعتُدي عليه لأنه وقع بيان الـ 99، وكان مقتنعًا بأن التغيير سوف يحصل، لذلك افتتح في منزله منتدى ثقافيًا؟ أم لأنه استخدم في رواياته تعابير تخدش حياء من لم يخدش القمع والقتل حياءهم دهورًا، فثاروا اليوم دعاة تمسك بأهداب الأخلاق الحميدة؟

أسئلة يجب أن نجد لها جوابًا، لكن المسألة تتعدى في رأيي شخص نبيل سليمان، لأنها صارت جزءًا من شبكة قمعية، جعلت من المثقفين المتنورين هدفها المركزي، من حادثة نصر حامد أبو زيد في مصر، إلى منع جبران خليل جبران إلى أبي نواس، إلى المحاولة اللبنانية لإخراس مارسيل خليفة، إلى "نشيد الأناشيد" إلى آخره". وقد كتب إلياس أيضًا يصف الحياة الثقافية السورية خلال ثلاثين سنة 1970 ــ 2000:

فالثقافة السورية انقسمت أربعة أقسام:
1
ــ السجن، الذي دخله عشرات المثقفين السوريين، بسبب مقاومتهم السياسية والأخلاقية، من فرج بيرقدار، إلى رياض الترك.
2
ــ المنفى، الذي ذهب إليه المئات، بحثًا عن حرية تعبير ضاقت بها الهوامش: برهان غليون، زكريا تامر، يوسف عبدلكي، صبحي حديدي، فاروق مردم...
3
ــ المعارضة الداخلية، التي تمحورت حول سعد الله ونوس و/ أو ميشال كيلو، واتخذت نبرة خاصة في أعمال سينمائية لافتة: محمد ملص، أسامة محمد، عمر أميرالاي، أو في نتاج شعري وأدبي متميز: نزيه أبو عفش، وحيدر حيدر، ونبيل سليمان، وممدوح عدوان.
4
ــ ثقافة السلطة، التي وجدت تعبيراتها الأساسية في وسائل الإعلام واتحاد الكتاب.
الثقافة السورية في الداخل، تعيد تشكيل نفسها داخل حركة تهدف إلى التغيير الديمقراطي، وتحركات المثقفين التي تمتد من أنطون مقدسي، إلى صادق العظم، تنبئ عن احتمالات فعلية للتغيير.

هنا جاء الاعتداء على نبيل سليمان ليكشف احتمالات متعددة:
1
ــ احتمال اللجوء إلى اللعبة المصرية، عبر وضع الثقافة في مواجهة التيارات الأصولية.
2
ــ احتمال الانتقام من رواية "سمر الليالي"، لأنها فضحت ما يجب أن يبقى مستورًا.
3
ــ احتمال أن يكون الاعتداء رسالة ترسم الحدود التي على الثقافة عدم تجاوزها.
الاحتمالات الثلاثة قد تتداخل وتصير احتمالًا واحدًا. والرد عليها لا يكون بالسكوت، أو انتظار نتائج التحقيق. الرد يكون وعيًا لدور الثقافة والمثقفين في النضال من أجل التغيير وبناء الديمقراطية".
ومن أسف أن من بين المثقفين السوريين الذين ذكرهم إلياس خوري كمعارضين من كتب عنه بحقد بعد رحيله، فرماه بما ليس فيه. وهنا تتجدد الأسئلة التي أطلقها إلياس في مقالة "قتل المثقفين":

متى يتوقف المثقفون عن لعب دور الحاجب بين السلطة والناس؟ متى تعود الثقافة إلى دورها بوصفها أداة تغيير، وسلاحًا للتغيير، وصوتًا للفقراء والمهمشين والمقموعين؟ متى ينفك هذا الصرح الكاذب، الذي جعل من الثقافة ستارًا للسلطة، أو من السلطة حاميًا للثقافة؟". وختم إلياس ما كتب بثلاثة أبيات نُقشتْ على شاهدة قبر بدوي الجبل، أظنه ما اختارها إلا لأنها أيضًا مما ينبض به. وها هي الأبيات الثلاثة تصير لإلياس بعد رحيله:
"
أطلُ على الدنيا عزيزًا أضمّني
إليه ظلام السجن أم ضمّني القبرُ
وما حاجتي للنور والنور كامن
بنفسي لا ظلٌّ عليه ولا سترُ
وما حاجتي للكائنات بأسرها
وفي نفسي الدنيا وفي نفسي الدهر".

 

عن (ضفة ثالثة)