ما أكثر القصائد والمقطوعات التي تناولت فكرة الموت!! فما الجديد في هذه القصيدة؟ من الواضح أنّ الشاعر جعل الموت شخصا ما في موقف محاورة، وليس ثمّة توسّل للموت! وقد نقل الشاعر هذه المحاورة (بتصرّف)، فلا داعي لذكر التفاصيل، وصوّر الموت بوصفه شرطيا هرما، فقيرا مسكينا، وحيدا، وقد ظهر أثر الدخان على شاربيه، فأيّة صورة هزلية قد رسم للموت!!

حِوارٌ مع الموتِ

بِتَصرُّفٍ

طه الزرباطي

 

اصبرْ أو لا؛

سِيَّانَ عندي،

في لحظةِ الموتِ؛

اخترِعْ ما يُلائمُكَ،

سَمِهِ كما يَحلو لكَ،

هو الموتُ...

هلْ جرَّبْتَ ارعابهُ كما يَفعَلُ؟

فاجأتهُ بابتِسامَتِكَ البارِدَةَ؟

 هلْ غازلتَهُ بدلَ أنْ تتوسَّلَ اليهِ؟

صوتٌ:

قَبِلْ قدميهِ ويديهِ،

أمسَحْ عنهُ عرَقَ سفرِهِ،

أستَعرِضْ المهامَ الجسيمةَ التي تنتظِرُكَ،

ليمنحَكَ فُسحَةً،

قُلْ لهُ ألا يَمسَّكِ؛

أعبُرْ اليهِم أنهُم ينتظِرونَ،

سَيضحَكُ مِلْ صوتِهِ،

سيُرعِبُكَ صوتُ جلجلةِ ضحكاتهِ،

ستموتُ من شِدَةِ الضحكِ أيضا،

ستعرِفُ أنكَ أخطأتَ؛

إذْ فرطتَّ في رَباطةِ جأشِك،

أفرِشْ لهُ حصيرَتَكَ،

قَدِّمْ كأسَ عَصيرٍ،

فنجانَ قهوةٍ،

وإنْ بقيَ من كأسِ أمسِكَ؛

أملأها حتى الثُمالَةِ،

أعطِهِ ما بَقي من كرزٍ،

أو فُستُقٍ حلبيٍّ،

ضعُ قِطعَتَيْ ثلجٍ في كأسِهِ؛

بِكُلِّ حَذَقٍ وأناقة،

أبتسِمْ لهُ،

لِتجمعكُم كأسٌ،

لِتكونا نَديمينِ،

أسمِعْهُ نَصَّكَ الممنوعَ، لا تَخَفْ،

حَدِثْهُ عن السياسةِ،

عن الذينَ يتحدونَ اللهَ في بُلدانِنا،

حدِثهُ عن الدعارَةِ دينِ الساسةِ،

ضعْ اللُعبةَ كُلها جنبَ كأسِهِ،

سَتجدُهُ مُمتعِضاً،

كشرطيٍّ هرِمٍ،

بآثارِ الدُخان على بياضِ شاربيهِ،

سيبدو فقيراً،

طيباً،

مسكيناً،

وحيداً،

بعكسِ ما تخيلتَهُ،

بياقَتِهِ المُتسِخةِ،

ارتِجافةِ يديهِ وهو يُقَرِّبُ الكأسَ،

رَغبتُهِ في الاكتِفاءِ،

تَجِدُهُ يَغْبِطُكَ،

ويتمنى أنْ يموتَ مِثلكَ؛

بَدَلاً عنكَ،

بِرِصاصةِ قنَّاصٍ لا يعْرِفُكَ،

بِغضَبِ طائرَةٍ للأعداءِ،

بِحِذاءِ عاهرَةٍ سكرى،

أو تحتَ التعذيبِ لِجلادٍ ساديٍّ في لُعبَةِ المُعارَضةِ،

أو في النومِ،

تَتَناولهُ كجُزءٍ من نومِكَ،

ككابوسٍ،

أو بقيَّةَ حُلُمٍ جمعتْ اليقظةَ بالنومِ،

تشعُرُ أنَّ شيئا ما سَقطَ مِنكَ في الهوَّةِ؛

خوفٌ لذيذٌ كلُعبَةِ التَزحلقِ،

أخبِرْهُ أنها لُعبةٌ غبيَّةٌ جِداً،

أخبِرْهُ ما عُدْتَ تخافَهُ،

قُلْ لهُ: خُذْنِي كما يطيبُ لكَ،

أنا لمْ أختَرْ مَجيئي،

لا لُغتي،

لا قومي،

لا جغرافيَتِي المُلتهِبَةِ،

ولا أبويَّ،

ولا أسميَ،

حتى حبيبتي،

وجدْتُها في مُحيطِ شهواتِي،

فاخترَعتُ الحُبَّ كقصيدةِ غَزَلٍ،

وصدقتُ لُعبَتي،

لُعبةَ المصادفَةِ،

فَنَصَبتُ شَرَكاً لها فصادتُني،

جَمَلْتُ الموسيقى لأحبَّها،

أملاً في خلودٍ مؤقتٍ مزعومٍ،

أنا كِذْبَةٌ ذهنيَّةٌ مثلكَ تماما،

ضحيةُ عشراتِ المُصادَفاتِ...

أخَرْتُكَ طويلاً؛

خُذْ كأساً ثقيلةً أُخرى دُفعَةً واحِدَةً؛

كأنَكَ تَنتَقِمُ مِنْ صحوتِكَ،

خُذني ... عَجِّلْ ..

لو تأمَلتَ أجملَ ما في سفرتِي؛

أنني جملتُها بالممنوعِ اللّذيذِ،

لولاها لسَبَقتُكَ وانتحَرْتُ يا موتُ؛

فاجأتُكَ تماما،

لَغافلتُكَ؛

يُقالُ أنكَ تَخافُ من المُنتحِرين؟

ألا ترى أنني كتبتُ،

وعزمْتُ،

قَبِلْتُ،

ورَفَضْتُ،

وتَحايلْتُ عليَّ،

وعليكَ،

خُذني كصديقٍ؛

ثمَّ تشعُرُ أنَّ باقةَ ضوءٍ خَرَجَتْ مِنكَ،

تُرَدِدُ كم كان سَهلاً موتي،

لِمَ بالغتُ في خوفي منكَ؟

 يا صديقي.

طه الزرباطي

28/10/2024