مفكرون ينقدون قلة الجسور الثقافية بين الشرق والغرب.
باريس - يشكل الحوار بين الشرق والغرب، عاملا مهما في التقريب بين الثقافات وتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب المختلفة، ويعكس أبعادا تاريخية وثقافية وفكرية تمتد لقرون، ويستمر في تشكيل العلاقات بين الثقافات المختلفة، بينما يهدف إلى جسر الهوة بين الأطراف المتحاورة من أجل تحقيق تعايش سلمي وفهم أعمق لبعضهم البعض.
وفي هذا السياق، يؤكد مفكرون وباحثون عرب وفرنسيون أن الحوار الفكري بين العرب والغرب لم ينقطع عبر العصور، حيث مر بمراحل متعددة، لكنه شهد تراجعا في الآونة الأخيرة نتيجة لعوامل مختلفة. ويوضحون أن مكانة الفكر العربي والإضافات التي قدمها على مر التاريخ للحضارة الإنسانية واضحة وجلية لكل الفاعلين والمثقفين في العالم، وأن هذا الفكر يتميز بالثراء والتنوع والعمق رغم أنه غير مكتشف كليا في أوروبا والعالم.
الاختلاف والالتقاء
يقول فادي بردويل، عالم الأنثروبولوجيا وأستاذ دراسات آسيا والشرق الأوسط في جامعة ديوك بأميركا، إن الحوار بين الفكرين العربي والغربي متأصل منذ القدم وخاصة منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر، حيث كان هناك حوار مباشر سواء مكتوبا أو شفهيا بين هذين الفكرين، لافتا إلى أن الترجمة تعد عاملا حيويا في إثراء هذا الحوار، حيث تسهم في نقل الأفكار بين الثقافتين.
بدوره، يشير جلبير الأشقر، الكاتب وأستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية (سواس) في جامعة لندن، إلى أن هناك مساحات ثقافية عربية تختلف في علاقتها بالغرب بحسب اختلاف الاستعمار الذي كان يهيمن عليها، مبينا أن العلاقات الفكرية تعكس بنية الهيمنة العالمية وما يصطلح على تسميته بـ”الإمبريالية الثقافية”، التي تمثل الانعكاس الثقافي للهيمنة الغربية، وهذا ما يحد من إمكانية بناء حوار حقيقي بين الطرفين.
في حين يؤكد جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي بباريس، أن الفكر العربي يتمتع بتنوع وإسهامات تاريخية هامة، بالرغم من أن حضوره لا يزال محدودا في الساحة العالمية. ويشير إلى أن الحوار بين الفكر العربي والغربي متواصل منذ عصور وليس وليد اللحظة، منوها في الوقت نفسه، بأن الفكر العربي يعد عنصرا أساسيا في تكوين الفكر الغربي المعاصر.
من جهته، يقول حسن رشيق، المفكر وعالم الأنثروبولوجيا والأستاذ بجامعة محمد السادس بالرباط والأستاذ الزائر في الجامعات الأميركية والأوروبية والعربية، إن الحوار بين الفكرين العربي والغربي يتم من خلال أنساق فكرية متنوعة، حيث يعكس كل نسق ثقافته وخصوصياته.
ويضيف أن الحوار بين الجانبين يتنوع داخل مجالات معينة، مثل الفلسفة والأنثروبولوجيا، مشيرا إلى أن كتابه “القريب والبعيد: قرن من الأنثروبولوجيا في المغرب” تناول مفاهيم الأنثربولوجيا الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، مما يعد نوعا من النقاش والحوار مع الفكر الغربي.
ويشير إلى أنه كأنثربولوجي، من الممكن أن يلتقي بأفكار مفكر غربي في مرحلة ما أكثر مما يلتقي بمفكر عربي، والعكس صحيح أيضا. ويرى أن الاختلاف والالتقاء بين الفكرين يتغير حسب السياق والقيم التي يتم الدفاع عنها، موضحا أن الأهم بالنسبة للفكر العربي هو أن يكون نقديا ومتعدد الأوجه ويمنح قيمة للفرد.
تراجع الحوار
أما خالد زيادة الباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت، فيؤكد على أن الفكر العربي في القرن التاسع عشر شهد انفتاحا واسعا على الفكر الغربي والليبرالية الغربية، كما تأثر في القرن العشرين بالتيارات القومية التي برزت في أوروبا. ومع ذلك، يلفت إلى أن التأثير الفكري الأوروبي قد تراجع بشكل ملحوظ في الوقت الحاضر نتيجة لعدة عوامل.
ويضيف أن الفكر العربي اليوم بحاجة إلى أن يطرح أسئلته الخاصة، ويجد إجابات تناسب خصوصيته، بدلا من الوقوع في استيراد الأجوبة الغربية الجاهزة. فلكل تجربة خصوصياتها وأبعادها الفريدة التي تعكس واقعها الثقافي والاجتماعي.
من جانبه، يقول حبيب عبدالرب سروري، الكاتب والمفكر اليمني، إن تحدي معرفة الآخر يعزز التفكير والحوار وتلاقح الأفكار، مما يمكن الإنسان العربي من التعرف على نفسه أكثر فكريا وثقافيا. ويوضح أن المجتمعات العربية تعاني من عزلة معرفية وفكرية، حيث لا يزال المفكر والمثقف العربي يدور حول ذاته دون السعي العميق لفهم الفكر الغربي بمعناه الحقيقي.
ويشير إلى أنه انطلاقا من إيمانه بأهمية الحوار العميق بين الفكرين العربي والغربي، قام بتأسيس جمعية ثقافية فكرية أطلق عليها “جمعية أصدقاء المعري” بهدف التعريف بالمفكرين العرب العظماء وعلى رأسهم (أبو العلاء المعري)، الذي يعد مرجعا ثقافيا وفكريا ليس فقط في الحضارة العربية بل في الحضارة الإنسانية بشكل عام.
بدورها، تقول الدكتورة إصلاح جاد رئيسة معهد الدراسات النسوية ومستشارة في قضايا المرأة والنوع الاجتماعي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إن الفكر الغربي الذي كان يتعالى على العرب أظهر إفلاسه وازدواجية خطابه، وهو ما أصبح جليا في كيفية تعاطي المفكرين والمثقفين الغربيين مع قضايا مثل الحالة الأوكرانية والفلسطينية وحرب الإبادة في غزة.
وتضيف جاد أن الحوار بين الفكر العربي والغربي لا يزال مستمرا، ولكنه يتخذ شكلا مختلفا من خلال ظهور حلقات ونخب جديدة تضامنت في الشارع مع القضية الفلسطينية ومع نضالات العرب ضد الاستعمار والاحتلال والاستبداد، فضلا عن قضايا إنسانية عادلة أخرى.
من جهته، يشير شوقي عبدالأمير، الشاعر ومدير عام معهد العالم العربي بباريس، إلى غياب حقيقي للحوار بين الفكر العربي والغربي، موضحا أن الفكر الغربي هو المسيطر والمهيمن على التفكير العربي الوقت الحالي، ويوضح أن عندما يبحث العرب عن مرجعية فلسفية لقضية معاصرة، يتم التوجه بشكل مباشر إلى هيجل أو ماركس أو نيتشه أو هايدجر، في حين لا يتم النظر إلى الفلاسفة العرب، مشيرا إلى التناقض الكبير، حيث علم العرب أوروبا والفكر الغربي الفلسفة اليونانية.
ويضيف عبدالأمير أن سبب عدم تطور الفكر العربي في الوقت الراهن يعود إلى إهمال تدريس الفلسفة بين الأجيال الشابة وتعطيلها، ما يحد من قدرة العرب على محاورة الفكر الغربي الحديث ومقارعته بشكل فعال.
بدوره، يقول الدكتور سلام الكواكبي مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بباريس، إن التحدي الكبير الذي يواجه الفكر العربي اليوم هو التخلص من الاستشراق بمعناه السلبي، المرتبط بالماضي الاستعماري والذي يحمل نظرة استعلائية على الفكر العربي. ويؤكد الكواكبي أن التحدي الأكبر للفكر العربي المعاصر يتمثل في كسر هذا الحاجز والتجاهل الغربي له. مشيرا إلى أن الحوار المباشر بين الفكر العربي والغربي يعزز من تبادل الأفكار وتلاقحها، ما يسهم في تطور الفكر الإنساني وتعميق الفهم المشترك.
جدير بالذكر، أن من شأن تفعيل الحوار العربي – الغربي، والغربي – العربي، وإحيائه مجددا، أن يعيدا الحيوية لهذا النقاش المهم من خلال المؤسسات المختصة، وكتابات المفكرين البارزين، والبرامج الحوارية الإعلامية. ويستدعي هذا تحقيق إرادة صادقة وجهود مشتركة من أجل تعزيز التعايش والتفاهم بين الثقافات المختلفة.