في الكلمة التي ألقاها المخرج البريطاني جونثان غليزر بعد فوزه بالأوسكار وقد وقف بجانبه المنتج جيمس ولسون وكلاهما يهودي، قال: «كل خياراتنا هي لعكس الحاضر ومواجهته، لا لكي نقول: «انظروا لما فعلوه آنذاك»، بل «انظروا لما نفعله الآن»! لأن فيلم «منطقة الاهتمام» فيلم عن التعامي، والتآلف المريح مع الإبادة الدائرة الآن في غزّة.

التآلف مع الإبادة: من أوشفتز إلى غزّة

سنان أنطون

 

كيف يمكن أن تعيش عائلة ما حياة طبيعية، وتواصل ممارسة طقوسها وإيقاعاتها اليوميّة، فتأكل وتشرب وتنام، ويلهو أطفالها في الحديقة، ويستقبل كبارها الأقارب والضيوف ويقيمون احتفالاتهم، في بيت هو قاب قوسين أو أدنى من معسكر اعتقال لا يفصله عنه سوى جدار؟ معسكر يمارس القائمون عليه، والعاملون فيه، شتّى أنواع التعذيب والإذلال الوحشي ضد مئات الآلاف، الذين يساقون إلى أفران تحولهم إلى كتل من رماد.

يأخذنا فيلم المخرج البريطاني جوناثان غليزر «منطقة الاهتمام» (2023) المأخوذ بتصرف عن رواية لمارتن آمس (1949-2023) بالعنوان ذاته كانت قد صدرت عام 2014، إلى بيت هذه العائلة السعيدة. شخصية الأب تحيل إلى رودولف هوس (1901-1947) الضابط النازي الذي أشرف على تأسيس معسكر أوشفتز في غرب بولندا، أثناء الاحتلال النازي ووسّعه ليصبح مجمعاً ضخماً. شغل هوس منصب الآمر فيه من 1940 إلى 1943 (ومن 1944 إلى 1945). وساهم في الفترة الأولى في «تطوير» أساليب الإبادة النازية، باستخدام المبيدات، وإنشاء محارق تقتل أعداداً أكبر في وقت أقل، حتى أنه كوفئ ورقيّ إلى منصب مهم في العاصمة، قبل أن يعود في الفترة الثانية ليشرف على قتل 700 ألف يهودي هنغاري. حين سُئِل هوس أثناء التحقيق معه بعد سقوط النظام النازي عن تهمة قتل ثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان، كان رده: كلا، إنهم مليونان ونصف المليون. البقية ماتوا بسبب الجوع والأمراض.

على خلاف معظم الأفلام التي تعاملت مع المحرقة النازية، لا نرى في هذا الفيلم مشاهد العنف الوحشي والقتل الذي يمارس بشكل منظم خلف جدران المعتقل، الذي يجاور بيت العائلة. ولا يشي أول مشهد في الفيلم البتة بما سيصل مسامعنا. فهو يُظْهِر هوس وزوجته وأطفالهما وهم يستمتعون على ضفة نهر في يوم مشمس. لكننا، مثل أفراد العائلة، سنسمع، بعد أن تعود العائلة إلى البيت، صراخ الحراس والجنود، وأصوات إطلاق النار، وصراخ المعتقلين الذي يعبر الجدار. لكن كل هذا لا يغيّر ولا يؤثر البتّة على إيقاع الحياة اليومية وتفاصيلها، بالإضافة إلى أصوات وصدى التعذيب والقتل والرصاص. هناك إشارات، بين حين وآخر، لما يحدث في الجوار. على سبيل المثال: أكياس الملابس التي تصل إلى بيت الآمر «وهي ملابس المعتقلين الذين كانوا يجرّدون منها قبل دخولهم، لما كانوا يظنونها حمامات للاغتسال، لكنها كانت حجرات الغاز المميت». وتوزّع الزوجة ما لا يبدو ثميناً على الخادمات اللواتي يعملن في بيتها، وتحتفظ لنفسها بمعطف من الفرو الثمين وتجد في جيبه قلم حمرة لإنسانة أضحت رمادا، وتجرّبه على شفتيها. ونشاهد هوس وهو يستقبل مسؤولي شركة يعرضون عليه خرائط وتصاميم للأفران الجديدة التي ستسرع من وتيرة القتل. تنال التصاميم إعجابه فيدعو لتبنيها. وفي مشهد آخر يتعكر مزاجه وهو يصيد في النهر القريب من البيت، حين يجد قطعة من أشلاء أحد المعتقلين. فينادي أولاده بسرعة ويعودون إلى البيت. ويوبّخ الذين تحت أمرته في اتصال هاتفي على هذه الهفوة، ولكن بلغة مشفّرة! وهناك مشهد الرماد – الناتج من حرق الجثث – الذي يستخدم لتسميد حديقة البيت، التي تزهو بأنواع الورود والخضروات وخلية للنحل، وفيها مسبح صغير أيضاً. هناك نفق يربط بين سرداب البيت ومكتب هوس داخل المعتقل، يستخدمه ليلاً لممارسة الجنس مع معتقلة.

تتخلل الفيلم مشاهد لافتة غامضة لفتاة تركب دراجتها ليلاً وتجمع التفاح وتضعه لكي يأكله المعتقلون، وهي أيضاً شخصية حقيقية لفتاة بولندية اسمها ألكساندرا كانت تسكن في بيت قريب من المعتقل، وكانت في الثانية عشرة من عمرها وعملت مع المقاومة البولندية. كان المخرج قد التقى بها أثناء تصوير الفيلم لكنها ماتت. وارتدت الممثلة التي لعبت دورها الفستان ذاته الذي كانت ترتديه آنذاك واستخدمت دراجتها أيضاً. حين يرقّى هوس ويصل أمر بنقله إلى برلين، تصرّ زوجته على البقاء. فهي لم تكن مستعدة للتخلي عن رفاهيتها وجنتها الصغيرة المجاورة لجحيم لا يزعجها. الشخص الوحيد الذي لا يستحمل البقاء في البيت هو والدتها. وكانت قد زارتها وهنأتها على حياتها وذكرت بشكل عابر كيف أنها حاولت الحصول على ستائر جارتها اليهودية، التي قد تكون الآن على الجانب الآخر من الجدار. تترك الوالدة البيت ذات صباح بشكل مفاجئ وتترك رسالة لا نعرف فحواها.

في الكلمة التي ألقاها غليزر بعد فوزه بالأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وقد وقف بجانبه المنتج جيمس ولسون، وكلاهما يهودي، قال: «كل خياراتنا هي لعكس الحاضر ومواجهته، لا لكي نقول: «انظروا لما فعلوه آنذاك»، بل «انظروا لما نفعله الآن».! يظهر فيلمنا ما يؤدي إليه نزع الإنسانية في أسوأ أشكاله. لقد شكل ماضينا كله وحاضرنا. نقف هنا الآن رجلين ينفيان يهوديتهما والمحرقة التي اختطفها احتلال قاد إلى صراع، ضحيته الكثير من الأبرياء، سواء كانوا ضحايا السابع من أكتوبر في إسرائيل، أو الهجوم المستمر على غزة. كيف نقاوم؟» ثم أهدى الأوسكار لذكرى ألكساندريا بيسترون – كولوجيجك التي قال عنها إنها «تتوهج في الفيلم كما توهجت في الحياة واختارت المقاومة».

نال هذا الخطاب استحسان الكثيرين، وصفق له بعض ممن كانوا في القاعة من الممثلين، الذين ارتدوا شارات حمراء تدعو لوقف إطلاق النار، لكن الكثيرين هاجموا غليزر وما زالوا يقرعونه في تغريدات ومقالات، لأنه تجرّأ ونفى يهوديته، وانتقد الاستغلال السياسي البشع لذكرى المحرقة. ولم يشفع له ذكر ضحايا السابع من أكتوبر في كلمته!

لا يمكن لمن يشاهد الفيلم إلا أن يتأمل اللحظة الراهنة، والإبادة المستمرّة في غزة، وأن يفكّر بردود أفعال أعداد كبيرة من البشر إزاء ما حدث ويحدث. فهناك عائلة «سعيدة» في هذا العالم، تشبه العائلة التي يتمحور حولها الفيلم. قوامها الملايين من البشر. بشر لا تربطهم ببعضهم بعضا صلة دم. لكن تجمعهم صلة التعامي، والقابلية على التآلف المريح مع الإبادة. لا جدران تفصلهم عن غزّة. فكل ما حدث ويحدث فيها موثّق بالصوت والصورة. والمشاهد المؤلمة والأرقام والتقارير الصحافية والنداءات تملأ الشاشات ووسائل التواصل وتتراكم كل ساعة. ومع ذلك فقد تآلفوا مع الإبادة.

 

كاتب عراقي

 

عن (القدس العربي)