هناك مجموعة من الأفكار المترابطة لأبالسة التطبيع، ترد أحياناً في وسائل الإعلام لتتكلّم عن القضيّة الفلسطينيّة بمنطق ينبغي تفكيكه.
»يحقّ للفلسطينيّين بدولة خاصّة بهم كأيّ شعب آخر»
فلنأخذ مثلاً الجملة البريئة القائلة بأنّه «يحقّ للفلسطينيّين بدولة خاصّة بهم كأيّ شعب آخر في المنطقة». هكذا كلام بريء في الظاهر، ولكنّه مخالف للعدالة لأنّه يريد أن يُظهر بشكل مخادع أنّه «محايد»، بينما هو يتبنّى وجهة نظر المستعمِر كاملةً، فهو يتبنّى وجهة النظر القائلة بأنّه يحقّ لمجموعات من الناس الآتين من مشارق الأرض ومغاربها أن يتكتّلوا ليطردوا شعباً سكن تلك الأرض لآلاف السنين، ويحتلّوا أرضه بقوّة السلاح ويضطهدوه فيها، ويؤسّسوا عليها دولة، فقط لأنّه يحقّ له أن يتكتّل ويصنع دولة تحت شعار تقرير المصير. هل يحقّ لكلّ كتلة جماهيريّة في كلّ بلد في العالم أن تتكتّل وتقرّر مصيرها بأن تصنع دولة باقتطاع جزء من الأراضي لمصلحتها وأن تطرد بقيّة السكّان منها؟ كلّ عاقل يجيب بأنّ ذلك مرفوض لأنّه سيؤدي إلى حمّام دم. والمرفوض أكثر هو أن يسمح أيّ بلد في العالم يستقبل مهاجرين - ومنها الأوروبيّة والشمال أميركيّة - أن يتكتّل مهاجرون من أيّ خلفيّة ويطردوا مجموعة من السكان عن أرض ويصنعوا دولتهم الخاصّة. هل يسمح الأوروبيون بأن يتكتّل المسلمون ويصنعوا بلداً لهم في فرنسا، أو بريطانيا، أو ألمانيا، أو أيّ بلد آخر من مجموعة داعمي الإبادة الإسرائيليّة، أو حتّى في أيّ قطعة أرض أوروبيّة سكنها شعب لمئات السنين قبل نشوء دول معاصرة؟ قطعاً لا.
الهجرة من أجل التكتّل واحتلال الأرض والطرد لتأسيس دولة ليس «حقّاً» طبيعيّاً تريد الجملة أعلاه أن تساويه مثله بالحقّ الفلسطينيّ، بحقّ أولئك الذين عاشوا لدهور على تلك الأرض واستقبلوا المهاجرين الأوروبيّين إليها، إلى أن انتبهوا إلى أنّهم يخطّطون للاحتلال. إنّ حقّ الفلسطينيّين لا يقتصر على حقّ إنشاء الدولة، بل يشتمل على حقّهم بالحرّية والعودة إلى أراضيهم على كامل فلسطين، وهذا الحقّ يمسخه ويصغّره الكلام عن حقّهم كأيّ شعب آخر، والمقصود عادة الشعب الصهيونيّ. الجملة أعلاه تحاول اختزال الحقّ الفلسطينيّ وتصويره مجرّد حقّ بإنشاء دولة، حقّ مساوٍ لحقّ مُستعمِر مُحتلّ بإقامة دولة احتلال. أصحاب الأرض لديهم حقّ، المحتلّ ليس لديه أيّ حقّ.
«القضيّة الفلسطينيّة العادلة لا تمنع وجود قضايا عربيّة أُخرى عادلة»
هناك منطق يقول بأنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة عادلة، ولكنّ عدالتها لا تمنع وجود قضايا عادلة أُخرى في المنطقة يحقّ لأصحابها التصرّف وفق مقتضيات مصالحهم؛ ولهذا يمكن للإمارات والسعودية وغيرهما من الدول أن تطبّع مع الكيان الصهيونيّ وفق مصالحها. إنّ التلوّث الأخلاقيّ والفكريّ والسياسيّ الذي يحمله هذا التفكير متعدّد الأوجه. فهذا الكلام يخلط بين موضوع المصالح وموضوع الحقوق. وفكرة الخلط بين الحقوق والمصالح هي باب هلاميّ يمزج بين عالمَين: عالم القضيّة العادلة وعالم المصالح، ولا يميّز في عالم المصالح بين مصلحة الحاكم ومصلحة الشعب.
هذا المزج بين ما لا يُمزَج، يفتح من خلاله المطبّعون الباب على إقناع الناس بأنّ التطبيع قرار عاديّ لا تنبغي مواجهته، لأنّه ناتج من حقّ بلد عربيّ في الدفاع عن مصالحه بالتطبيع. إنّ المساواة بين القضيّة الفلسطينيّة، والتي هي قضيّة شعب طُرد من أرضه ومحتلّة بيوته، ويخضع للقتل والتنكيل اليوميّين، وبين «قضايا» أخرى فحواها سياسيّ مرتبط بمصالح حكّام محدّدين لا يستقيم. فقضيّة الشعب الفلسطينيّ بما يقع عليه من إجرام يوميّ، لا تساوي مصلحة حكّام السعوديّة والإمارات بالتحالف مع الاحتلال الصهيونيّ، ولا حاكم المغرب بضمّ الصحراء الغربيّة، أو مصالح حكّام الخليج بالصراع مع إيران، أو رغبة سماسرة الاستعمار في لبنان بإحكام قبضتهم على البلاد.
ثمّ أنّه كلام يريد أن يقول إنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة الفلسطينيّين وقضيّتهم فقط. هذا التقزيم للقضيّة الفلسطينيّة هو ترجمة لإيديولوجيّة تريد تغريب سكّان دول المنطقة بشكل نهائيّ عن معاناتهم التي يعيشونها بسبب الاستعمار والمرتبطة بمعاناتهم من أنظمة القمع الداخليّة؛ وتريد تغريبهم عن معاناة بعضهم البعض وهي معاناة من استعمار واحد، وتغريبهم عن كون كلّ هذه البلاد من مشرقها إلى مغربها، لهم. هذا التلويث الأخلاقيّ محاولة لدفن ذاكرتهم الجماعيّة التي تقول إنّ الحدود بين الدول، بين لبنان وفلسطين مثلاً، لم تكن موجودة لوقت قريب تاريخيّاً. إنّها إيديولوجيّة الاستعمار وعملائهم الداخليّين الذي يناسبه أن تتقطّع أوصال شعوب العالم العربيّ داخل دولة منفصلة عن واقعها، عمّا يحيط بها، ليحكمهم سماسرة الخارج فلا يكون لهم سوى القبول بواقع وهميّ متوجّه نحو الداخل فقط، وهذا منسجم مع استمرار الاحتلال الصهيونيّ؛ لأنّ تلك الإيديولوجيّة تقول إنّه شأن خارجيّ لـ«آخرين». بينما الحقيقة أنّه شأن استعماريّ يضغط على حياة كلّ شعوب المنطقة في كلّ دولة، عدا عن كونه شأن حقّ، وبالتالي ومن وجهة نظر أخلاقيّة ينبغي أن يساهم في رفعه كلّ إنسان شريف أينما كان.
أخيراً، فإنّ هذا المزج بين القضايا العادلة ومساعٍ ومصالح سياسيّة لدول أو جماعات داخل الدول، يريد أيضاً أن يمحو أمرين: الأوّل، هو نتائج الإحصاءات التي تبيّن أنّ مصالح الحكّام هي على عكس رغبة الشعوب في الدولة العربيّة الرافضة للتطبيع بشكل جارف كما تبيّن الإحصاءات. والثاني، هو أنّ الفلسطينيّين أنفسهم كشعب، وضمنهم ممثّلو الجمعيّات الأهليّة والنقابات وممثّلو جميع الكنائس، طالبوا ويطالبون شعوب العالم أجمع، وشعوب دول المنطقة الأصليّين، لا بأن يرفضوا التطبيع فقط، ولكن بأن يقاطعوا إسرائيل، وبأن يسعوا إلى دحر الاحتلال بكلّ الوسائل الممكنة.
«التطبيع ليس خيانة للفلسطينيّين، هو مساعدة لهم»!
المنطق في غاياته الأخيرة يريد أن يقول إنّ التطبيع ليس خيانة، وإنّ علينا ألّا نرى أنّ الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل لا تتاجر بمأساة الشعب الفلسطينيّ مثل غيرها. هذا الكلام المنطقيّ على السطح خاطئ لسببين: أوّلاً، لأنّ الذين يطبّعون مع إسرائيل هم بالفعل خونة، ليس فقط لأنّ هذا رأيي، أو موقف البعض الأخلاقيّ، لكن لأنّهم واقعيّاً يخونون نداء الشعب الفلسطينيّ للجميع لكي يقاطعوا الاحتلال ويدحروه (راجعوا مواقف النقابات والجمعيّات والكنائس إن لم تريدوا مراجعة أدبيّات المقاومة). التطبيع خيانة، ليس في الأمر رأي، هذا هو التوصيف الواقعيّ لفعل التطبيع من وجهة نظر الشعب الفلسطينيّ الذي يطالب على الأقلّ بمقاطعة الاحتلال. التطبيع خيانة من وجهة نظر الشعب الذي يعيش المأساة بلحمه ودمه. إن كان من دول لم تطبّع مع إسرائيل وتاجرت بمأساة الفلسطينيّين فلا يعني أنّ الدول التي تطبّع معها لا تتاجر بدماء الفلسطينيّين، فهي أيضاً تستبيح دماء الشعب الفلسطينيّ مقابل السلطة والمال. إنّ حكّام الخليج المطبّعين والذين يسعون إليه، أولئك الذين يقدّمون الولاء للاستعمار صاغرين، قالوا جهاراً إنّهم يطبّعون مع إسرائيل لمساعدة الشعب الفلسطينيّ (أيّة مساعدة نراها اليوم!) هل من متاجرة أكثر نفاقاً من ذلك؟
كاتب وأستاذ جامعي
عن (الأخبار اللبنانية)