عمان - ودع الأردن الفنان الأردني ذا الأصول الفلسطينية ياسر الدويك، أحد رواد الفن التشكيلي في المملكة والمنطقة العربية، الذي توفي الشهر الماضي عن عمر ناهز الخمسة والثمانين عاما، بعد مسيرة أثرى خلالها المشهد الإبداعي في الأردن وفلسطين، وأسهم في ظهور موجة جديدة من الفن الحداثي في العالم العربي.
وُلد ياسر الدويك في مدينة الخليل في فلسطين يوم 15 نوفمبر 1940، وانتقل صغيرا للعيش في مدينة القدس، وأنهى التعليم الثانوي فيها عام 1958، ثم تعلّم في قرية العروب قرب الخليل وتخرج فيها عام 1961. عمل معلّمًا في مدينة بيت لحم عام 1962 لينتقل بعد ذلك للعيش في مدينة العاصمة الأردنية، حيث عمل في قسم الوسائل التعليمية في وزارة التربية والتعليم في عمّان.
ثم سافر إلى بغداد ليكمل دراسته، وتحصل على شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1968، وعاد إلى الأردن ليعمل مدرسا في كلية حوارة في إربد من 1968 إلى 1971، وبعد ذلك سافر إلى بريطانيا حيث درس فن الغرافيك وأنهى شهادة الدبلوم في الرسم والتصميم من جامعة برايتون عام 1973، ثم عاد إلى عمّان ليعمل فيها موجّهًا تربويًا في وزارة التربية والتعليم حتى عام 1985. انتقل بعد ذلك إلى دولة الإمارات أين عمل موجهًا تربويًا فيها لعام 2002. ثم عمل أستاذا للغرافيك في كلية الفنون والتصميم بالجامعة الأردنية.
والراحل أحد المساهمين في نشر وتأسيس الفن التشكيلي وفن الغرافيك في الأردن، كما أنّه أحد المؤسسين لرابطة التشكيليين الأردنيين. حصل على جائزة الدَّولة التقديريّة في الفنّ التشكيلي في الأردن عام 1978، وتنوّعت خبرته في الرسم والتصوير، والحفر والطباعة، والخزف، وأعمال المينا. أقام أكثر من 15 معرضًا فرديًّا وشارك في الكثير من المعارض الدوليّة. كما ساعد في تذهيب قبة الصخرة ضمن مشروع جمع فنانين من إيطاليا ومصر وفلسطين، وخلال ذلك تعلم هذا الشكل من الفن الذي ينتمي إلى الحضارة الإسلامية، واستثمره في ما بعد في لوحاته.
وكانت للراحل كتابات نقدية في صحف ومجلات عربية ومحلية، كما ساهم في إعداد وتقديم أكثر من 40 حلقة تلفزيونية في الفنون التشكيلية ضمن التلفزيون الأردني وتلفزيون الشارقة. وأقام محاضرات وندوات حول واقع الفنون التشكيلية في الوطن العربي ومجالات النقد الفني والشهادات الفنية.
ولم يقطع الفنان مع جذوره وهويته الفلسطينية وإنما سخر تجربته، الممتدة على نحو ستين عاما، في تصوير فلسطين والقدس تحديدا بين الماضي والحاضر، وأنجز الفنان عشرات الأعمال التي تتناول القدس وتستعير رمزياتها تعبيريا بالأثر الذي تركته في وجدانه، مستعيدا طفولته التي عاشها في المكان بهيبته وقداسته وطقوسه ومواسمه، فقد حمل الفنان ذكريات طفولته عن المكان الذي هُجِّر منه على إثر النكبة، وحاول بأعماله التشكيلية أن يبقيها حية من خلال توثيقها باللون على أسطح لوحاته، حيث البيوت البسيطة والنوافذ المشرعة للشمس والأشجار الباسقة وأبواب الحارات الواسعة.
وبهدف التوثيق الجمالي للقدس تنقّل الدويك بين الأساليب الفنية، فمن التسجيلية التي أراد منها توثيق تفاصيل المكان كما تحفظه ذاكرته وكما استقرّ في وجدانه، إلى الواقعية التعبيرية التي توثق مأساة الفلسطينيين عبر ألوان قوية وظلال ترمز إلى الأسْر والاحتلال.
ويصفه الناقد التشكيلي حسين نشوان بأنه كان “مفتونا بشوارع المدينة (القدس) وأسواقها وقبابها ومآذنها وأبوابها ونوافذها التي تتنوع بثراء الهندسة الأموية والمملوكية والعثمانية بأقواسها وقبابها وزخرفتها وفسيفسائها، وحياتها الشعبية، وتحديدا الفلاحات اللواتي يأتين من القرى المجاورة لبيع محاصيلهن بالزي الشعبي المزركش الذي يتماهى مع ألوان السوق، وتشبعت ذاكرته بموسيقى ألوانهن وإيقاعه الذي تأثر فيه بمدرّسيه العراقيين.”
أما الفنان الراحل فلطالما وصف لوحاته بالقول “في اللوحة نستعيد ظلال المكان على القماش، نستحضره بالخط واللون لنشبع بصرنا بعدد أيام الغياب وسني الشوق وفصول الأسى، القدس عشقي، وغالبية أعمالي لا تغادر المكان المقدسي الذي أرسمه بشفافية وحب وحنين.”
ونعى وزير الثقافة الأردني مصطفى الرواشدة الفنان التشكيلي الرائد مذكرا بأنه “كان من الرعيل الأول الذي نشر ثقافة الجمال من خلال أعماله الفنية وتدريسه للفنون.” وقال إن “في رحيل الدويك خسارة ليس للمشهد التشكيلي الأردني فقط وإنما للفن التشكيلي العربي الذي كان له بصمات واضحة فيه، ولأجيال من الفنانين العرب.”